أستاذنا الفاضل سامح أولاً العنوان فيه خطأ جسيم منسوب لشيخ الإسلام في أنه رجح التأويل على النص !!
والعنوان يكون مقبولاً مبدأياً إذا أوردته بقولك أن شيخ الإسلام رجح التأويل على ظاهر النص .. فما كان لابن تيمية أو غيره من العلماء الربانيين أن يرجحوا أي شيء على نص كلام النبي صلى الله عليه وسلم ..
ثم يبقى نسبة ترجيح ابن تيمية التأويل على ظاهر النص محل نظر نبينه فيما يأتي ..
والذي يقرأ لابن تيمية حقاً يجد أن الأصل عنده وعند أهل السنة هو الأخذ بالظاهر ما لم يصرف عن ظاهر النص دليلاً أخراً أقوى منه ...
وفيما نقلت بيان ذلك ونزيدك عليه بيان حيث قال :
" فالأولون تمسكوا بعموم الخطاب فجعلوا صورة الفوات داخلة في العموم والآخرون: كان معهم من الدليل ما يوجب خروج هذه الصورة عن العموم "
وهذا بعد تدقيق النظر يؤكد أن الأصل عندهم هو الإلتزام بنص ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في المسألة بما هو ظاهر إلا أن يصرفهم عن ذلك دليلاً أقوى ..
وقد كان مع الأولين من دليل يخرج هذا الظاهر عن عمومه من الكتاب والسنة ما يلزمهم بإقامة الصلاة على وقتها ليدركوا بذلك أن مقصود النبي عليه الصلاة والسلام هو الإسراع في الوصول وإلا فالأصل في النصوص الشرعية الأخذ بظاهرها ..
وإلا لانفتح الباب على مصرعيه لكل فرد يقول برأيه في دين ثم يقول هذا روح النص !
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في رده على من من صرف أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالوضوء من لحوم الإبل إلى الإستحباب دون الوجوب قال :
" ولم يبق حينئذ دليل يوجب صرف الأمر عن الوجوب ويقال إن جاز أن يختص باستحباب الوضوء جاز أن يختص بوجوبه وهو المعقول من الكلام فلا وجه للعدول عنه ثم الجواب عن جميع هذه الأسئلة أنها احتمالات مرجوحة وتأويلات بعيدة لا يجوز حمل الكلام عليها إلا مع دليل قوي أقوى من تلك الدلالة يوجب الصرف عن الظاهر والمصير إلى الباطن "
وهذا دليل على أن الأخذ بالظاهر هو الأصل عند ابن تيمية !
بل هو عند العلماء الربانيين كذلك :
قال الخطيب في الفقه والمتفقه ( 1/222 ) : ويجب أن يحمل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم على عمومه وظاهره إلا أن يقوم الدليل على أن المراد به غير ذلك فيعدل إلى ما دل الدليل عليه ، قال الشافعي : ولو جاز في الحديث أن يحال شيء منه عن ظاهره إلى معنى باطن يحتمله كان أكثر الحديث يحتمل عدداً من المعاني فلا يكون لأحد ذهب إلى معنى منها حجة على أحد ذهب إلى معنى غيره ، ولكن الحق فيها واحد إنما هو على ظاهرها وعمومها إلا بدلالة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . انتهى .
وقال ابن القيم في إعلام الموقعين ( 3/108 ) : الواجب حمل كلام الله تعالى ورسوله ، وحمل كلام المكلف على ظاهره الذي هو ظاهره ، وهو الذي يقصد من اللفظ عند التخاطب ، ولا يتم التفهيم والفهم إلا بذلك . انتهى .
وقال ابن القيم في إعلام الموقعين ( 4/148 ) : ينبغي للمفتي أن يفتي بلفظ النص مهما أمكنه ، فإنه يتضمن الحكم والدليل مع البيان التام ، فهو حكم مضمون له الصواب ، متضمن للدليل عليه في أحسن بيان ، وقول الفقيه المعين ليس كذلك ، وقد كان الصحابة والتابعون والأئمة الذين سلكوا على مناهجهم يتحرون ذلك غاية التحري حتى خلفت من بعدهم خلوف رغبوا عن النصوص واشتقوا لهم ألفاظاً غير ألفاظ النصوص ، فأوجب ذلك هجر النصوص ، ومعلوم أن تلك الألفاظ لا تفي بما تفي النصوص من الحكم والدليل وحسن البيان ، فتولد من هجران ألفاظ النصوص والإقبال على الألفاظ الحادثة وتعليق الأحكام بها على الأمة من الفساد ما لا يعلمه إلا الله ، فألفاظ النصوص عصمة وحجة ، بريئة من الخطأ والتناقض ، والتعقيد والاضطراب ، ولما كانت هي عصمة عهدة الصحابة وأصولهم التي إليها يرجعون كانت علومهم أصح من علوم من بعدهم وخطؤهم فيما اختلفوا فيه أقل من خطأ من بعدهم ثم التابعون بالنسبة إلى من بعدهم كذلك وهَلُمَّ جرَّا .. ، وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سئلوا عن مسألة يقولون قال الله كذا ، قال رسول الله كذا ، ولا يعدلون عن ذلك و ما وجدوا إليه سبيلاً قط فمن تأمل أجوبتهم وجدها شفاء لما في الصدور . انتهى .
وقال الشوكاني في منتهى الأرب في أدب الطلب ( 235 ) : ومن جملة ما ينبغي له تصوره ويعنيه استحضاره أن يعلم أن هذه الشريعة المباركة هي ما اشتمل عليه الكتاب والسنة من الأوامر والنواهي والترغيبات والتنفيرات وسائر ما له مدخل في التكليف ، من غير قصد إلى التعمية والإلغاز ولا إرادة لغير ما يفيده الظاهر ، ويدل عليه التركيب ويفهمه أهل اللسان العربي . فمن زعم أن حرفاً من حروف الكتاب والسنة لا يراد به المعنى الحقيقي والمدلول الواضح فقد زعم على الله ورسوله زعماً يخالف اللفظ الذي جاءنا عنهما ، فإن كان ذلك لمسوّغ شرعي تتوقف عليه الصحة الشرعية أو العقلية التي يتفق العقلاء عليها ، لا مجرد ما يدعيه أهل المذاهب والنحل على العقل ، مطابقاً لما قد حببه إليهم التعصب ، وأدناه من عقولهم البُعد عن الإنصاف فلا بأس بذلك ، وإلاّ فدعوى التجوز مردودة مضروب بها في وجه صاحبها ، فاحرص على هذا فإنه وإن وقع الاتفاق على أصالة المعنى الحقيقي وعدم جواز الانتقال عنه إلا لعلاقة وقرينة كما صُرح به في الأصول وغيرها ، فالعمل في كتب التفسير والحديث والفقه يخالف هذا لمن تدبره وأعمل فكره . ولم يغتر بالظواهر ولا جمد على قبول ما يُقال من دون بحث عن موارده ومصادره . وكثيراً ما تجد المتعصبين يحامون عن مذاهبهم ويؤثرونها على نصوص الكتاب والسنة . فإذا جاءهم نص لا يجدون عنه متحولاً وأعياهم رده وأعجزهم دفعه . ادعوا أنه مجاز وذكروا للتجوز علاقة هي من البعد بمكان ، وقرينة ليس لها في ذلك المقام وجود ولا تدعو إليها حاجة . وأعانهم على هذه الترهات استكثارهم من تعداد أنواع القرائن والعلاقات ، حتى جعلوا من جملة ما هو من العلاقات المسوّغة للتجوز التضاد ، فانظر هذا التلاعب ، وتدبر هذه الأبواب التي فتحوها على أدلة الكتاب والسنة . وقَبِلَها عنهم من لم يمعن النظر ويطيل التدبر فجعلها علماً وقبلها على كتاب الله وسنة رسوله . وأصلها دعوى افتراها على أهل اللغة متعصب قد آثر مذهبه على الكتاب والسنة ، ولم يستطع التصريح بترجيح المذهب على الدليل ، فدقّقَ الفكر وأعمق النظر فقال : هذا الدليل وإن كان معناه الحقيقي يخالف ما نذهب إليه فهو ههنا مجاز والعلاقة كذا والقرينة كذا ، ولا علاقة ولا قرينة . فيأتي بعد عصر هذا المتعصب من لا يبحث عن المقاصد ولا يتدبر المسالك كما ينبغي فيجعل تلك العلاقة التي افتراها ذلك المتعصب من جملة العلائق المسوغة للتجوز . ولهذا صارت العلاقات قريباً من ثلاثين علاقة . ثم لما كان من جملة أنواع القرائن ، القرائن العرفية والعقلية افترى كل متعصب على العقل والعرف ما شاء وصنع في مواطن الخلاف ما أراد والله المستعان . انتهى .
وليس في هذا الأصل إتهام للإئمة المجتهدين ولا نشجع به على الكلام في حقهم ولا أن ينتقص من قدرهم ولكن الحق أحق أن يتبع وأحب .
وأهل الحق دائماً ينبذون تمييع الشريعة ويشددون على احترام العلماء فمن أخذ بهما معاً أخذ بحظ وافر ..
وجزاكم الله خيراً
توقيع أبوحمزة السيوطي |
إذا كُنت تشعر انك لاتعيش جيـداً ...فاعلم أنك لاتصلي جيداً |