خلاصة الكتب لوضع خلاصة ما قرأت لإفادة الآخرين |
![]() |
![]() |
|
أدوات الموضوع | أنواع عرض الموضوع |
|
رقم المشاركة :1 (رابط المشاركة)
|
|||||||||||||||||||||
|
|||||||||||||||||||||
![]() الفصل الثاني بولس 1- المضطهد وُلِد واضع اللاهوت المسيحي في طرسوس من أعمال كليكيا حوالي السنة العاشرة من التاريخ الميلادي. وكان أبوه من الفريسيين، ونشأ إبنه على مبادئ هذه الشيعة الدينية المتحمسة، وظل رسول الأمم طوال حياته يعد نفسه فريسياً حتى بعد أن نبذ الشريعة اليهودية. كذلك كان والده مواطناً رومانيّاً، أورث إبنه هذا الحق الثمين. وأكبر الظن إن اسم بولص كان هو اللفظ اليوناني المرادف للاسم العبري شاول، ولهذا ظل الاسمان يطلقان على خذا الرسول منذ طفولته(22)، ولم يتعلم تعليماً راقياً ولم يدرس الكتب اليونانية لأن الفريسيين على بكرة أبيهم لم يكونوا يسمحون بأن يتأدب أبناؤهم بهذا الأدب اليوناني الخالص، ولو أن كاتب الرسائل درس اليونانية لما كتبها بهذا الأسلوب اليوناني الركيك. على أنه عرف كيف يتحدث بهذه اللغة بطلاقة تمكّنه من أن يخاطب بها المستمعين له من الأثينيين، وأن يشير أحياناً إلى بعض الفقرات المنشورة في الأدب اليوناني. ومن حقنا أن نعتقد أن بعض المبادئ الدينية والأخلاقية للرواقية انتقلت من البيئة المدرسية في طرسوس إلى مسيحية بولس. فهو يستعمل اللفظ الرواقي نيوما (Uenma) أي النفس للدلالة على المعنى الذي يستعمل فيه مترجموه الإنجليز لفظ Spirit (الروح). وكان طرسوس كما كان في معظم المُدن اليونانية أتباع للأرفية. وغيرها من العقائد الخفية، يعتقدون أن الله الذي يعبدونه قد قام من أجلهم، ثم قام من قبره، وإنه إذا دعي بإيمان حق، وصحب الدعاء الطقوس الصحيحة استجاب لهم وأنجاهم من الجحيم، وأشركهم معه في موهبة الحياة الخالدة المباركة(23). وهذه الأديان الغامضة الخفية هي التي أعدّت اليونان لاستقبال بولص وأعدّت بولس لدعوة اليونان. وبعد أن تعلم الشاب حرفة صنع الخيام، وتلقى العلم في المجمع الديني القائم في المدينة، أرسله أبوه إلى أورشليم وهناك كما يقول بولس نفسه: "تعلم عند قدمي غمالائيل على طريقة الناموس الدقيقة"(24). وكان المشهور عن غمالائيل أنه حفيد هلل، وقد خلفه في رياسة السنهدرين، وواصل السنة القديمة سنّة تفسير الناموس تفسيراً ليّناً راعى فيه ضعف النفس البشرية. غير أن الفريسيين الذين كانوا أكثر منه تزمتاً هالهم أن يجدوه ينظر نظرة ال'عجاب والتقدير للنساء الوثنيات أنفسهن(25). وقد بلغ من علمه أن اليهود، الذين يجلّون العلماء أعظم الإجلال أطلقوا عليه اسم "جمال الناموس"، ولقّبوه بما لم يُلقّب به إلا ستة رجال من بعده وهو "الربان" أي سيدنا. واتخذ بولس عنه وعن غيره تلك الطريقة الحصيفة، والجدلية السفسطائية في بعض الأحيان، في تفسير الكتاب المقدس، وهي التي وضحت في التلمود. وقد بقي بولس إلى آخر أيامه يهودياً في عقله وخُلُقِه على الرغم من تعلمه أوليات الهلنية، ولم ينطق بكلمة يُشتَم منها أنه يشك في شرائع موسى موحى بها من عند الله، وظل يعتقد في عزة وفخار كما يعتقد اليهود أن اختيار الله وحده هو طريق النجاة. في صورة تُعَد من أروع آيات الفن في العالم كله؛ ولكن الحقيقة أن هذه الصور التي تُمثّله أدب وفن لا تاريخ. أما عقله فكان من طراز شائع كثيراً بين اليهود: كان فيه من نفاذ البصيرة وشدة الانفعال أكثر مما فيه من الدماثة والظرف؛ وكان فيه من الإحساس القوي والخيال أكثر مما فيه من نزاهة الحكم والنظرة الموضوعية إلى الأشياء، وكان قوياً في العمل لأنه كان ضيق التفكير. وكان رجلاً "أسكرته النشوة الإلهية" أكثر مما أسكرت اسبنوزا نفسه، يلتهب صدره بالحماسة الدينية بالمعنى الحرفي للفظ الالتهاب - لقد كان صدره ينطوي "في داخله على الإله" نفسه. وكان يعتقد أنه ملهم موحى إليه قادر على فعل المعجزات. وكان إلى هذا ذا طبيعة عملية، قادراً على الجد والتنظيم، صبوراً إلى أقصى حد في تأسيس العشيرة المسيحية والمحافظة عليها. وكانت عيوبه وفضائله شديدة الصلة بعضها ببعض لا غنى لكلتيهما عن الأخرى شأنه في هذا شأن الكثيرين من الرجال. فقد كان شجاعاً مندفعاً، متعسّفاً حاسماً في أحكامه، مسيطراً مجدّاً، متعصّباً مبتدعاً، فخوراً أمام الناس متواضعاً لله، عنيفاً في غضبه قادراً على أن يستشعر أرق الحب والرحمة، يشير على أتباعه على أن يباركوا من يظطهدونهم، ولكنه يتمنى لأعدائه الذين يختنون أن "يقطّعوا أيضاً"(28). وكان يدرك أسباب ضعفه، ويحاول الخلاص منها، ويقول لمن هداهم "ليتكم تحتملون غباوتي قليلاً"(29). وتلخص الحاشية التي كتبت على رسالته الأولى لأهل كورنثوس أخلاقه حين تقول: "السلام بيدي أنا بولس، إن كان أحد لا يحب الرب يسوع المسيح فليكن أنا ثيما! ماران أثا! نعمة الرب يسوع المسيح معكم، محبتي مع جميعكم". لقد كان الرجل ما لابد أن يكون لكي يستطيع أن يفعل ما فعل. وبدأ بمهاجمة المسيحية دفاعاً عن اليهودية، وانتهى بنبذ اليهودية دفاعاً عن المسيح، وكان في كل لحظة من لحظاته داعياً ورسولاً. فلما هاله احتقار اصطفانوس وهو يصف نفسه بقوله: "في الحضارة ذليل بينكم"(26) ويزيد على ذلك: "ولئلا أرتفع بفرط الإعلانات أعطيت شوكة في الجسد ملاك الشيطان ليلطمني لئلا أرتفع"(27). ولا يزيد في وصف نفسه على هذا. وتصوره الروايات المأثورة وهو في سن الخمسين رجلاً زاهداً متقشفاً مقوّس الجسم، أصلع الرأس، ملتحياً عريض الجبهة، أصفر الوجه صارمه، نفّاذ العينين. وعلى هذا النحو تخيله درورللناموس انضم إلى قتلته، وتزعم الاضطهاد الأول للمسيحيين في أورشليم، ولما سمع أن الدين الجديد أصبح له في دمشق أتباع كثيرون "تقدم إلى رئيس الكهنة وطلب منه رسائل إلى دمشق إلى الجماعات حتى إذا وجد أُناساً من الطريق رجالاً أو نساء يسوقهم موثقين إلى أورشليم" (31م)(30). ولربما كان تحمسه لاضطهادهم ناشئاً من شكوك خفية سرت وقتئذ في نفسه؛ وكان في مقدوره أن يقو، ولكن هذه القسوة لم تكن من النوع الذي لا يعقبه ندم. ولعل منظر اصطفانوس وهو يُرجم بالحجارة حتى يموت، ولعل لمحات من ذكريات الشباب - ذكريات صلب المسيح - كانت تعود إلى خياله فتضطرب بها ذاكرته وتثقل عليه في سفره، وتهيّج خياله. ولما اقتربت جماعته من دمشق، كما جاء في سفر أعمال الرسل: "فبغتة ابرق حوله نور من السماء، فسقط على الأرض وسمع صوتاً قائلاً له شاول، شاول، لماذا تضطهدني؟ فقال من أنت يا سيد؟ فقال الرب أنا يسوع الذي أنت تضطهده... وأما الرجال المسافرون معه فوقفوا صامتين يسمعون الصوت ولا ينظرون أحداً. فنعض شاول من الأرض وكان وهو مفتوح العينين لا يُبصر أحداً، فاقتادوه بيده وأدخله إلى دمشق وبقي ثلاثة أيام لا يُبصر. وليس في وسع أحد أن يعرف العوامل التي أحدثت هذه التجربة وما أعقبها من انقلاب أساسي في طبيعة الرجل. ولعل ما قاساه من التعب في سفره الشاق الطويل في شمس الصحراء اللفحة، أو لعل ومضة برق في السماء ناشئة من شدة الحرارة، لعل شيئاً من هذا أو ذاك كله قد أثّر في جسم ضعيف رُبّما كان مصاباً بالصرع، وفي عقل يعذبه الشك والإجرام، فدفع بالعملية التي كانت تجري في عقله الباطن إلى غايتها، وأصبح ذلك المفكر الشديد الانفعال أقدر الداعين إلى مسيح اصطفانوس. وكان الجو اليوناني الذي يحيط به في طرسوس يتحدّث عن منقذ ينتشل البشرية؛ كما كانت علوم بني جنسه من اليهود تتحدّث عن حياة (مسيح) منتظر، ولمَ لا يكون يسوع صاحب الشخصية العجيبة الغامضة الفتانة، الذي لا يتردد الناس في استقبال الموت من أجله، هو ذلك المسيح المنتظر؟ فلما أحسّ في آخر سفره وهو لا يزال ضعيفاً وأعمى بيدي يهودي مهتدٍ، رحيمتين، تلمسان وجهه وتسكنان ألمه "فللوقت وقع من عينيه شيء كأنه قشور، فابصر في الحال وقام واعتمد، وتناول طعاماً فتقوى"(22). وبعد بضعة أيام من ذلك الوقت دخل مجامع دمشق وقال للمجتمعين فيها إن عيسى ابن الله. 2- المبشر وأصدر حاكم دمشق، بإيعاز اليهود الذين ساءهم ما فعل بولس، أمراً بالقبض عليه، فما كان من أصدقائه الجدد إلا أن أنزلوه في سلة من فوق أسوار المدينة. ويقول هو إنه ظل ثلاثة أيام يدعو إلى المسيح في قرى بلاد العرب، ولما عاد إلى أورشليم عفا عنه بطرس، واتخذه صديقاً له، وعاش معه فترة من الزمان. وكان معظم الرسل يرتابون فيه، ولكن برنابا، وهو مهتدٍ حديث، رحب به وقدّم له كثيراً من المعونة، وأقنع كنيسة أورشليم أن تحمل مضطهدها القديم بشرى مجيء المسيح الذي سيقيم عما قريب ملكوت الله. وحاول اليهود، الذين يتكلمون اللغة اليونانية والذي جاءهم بالإنجيل، أن يقتلوه، ولعل الرسل خشوا أن تعرضهم حماسته الشديدة للخطر فأرسلوه إلى طرطوس. وظل في مسقط رأسه ثماني سنين لا يعرف عنه التاريخ شيئاً. ولعله شعر مرة أخرى بأثر التصوّف الديني المنتشر بين اليونان وما في من تبشير بمجيء المنقذ. ثم أقبل عليه برنابا وطلب إليه أن يساعده على خدمة الدين في إنطاكية. وأخذ الرجلان يعملان معاً (43 - 44 ؟) فهديا كثيراً من الناس، فلم تلبث إنطاكية أن فاقت سائر المُدن في عدد مَن بها من المسيحيين. وفيها أطلق الوثنيون إلى "المؤمنين"، أو "التلاميذ" أو "القدّيسين" كما كانوا يسمون أنفسهم اسم الكرستيانوي أي أتباع المسيح أي الإنسان الممسوح. وهنا أيضاً انضمت "الأمم" أي غير اليهودي إلى الدين الجديد. وكان معظم هؤلاء ممن "يخشون الله" وكانت كثرتهم من النساء اللاتي آمنّ ببعض طقوس اليهودية وبما فيها من دعوة إلى الوحدانية. ولم يكن الاخوة في إنطاكية فقراء كأمثالهم في أورشليم، فقد كانت فيهم أقلية لا بأس بها من طبقة التجّار، فاندفعوا بقوة هذه الحركة الفتية الناشئة إلى جمع قدر من المال ليستعينوا به على نشر الإنجيل، "فوضع" رؤساء الكنيسة "أيديهم" على برنابا وبولس وبعثوهما فيما يسميه التاريخ "رحلة القدّيس بولس التبشيرية الأولى" (45 - 47 ؟) وهي تسمية تستخف بشأن برنابا. وأبحر الرجلان إلى قبرص، ولقيا نجاحاً مشجعاً بين اليهود الكثيرين المقيمين في تلك الجزيرة. ثم ركبا السفينة من يافوس إلى برجا في بمفيلية واجتازا طرقاً جبلية وعرة تعرضا فيها للخطر حتى وصلا إلى إنطاكية في بسيديا Pisidia. واستمع إليهما الكنيس ورحب بهما فلما بدأ يعظان "الأمم" كما يعظان اليهود غضب عليهما اليهود المتمسكون بدينهم وحملوا موظفي البلدية على إخراج المبشرين من المدينة. ونشأت هذه الصعاب نفسها في إقونيوم Icobium، ورجم بولس في لسترا بالحجارة وجر علو وجهه إلى خارج المدينة، وتركا في العراء ظناً من أعدائه أنه مات. بيد أن قلبي بولس وبرنابا كانا لا يزالان يفيضان غبطة بروح القدس فحملا الإنجيل إلى دربي Derbe ثم عادا بالطريق نفسه إلى برجا وأبحرا منها إلى إنطاكية السوريّة، وفيها واجهتهما أعقد مشكلة في تاريخ المسيحية ذلك أن بعض التابعين الممتازين في دمشق سمعوا أن المبشرين كانا يقبلان المهتدين من "الأمم" دون أن يحتما عليهم الختان، فجاءوا إلى إنطاكية "يعلمون الاخوة أنه إن لم تختتنوا حسب عادة موسى لا يمكنكم أن تخلصوا"(23). ولم يكن الختان عند اليهودي من الطقوس التي توجبها صحة الجسم، بقدر ما كان رمزاً مقدساً لعهده القديم الذي عاهد عليه الله، ولهذا روع اليهودي المسيحي حين فكر في نكث ذلك العهد. وأدرك بولس وبرنابا أنه إذا نال هؤلاء المبعوثون بغيتهم فإن المسيحية لن يقبلها إلا عدد قليل من غير اليهود، وأنها ستبقى "بدعة يهودية" (كما سماها هينى فيما بعد) لا تلبث أن تزول بعد قرن من الزمان. ومن أجل هذا سافرا إلى أورشليم (50؟) وعرضا المسألة على بساط البحث مع سائر الرسل، وكانوا كلهم تقريباً لا يزالون يتعبدون مخلصين في الهيكل. فأما يعقوب فقد تردد كثيراً في قبول رأيهما، وأما بطرس فقد دافع عن المبشرين؛ واتفق الجميع آخر الأمر على ألا يُطلب إلى المهتدين الوثنيين أكثر من أن يقلعوا عن الزنى، وعن أكل المخنوقة والدم وما ذبح على النصب(34). ويبدو أن بولس يسر الأمر بأن وعد العشيرة المسيحية المعدمة في دمشق بشيء من المال المطرد الزيادة في كنيسة إنطاكية(35). ولكن هذه النتيجة كان لها من الخطر ما يحول دون البت فيها بهذه السهولة. فقد جاءت من أورشليم إلى إنطاكية طائفة أخرى من المسيحيين اليهود مستمسكين بدينهم، ورأت بطرس يأكل مع الكفرة وأقنعته بأن ينفصل هو واليهود الذين اعتنقوا المسيحية عن المهتدين غير المختتنين، ولسنا نعرف رأي بطرس في هذه المسألة، ولكن بولس يخبرنا أنه "قاوم بطرس مواجهة" في إنطاكية(36)، واتهمه بالرياء؛ ولعل بطرس لم يرغب، كما لم يرغب بولس، في أكثر من أن تكون "كل الأشياء لكل الناس". والراجح أن بولس قام برحلته التبشيرية الثانية في عام 50 من التاريخ الميلادي. وكان قد اختلف مع برنابا الذي اختفى وقتئذ في موطنه بجزيرة قبرص ولم يعد له ذكر في التاريخ. وعاد بولس يزور مرة أخرى بني ملته في آسية الصغرى، وضم إليه في لسترا تلميذا يدعى تيموثاوس أحبه. من كل قلبه الذي ظل منذ زمن طويل متعطشاً إلى مَن يحب. وسافرا معاً واجتازا فريجيا وغلاطية حتى وصلا شمالاً إلى إسكندرية ترواس؛ وفيها تعرف بولس بلوقا وهو ممن اعتنقوا اليهودية من غير المختتنين؛ وكان لوقا رجلاً طيب القلب كبير العقل وهو في أكبر الظن صاحب الإنجيل الثالث وسفر أعمال الرسل - وهما السفران اللذان خففا من حدة النزاع الذي إمتاز به تاريخ المسيحية منذ بدايته. ثم أبحر بولس وتيموثاوس ومساعد آخر يدعى سيلاس من ترواس إلى مقدونية، ووطأت أقدامهم لأول مرة أرضاً أوربية. فلما وصلا إلى فلبي، وهي المكان الذي هزما فيه انطونيوس بروتس قبض عليهما بتهمة تكدير السلام، وجلدا، وزجا في السجن، ثم أطلق سراحهما حين عرف أنهما مواطنان رومانيان. وانتقلا من فلبي إلى تسالونيكي (سالونيك)، وفيها دخل بولس المجمع وظل ثلاثة أسبات يخطب في اليهود، فآمن بدعوته عدد قليل منهم، وأسسوا فيها كنيسة لهم، وأثار غيرهم أهل المدينة عليه واتهموه بأنه يدعو لملك جديد، واضطر أصدقاؤه أن يخرجوه خلسة إلى بيرية في أثناء الليل. وهناك تقبل اليهود الدعوة بقبول حسن، ولكن أهل تسالونيكي جاءوا يتهمون بولس بأنه عدو لليهودية، فأقلع منها إلى أثينة على ظهر سفينة (51؟) وحيداً كسير القلب كاسف البال. وهنا في قلب الديانة الوثنية وعلومها وفلسفتها ألقى نفسه بلا صديق، ولم يكن في هذا البلد إلا عدد قليل من اليهود الذين يستمعون إلى مواعظه. وكان عليه أن يقف بين الناس في السوق العامة كما يفعل أي خطيب حديث يريد أن يتحدث إلى الجماهير، وينافس عشرات الخطباء في إيصال دعوته إلى آذان المارة. وكان بعض مَن يستمعون إليه يناقشونه فيما يقول وبعضهم الآخر يسخرون منه ويسألون: "ترى ماذا يريد هذا المهذار أن يقول؟"(37). وأظهر عدد من الناس اهتماماً بقوله، وأخذوه إلى الأريوبجس أو أكمة المريخ ليجد مكاناً أهدأ من السوق العامة يسمع الناس فيه صوته. وقال لهم إنه رأى في أثينة مذبحاً نُقش عليه "لإله مجهول" وأكبر الظن أن هذا النقش كان يعبر عن رغبة من نقوشه في التسبيح بحمد إله لا يعرفون اسمه على وجه التحقيق، أو في استرضاء هذا الإله أو طلب معونته، ولكن بولس فسره بأنه اعتراف منهم بجهلهم كنه الله، ثم أضاف إلى ذلك هذه الأقوال البليغة. "فالذي تتقونه وأنتم تجهلونه، هذا أنا أنادي لكم به، الإله الذي خلق العالم وكل ما فيه، هذا إذاً هو رب السماء والأرض لا يسكن في هياكل مصنوعة بالأيادي... هو يعطي الجميع حياة ونفساً وكل شيء... وصنع من دم واحد كل أمة من الناس... لكي يطلبوا الله لعلهم يتلمسونه فيجدونه مع أنه عن كل واحد منا ليس بعيداً لأننا به نحيا ونتحرك ونوجد؛ كما قال بعض شعرائكم أيضاً . لأننا أيضاً ذريته، فإذاً نحن ذرية الله لا ينبغي أن نظن أن اللاهوت شبيه بذهب أو فضة أو حجر نقش صناعة واختراع إنسان. فالله الآن يأمر جميع الناس في كل مكان أن يتوبوا متغاضياً عن أزمنة الجهل، لأنه أقام يوماً هو فيه مزمع أن يدين المسكونة بالعدل برجل قد عينه مقدماً للجميع إيماناً إذ أقامه من الأموات"(38). ولقد كانت جرأة منه أن يحاول التوفيق بين المسيحية والفلسفة اليونانية ومع هذا فإنه لم يتأثر بهذه المحاولة إلا عدد قليل؛ ذلك أن ما سمعه الأثينيون من الآراء قبل ذلك الوقت قد بلغ من الكثرة ما يحول بينهم وبين التحمس لما يلقى إليهم أياً كان شأنه. وغادر بولس المدينة يائساً ذهب إلى كورنثة، وكانت التجارة قد جمعت فيها جالية كبيرة من اليهود: وأقام في هذه المدينة ثمانية عشر شهراً (51 - 52 ؟م) يكسب فيها قوته بصنع الخيام ويخطب كل سبت في كنيستها: وأفلح في هداية رئيس الكنيس، وعدد غيره من الأفراد بلغ من الكثرة حداً ارتاع له اليهود فاتهموا بولس أمام غاليون Galieo الحاكم الروماني بأنه يستميل "الناس على أن يعبدوا الله بخلاف الناموس". فأجابهم غاليون بقوله: "إذا كان مسألة عن كلمة وأسماء، وناموسكم، فتبصرون أنتم، لأني لست أشاء أن أكون قاضياً لهذه الأمور"، ثم طردهم من المحكمة. وأخذت الطائفتان تتضاربان "ولكن لم يهم غاليون شيء من ذلك"(39). وعرض بولس الإنجيل على غير اليهود من أهل كورنثة ودخل كثيرون منهم في دينه، ولعل المسيحية قد بدت لهم أنها صورة أخرى من الأديان الخفية، التي طالما حدثتهم عن المنقذين الذين يبعثون بعد موتهم، ولعلهم حين قبلوها قد مزجوها بتلك العقائد القديمة، وأثروا في بولس فجعلوه يفسر المسيحية تفسيراً يألفه العقل الهلنستي. ثم انتقل بولس من كورنثة إلى أورشليم (53 ؟) ليسلم على الاخوة. ولكنه لم يلبث إلا قليلاً حتى بدأ سفرته التبشيرية الثالثة، وزار فيها الجاليات المسيحية في إنطاكية وآسية الصغرى، وبعث فيهم القوة والعزيمة بحماسته وثقته. وقضى في إفسوس عامين، وأتى فيها بأمثال عجيبة جعلت كثيرين من الناس يعتقدون أنه صانع معجزات، وحاولوا أن يشفوا مرضاهم بلمس الأثواب التي لبسها، ووجد صانعوا التماثيل التي كان عابدو الأوثان يضعونها في هيكل أرطيس أن تجارتهم كسدت، ولعل بولس قد أعاد هنا ما أعلنه في أثينة من تشهير بعبادي الصور أو الوثنيين. وقام رجل يدعى دمتريوس ممن كانوا يصنعون نماذج من فضة للضريح العظيم ليتبرك بها الحجاج الصالحون، قام هذا الرجل بتنظيم مظاهرة احتجاج على بولس والدين الجديد، وسار على رأس جماعة من اليونان إلى ملهى المدينة وظلوا ساعتين كاملتين ينادون "عظيمة هي أرطيس الإفسيسيين!" وأفلح أحد موظفي المدينة في تفريق هذا المجمع الحاشد، ولكن بولس رأى من الحكمة أن يغادرها إلى مقدونية. وقضى بضعة أشهر سعيداً وسط الجماعات التي أوجدها في فلبي، وتسالونيكي وبيريه. ولما سمع أن الانشقاق والفساد أخذا يفتــــّان في عضد الاخوة في كورنثة لم يكتفِ بلومهم الشديد في عدة رسائل بعث بها إليهم، بل انتقل إليهم بنفسه (56؟) ليواجه مَن كانوا يذمونه ويفترون عليه. وكانوا قد ادعوا أنه يستفيد مادياً من عِظاته، ويسخرون من الرؤى التي كان يحدثهم عنها، وطلبوا من جديد أن يتمسك المسيحيون جميعاً بالشريعة اليهودية، فأخذ بولس يذكر الاخوة الثائرين أنه كان حيث ما حل يكسب قوته بعمل يديه، وأما الكسب المادي فقد سألهم هل يعرفون ما عاد عليه من أسفاره - لقد جلد سبع مرات، ورجم مرة، وتحطمت به السفينة ثلاث مرات، وتعرض لمئات الأخطار من اللصوص، والوطنيين المتحمسين، والغرق في الأنهار(40). وترامى إليه وهو في هذه المحنة أن "جماعة مختتنين" قد نقضوا، على ما يبدو، اتفاق أورشليم وذهبوا إلى غلاطية وطلبوا إلى جميع المهتدين أ، يطيعوا الشريعة اليهودية إطاعة كاملة. فما كان منه إلا أن كتب إلى أهل غلاطية رسالة تفيض بالغظب، إنفصل بها نهائياً عن المسيحيين المتهودين، بل وأعلن فيها أن الناس لا ينجون لاستمساكهم بشريعة موسى بل بإيمانهم القوي الفعال بالمسيح المنقذ إبن الله. ثم سافر إلى أورشليم، وهو لا يعلم ماذا ينتظره فيها من محن وبلايا أشد، ليدافع عن نفسه أمام الرسل، وليحتفل في المدينة المقدسة بعيد العنصرة القديم. وكان يرجو أن يسافر من أورشليم إلى روما، وإلى أسبانيا نفسها، ولا يستريح حتى تسمع كل ولاية من ولايات الإمبراطوريّة بأخبار المسيح الذي قام بين الموتى وبما وعد به أتباعه الصالحين. والى اللقاء فى 3- العالم الديني للمزيد من مواضيعي
الموضوع الأصلي :
كتاب قصة الحضارة
-||-
المصدر :
مُنتَدَيَاتُ كَلِمَةٍ سَوَاءِ الدَّعَويِّة
-||-
الكاتب :
ابو الياسمين والفل
المزيد من مواضيعي
|
رقم المشاركة :2 (رابط المشاركة)
|
|||||||||||||||||||||
|
|||||||||||||||||||||
![]() 3- العالم الديني
واستقبله زعماء الكنيسة الكبرى "أحسن استقبال" (75؟) ولكنهم حين اختلوا به حذروه بأن قالوا له: "أنت ترى أيها الأخ كم يوجد ربوة من اليهود الذين آمنوا وهم جميعاً غيورون للناموس، وقد أُخبروا عنك أنك تعلم جميع اليهود الذين بين الأمم الارتداد عن موسى قائلاً ألا يختنوا أولادهم ولا يسلكوا حسب العوائد... سيسمعون أنك قد جئت، فافعل هذا الذي نقول لك. عندنا أربعة رجال عليهم نذر. خذ هؤلاء وتطهر معهم وانفق عليهم، فسيعلم الجميع أن ليس شيء مما أخبروا عنك. بل تسلك أنت أيضاً حافظاً للناموس"(41). وتقبّل بولس النصيحة راضياً، وأجرى طقوس التطهير، ولكن بعض اليهود رأوه في الهيكل فرفعوا عقيرتهم قائلين إنه "هو الرجل الذي يعلم الجميع في كل مكان ضداً للشعب والناموس". وقبض عليه نفر من الغوغاء، وجرّوه خارج الهيكل "وبينما هم يطلبون أن يقتلوه" إذ أقبلت كتيبة رومانية وأنقذته من القتل بأن قبضت عليه. والتفت بولس ليتحدث إلى الجماهير وأكد لهم أنه يهودي ومسيحي، فنادوا بقتله، فأمر الضابط الروماني بجلده، ولكنه ألغى الأمر حين علم أن بولس يتمتع بحق المواطنية الرومانية. وجيء بالسجين في اليوم الثاني أمام السنهدرين، فخاطب بولس المجلس وأعلن أنه فريسي، ونال بذلك بعض التأييد، ولكن أعداءه المهتاجين حاولوا مرة أخرى أن يعتدوا عليه، فأخذه الضابط إلى الثكنات. وجاءه في تلك الليلة إبن أخت له يحذره ويقول له إن أربعين من اليهود قد اقسموا ألا يأكلوا أو يشربوا حتى يقتلوه. وخشى الضابط أن يحدث في المدينة اضطراب يضر به، فأرسل بولس ليلاً إلى فيلكس وإلى قيصرية. وجاء رئيس الكهنة ومعه بعض الشيوخ من بيت المقدس إلى قيصرية بعد خمسة أيام من ذلك الوقت وقالوا إنهم وجدوا بولس "مفسداً مهيج فتنة بين جميع اليهود الذين في المسكونة" وأقر بولس أنه يدعو إلى دين جديد، وأضاف إلى ذلك قوله إنه يؤمن "بكل ما هو مكتوب في الناموس". فما كان من فيلكس إلا أن طرد الشاكين، ولكنه مع ذلك أبقى بولس تحت الحراسة ومنع أحداً من أصحابه أن يأتي إليه. وبقي بولس على هذه الحال عامين كاملين (58 - 60)، ولعل فيلكس كان يرجو أن يحصل على رشوة طيبة. ولما عُيّن فستوس والياً بعد فيلكس عرض أن يحاكم بولس أمامه في دمشق، ولكن بولس خشى هذا الجو المهتاج فلجأ إلى ما له من حق بوصفه مواطناً رومانياً، وطلب أن يحاكم أمام الإمبراطور نفسه. وبينما كان الملك أغرباس (أجربا) ماراً بقيصرية أذن له بالمثول بين يديه مرة أخرى وحكم عليه بأن علمه الكثير قد جعله يهذي ولكنه فيما عدا هذا بريء. وقال أغرباس إنه "كان يمكن أن يطلق هذا الإنسان لو لم يكن قد رفع دعواه إلى قيصر". وأركب بولس سفينة تجارية سافرت به على مهل، وقضت في البحر زمناً طويلاً صادفتها في أثنائه عاصفة شتوية قبل أن تصل إلى إيطاليا. ويقال إن العاصفة دامت أربعة عشر يوماً ضرب فيها بولس البحارة والمسافرين مثلاً طيباً مشجعاً للرجل الذي يسمو على الموت، الواثق من النجاة. وتحطمت السفينة على صخور مالطة، ولكن من عليها نجوا بالسباحة إلى الشاطئ. وبعد ثلاثة أشهر من هذه الحادثة وصل بولس إلى إيطاليا. وعامله ولاة الأمور الرومان برفق، وانتظروا حتى يأتي الشاكون من فلسطين، وحتى يجد نيرون متسعاً من الوقت يستمع فيه إلى قضيته. وسمح له أن يعيش في بيت يختاره هو لنفسه؛ وأن يوكل جندي لحراسته. ولم يكن في مقدوره أن يتنقل في المدينة بكامل حريته؛ ولكن كان يستطيع استقبال كل مَن يشاء. ولهذا دعا زعماء اليهود في روما أن يوافوه في المنزل الذي يقيم فيه؛ فجاءوا واستمعوا إليه وهم صابرون ولكنهم لما رأوا أنه لا يعتقد بأن مراعاة الناموس اليهودي ضرورية للنجاة، تولوا عنه، فقد كان يبدو لهم أن الناموس هو عماد الحياة اليهودية وسلواها اللذان لا غنى لها عنهما. وناداهم بولس قائلاً: "فليكن معلوماً عندكم أن خلاص الله قد أرسل إلى الأمم وهم سيسمعون!"(42) وغضبت الجالية المسيحية التي وجدها في روما من موقفه هذا كما غضب منه اليهود ذلك أن هؤلاء الأخوان وجلّهم من اليهود كانوا يفضلون المسيحية التي جاءت إليهم من أورشليم، فكانوا يختتنون، وكانت روما لا تكاد تفرق بينهم وبين اليهود الأصليين. ورحب هؤلاء ببطرس ولكنهم قابلوا بولس بفتور؛ واستطاع أن يهدي بعض سكان روما من غير اليهود، ومن بينهم بعض ذوي المناصب الكبرى، ولكنه ضاق ذرعاً بوحدته في سجنه وأحس بوطأة القيود المفروضة عليه. وكان يجد بعض السلوى فيما يبعث به من رسائل طويلة رقيقة إلى أتباعه البعيدين عنه، وكان قد قضى عشر سنين يكتب مثل هذه الرسائل، وما من شك في أن مجموعها يزيد كثيراً على العشر التي وصلتنا منسوبة إليه . ولم يكن يكتبها هو بقلمه، بل كان يمليها، وكثيراً ما يضيف إليها حاشية بخط يده غير الأنيق ويبدو أنه تركها دون أن يراجعها، تركها بكل ما فيها من تكرار وغموض وخطأ نحوي. واكن ما فيها من شعور عميق يفيض بالإخلاص، وغيرة وغضبة قوية للقضية الكبرى التي وهب حياته للدفاع عنها، وكثرة ما فيها من أقول نبيلة رائعة، كل هذا قد جعلها أقوى وأبلغ ما كتب من الرسائل في أدب العالم كله؛ وإن ما في أدب شيشرون من سحر ليبدو ضئيلاً إذا قيس إلى ما فيها من إيمان قوي فياض. فهي تشتمل على ألفاظ حب قوية ينطق بها رجل كانت كنائسه في منزلة أبنائه الذين يحميهم ويرد عنهم الأذى بأعظم ما يستطيع من قوة، وفيها هجوم عنيف على أدائه الذين لا حصر لهم، وتأنيب شديد للمذنبين والمارقين، والخصيمين الساعين إلى التفرقة؛ ولا يخلو جزء منها من إنذار ونصح رحيم رقيق "وكونوا شاكرين، لتكن فيكم كلمة المسيح بغنىً وأنتم بكل حكمة معلمون ومنذورون بعضكم بعضاً بمزامير وتسابيح وأغاني روحية بنعمة مترنمين في قلوبكم للرب"(44) وها هي ذي كلمات كبيرة يرددها العالم المسيحي كله ويعتز بها: "الحرف يقتل، ولكن الروح يحيى"(45)، "المعاشرات الردية تفسد الأخلاق الجيدة"(46)، "كل شيء طاهر للطاهرين"(47). "محبة المال أصل لكل الشرور"(48). وها هي ذي اعترافات صريحة منه بعيوبه بل بريائه الشبيه برياء رجال السياسة: "استعبدت نفسي للجميع لأربح الأكثرين، فصرت لليهود كيهودي لأربح اليهود، وللذين تحت الناموس كأني تحت الناموس لأربح الذين تحت الناموس، وللذين بلا ناموس كأني بلا ناموس مع أني لست بلا ناموس... لأربح الذين بلا ناموس... صرت للكل كل شيء لأخلص على كل حال قوماً، وهذا أنا أفعله لأجل الإنجيل لأكون شريكاً فيه"(49). وقد احتفظت بهذه الرسائل الجماعات التي وجهت إليها وكثيراً ما كانت تتلوها على الناس جهرة، ولم يكد يختتم القرن الأول حتى كان الكثير منها معروفاً واسع الانتشار، فها هو ذا كلمنت الروماني يشير إليها في عام 97، ويشير إليها أيضاً بعد قليل من ذلك الوقت كل من أجناسيوس Ignatius وبوليكارب Polycarp؛ ولم تلبث أن دخلت في أخص خصائص اللاهوت المسيحي. ولقد أنشأ بولس لاهوتاً لا نجد له إلا أسانيد غامضة أشد الغموض في أقوال المسيح. وكانت العوامل التي أوحت إليه بالأسس التي أقام عليها ذلك اللاهوت هي انقباض نفسه، وندمه، والصورة التي استحال إليها المسيح في خياله؛ ولعله قد تأثر بنبذ الأفلاطونية والرواقية للمادة والجسم واعتبارهما شراً وخبثاً؛ ولعله تذكر السنة اليهودية والوثنية سنة التضحية الفدائية للتكفير عن خطايا الناس: أما هذه الأسس فأهما أن كل إن أنثى يرث خطيئة آدم، وأن لا شيء ينجيه من العذاب الأبدي إلا موت ابن الله ليكفر بموته عن خطيئته . وتلك فكرة كانت أكثر قبولاً لدى الوثنيين منها لدى اليهود، ولقد كانت مصر، وآسية الصغرى، وبلاد اليونان تؤمن بالآلهة من زمن بعيد - تؤمن بأوزريس، وأتيس وديونيشس - التي ماتت لتفتدي بموتها بني الإنسان. وكانت ألقاب مثل سوتر (المنقذ) واليوثريوس Eleutherios (المنجي) تُطلق على هذه الآلهة، وكان لفظ كريوس Kyrios (الرب) الذي سمى به بولس المسيح هو اللفظ الذي تطلقه الطقوس اليونانية - السوريّة على ديونيشس الميت الُمفتدى(52)، ولم يكن في وسع غير اليهود من أهل إنطاكية وسواها من المُدن اليونانية، الذين لم يعرفوا عيسى بجسمه، أن يؤمنوا به إلا كما آمنوا بآلهتهم المنقذين، ولهذا ناداهم بولس بقوله: "هو ذا سر أقوله لكم"(53). وأضاف بولس إلى هذا اللاهوت الشعبي المؤسى بعض آراء صوفية غامضة كانت قد ذاعت بين الناس بعد انتشار سفر الحكمة، وفلسفة افليمون. من ذلك قول بولس إن المسيح هو "حكمة الله"(54) و "ابن الله الأول بكر كل خليقة، فانه فيه خلق الكل... الكل به وله قد خلق، الذي هو قبل كل شيء وفيه يقوم الكل"(55)، وليس هو المسيح المنتظر "المسيا" اليهودي، الذي سينجي إسرائيل من الأسر، بل هو الكلمة الذي سينجي الناس كلهم بموته. وقد استطاع بولس بهذه التفسيرات كلها أن يغض النظر عن حياة يسوع الواقعية وعن أقواله التي لم يسمعها منه مباشرة، واستطاع بذلك أن يقف على قدم المساواة مع الرسل الأولين، الذين لم يكونوا يجارونه في آرائه الميتافيزيقية. لقد كان في وسعه أن يخلع على حياة المسيح وعلى حياة الإنسان نفسه أدواراً عليا في مسرحية فخمة تشمل النفوس على بكرة أبيها والأبدية بأجمعها. وكان في وسعه فوق هذا أن يجيب عن الأسئلة المربكة أسئلة الذين قالوا إنه إذا كان المسيح إلهاً حقاً فلم رضي أن يُقتل؟ فقال: إن المسيح قد قُتل ليفتدي بموته العالم الذي استحوذ عليه الشيطان بسبب خطيئة آدم. فكان لابد أن يموت ليحطم أغلال الموت، ويفتح أبواب السماء لكل مَن نالوا رضوان الله. ويقول بولس إن عاملين اثنين يُقرران مَن سوف يُنجيهم موت المسيح وهما اختيار الله والإيمان المصحوب بالتواضع. فالله يختار من بداية العالم إلى نهايته مَن ينالون نعمته ورضوانه ومَن تحل بهم نقمته(56). ومع هذا فقد نشط بولس في تقوية إيمان الناس حتى يكون إيمانهم هذا سبيلاً إلى نيل رضاء الله. وقال: إن الروح لا تستطيع أن تحس بذلك التبدل العميق الذي يخلق صاحبها خلقاً جديداً، ويوحد بين المؤمنين وبين المسيح، ويمكنه من الاشتراك في ثمار موته. ويقول بولس إن الأعمال الطيبة، وإطاعة كل ما جاء في أوامر الشريعة اليهودية البالغ عددها 613 أمراً، لا يكفيان للنجاة، لأن هذه الأعمال وتلك الطاعة لا تستطيع أن تبدل طبيعة الإنسان أو أن تُطهّر النفس من الذنوب. لقد اختتم عهد الناموس بموت المسيح، ووجب ألا يكون الآن يهودي ويوناني، أو عبد وحر، أو ذكر وأنثى "لأنكم جميعاً واحد في المسيح"(58). لكن بولس لم يمل قط من أن يغرس في قلوب الناس فائدة للعمل الطيب مقترناً بالإيمان؛ وإن أشهر ما قيل من العبارات عن الحب نفسه لهي ألفاظه هو: "إن كنت أتكلم بألسنة الناس والملائكة ولكن ليس لي محبة فقد صرت نحاساً يطن أو صنجاً يرن، وإن كانت لي نبوّة وأعلم جميع الأسرار وكل علم، وإن كان لي كل الإيمان حتى أنقل الجبال، ولكن ليس لي محبة فلست شيئاً؛ وإن أطعمت كل أموالي، وإن سلّمت جسدي حتى احترق ولكن ليس لي محبة فلا أنتفع شيئاً، المحبة تتأتى وتترفق، المحبة لا تَحسُد، المحبة لا تتفاخر... ولا تطلب ما لنفسها... وتحتمل كل شيء... أما الآن فيثبت الإيمان والرجاء والمحبة، هذه الثلاثة ولكن أعظمهن المحبة"(59). أما الحب الجنسي فيجيزه بولس، ولكنه لا يشجعه إطلاقاً. ومن أقواله فقرة توصي(60)، ولكنها لا تثبت، إنه قد تزوج: "ألعلنا، هو وبرنابا" ليس لنا سلطان أن نجول بأخت زوجة كباقي الرسل واخوة الرب وصفاً؟" ولكنه في فقرة أخرى يسمي نفسه عزباً(61). وكان يشبه يسوع في تجرده من الشهوات الجنسية(62)، ولقد روع حين سمع بالشذوذ الجنسي بين الإناث والذكور(63). وسأل أهل كورنثة قائلاً: "أولستم تعلمون أن جسدكم هو هيكل للروح القدس الذي فيكم... فمجدوا الله في أجسادكم"(64)، وعنده أن بقاء البنات عذارى خير من الزواج، "ولكن إن لم يضبطوا أنفسهم فليتزوجوا لأن التزوج أصلح من التحرّق" وزواج المطلقين والمطلّقات حرام، إلا إذا كان المطلّق زوجاً لا امرأة غير مؤمنة أو كانت المطلّقة زوجة لغير مؤمن فإن لهما بعد الطلاق أن يتزوجا. وعلى المرأة أن تطيع زوجها، وعلى العبد أن يطيع سيده "الدعوة التي دُعي فيها كل واحد (أي اعتنق المسيحية) فليلبث فيها، دعت وأنت عبد لا يهمك، بل وإن استطعت أن تصير حراً فاستعملها بالحرى لأن من دعا في الرب وهو عبد فهو عتيق الرب، كذلك أيضاً الحر المدعو هو عبد المسيح"(65). ذلك أن الحرية والاسترقاق لم يكن لهما شأن يُذكر إذا كان العالم قريباً من نهايته. ولهذا السبب عينه لم يكن للحرية القومية شأن كبير "لتخضع كل نفس للسلاطين القائمة، لأنه ليس سلطان إلا من الله، والسلاطين الكائنة هي مرتبة من الله"(60). لقد كان خليقاً بروما ألا تقضي على فيلسوف مجامل طيّع إلى هذا الحد. المزيد من مواضيعي
|
![]() |
العلامات المرجعية |
الكلمات الدلالية |
الحضارة, كتاب |
الذين يشاهدون هذا الموضوع الآن : 1 ( 0من الأعضاء 1 من الزوار ) | |
|
|
![]() |
||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | ردود | آخر مشاركة |
مسيرة الحضارة العربية الإسلامية من الاقتباس إلى الأصالة والإبداع والعالمية | محب الله ورسوله | التاريخ والبلدان | 3 | 03.12.2010 21:44 |
الحضارة الاسلامية والغرب | noor aldeen zanki | التاريخ والبلدان | 5 | 27.08.2010 14:42 |
قصة نوح عليه السلام كتاب الكتروني بالفلاش تقلب صفحاته بيدك | الوردة البيضاء | روضة الطفل المسلم | 3 | 05.08.2010 12:42 |
رأيي في الحضارة الغربية ، للرافعي | أبو عبد الله البخاري | قسم الحوار العام | 4 | 26.02.2010 15:11 |