السبب الأول:
أن يكون الدليل لم يبلغ هذا المخالف الذي أخطأ في حكمه.
وهذا السبب ليس خاصًّا فيمن بعد الصحابة، بل يكون في الصحابة ومَن بعدهم.
ونضرب مثالين وَقَعَا للصحابة من هذا النوع.
الأول: فإننا علمنا بما ثبت في صحيح البخاري وغيره حينما سافر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الشام، وفي أثناء الطريق ذُكر له أن فيها وباء وهو الطاعون، فوقف وجعل يستشير الصحابة رضي الله عنهم، فاستشار المهاجرين والأنصار واختلفوا في ذلك على رأيين.. وكان الأرجح القول بالرجوع، وفي أثناء هذه المداولة والمشاورة جاء عبدالرحمن بن عوف، وكان غائبًا في حاجة له، فقال: إن عندي من ذلك عِلمًا، سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "إذا سمعتم به في أرض فلا تقدموا عليه، وإن وقع وأنتم فيها فلا تخرجوا فرارًا منه" فكان هذا الحكم خافيًا على كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار، حتى جاء عبدالرحمن فأخبرهم بهذا الحديث.
مثال آخر: كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه
وعبدالله بن عباس رضي الله عنهما يريان أن الحامل إذا مات عنها زوجها تعتدّ بأطول الأجلين، من أربعة أشهر وعشر...
وأنا أعلم علم اليقين أن هذا الحديث لو بلغ عليًّا وابن عباس لأخذا به قطعًا، ولم يذهبا إلى رأيهما.
السبب الثاني:
أن يكون الحديث قد بلغ الرجل ولكنه لم يثق بناقله، ورأى أنه مخالف لما هو أقوى منه، فأخذ بما يراه أقوى منه، ونحن نضرب مثلًا أيضًا، ليس فيمن بعد الصحابة، ولكن في الصحابة أنفسهم. فاطمة بنت قيس رضي الله عنها طلَّقها زوجها آخر ثلاث تطليقات، فأرسل إليها وكيله بشعير نفقة لها مدة العدة، ولكنها سخطت الشعير وأبت أن تأخذه، فارتفعا إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأخبرها النبي: أنه لا نفقة لها ولا سكنى، وذلك لأنه أبانها، والمبانة ليس لها نفقة ولا سكنى على زوجها إلا أن تكون حاملًا؛ لقوله تعالى: {وَإِن كُنَّ أُوْلَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6].
عمر رضي الله عنه ـ ناهيك عنه فضلًا وعلمًا ـ خفيت عليه هذه السُّنَّة، فرأى أن لها النفقة والسكنى، وردَّ حديث فاطمة باحتمال أنها قد نسيت
فقال: أنترك قول ربنا لقول امرأة لا ندري أذكرت أم نسيت؟
وهذا معناه أن أمير المؤمنين عمر ـ رضي الله عنه ـ لم يطمئن إلى هذا الدليل، وهذا كما يقع لعمر ومن دونه من الصحابة ومن دونهم من التابعين، يقع أيضًا لمَن بعدهم من أتباع التابعين، وهكذا إلى يومنا هذا بل إلى يوم القيامة، أن يكون الإنسان غير واثق من صحة الدليل. وكم رأينا من أقوال لأهل العلم فيها أحاديث يرى بعض أهل العلم أنها صحيحة فيأخذون بها، ويراها الآخرون ضعيفة، فلا يأخذون بها، نظرًا لعدم الوثوق بنقلها عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
يُتبع