بسم الله الرحمن الرحيم
[
الإمام الخطابي والإعجاز البياني]
عرفناه محدثا لامعا شرح سنن أبي داود وصحيح البخاري وألف كتاب "
إصلاح غلط المحدثين". ولكنه في رسالته الموسومة "
بيان إعجاز القرآن" المطبوعة ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن للخطابي والرماني والجرجاني قد كشف لنا عن أديب أريب وناقد لامع. فقد أظهرت ردوده وآرائه ملكة أدبية ونقدا فريدا لا يخرج إلا من عالم قد وعى الكثير من كتب الأدب وكلام العرب.
والخطابي هو أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي البستي ولد عام 319 هـ وأقام ببست وفيها توفي.
يرى الخطابي رحمه الله تعالى أن إعجاز القرآن الكريم لا يكمن فقط في إخبار القرآن ببعض الأمور الغيبية فيه وإن كانت نوع من أنواع الإعجاز.. إذ أن أخبار الغيب في القرآن إنما هي في بعض الآيات وليست في كل سورة من سور القرآن ولا في كل آية من آياته ... بينما الإعجاز البياني في القرآن كله ... من أول سورة منه إلى آخر سورة.
ثم يحدد الخطابي رحمه الله تعالى معايير الكلام البليغ ومقاييسه فيقول:
"
أن أجناس الكلام مختلفة ومراتبها في نسبة التبيان متفاوتة، ودرجاتها في البلاغة متباينة غير متساوية فمنها:
1- البليغ الرصين الجزل
2- ومنها الفصيح القريب السهل
3- ومنها الجائز الطلق الرَّسْل
وهذه أقسام الكلام الفاضل المحمود دون النوع الهجين المذموم الذي لا يوجد في القرآن شيء منه البتة.
فالقسم الأول أعلى طبقات الكلام وأرفعه والقسم الثاني أوسطه واقصده والقسم الثالث أدناه وأقربه، فحازت بلاغات القرآن من كل قسم من هذه الأقسام حصة، وأخذت من كل نوع من أنواعه شعبة، فانتظم لها بامتزاج هذه الأوصاف نمط من الكلام يجمع صفتي الفخامة والعذوبة". ا.هـ
ثم يبين الخطابي أسباب عجز العرب أن يأتوا بمثل القران في أمور:
1- أن علمهم لا يحيط بجميع أسماء اللغة العربية وألفاظها التي هي ظروف المعاني والحوامل لها
2- لا تدرك أفهامهم جميع معاني الأشياء المحمولة على تلك الألفاظ.
3- لا تكمل معرفتهم لاستيفاء جميع وجوه النظوم التي بها يكون ائتلافها وارتباط بعضها ببعض.
يقول: "
وإنما يقوم الكلام بهذه الأشياء الثلاثة: لفظ حامل ، ومعنى به قائم، ورباط لهما ناظم. وإذا تأملت القرآن وجدت هذه الأمور منه في غاية الشرف والفضيلة حتى لا ترى شيئا من الألفاظ أفصح ولا أجزل ولا أعذب من ألفاظه.
وقد توجد هذه الفضائل الثلاث على التفرق في أنواع الكلام فأما أن توجد مجموعة في نوع واحد منه فلم توجد إلا في كلام العليم القدير الذي أحاط بكل شيء علما وأحصى كل شيء عددا. فتفهم الآن واعلم أن القرآن إنما صار معجزا لأنه جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف مضمنا أصح المعاني من توحيد له عزت قدرته، وتنزيه له في صفاته، ودعاء إلى طاعته وبيان بمنهج عبادته من تحليل وتحريم وحظر وإباحة ووعظ وأمر بمعروف ونهي عن منكر وإرشاد إلى محاسن الأخلاق وزجر عن مساوئها واضعا كل شيء منها موضعه الذي لا يرى شيء أولى منه ا.هـ
إذا فأجناس الكلام الثلاثة الآنفة الذكر قد توجد متفرقة في كلام العرب ولكنها لم توجد مجموعة إلا في القرآن وهو أحد أسرار الإعجاز البياني للقرآن. كما أن أهل البلاغة لا يستطيعون الإتيان بكل المعاني المذكورة آنفا مجموعة في تأليف واحد ومنتظمة ومتسقة كما في القرآن.
ومن ثم كان انقطاع العرب عن الإتيان بمثله مع اعترافهم بفصاحته كما روي عن الوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة وغيرهم ثبات المعجزة وقيام الحجة والحمد لله.
ويرى الخطابي أن ثمة فرق بين بعض الكلمات التي يراها البعض من المترادفات ... مثل الحمد والشكر والبخل والشح والنعت والصفة والقعود والجلوس وبلى ونعم ..الخ مما سنعرض إليه بإذن الله تعالى في ثنايا الحديث عن الإعجاز البياني. وأن هذه الفروق الدقيقة تتطلب معرفة واسعة بكلام العرب وبلاغتهم ... وهي من الأسباب التي دعت العرب إلى ترك معارضة القرآن ومجابهته بالسيف والقتال مع أن المعارضة كانت لهم أسهل من القتل وذهاب النفوس.
ثم يرد الخطابي رحمه الله تعالى على أكثر من شبهة حكاها بعض المناوئين لهذا الدين ..نذكر منها على سبيل المثال:
أولا: في قوله تعالى "
فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ " يوسف 17 . قالوا: إنما يستعمل هذا في فعل السباع خصوصا "الافتراس" يقولون: افترسه السبع. أما الأكل فهو عام لا يختص به نوع من الحيوان دون نوع. قال الخطابي رحمه الله تعالى: الافتراس في فعل السبع معناه القتل فحسب. وأصل الفرس دق العنق. والقوم إنما ادعوا على الذئب أنه أكله أكلا وأنه أتى على جميع أجزائه وأعضائه مخافة مطالبة أبيهم إياهم بأثر باقٍ منه يشهد بصحة ما ذكروه فادّعوا فيه الأكل ليزيلوا عن أنفسهم المطالبة. ثم أن قوله تعالى "أكله الذئب" مستعمل في كلام العرب في الذئب وغيره من السباع. حكى ابن السكيت في ألفاظ العرب قولهم " أكل الذئب الشاة فما ابقى منها تامورا" وقال بعض شعرائهم:
فتى ليس كابن العم للذئب إن رأى .... لصاحبه يوما دما فهو آكله
وقال آخر:
أبا خراشة أما أنت ذا نفر ..... فإن قومي لم تأكلهم الضبع
ثانيا: قوله تعالى "
وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ" العاديات 8 ... و أنت لا تسمع فصيحا يقول: أنا لحب زيد شديد وإنما وجه الكلام وصحته أن يقال: أنا شديد الحب لزيد.
قال الخطابي رحمه الله تعالى: الشديد معناه هاهنا البخيل ويقال رجل شديد ومتشدد أي بخيل. قال طرفة بن العبد:
أرى الموت يعتام النفوس ويصطفي ..... عقيلة مال الفاحش المتشددِ
واللام في قوله (لحب الخير) بمعنى لأجل حب الخير وهو المال شديد. [ المعنى أن الإنسان لأجل حب المال فهو شديد أي بخيل]
ثالثا: عاب قوم التكرار في بعض الآيات، كقوله تعالى في سورة الرحمن "
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ " وقوله تعالى في سورة المرسلات "
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ " حيث تكررت هاتين الآيتين كثيرا في السورتين المذكورتين. قال الخطابي رحمه الله تعالى: إن تكرار الكلام على ضربين: أحدهما مذموم وهو ما كان مستغنى عنه، غير مستفاد به زيادة معنى لم يستفيدوه بالكلام الأول. لأنه حينئذ يكون فضلا من الكلام ولغوا وليس في القرآن شيء من هذا النوع.
أما الضرب الآخر فهو ما كان بخلاف هذه الصفة، فإن ترك التكرار في الموضع الذي يقتضيه وتدعو الحاجة إليه فيه، بإزاء تكلف الزيادة في وقت الحاجة إلى الحذف والاختصار وإنما يحتاج إليه ويكثر استعماله في الأمور المهمة التي قد تعظم العناية بها ويخاف بتركه وقوع الغلط والنسيان فيها والاستهانة بقدرها وقد يقول الرجل لصاحبه في الحث والتحريض على العمل : عجّل عجّل، وارم ارم، كما يكتب في الأمور المهمة على ظهر الكتب: مهم مهم مهم. ونحوها من الأمور. وكقول الشاعر:
يالِ بكرٍ انشروا لي كليبا .... يالِ بكرٍ أين أين الفرار
وقد ذكر سبحانه السبب الذي من أجله كرر الأقاصيص والأخبار في القرآن فقال تعالى:
وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ " القصص 51 وقال سبحانه:
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا " طه 113
وأما سورة الرحمن فإن الله تعالى خاطب بها الثقلين من الإنس والجن وعدد عليهم أنواع نعمه التي خلقها لهم فكلما ذكر فصلا من فصول النعم جدد إقرارهم به واقتضاؤهم الشكر عليه. وفي سورة المرسلات ذكر أحوال يوم القيامة وأهوالها فقدم الوعيد فيها وجدد القول عند ذكر كل حال من أحوالها لتكون ابلغ في القرآن وأوكد لإقامة الحجة والإعذار. ومواقع البلاغة معتبرة لمواضعها من الحاجة.
[ المعارضات ]
المعارضة الشعرية هي أن يأتي شاعر فيكتب قصيدة مماثلة لقصيدة أخرى كتبها شاعر بنفس الوزن والقافية لنفس الغرض وربما لغيره. أما معارضة القرآن فهي أن يأتي من يريد المعارضة بمثل القرآن.
وقد ذكر الخطابي رحمه الله تعالى شروط المعارضة فقال:
1- وسبيل من عارض صاحبه في خطبة أو شعر أن ينشئ له كلاما جديدا
2- يحدث له معنى بديعا
فيجاريه في لفظه ويباريه في معناه ليوازن بين الكلامين فيحكم لمن أربى فهما على صاحبه، وليس بأن يتحيف من أطراف كلام خصمه فينسف منه ثم يبدل كلمة مكان كلمة فيصل بعضه ببعض وصل ترقيع وتلفيق ثم يزعم أنه قد واقفه موقف المعارضين" ا.هـ
ثم يرد الإمام الخطابي على بعض المعارضات التي كانت من القوم للقرآن الكريم فيقول:
ورد عن مسيلمة الكذاب قوله:
يا ضفدع نقي كم تنقين، لا الماء تكدرين ولا الوارد تنفرين.
قال الخطابي رحمه الله تعالى:
هذا كلام خالٍ من كل فائدة، لا لفظه صحيح ولا معناه مستقيم ولا فيه شيء من الشرائط الثلاث التي هي أركان البلاغة. وإنما تكلف هذا الكلام الغث لما فيه من السجع، والساجع عادته أن يجعل المعاني تابعة لسجعه.
وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بعث عمر بن العاص إلى البحرين فتوفي رسول الله وعمرو ثَمَّ. قال عمرو: فأقبلت حتى مررت على مسيلمة فأعطاني الأمان، ثم قال: إن محمدا أرسل في جسيم الأمور وأرسلت في المحقرات. فقلت: اعرض علي ما تقول. فقال: يا ضفدع نقي كم تنقين، لا الماء تكدرين ولا الوارد تنفرين، يا وبر يا وبر، يدان وصدر وسائرك حضر نفر. ثم أتى أناس إليه يختصمون في نخل قطعها بعضهم لبعض فتسجى بقطيفة ثم كشف رأسه فقال: والليل الأدهم والذئب الأسحم ما جاء بني أبي مسلم من محرم. ثم تسجى الثانية فقال: والليل الدامس والذئب الهامس ما حرمته رطبا إلا كحرمته يابس. قوموا فلا أرى عليكم فيما صنعتم شيئا. قال عمرو: أما والله إنك لتعلم وإنا لنعلم أنك من الكاذبين. فتوعدني.
قال الخطابي:
صدق عمرو، هل يخالج أحداً شك في ضلال من هذا سبيله وسقوط من هذا برهانه ودليله وأي بلاغة في هذا الكلام وأي معنى تحته وأي حكمة فيه حتى يتوهم أن فيه معارضة للقرآن؟ أو مباراة له على أي وجه من الوجوه؟ ولكن البائس أعلم بنفسه حين يقول: أرسلت في المحقرات. ولا يراد أحقر مما جاء به واقل.
وأما قول الآخر:
الفيل وما الفيل وما أدراك ما الفيل له مشفر طويل وذنب اثيل وما ذاك من خلق ربنا بقليل. وقول من قال:
ألم تر كيف فعل ربك بالحبلى أخرج منها نسمة تسعى بين شراسيف وحشى. فإن كل واحد من هذين الكلامين مع قصور آيه وقصر معانيه خال من أوصاف المعارضة وشروطها، وإنما هو استراق واقتطاع من عرض كلام القرآن، واحتذاء لبعض أمثلة نظومه، وكلاً لن يبلغوا شأوه أو يصيبوا في شيء من ذلك حذوه.
وإخراج الجنين نعمة من نعم الله تعالى والتعبير عنها بقوله "ألم تر كيف فعل ربك" إنما يستخدم في مواضع العذاب والانتقام والدال عليه قوله تعالى: "أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ" الفجر 6 وقوله تعالى: " أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ" الفيل 1
ثم أن الجنين لا يخرج من بين الشراسيف والحشا.
أما قوله" الفيل وما الفيل ...الخ" فإنه محاكاة لما جاء في القرآن في قوله تعالى " الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3)" القارعة 1-3 ومثل قوله تعالى " الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) " الحاقة 1-3 ... كما أنه لم يأت ببعض الأمور المستغربة عن الفيل مثلا وما أشبهه بقول القائل:
وإني وإني ثم إني وإنني .... إذا انقطعت نعلي جعلت لها شسعا
يقول الخطابي رحمه الله:
فيقال الآن لصاحب الفيل: يا فائل الرأي أين ما شرطناه في حدود البلاغة فيما جئت به من الكلام وأين ما وصفناه من رسوم المعارضات فيما هذيت من جهلك وضلالتك، افتتحت قولك "بالفيل وما الفيل .." فهولت وروعت وصعدت وصوبت ثم أخلفت ما وعدت وأخدجت ما ولدّت حين انقطعت وعلى ذكر الذنب والمشفر اقتصرت أما علمت يا عاجز أن مثل هذه الفاتحة إنما تُجعل مقدمة لأمر عظيم الشأن ..وأنت علقت هذا القول على دابة يدركها البصر في مدى اللحظة ويحيط بمعانيها العلم في اليسير من مدة الفكر ...الخ كلامه رحمه الله تعالى.
[
نموذج لمعارضة مقبولة]
رُوي أن الوليد بن عبد الملك وأخاه مسيلمة تنازعا ذكر الليل وطوله، ففضل الوليد أبيات النابغة في وصف الليل، وفضل مسلمة أبيات امرؤ القيس، فحكما الشعبي بينهما، فقال الشعبي تُنشد الأبيات واسمع، فأنشد للنابغة:
كليني لهمٍ ، يا أميمةَ ، ناصبِ .....و ليلٍ أقاسيهِ ، بطيءِ الكواكبِ
تطاولَ حتى قلتُ ليسَ بمنقضٍ...... و ليسَ الذي يرعى النجومَ بآيبِ
بصدرٍ أراحَ الليلُ عازبَ همهِ ...... تضاعَفَ فيه الحزْنُ من كلّ جانبِ
ثم أنشد لامرؤ القيس:
وَليلٍ كَمَوْجِ البَحرِ أرْخَى سُدولَهُ ... عليّ بأنواعِ الهُموم ليَبْتَلي
فَقُلْتُ لَه لَمِّا تَمَطَّي بصُلْبِهِ ... وَأَرْدَفَ أَعْجَازًا وَنَاءَ بَكَلْكَلِ
ألا أيّها اللّيلُ الطويلُ ألا انْجَلِي ... بصُبْحٍ، وما الإِصْبَاحُ مِنكَ بأمثَلِ
فيا لكَ من لَيْلٍ كَأَنَّ نُجومَهُ ... بكُلِّ مغارِ الفَتْلِ شُدَّت بِيَذْبُلِ
قال فركض الوليد برجله، فقال الشعبي: بانت القضية.
قال الخطابي:
قول النابغة " كليني لهمٍ يا أميمة ...الخ متناه في الحسن بليغ في وصف ما شكاه من همِّه وطول ليله، ويقال أنه لم يبتدىء شاعر قصيدة بأحسن من هذا الكلام.
أخيرا ثمة وجه آخر من وجوه الإعجاز أشار إليه الخطابي رحمه الله تعالى وهو الإعجاز النفسي الذي يعني تأثر الناس بالقرآن وصنيعه في قلوبهم وتأثيره في نفوسهم والله الموفق سبحانه