رقم المشاركة :91 (رابط المشاركة)
|
|||||||||||||||||||||
|
|||||||||||||||||||||
|
رقم المشاركة :92 (رابط المشاركة)
|
|||||||||||||||||||||
|
|||||||||||||||||||||
تحرير دمشق نعود إلى قطز رحمه الله بعد الانتصار الرائع في عين جالوت..
لم تنته مهمة الملك المظفر بعد.. ما زال هناك تتار في بلاد الشام.. ما زال هناك تتار في دمشق وحمص وحلب وغيرها من المدن الشامية.. وما زال هناك تتار في العراق وتركيا وفارس وغيرها.. وليس في حياة قطز رحمه الله راحة.. مع كثرة الشهداء وكثرة الجراح والآلام.. ومع الإرهاق الشديد الذي يعاني منه الجيش المناضل البطل.. الذي عبر صحراء سيناء بكاملها في شهر يوليو، والذي حارب في غزة، ثم اجتاز فلسطين كلها من جنوبها إلى شمالها حتى وصل إلى عكا، والذي عاد بعد ذلك إلى عين جالوت، والذي خاض المعركة الهائلة مع أقوى جيوش الأرض.. مع كل هذه المعاناة إلا أن الخطوة التالية مباشرة لقطز بعد انتصار عين جالوت المجيد أن يتجه إلى دمشق في الشمال!!.. ودمشق هي أولى المحطات الإسلامية التي تقع تحت سيطرة التتار، وهي تقع على مسافة مائة وخمسين كيلومترًا تقريباً من عين جالوت إلى الشمال الشرقي منها.. لابد من تطهير هذه المدينة الإسلامية العظيمة من دنس التتار.. ولابد من استغلال فرصة الانكسار الرهيب في جيش التتار فتُحرر دمشق وغيرها قبل أن تأتي إمدادات التتار من فارس أو من أوروبا أو من الصين.. وقطز رحمه الله القائد المحنك أراد أن يهيّئ الفرصة العظمى لجيشه في الانتصار على قوات التتار في دمشق، وهو يعلم أن جيش التتار قد قتل بكامله في عين جالوت، ولم ينقل أحد منهم الخبر إلى دمشق، فأراد هو أن ينقل خبر النصر العظيم إليهم، فيرفع بذلك من معنويات المسلمين، ويضع من معنويات الحامية التترية في دمشق؛ فيسهل عليه بذلك فتح تلك المدينة العظيمة.. وبالفعل أرسل رسالة عظيمة تحمل بشريات النصر المجيد.. وكان مما جاء في هذه الرسالة: "أما النصر الذي شهد الضرب بصحته، والطعن بنصيحته، فهو أن التتر خذلهم الله تعالى )ولاحظ أنه ينسب النصر إلى الله(، استطالوا على الأيام، وخاضوا بلاد الشام، واستنجدوا بقبائلهم على الإسلام".. وهذه عساكر الإسلام مستوطنة في مواطنها، ما تزلزل لمؤمن قدم إلا وقدم إيمانه راسخة، ولا ثبتت لأحد حجة إلا وكانت الجمعة ناسخة، ولا عقدت برجمة ناقوس إلا وحلها الأذان، ولا نطق كتاب إلا وأخرسه القرآن.. ولم تزل أخبار المسلمين تنتقل إلى الكفار، وأخبار الكفار تنتقل إلى المسلمين، إلى أن خلط الصباح فضته بذهب الأصيل، وصار اليوم كأمس ونُسخت آية الليل بسورة الشمس.. إلى أن تراءت العين بالعين، واضطرمت نار الحرب بين الفريقين، فلم تر إلا ضرباً يجعل البرق نضواً، ويترك في بطن كل من المشركين شلواً، وقتل من المشركين كل جبار عنيد، ذلك بما قدمت أيديهم [وما ربك بظلام للعبيد] وصل الكتاب يحمل البشارة إلى أهل دمشق، وفي الغالب وصل الكتاب في يوم 27 أو 28 رمضان، واستقبل المسلمون الخبر بفرح لا يوصف؛ فقد يئس الكثير من إمكانية هزيمة التتار، فلما سمعوا بأخبار الانتصار المبهر ارتفعت هممهم إلى السماء، ورأوا عمالقة التتار أقزاماً، وقام الشعب في دمشق بثورة عارمة على جيش المغول، وأمسكوا بجنود التتار وفتكوا بهم، فما استطاعوا من قيام، وما كانوا منتصرين.. لقد سقطت هيبة التتار، وتنفس المسلمون الصعداء بعد قهر وبطش استمر أكثر من ستة شهور.. وانتهى المسلمون من أمر الحامية التترية بسرعة، فمنهم من قتل ومنهم من أسر، ومنهم من فرّ، واتجه المسلمون بعد ذلك للانتقام من النصارى الذين تطاولوا جداً على أهل الإسلام في أثناء سيطرة التتار على دمشق، وقد ذكرنا طرفاً من أعمال النصارى في دمشق قبل ذلك.. وتجاوز بعض المسلمين الأمر إلى حرق الديار والكنائس، وإلى قتل البعض منهم، وكاد الأمر يخرج عن السيطرة، ونشط بعض الغوغائيين، وقرروا أيضاً الفتك باليهود الذين يعيشون في دمشق، لولا أن قام العلماء ينصحون بعدم الظلم؛ لأن اليهود لم يشتركوا مع النصارى في إيذاء المسلمين أيام حكم التتار، وتكهرب الجو في دمشق, وكادت الفتنة أن تعم في البلاد.. وامتزجت في نفوس الناس مشاعر السرور والزهو بمشاعر الانتقام والتشفي.. وتأزّم الموقف جداً.. وبينما هم كذلك ـ وفي اليوم الثلاثين من رمضان سنة 658 هجرية ـ وصل البطل العظيم الملك المظفر قطز رحمه الله إلى دمشق.. بعد خمسة أيام من يوم عين جالوت.. واستقبله الناس استقبال الفاتحين، وعلقت الزينات في الشوارع، وخرج الرجال والنساء والأطفال يستقبلون البطل المظفر.. هذه يا إخواني هي الفرحة الحقيقية.. [قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون] فرحة النصر لدين الله، والرفعة للإسلام والعزّة للمسلمين.. لا تقارن هذه الفرحة بفرحة الطعام والشراب والمال والجاه والسلطان.. |
رقم المشاركة :93 (رابط المشاركة)
|
|||||||||||||||||||||
|
|||||||||||||||||||||
المزيد من مواضيعي
|
رقم المشاركة :94 (رابط المشاركة)
|
|||||||||||||||||||||
|
|||||||||||||||||||||
|
رقم المشاركة :95 (رابط المشاركة)
|
|||||||||||||||||||||
|
|||||||||||||||||||||
الأثر السابع: اختفى من على الساحة الإسلامية كل الأمراء الأيوبيين الذين كانوا أقزاماً في ذلك الزمن الذي لا يعيش فيه إلا العمالقة.. لقد فرّط معظم هؤلاء الأمراء في الأمانة الثقيلة التي خلَّفها لهم جدُّهم العظيم صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، وما كان لهم من همٍّ إلا الصراع على السلطة، وجمع المال، وتوريث الأبناء.. عاشوا حياتهم في مؤامرات ومكائد، وداسوا على كل الفضائل والمكارم في صراعاتهم، حتى انتشرت بينهم موالاة النصارى والاستعانة بهم في حرب إخوانهم من المسلمين، وأحيانا في حرب إخوانهم الأشقاء!!.. وظلّ هؤلاء الأقزام يُذيقون شعوبهم الألم والظلم والقهر والخيانة، وظلوا يقاومون أيّ مشروع للوحدة تحت راية واحدة، لأنهم يختلفون فيمن يصعد إلى كرسي الحكم إذا حدثت الوحدة، وظلوا يقاومون الحكم المملوكي في مصر، ويتعاونون مع الصليبيين لإسقاطه إلى أن حدثت موقعة عين جالوت الخالدة.. فكان من آثارها المباشرة سقوط هذه الزعامات الوهمية، وعرف كل منهم قدره، ورضي بما يناسب حجمه، وبذلك وَقَتْ موقعة عين جالوت الأمةَ شر أبنائها.. كما وَقَتْهَا شر أعدائها.. الأثر الثامن نتيجة الوحدة بين مصر والشام، ونتيجة اختفاء الأمراء الأقزام من على الساحة، ونتيجة ظهور دولة المماليك، ونتيجة الطبيعة الجهادية لدولة المماليك، ونتيجة النشأة الإسلامية والحميّة الدينية والفقه العالي الرفيع لهذه الدولة.. نتيجة لكل هذا حدث أمر هائل عظيم.. لقد أخذ المماليك على عاتقهم مهمة تحرير بلاد الشام وفلسطين من الإمارات الصليبية التي ظلّت تحكم هذه البلاد منذ سنة 491 هجرية.. أي منذ أكثر من مائة وستين عاماً قبل عين جالوت.. ومع أن عماد الدين زنكي ونور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي رحمهم الله جميعاً قد بذلوا جهوداً مضنية لتحرير هذه المناطق إلا أنهم لم يفلحوا في تحرير كثير منها، إلى جانب تفريط أبنائهم في بعض الولايات المُحرَّرة حين تنازلوا عنها من جديد للصليبيين، ولذلك فبعد "عين جالوت"، وبعد استقرار المماليك في الحكم بدءوا يوجهون جيوشهم الواحد تلو الآخر لتحرير هذه البلاد الإسلامية العظيمة فلسطين وسوريا والأردن ولبنان وتركيا.. نسأل الله لها جميعًا دوام التحرر.. فبدأ الظاهر بيبرس حملاته على هذه الإمارات ابتداءً من سنة 659 هجرية بعد عين جالوت بشهور قليلة، وبعد جهاد مُضْنٍ بدأت الإمارات الصليبية في التساقط في أيدي المسلمين المجاهدين، فحرّر المسلمون في سنة 664 هجرية قيسارية وحيفا وحصن أرسوف جنوب قيسارية، وكل هذه المدن في فلسطين، ثم في سنة 665 هجرية حررت صفد في الشمال الشرقي لفلسطين، وبينما كان بيبرس يحرر هذه البلاد في فلسطين كان قائده سيف الدين قلاوون يحرر قليقية في تركيا وانتصر هناك على قوات الأرمن النصرانية بقيادة الملك هيثوم، وجمع غنائم لا تحصى، وأسر من الصليبيين ونصارى الأرمن أربعين ألفاً، وفي سنة 666 هجرية حرّر الظاهر بيبرس يافا، وفي سنة 667 هجرية حُررت أنطاكية إمارة الأمير بوهمند الذى كان متحالفاً مع التتار، وهي أول مملكة صليبية في بلاد المسلمين حيث احتلت في سنة 491 هجرية، وكانت أغنى الإمارات حتى إن غنائمها من الذهب والفضة كانت توزع على الفاتحين بالمكيال وليس بالعدد!!.. ولم يبق عند وفاة الظاهر بيبرس رحمه الله من المدن الإسلامية المحتلة إلا عكا وكانت أقوى المدن المحتلة, إلى جانب صور وصيدا وطرابلس وبيروت وهي جميعاً في لبنان، وأيضاً طرطوس واللاذقية وهما من المدن السورية.. وقد حُرّرت طرابلس في سنة 684 هجرية بعد عين جالوت بستة وعشرين عاماً على يد السلطان المملوكي المنصور قلاوون، ثم خلفه بعد ذلك ابنه السلطان العظيم الأشرف خليل بن قلاوون الذي أخذ على عاتقه تحرير كل المدن الإسلامية المحتلة من الصليبيين، فحُررت عكا الحصينة في سنة 690 هجرية بعد قرابة قرنين من الاحتلال الصليبي، وبعد فشل كل أمراء المسلمين السابقين على مدى قرنين كاملين في فتحها، وبفتح عكا سقطت أعظم معاقل الصليبيين في الشام، وبعدها بقليل حررت صيدا وصور وبيروت وجبيل وطرطوس واللاذقية، وبذلك انتهى الوجود الصليبي تماماً من الشام وذلك بعد اثنتين وثلاثين سنة فقط من عين جالوت، مما يجعل هذا التحرير من النتائج المباشرة لهذه الموقعة العملاقة.. هناك بالطبع تفاصيل في غاية الأهمية والروعة في تحرير كل هذه المدن والإمارات، ولكننا نرجئ ذكرها إلى حين الحديث عن الحروب الصليبية إن شاء الله.. الأثر التاسع: ارتفعت قيمة مدينة القاهرة المصرية ارتفاعًا بالغًا, بعد انتصار عين جالوت وقيام دولة المماليك، وخاصة بعد التدمير الذي لحق ببغداد سنة 656 هجرية على أيدي التتار، وبعد سقوط قرطبة سنة636 هجرية في أيدي الصليبيين الأسبان.. أصبحت القاهرة قبلة العلماء والأدباء، ونشطت الحركة العلمية جداً، وعظم دور الأزهر، وأصبح - ولا يزال - من أعظم جامعات العالم الإسلامي، وحمل لواء الدفاع عن الدين، ونشر الدعوة، والجهر بالحق عند السلاطين، والمطالبة بالحقوق، وتزعم الحركات الجهادية ضد أعداء الأمة.. وبذلك توارثت الأجيال في هذه المدينة العريقة "القاهرة" الدعوة إلى الله، والصحوة الإسلامية، وحمل هَمّ المسلمين، ليس في مصر وحدها بل في العالم أجمع.. الأثر العاشر: وهو من أعجب الآثار، وأعظم الآثار!!
فقد رأى كثير من التتار دين الإسلام عن قرب، وقرءوا عن أصوله وقواعده وقوانينه، وعلموا آدابه وفضائله، ورأوا أخلاقه ومبادئه.. فأعجبوا به إعجاباً شديداً، وخاصة أنهم - كعامة البشر - يعانون من فراغ ديني هائل.. فليس هناك تشريع يقترب أو يحاول الاقتراب من دين الإسلام.. ومن اقترب منه وبحث فيه لابد أن يرتبط به، إن كان صادقاً في بحثه، وطالبًا للحقيقة فعلاً.. لقد بدأ بعض التتار يؤمنون بدين الإسلام.. ثم شاء الله عز وجل أن يدخل الإيمان في قلب أحد زعماء القبيلة الذهبية - أحد الفروع الكبيرة جداً في قبائل التتار -, وهذا الزعيم هو ابن عم هولاكو مباشرة، وهو أخو "باتو" القائد التتري المشهور، وتلقب هذا الزعيم باسم "بركة"، وكان إسلامه في سنة650 هجرية، ثم تولى "بركة" زعامة القبيلة الذهبية سنة 652 هجرية، وأصبح اسمه "بركة خان"، وكانت هذه القبيلة شبه مستقلة عن دولة التتار، وتحكم المنطقة التى تقع شمال بحر قزوين، والمعروفة في الكتب الإسلامية القديمة باسم "بلاد القبجاق" وهى تقع الآن في روسيا، وبإسلام هذا الزعيم دخلت أعداد كبيرة من قبيلته في الإسلام، وهذا أمر عجيب حقاً، لأن دخول كل هؤلاء في الإسلام كان قبل عين جالوت، وكان التتار يتحكمون في رقاب المسلمين، والمسلمون مهزومون في كل مواقعهم، وهى من المرات القليلة جداً في التاريخ التي يدخل فيها الغازي في دين من يغزو بلادهم، ويدخل القوي في دين الضعيف، ولكنه دين الإسلام الذي يخاطب الفطرة البشرية، وهذا يضع مسئولية كبيرة على عاتق الدعاة المسلمين، في أن يصلوا بهذا الدين إلى أهل الأرض جميعاً، فإن من وصل إليه الدين صحيحاً نقياً فإنه يُرجى إسلامه مهما كان معادياً للإسلام في بَدء حياته.. ومن آثار موقعة عين جالوت العظيمة أن تزايد عدد المسلمين جداً في القبيلة الذهبية حتى أصبح كل أهلها تقريباً من المسلمين، وتحالفوا مع الظاهر بيبرس ضد هولاكو، ولهم مع هولاكو حروب متكررة نعرض إليها إن شاء الله عند الحديث عن تاريخ دولة المماليك.. والجدير بالذكر أن بقايا القبيلة الذهبية ما زالت موجودة، ومكونة لبعض الإمارات الإسلامية مثل إمارة قازان وإمارة القرم وامارة استراخان وإمارة النوغاي وإمارة خوارزم وغيرها، وكل هذه الإمارات ما زال محتلاً إلى يومنا هذا من روسيا، وما استطاعت أن تتحرر بعد حتى بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، ونسأل الله لها ولسائر بلاد المسلمين التحرر الكامل والسيادة المطلقة على أراضيها.. كان هذا هو الأثر العاشر لموقعة عين جالوت.. فتلك عشرة كاملة.. ولا شك أن هناك آثارًا أخرى كثيرة لهذه الموقعة الخالدة.. والأمر بين يدي الباحثين والدارسين |
رقم المشاركة :96 (رابط المشاركة)
|
|||||||||||||||||||||
|
|||||||||||||||||||||
|
رقم المشاركة :97 (رابط المشاركة)
|
|||||||||||||||||||||
|
|||||||||||||||||||||
السبب التاسع: توسيد الأمر لأهله فقد ولَّى قطز رحمه الله أولئك الذين يتصفون بصفتين رئيسيتين هامتين لكل وظيفة ـ صغرت أم كبرت ـ هاتان الصفتان هما: الكفاءة والأمانة ..
[إن خير من استأجرت: القويُّ الأمين] القوي في مجال عمله.. المتفوق على أقرانه.. السابق لهم.. المتقن لعمله المبدع فيه.. والأمين الذي لا يضيع حق الله ولا حق العباد ولا حق الأمة ولا حق نفسه.. وكم تخسر الأمم إذا وُسّد الأمر لغير أهله.. بل هي من علامات الساعة.. روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن أعرابياً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: متى الساعة؟ فقال: إذا ضُيعت الأمانة فانتظر الساعة، قال: كيف أضاعتها؟ قال: إذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله، فانتظر الساعة.." فإذا تولى الأمورَ رجالٌ لا يمتلكون كفاءة ولا يتصفون بأمانة، ولم يصلوا إلى مكانهم إلا بوساطة أو قرابة أو رشوة.. إذا حدث ذلك فاعلم أن النصر بعيد!! وقد رأينا في قصتنا هذه كيف ولَّى قطز رحمه الله فارس الدين أقطاي رئاسة الجيش مع كونه من المماليك البحرية، وكذلك ولى ركن الدين بيبرس على مقدمة جيش المسلمين في عين جالوت مع كونه منافسًا له وصاحب تاريخ وقوة, ومع كونه زعيمًا للمماليك البحرية، ورأينا كيف ولى أمراء الشام على بلادهم ولم يول أصحابه وأقاربه.. ومن كان على هذه الصورة فلابد أن يُنصر.. لأن من حفظ الأمانة حفظه رب العالمين.. "احفظ الله يحفظك.." هذه قاعدة ثابتة من قواعد النصر.. السبب العاشر: الزهد في الدنيا وما يفشل الزعماء الوهميون - في زمان قطز أو في زماننا أو إلى يوم القيامة – إلا بغرقهم في الدنيا, وانغماسهم فيها.. وما ظلموا شعوبهم, وما والَوا أعداءهم.. إلا جريًا وراء المادة, وسعيًا وراء الدنيا.. ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائم التحذير من أمر الدنيا .. فقد روى البخاري ومسلم – على سبيل المثال – عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر, وجلسنا حوله.. فقال: "إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يُفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها.." ولم تكن تلك هي المرة الوحيدة التي حذرنا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر الدنيا؛ فهذا أمر متكرر كثيرًا, وبأكثر من صيغة, وفي أكثر من موقف, وليس كل ذلك إلا لخطورتها الشديدة على المسلمين.. بل على المؤمنين.. وفي قصتنا هذه رأينا الذين تعلقوا بالدنيا كيف كانت حياتهم وطموحاتهم وأحلامهم، وكيف باعوا أنفسهم وشعوبهم وأخلاقهم، بل وعقيدتهم، من أجل أعراضٍ رخيصة من الدنيا.. ورأينا كيف عاشوا في ذلة وصغار، وكيف ماتوا في ذلة كذلك.. رأينا محمد بن خوارزم, وجلال الدين بن خوارزم, والناصر لدين الله الخليفة العباسي, والمستعصم بالله, وبدر الدين لؤلؤ, والناصر الأيوبي وغيرهم... أما قطز فقد فطن إلى هذا المرض الذي ابتلي به هؤلاء الضعفاء فزهد فيه وتجنبه، وعلم أن متاع الدنيا ـ مهما كثر ـ فهو قليل، وأن نعيمها ـ مهما كان له بريق ـ فهو زائف ومنقطع؛ فلذلك لم يُفتن بالدنيا لحظة، ولم يطمع فيها قيد أنملة، بل حرص على أن يبيع دنياه كلها، ويشتري الجنة، فترك المال الغزير الذي كان تحت يده، ولم يطمع فيه.. بل باع ما يمتلكه ليجهز جيوش المسلمين المتجهة لحرب التتار.. ولم يطمع في كرسي الحكم, بل عرض القيادة على الناصر يوسف الأيوبي ـ على قلة شأنه ـ إذا قبل بالوحدة بين مصر والشام، ولم يطمع في استقرار عائلي أو اجتماعي أو أمن وأمان، فكرس حياته للجهاد والقتال، على صعوبته وخطورته، ولم يطمع في أن يمتد به العمر؛ فخرج بنفسه على رأس الجيوش ليحارب التتار في حرب مهلكة، ولا شك أنه يعلم أنه سيكون أول المطلوبين للقتل، ولا شك أنه يدرك كذلك أنه إذا لم يخرج بنفسه، وأخرج من ينوب عنه، فإن أحدًا لن يلومه؛ لأنه الملك الذي يجب أن يُحافظ على نفسه لأجل مصلحة الأمة، لكنه اشتاق بصدق إلى الجهاد في سبيل الله، وتمنى الموت بين صليل السيوف وأسنة الرماح، وزهد في هذه الدنيا الفانية؛ فلم يتردد لحظة، ولم يجزع أبدًا، وكانت حياته تطبيقًا عمليًا كاملاً لكلماته.. ولذلك أعطاه الله عز وجل الدنيا التي فر منها، وأعطاه الكرسي الذي زهد فيه، وأمده بالغنائم الهائلة، والمال الوفير الذي لم يفكر في الحصول عليه أبدًا!!.. وهكذا عاش قطز رحمه الله عزيزًا شريفًا رافعًا رأسه، مُعِزًا لدين الله، محبوبًا من شعبه، مرهوبًا من أعدائه... لقد فقه قطز رحمه الله أن رزق العبد مكفول له قبل أن يولد، وأن نصيبه من المال والسلطة والملك سوف يصل إليه حتمًا، بل سيجري وراءه حثيثًا.. ولذلك لم يُذِلَّ نفسه أبدًا، وكان دائمًا يعتمد على الذي بيده الرزق والأمر سبحانه، وأجْمَلَ في الطلب؛ فلم يخضع لإنسان مهما بلغت قوته، ولم يرهب جيشًا مهما كانت عدته، وفقه بعمق كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه ابن ماجة عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما, والذي قال فيه: "أيها الناس, اتقوا الله وأجملوا في الطلب؛ فإن نفسًا لن تموت حتى تستوفي رزقها, وإن أبطأ عنها.. فاتقوا الله، وأجملوا في الطلب.. خذوا ما حَلَّ, ودعوا ما حَرُمَ..". رحم الله هذا العلم الجليل، والقائد الفذ "قطز".. الذي تعلمنا منه ـ ولا نزال نتعلم ـ كيف يعيش المسلم بالقرآن، وكيف تخالط كلمات الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم كل ذرة من كيانه. ونسأل الله عز وجل أن يصلح آخرته كما أصلح دنياه، وأن يعزه أمام الخلق يوم العرض الأكبر، كما أعزه في عين جالوت، وأن يكتب اسمه في سجل الصادقين المخلصين المجاهدين، كما كتب اسمه في سجل الخالدين.. إنه ولي ذلك والقادر عليه. كان هذا هو السبب العاشر من أسباب النصر في هذه الموقعة الجليلة.... فتلك عشرة كاملة.. وأسأل الله أن ينصر الإسلام والمسلمين. < |
رقم المشاركة :98 (رابط المشاركة)
|
|||||||||||||||||||||
|
|||||||||||||||||||||
|
رقم المشاركة :99 (رابط المشاركة)
|
|||||||||||||||||||||
|
|||||||||||||||||||||
المفاجأة العجيبة في قصة قطز رحمه الله |
رقم المشاركة :100 (رابط المشاركة)
|
|||||||||||||||||||||
|
|||||||||||||||||||||
|
العلامات المرجعية |
الكلمات الدلالية |
البتار, السرجاني, راغب, ظهور |
الذين يشاهدون هذا الموضوع الآن : 1 ( 0من الأعضاء 1 من الزوار ) | |
|
|
الموضوعات المتماثلة | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | ردود | آخر مشاركة |
قصة الفتنة د.راغب السرجاني | noha | التاريخ والبلدان | 3 | 08.11.2010 18:41 |
أهمية الفتوح الإسلامية .. الدكتور راغب السرجانى | كلمة سواء | التاريخ والبلدان | 2 | 17.10.2010 08:15 |
ظهور الشيطان ام ظهور العذراء بالادله والبراهين | ابو يونس | كشف أكاذيب المنصرين و المواقع التنصيرية | 3 | 05.07.2010 01:40 |
الدكتور, راغب السرجانى, يكتب"رسالة, الى أستاذى أردوغان" | أم جهاد | قسم الحوار العام | 0 | 22.06.2010 17:05 |
المسلمون والكشوف الجغرافية بقلم د. راغب السرجاني | أمــة الله | التاريخ والبلدان | 4 | 31.05.2010 15:35 |