العقيدة و الفقه قسم يحتوي على المواضيع الفقهية و العقدية لأهل السنة و الجماعة. |
![]() |
![]() |
|
أدوات الموضوع | أنواع عرض الموضوع |
|
رقم المشاركة :1 (رابط المشاركة)
|
|||||||||||||||||||||
|
|||||||||||||||||||||
![]() بسم الله الرحمن الرحيم و به نستعين حدوث الشرك في العالم وسببه : كان الناس بعد آدم عليه السلام على الدين الصحيح إلى أن حدث الشرك في قوم نوح بسبب غلوهم في الصالحين لما ماتوا فصوروا صورهم بإيحاء من الشيطان ونصبوها على مجالسهم ليتذكروا بها أحوالهم فينشطوا على العبادة بزعمهم فلما هلك هذا الجيل الذي نصب تلك الصور زين الشيطان للجيل الذي جاء من بعدهم عبادة تلك الصور فعبدوها . ومن ذلك الحين حدث الشرك في الأرض فبعث الله نبيه نوحا عليه الصلاة والسلام يدعو قومه إلى التوحيد وينهاهم عن هذا الشرك الذي وقعوا فيه فأصروا على شركهم : وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدًّا وَلاَ سُوَاعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (الجزء رقم : 20، الصفحة رقم: 199) وتلك أسماء الصالحين الذين غلوا فيهم وصوروا صورهم وأبوا أن يتركوا عبادتهم ، وأَيِس نوح عليه السلام في هدايتهم بعد محاولة طويلة معهم كما قال الله ألف سنة إلا خمسين عاما : وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ . عند ذلك دعا عليهم فأهلكهم الله بالطوفان وأنجى نوحا ومن آمن معه في الفلك . ثم تتابعت الرسل من بعد نوح تدعو إلى التوحيد وتنهى عن الشرك ، إلى أن جاء عهد إبراهيم خليل الله وقد بلغ الشرك والطغيان والجبروت من الطواغيت مبلغا عظيما فقاوم الشرك والمشركين بالحجة والبرهان وحطم الأصنام بيده ولقي في سبيل ذلك أشد أنواع الأذى وأقسى أنواع التعذيب الذي سلمه الله منه حين ألقوه في النار فجعلها الله بقدرته ورحمته بردا وسلاما ، وجعل العاقبة الحميدة له وجعل في ذريته النبوة والكتاب وبقيت النبوة وكلمة التوحيد في ذريته كما قال تعالى : وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ ، وقال تعالى : وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ خصوصا العرب بني إسماعيل . فإن التوحيد لم يزل فيهم وهم على ملة إبراهيم وإسماعيل إلى أن ظهر فيهم عمرو بن لحي الخزاعي فغير فيهم دين إبراهيم ودعاهم إلى عبادة الأصنام فأجابوه ، والسبب في ذلك أنه ذهب إلى الشام فوجد أهلها يعبدون الأصنام فقلدهم في ذلك وجلب معه الأصنام إلى العرب ، وقيل : (الجزء رقم : 20، الصفحة رقم: 200) إن الشيطان أتاه وأرشده إلى الأصنام التي كان الطوفان قد دفنها في الأرض بعد قوم نوح وأمره بأخذها ودعوة العرب إلى عبادتها ففعل . ومن ثم انتشر الشرك في العرب ، وكانت لهم أصنام مشهورة كاللات والعزى ومناة ، وكان لقريش أصنام حول الكعبة وفي جوفها . ومن أعظم أصنامهم هبل الذي يعتزون ويقسمون به - إلى أن بعث الله نبينا محمدا خاتم النبيين فدعا إلى التوحيد ونهى عن الشرك وجاهد المشركين باليد واللسان حتى نصره الله عليهم وهدم أوثانهم وحطم أصنامهم وأعاد الحنيفية ملة إبراهيم صافية نقية وترك أمته على البيضاء ليلها كنهارها وأكمل الله به الدين وأتم به النعمة ، وواصل صحابته الكرام ، وخلفاؤه العظام مسيرة الدعوة في مشارق الأرض ومغاربها وفتحوا البلاد شرقا وغربا ونشروا فيها التوحيد وقضوا على مظاهر الشرك والوثنية حتى تحقق قول الله عز وجل : هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ . نفس المصدر السابق للمزيد من مواضيعي
الموضوع الأصلي :
رسالة الى متصوف
-||-
المصدر :
مُنتَدَيَاتُ كَلِمَةٍ سَوَاءِ الدَّعَويِّة
-||-
الكاتب :
الشهاب الثاقب
المزيد من مواضيعي
|
رقم المشاركة :2 (رابط المشاركة)
|
|||||||||||||||||||||
|
|||||||||||||||||||||
![]() بسم الله الرحمن الرحيم و به نستعين ظهور الشرك في هذه الأمة : لقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من الشرك غاية التحذير وسد كل الطرق الموصلة إليه ، وحمى حمى التوحيد ومن ذلك : (1) أنه نهى عن الغلو في مدحه بما قد يفضي إلى عبادته من دون الله كما حصل للنصارى في حق عيسى ابن مريم ، قال صلى الله عليه وسلم : لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم ، إنما أنا عبد فقولوا : عبد الله ورسو له . (2) نهى عن الغلو في تعظيم قبور الصالحين بالبناء عليها وإسراجها (الجزء رقم : 20، الصفحة رقم: 201) وتجصيصها والكتابة عليها ؛ لأن هذا يفضي إلى عبادتها وطلب قضاء الحوائج من الموتى . (3) نهى عن الصلاة عند القبور سواء بني عليها مساجد أم لا ؛ لأن ذلك وسيلة لعبادتها ولو على المدى الطويل . (4) نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها لما في ذلك من التشبه - بالذين يعبدونها ويسجدون لها في هذين الوقتين . والمسلم مطلوب منه مخالفة المشركين في عقائدهم وعبادتهم وعاداتهم الخاصة بهم . (5) نهى عن السفر إلى أي مكان من الأمكنة بقصد التقرب إلى الله فيه بالعبادة غير المساجد الثلاثة ( المسجد الحرام ، والمسجد النبوي ، والمسجد الأقصى ) . (6) نهى عن الوفاء بالنذر بالذبح لله في مكان يذبح فيه لغير الله أو يقام فيه عيد من أعياد الجاهلية إبعادا عن التشبه بهم في تعظيم المكان والوثن . (7) نهى عن الألفاظ التي فيها التسوية بين الله وبين المخلوق ، كقول : (ما شاء الله وما شئت) و (لولا الله وأنت) كل هذا صيانة للتوحيد وسدا لمنافذ الشرك وإبعادا للأمة عن أن تقع فيما وقعت فيه الأمم قبلها من فساد العقائد وقد سار صدر هذه الأمة على موجب تلك الوصايا النبوية وحافظوا على عقائدهم ، وصانوها عن كل مناقض ومنقص . ولما انتهى وقت القرون المفضلة وامتد الزمن بالناس وجهل أغلبهم آثار الرسالة تسرب إليهم كثير من البدع والخرافات والعوائد الجاهلية في عقائدهم ووقع الكثير فيما حذر منه الرسول صلى الله عليه وسلم من (الجزء رقم : 20، الصفحة رقم: 202) الشرك بالله وفتح المنافذ والطرق الموصلة إليه ، فبنيت المساجد على القبور ، واتجه إليها الكثير بأنواع العبادة كالطواف بها والذبح لها والتوجه إليها بالرغبة والرهبة والدعاء والاستغاثة وأنواع من الشرك الأكبر الذي يسمونه توسلا وطلبا لشفاعتهم كما قال إخوانهم من قبل : مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ . وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا . قال الإمام العلامة ابن القيم رحمه الله : ومن جمع بين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبور وما أمر به ونهى عنه وما كان عليه أصحابه وبين ما عليه أكثر الناس اليوم رأى أحدهما مضادا للآخر مناقضا له بحيث لا يجتمعان أبدا . فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة إلى القبور ، وهؤلاء يصلون عندها وإليها ، ونهى عن اتخاذها مساجد ، وهؤلاء يبنون عليها المساجد ويسمونها مشاهد مضاهاة لبيوت الله . ونهى عن إيقاد السرج عليها ، وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل عليها . ونهى عن أن تتخذ عيدا ، وهؤلاء يتخذونها أعيادا ومناسك ويجتمعون لها كاجتماعهم للعيد أو أكثر ، . . . وأمر بتسويتها كما روى مسلم في صحيحه عن أبي الهياج الأسدي قال : قال لي علي : ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا تدع صورة إلا طمستها ولا قبرا مشرفا إلا سويته ، وهؤلاء يبالغون في مخالفة الحديث ويرفعونها عن الأرض كالبيت (الجزء رقم : 20، الصفحة رقم: 203) ويعقدون عليها القباب ، ونهى عن تجصيص القبر والبناء عليه ، كما روى مسلم عن جابر رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن تجصيص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه ، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكتابة عليها ، كما روى أبو داود عن جابر أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يجصص القبر أو يكتب عليه أو يزاد عليه وهؤلاء يزيدون عليه الآجُرّ والجص والأحجار . قال إبراهيم النخعي : كانوا يكرهون الآجر على قبورهم ، والمقصود أن هؤلاء المعظمين للقبور المتخذيها أعيادا الموقدين عليها السرج ، الذين يبنون عليها المساجد والقباب منافون لما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم محادون لما جاء به ، وأعظم ذلك اتخاذها مساجد وإيقاد السرج عليها ، وهو من الكبائر . . . انتهى كلام ابن القيم رحمه الله . . . . وهو يصف ما حدث في وقته وقد زاد الأمر على ما وصفه بأضعاف وغلوا في الموتى فعبدوهم من دون الله وكذلك ارتكبوا ما نهى عنه صلى الله عليه وسلم من الغلو في مدحه وإطرائه مضاهاة للنصارى في مدح عيسى ابن مريم حتى رفعوه فوق منزلته حتى وقعوا في الشرك الأكبر ، وأظهر لهم الشيطان هذا الغلو في قالب تعظيمه ومحبته وأن عدم الغلو فيه تنقيص له وحط من قدره . وكذلك غلوا في الصالحين كما غلا فيهم قوم نوح من قبل حتى اعتقدوا فيهم شيئا من خصائص الإلهية من جلب النفع ودفع الضر مما لا يقدر عليه إلا الله تعالى ، فهتفوا بأسمائهم عند الشدائد والكربات ، واستغاثوا بهم في كشف الملمات وطافوا بقبورهم كما يطاف بالكعبة وذبحوا القرابين عند قبورهم وصرفوا لهم النذور . قال الإمام العلامة ابن القيم : وقد أدخل الشيطان الشرك على قوم نوح من باب الغلو في الصالحين ، وقد وقع في هذه الأمة مثل ما وقع لقوم نوح لما أظهر (الجزء رقم : 20، الصفحة رقم: 204) الشيطان لكثير من المفتونين الغلو والبدع في قالب تعظيم الصالحين ومحبتهم ليوقعهم فيما هو أعظم من ذلك من عبادتهم لهم من دون الله - فما زال يوحي إلى عباد القبور ويلقي إليهم أن البناء والعكوف عليها من محبة أهل القبور من الأنبياء والصالحين وأن الدعاء عندها مستجاب ثم ينقلهم من هذه المرتبة إلى الدعاء بها والإقسام على الله بها ، فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى دعاء المقبور وعبادته وسؤاله الشفاعة من دون الله واتخاذ قبره وثنا تعلق عليه القناديل والستور ويطاف به ويستلم ويقبل ويحج إليه ويذبح عنده ، فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى دعاء الناس إلى عبادته واتخاذه عيدا ومنسكا ورأوا أن ذلك أنفع لهم في دنياهم وأخراهم . . . . فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى أن من نهى عن ذلك فقد تنقص أهل هذه الرتب العالية وحطهم عن منزلتهم وزعم أنه لا حرمة لهم ولا قدر ، وقد سرى ذلك في نفوس كثير من الجهال والطَّغَام وكثير ممن ينتسب إلى العلم والدين حتى عادوا أهل التوحيد ورموهم بالعظائم ونفروا الناس عنهم . . . انتهى كلامه رحمه الله وهو يصور الداء وأسبابه . ولا علاج لهذا الداء القاتل والوباء الفتاك إلا ببذل الأسباب الشافية والواقية والتي تتلخص في نظري فيما يأتي : (1) الرجوع إلى الكتاب والسنة وكتب السلف الصالح لفهم العقيدة الصحيحة ومعرفة ما يضادها أو ينقصها من الشرك والبدع والخرافات ونبذ الكتب المخالفة للكتاب والسنة من كتب الصوفية والقبورية والمخرفين . (2) تدريس كتب العقائد الصحيحة في المراحل الدراسية وتكثيف منهاجها والتركيز عليها في النجاح والرسوب واختيار المدرسين (الجزء رقم : 20، الصفحة رقم: 205) المتخصصين في فهم عقيدة السلف وتفهيمها للطلاب ، وأن تكون هناك دروس في المساجد لتفهيم العقيدة لعامة الناس ، ومن لا تسمح له ظروفه بمتابعة الدراسة المنهجية . (3) اهتمام الدعاة بتصحيح العقائد والدعوة إلى التوحيد والتحذير من الشرك وإنكار ما يقع من الشرك حول الأضرحة في محاضراتهم ومؤلفاتهم وبيان العقيدة الصحيحة ، واجتماع كلمتهم على ذلك بدلا من اختلافهم في مناهج الدعوة اختلافا شتتهم وحير الجهال فيمن يتبعون منهم . وأفرح أعداء الإسلام بعدم نجاح دعوتهم ، وقد قال الله تعالى : وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا . (4) إزالة مظاهر الشرك من بلاد الإسلام بهدم الأضرحة ومنع بناء المساجد على القبور ومقاومة المخرفين ، والمبتدعة ، ورد شبهاتهم وكشف تزييفهم حتى يرتدعوا عن غيهم ويسلم الناس من شرهم . (5) نشر كتب السلف الصالح وإيصالها إلى أيدي القراء بسهولة وتوفيرها في المكتبات العامة للمراجعة . (6) توعية الشباب والدارسين بتعريفهم بالكتاب والمؤلفين المستقيمين والمؤلفات المفيدة في العقيدة وتعريفهم بالكتاب والمؤلفين المنحرفين والمؤلفات الفاسدة والمخلة في العقيدة . نفس المصدر السابق _ صالح بن فوزان الفوزان |
رقم المشاركة :3 (رابط المشاركة)
|
|||||||||||||||||||||
|
|||||||||||||||||||||
![]() بسم الله الرحمن الرحيم و به نستعين [باب من الشرك النذر لغير الله تعالى] " باب من الشرك النذر لغير الله تعالى " وقول الله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان: 7] [الإنسان: 7] وقوله: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [البقرة: 270] [البقرة: 270] . وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه» (1) . فيه مسائل: الأولى: وجوب الوفاء بالنذر. الثانية: إذا ثبت كونه عبادة لله، فصرفه إلى غيره شرك. الثالثة: أن نذر المعصية لا يجوز الوفاء به. ـــــــــــــــــــــــــــــ [التمهيد لشرح كتاب التوحيد] . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . _________ (1) أخرجه البخاري (6696) و (6700) . (1/157) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ [التمهيد لشرح كتاب التوحيد] ولا شك أن النذر لغير الله شرك أكبر بالله - جل وعلا -، ووجه كونه شركا بالله - جل وعلا -: أن النذر هو: إلزام المكلف نفسه بعبادة لله - جل وعلا - إما مطلقا، وإما بقيد، فهذه حقيقة النذر. ومما يدل أيضا على أن النذر عبادة: أن الله - جل وعلا - مدح الذين يوفون بالنذر فقال: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان: 7] [الإنسان: 7] ومدحه لهم يدل على أن الوفاء بالنذر أمر محبوب لله - عز وجل -، ولا يكون محبوبا إلا وهو مشروع، وذلك يقتضي أنه عبادة من العبادات، بل إن الوفاء بالنذر واجب؛ لأنه إلزام بطاعة، وقد قال: صلى الله عليه وسلم: «من نذر أن يطيع الله فليطعه» . ومما يدل أيضا على كون النذر عبادة قوله: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} [البقرة: 270] [البقرة: 270] ووجه الدلالة: محبة الله - جل وعلا - لذلك الذي حصل منهم تعظيما له - سبحانه وتعالى - بالنذر. وإذا كان كذلك: فإنه عبادة من العبادات، فمن صرفه لغير الله - جل وعلا - كان مشركا بالله - جل وعلا -. وها هنا سؤال معروف قد يَرِدُ في هذا المقام، وهو أن النذر مكروه قد كرهه النبي صلى الله عليه وسلم، وسئل عنه فقال: «إنه لا يأتي بخير» (1) فكيف يكون عبادة وقد كرهه عليه الصلاة والسلام؟؟! _________ (1) أخرجه البخاري (6693) ومسلم (1639) (4) . (1/158) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ [التمهيد لشرح كتاب التوحيد] والجواب: أن النذر قسمان: نذر مطلق، ونذر مقيد، والنذر المطلق هو: أن يلزم العبد نفسه بعبادة لله - جل وعلا -، هكذا بلا قيد، كأن يقول مثلا: لله علي نذر أن أصلي ركعتين، وليس هذا النذر في مقابلة شيء يحدث له في المستقبل، أو شيء حدث له، فيلزم نفسه بعبادة: كصلاة، أو صيام، أو نحو ذلك، فهذا هو النذر المطلق وهو: إلزام العبد نفسه بطاعة لله - جل وعلا - أو بعبادة وليس هذا النذر هو الذي كرهه عليه الصلاة والسلام، بل النذر المكروه هو القسم الثاني: وهو النذر المقيد، وهو الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: «إنما يُستخرج به من البخيل» (1) . وحقيقته: أن يلزم العبد نفسه بطاعة لله - جل وعلا - مقابل شيء يحدثه الله - جل وعلا - له، ويقدره، ويقضيه له، كأن يقول مثلا: إن شفى الله مريضي فلله علي نذر: أن أتصدق بكذا وكذا، أو إن نجحت فسأصلي ليلة، أو إن عُيِّنت في هذه الوظيفة فسأصوم أسبوعا، ونحو ذلك، فهذا كأنه يشترط بهذا النذر على الله - جل وعلا - فيقول: يا رب إن أعطيتني كذا وكذا: صمتُ لك، وإن أنجحتني صليتُ، أو تصدقتُ، وإن شفيتَ مريضي فعلتُ كذا وكذا، يعني: مقابلةً للفعل بالفعل. وهذا هو الذي وصفه النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: «إنما يُستخرج به من البخيل» لأن البخيل هو الذي لا يعمل العبادة حتى يقاضى عليها، فصار بما أعطاه الله من النعمة أو بما دفع عنه من النقمة كأنه في حِس ذلك الناذر قد أعطي الأجر، وأعطى ثمن تلك العبادة. _________ (1) أخرجه مسلم (1639) (2) . (1/159) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ [التمهيد لشرح كتاب التوحيد] وهذا المعنى الخاطئ يستحضره كثير من العوام الذين يستعملون النذور، فإنهم يظنون أن حاجتهم لا تحصل إلا بالنذر، وقد قال شيخ الإسلام - رحمه الله - وغيره من أهل العلم: إن من ظن أنه لا تحصل حاجاته إلا بالنذر، فإن اعتقاده هذا مُحرَّم؛ لأنه ظن أن الله لا يعطي إلا بمقابل، وهذا سوء ظن بالله - جل وعلا - وسوء اعتقاد فيه - سبحانه وتعالى -، بل هو المتفضل المنعم على خلقه. فإذا تبين لك ذلك فاعلم أن النذر المطلق لا يدخل في الكراهة، لكن إذا أطلقنا القول بأن: النذر عبادة، فهل يدخل في هذا الإطلاق النذر المقيد؟ والجواب: أن النذر المقيد له جهتان: الأولى: وفاؤه بالنذر الذي ألزم نفسه به فإنه يكون بذلك قد تعبد الله عبادة من هذه الجهة فيما يظهر. الجهة الثانية: جهة الكراهة المتعلقة بهذا النذر المقيد، وهي إنما جاءت لصفة الاعتقاد لا لصفة أصل العبادة، فإنه في النذر المقيد إذا قال: إن كان كذا وكذا فلله علي نذر كذا وكذا، كانت الكراهة راجعة إلى ذلك التقييد، لا إلى أصل النذر، دل على ذلك: التعليل؛ حيث قال: " فإنما يُستخرج به من البخيل ". فلا إشكال إذًا. فالنذر عبادة من العبادات العظيمة. وهنا قاعدة في أنواع الاستدلال على أن الاستدلال نوعان: النوع الأول: استدلال عام، يعني: أن كل دليل من الكتاب أو السنة فيه إفراد الله بالعبادة: يكون دليلا على أن كل عبادة لا تصلح إلا لله، فيكون الاستدلال بهذا النوع من الأدلة، على تحريم النذر لغير الله، وأنه شرك (1/160) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ [التمهيد لشرح كتاب التوحيد] كالآتي: دل الدليل على وجوب صرف العبادة لله وحده، وعلى أنه لا يجوز صرف العبادة لغير الله - جل وعلا - وأن من صرفها لغير الله - جل وعلا - فقد أشرك، والنذر عبادة من العبادات، فمن نذر لغير الله: فقد أشرك. والنوع الثاني من الاستدلال: هو أن تستدل على المسائل بأدلة خاصة وردت فيها، كأن تستدل على تحريم الذبح لغير الله بأدلة خاصة وردت في ذلك، وكأن تستدل على وجوب الاستغاثة بالله وحده دون ما سواه بأدلة خاصة وردت بذلك، وكذا في الاستعاذة ونحو ذلك. فالدليل على وجوب إفراد الله بجميع أنواع العبادة تفصيلا وإجمالا، وعلى أن صرفها لغير الله شرك أكبر، يستقيم بهذين النوعين من الاستدلال: استدلال عام بكل آية أو حديث فيهما الأمر بإفراد الله بالعبادة، والنهي عن الشرك فتدخل هذه الصورة فيها؛ لأنها عبادة، بجامع تعريف العبادة. والثاني: أن تستدل على المسألة بخصوص ما ورد فيها من الأدلة؛ ولهذا قال الشيخ - رحمه الله - هنا: " باب من الشرك النذر لغير الله " واستدل على ذلك بخصوص أدلة وردت في النذر. وأما الآيات التي قدمها في أول الكتاب، كقوله - جل وعلا: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] [الإسراء: 23] وكقوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] [الذاريات: 56] وكقوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36] [الأنعام: 151] وكقوله: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [الأنعام: 151] فهذه أدلة تصلح لأن يستدل بها على أن صرف النذر لغير الله شرك؛ فتقول: النذر لغير (1/161) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ [التمهيد لشرح كتاب التوحيد] الله عبادة، والله - جل وعلا - نهى أن تصرف العبادة لغيره، وأن من صرف العبادة لغير الله فهو مشرك، فتقول: النذر عبادة؛ لأنه داخل في حد العبادة؛ لأن الله - جل وعلا - يرضاه، ومدح الموفين به. فالدليل الخاص إذًا هو: أن تستدل بخصوص ما جاء في الكتاب والسنة من الأدلة على النذر؛ ولهذا أورد الشيخ هنا الدليل التفصيلي، وفي أول الكتاب أتى بالأدلة العامة على كل مسائل العبادة، وهذا من الفقه الدقيق في التصنيف. ومن الفقه في الأدلة الشرعية: أن المستدل على مسائل التوحيد ينبغي له أن يراعي التنويع؛ لأن تنويع الاستدلال، وإيراد الأدلة من عدة وجوه من شأنه أن يضعف حجة الخصوم الذين يدعون الناس لعبادة غير الله وللشرك به - جل وعلا -، فإذا أوردت على الخصم مرة دليلا خاصا، وتارة دليلا عاما، ونوعت في ذلك، فإن هذا مما يضيق به المخاصم، ويقطع حجته، أما إذ لم تورد إلا دليلا واحدا فربما أوله لك، أو ناقشك فيه، فيحصل عند المستدل ضعف عند المواجهة، أما إذا انتبه لمقاصد أهل العلم، وحفظ الأدلة: فإنه يقوى على مجادلة الخصوم، والله - جل وعلا - وعد عباده بالنصر وكما في قوله: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51] [الزمر: 51] وقد قال الشيخ - رحمه الله - في " كشف الشبهات ": والعامي من الموحدين يغلب الألف من علماء المشركين، وهذا صحيح؛ فإن عند العوام الذين علموا مسائل التوحيد، وأخذوها عن أهلها، عندهم من الحجج، ووضوح البينات في ذلك ما ليس عند بعض المتعلمين. (1/162) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ [التمهيد لشرح كتاب التوحيد] وقول الله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان: 7] [الإنسان: 7] وجه الاستدلال به على كون النذر عبادة ظاهر: وهو أن الله - جل وعلا - مدح الموفين بالنذر، ومدحه للموفين بالنذر يقتضي أن الوفاء بالنذر محبوب له - جل وعلا -، وأنه مشروع، وما كان كذلك فهو من أنواع العبادات، فيكون صرفه لغير الله - جل وعلا - شركا أكبر. وكذلك قوله {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} [البقرة: 270] [البقرة: 270] فإن الله عظم النذر بقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} [البقرة: 270] وعظم أهله، وهذا يدل على أن الوفاء به عبادة محبوبة لله - جل وعلا -. قوله: وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه» : وجه الدلالة من هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب الوفاء بالنذر فقال: «من نذر أن يطيع الله فليطعه» وهذا فيه إيجاب الوفاء بالنذر المطلق الذي يكون طاعة، كأن يقول: لله على أن أصلي كذا وكذا، فهذا يجب عليه أن يوفي بنذره، وكذا إن كان النذر مقيدا، كأن يقول: إن شفى الله مريضي فلله علي أن أتصدق بمائة ريال، فهذا يجب عليه أن يوفي بنذره لله - جل وعلا -، وإيجاب ذلك يدل على أنه عبادة محبوبة؛ لأن الواجب من أنواع العبادات، وأن ما كان وسيلة إليه فإنه أيضا عبادة؛ لأن الوسيلة للوفاء بالنذر هي النذر، فلولا النذر لم يأت الوفاء، فأُوجب الوفاء؛ لأجل أن المكلف هو الذي ألزم نفسه بهذه العبادة. (1/163) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ [التمهيد لشرح كتاب التوحيد] وأما المنع من الوفاء بنذر المعصية، الذي دل عليه قوله:. «ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه» ؛ فلأن إيجاب المكلف على نفسه معصية الله - جل وعلا - فيه معارضة لنهي الله - جل وعلا - عن العصيان، وإذا نذر العبد العصيان، فإن النذر - كما هو معلوم في الفقه - قد انعقد، ويجب عليه ألا يفي بفعل تلك المعصية، لكن يجب عليه أن يكفر عن ذلك كفارة يمين، ومحل ذلك باب النذر في كتب الفقه. فالمقصود من هذا: أن استدلال الشيخ - رحمه الله - بالشق الأول، وهو قوله: «من نذر أن يطيع الله فليطعه» ظاهر في الدلالة على أن النذر عبادة، وكذلك في قوله: «ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه» حيث أوجب عليه كفارة يمين، فهذا يدل على أن أصله منعقد، انعقد لكونه عبادة، وإذا كان عبادة فصرفها لغير الله شرك أكبر به - جل وعلا -. فالنذر لله - جل وعلا - عبادة عظيمة - كما ذكرنا - والنذر لغير الله - جل وعلا - أيضا عبادة، فإذا توجه الناذر لغير الله بالنذر فقد عبده، وإذا توجه الناذر لله - جل وعلا - بالنذر فقد عبد الله - جل وعلا -. فالنذر - على أية حال كان - لله، أو لغير الله، هو عبادة، ثم إن كان لله فهو عبادة لله - جل وعلا - وإن كان لغير الله فهو عبادة لذلك الغير، والله أعلم. هذا الباب عنونه الإمام - رحمه الله - بقوله " باب من الشرك الاستعاذة بغير الله تعالى " وهذا الباب مع الذي قبله والأبواب التي سلفت أيضا: كلها في بيان المقصد من هذا الكتاب، وبيان الغرض من تأليفه، وأن التوحيد إنما يُعرف بضده، فمن طلب التوحيد فليطلب ضده لأنه - أعني التوحيد - يجمع بين الإثبات والنفي، فيجمع بين الإيمان بالله، وبين الكفر بالطاغوت، فمن جمع بين هذين الأمرين فإنه يكون قد عرف التوحيد؛ ولهذا فصل الشيخ - رحمه الله - أفراد توحيد العبادة، وفصل أفراد الشرك؛ فبين أصناف الشرك الأصغر: القولي والعملي، وبين أصناف الشرك الأكبر: العملي والاعتقادي، فذكر الذبح لغير الله، وذكر النذر لغير الله، والذبح والنذر: عبادتان عظيمتان. فعبادة الذبح فعلية عملية، وعبادة النذر عبادة قولية إنشاءً، وعملية وفاءً، فالشرك الأكبر الذي يكون من جهة العمل، أنواع، وقد ذكر منها - على سبيل التمثيل - الذبح لغير الله، كما أنه ذكر النذر لغير الله، مثالا على أنواع الشرك الأكبر الحاصل من جهة القول، وكل من الذبح والنذر يصاحبهما اعتقاد تعظيم المخلوق، كتعظيم الله - عز وجل - وهذا شرك، قال تعالى: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165] [البقرة: 165] وقال: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ - إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 97 - 98] [الشعراء: 97 - 98] ثم عطف على ذلك: " باب من الشرك الاستعاذة بغير (1/164) التمهيد لشرح كتاب التوحيد المزيد من مواضيعي
آخر تعديل بواسطة الشهاب الثاقب بتاريخ
19.01.2018 الساعة 15:16 .
|
رقم المشاركة :4 (رابط المشاركة)
|
|||||||||||||||||||||
|
|||||||||||||||||||||
![]() بسم الله الرحمن الرحيم و به نستعين [باب من الشرك الاستعاذة بغير الله تعالى] " باب من الشرك الاستعاذة بغير الله تعالى " وقول الله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن: 6] [الجن: 6] . وعن خولة بنت حكيم رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من نزل منزلا فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرحل من منزله ذلك» رواه مسلم (1) . فيه مسائل: الأولى: تفسير آية الجن. الثانية: كونه من الشرك. الثالثة الاستدلال على ذلك بالحديث؛ لأن العلماء يستدلون به على أن كلمات الله غير مخلوقة؛ قالوا: لأن الاستعاذة بالمخلوق شرك. الرابعة: فضيلة هذا الدعاء مع اختصاره. الخامسة: أن كون الشيء يحصل به منفعة دنيوية؛ من كف شر؛ أو جلب نفع؛ لا يدل على أنه ليس من الشرك. ـــــــــــــــــــــــــــــ [التمهيد لشرح كتاب التوحيد] . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . _________ (1) أخرجه مسلم (2708) . (1/165) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ [التمهيد لشرح كتاب التوحيد] الله " لأن الاستعانة بغير الله تكون بالقول الذي معه اعتقاد؛ ولذلك ناسبت أن تكون بعد " باب من الشرك النذر لغير الله ". وقوله - رحمه الله -: " من الشرك ": (من) هاهنا تبعيضية كما ذكرنا فيما سبق من الأبواب، والشرك المقصود هنا هو: الشرك الأكبر، أي من الشرك الأكبر الاستعاذة بغير الله؛ لأن (الألف واللام) أو (اللام وحدها) الداخلة على قوله: " الشرك " هي: للعهد؛ فتكون عائدة إلى الشرك المعهود، وهو الأكبر، يعني: باب من الشرك الأكبر الاستعاذة بغير الله. والاستعاذة: طلب العياذ، يقال استعاذ: إذا طلب العياذ، والعياذ: ما يؤمِّن من الشر، كالفرار من شيء مخوف إلى ما يؤمِّن منه، أو إلى من يؤمِّن منه، ويقابلها اللياذ، وهو: الفرار إلى طلب الخير، والتوجه إليه، والاعتصام به، والإقبال عليه، لطلب الخير. والاستعاذة: استفعال، ومادة (استفعل) موضوعة في الغالب للطلب، فغالب مجيء (الألف والسين والتاء) للطلب؛ فمعنى: استعاذ، واستعان، واستغاث، واستسقى: طلب تلك الأمور، وتأتي أحيانا للدلالة على كثرة الوصف في الفعل، كما في قوله - جل وعلا -: {وَاسْتَغْنَى اللَّهُ} [التغابن: 6] [التغابن: 6] ؛ فـ (استغنى) ليس معناها طلب الغنى، وإنما جاء بالسين والتاء هنا: للدلالة على عظم الاتصاف بالوصف الذي اشتمل عليه الفعل، وهو: الغني. فـ (استعاذ) و (استغاث) و (استعان) ، وأشباه ذلك فيها طلب، والطلب من أنواع التوجه والدعاء، لأن الطلب يدل على أن هناك من يُطلب منه والمطلوب منه لما كان أرفع درجة من الطالب: كان الفعل المتوجه إليه يسمى دعاء؛ (1/167) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ [التمهيد لشرح كتاب التوحيد] ولهذا فإن حقيقة الاستعاذة لغة، ودلالتها شرعا هي: طلب العوذ، أو طلب العياذ؛ وهو الدعاء المشتمل على ذلك، والاستغاثة هي: طلب الغوث وهو دعاء مشتمل على ذلك، وهكذا في كل ما فيه طلب نقول: إنه دعاء، وإذا كان دعاء فإنه يكون عبادة، والعبادة حق لله وحده دون من سواه، كما قام الإجماع على هذا، ودلت النصوص عليه، كقوله سبحانه: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18] [الجن: 18] وكقوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] [الإسراء: 23] كقوله: أيضا: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36] [النساء: 36] إذًا: فكل فعل من الأفعال، أو قول من الأقوال فيه طلب: يكون عبادة؛ لأنه دعاء؛ وكل طلب: فهو دعاء. والطلب يختلف نوعه ومسماه باختلاف المطلوب منه: فإذا كان الطلب من مقارن: فيسمى التماسا، وإذا كان ممن هو دونك: فيسمى أمرا، وإذا كان ممن هو أعلى منك: فيسمى دعاء. والمستعيذ والمستغيث، لا شك أنه طالب ممن هو أعلى منه؛ لحاجته إليه؛ فلهذا يصح أن يكون كل دليل فيه ذكر إفراد الله - جل وعلا - بالدعاء أو بالعبادة، دليلا على خصوص هذه المسألة، وهي: أن الاستعاذة من العبادات العظيمة، وإذ كانت كذلك، فإن إفراد الله بها واجب. وقوله هنا: " من الشرك الاستعاذة بغير الله ": هذا الغير شامل لكل من يتوجه إليهم بالعبادة، ويشركونهم مع الله، ويدخل في ذلك - بالأولية - ما كان المشركون الجاهليون يتوجهون إليهم بالعبادة: من الجن، والملائكة، (1/168) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ [التمهيد لشرح كتاب التوحيد] والرسل، والأنبياء، والصالحين، والأشجار، والأحجار، وغير ذلك من معبوداتهم. لكن هل مقصوده بقوله: " باب من الشرك الاستعاذة بغير الله " شمول هذا الحكم على فاعله بالشرك، لكل أنواع الاستعاذة، ولو كان فيما يقدر عليه المخلوق؟ والجواب: أن هذا فيه تفصيل، فمن العلماء من يقول: الاستعاذة توجه القلب، واعتصامه، والتجاؤه، ورغبه، وهذه المعاني جميعا لا تصلح إلا لله - جل وعلا -. وقال آخرون: قد جاءت أدلة بأنه يستعاذ بالمخلوق فيما يقدر عليه؛ لأن حقيقة الاستعاذة: طلب انكفاف الشر، وطلب العياذ، وهو: أن يستعيذ من شر أحدق به، وإذا كان كذلك: فقد يملك المخلوق شيئا من ذلك، وعلى هذا فتكون الاستعاذة بغير الله شركا أكبر، إذا كان ذلك المخلوق لا يقدر على أن يعيذ، أو طلبت منه الإعاذة فيما لا يقدر عليه إلا الله. والذي يظهر أن المقام كما سبق فيه تفصيل، وهو: أن الاستعاذة فيها عمل ظاهر، وفيها عمل باطن، فالعمل الظاهر: أن يطلب العوذ، وأن يطلب العياذ، وهو أن يُعصم من هذا الشر، أو أن ينجو من هذا الشر، وفيها أيضا عمل باطن وهو: توجه القلب وسكينته، واضطراره، وحاجته إلى هذا المستعاذ به، واعتصامه بهذا المستعاذ به، وتفويض أمر نجاته إليه. فإذا كانت الاستعاذة تجمع هذين النوعين فيصح أن يقال: إن الاستعاذة لا تصلح إلا بالله، لأن منها ما هو عمل قلبي كما تقدم وهو بالإجماع لا يصلح التوجه به إلا لله. وإذا قصد بالاستعاذة العمل الظاهر فقط وهو (1/169) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ [التمهيد لشرح كتاب التوحيد] طلب العياذ والملجأ، فيجوز أن يتوجه بها إلى المخلوق، وعلى هذا يحمل الدليل الوارد في جوازها. فحقيقة الاستعاذة إذًا تجمع بين الطلب الظاهر، والمعنى الباطن؛ ولهذا اختلف أهل العلم في جواز طلبها من المخلوق، فالذي ينبغي أن يكون منك دائما على ذكر: أن توجُّه أهل العبادات الشركية لمن يشركون به من الأولياء، أو الجن، أو الصالحين، أو غيرهم، أنهم جمعوا بين القول باللسان، وأعمال القلوب التي لا تصلح إلا لله - جل وعلا -، وبهذا يبطل ما يقوله أولئك الخرافيون من: أن الاستعاذة بهم إنما هي فيما يقدرون عليه، وأن الله أقدرهم على ذلك؛ فيكون إبطال مقالهم راجعا إلى جهتين: الجهة الأولى: أن يُبطل قولهم بأن يقال: إن هذا المَيْت، أو هذا الجني يقدر على هذا الأمر الذي طلب منه، فإذا لم يقتطع بذلك، أو حصل عنده اشتباه ما، انتقل الجني إلى الجهة الثانية من الإبطال: وهو إثبات أن الاستعاذة فيها توجه بالقلب إلى المستعاذ به واضطرار إليه، واعتصام به، وافتقار إليه؛ وهذا الذي توجه إلى ذلك الميت أو الولي قد قامت هذه المعاني بقلبه، ولا يجوز أن يكون شيء من ذلك إلا لله وحده - عز وجل -. فنقول إذًا: الاستعاذة بغير الله شرك أكبر؛ لأنها صرف عبادة لغير الله - جل جلاله -. لكن إن كان الاستعاذة في الظاهر فقط مع طمأنينة القلب بالله وتوجهه إلى الله، وحسن ظنه بالله، وأن هذا العبد إنما هو سبب، وأن القلب مطمئن لما عند الله فإن هذه تكون استعاذة بالظاهر، وأما القلب: فإنه لم تقم به حقيقة الاستعاذة. وإذا كان كذلك: كان هذا جائزا. (1/170) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ [التمهيد لشرح كتاب التوحيد] قال - رحمه الله -: (وقول الله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن: 6] [الجن: 6] . قوله: (وَأَنَّهُ) هذه معطوفة على أول السورة، وهو ما أوحى الله - جل وعلا - إلى نبيه بقوله: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} [الجن: 1] [الجن: 1] ثم قال بعد آيات: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن: 6] [الجن: 6] ومعنى {رَهَقًا} [الجن: 6] أي: خوفا، واضطرابا في القلب؛ أوجب لهم الإرهاق، والرهق: في الأبدان وفي الأرواح، فلما كان كذلك تعاظمت الجن، وزاد شرها، وقد كان المشركون يعتقدون أن لكل مكان مخوف جنيا أو سيدا من الجن يخدم ذلك المكان، هو له ويسيطر عليه، فكانوا إذا نزلوا واديا، أو مكانا قالوا: نعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، يعنون الجن، فعاذوا بالجني لأجل أن يكف عنهم الشر مدة مقامهم؛ لهذا قال جل وعلا: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن: 6] يعني: زاد الجن الإنس خوفا، واضطرابا، وتعبا في الأنفس، وفي الأرواح، وإذا كان كذلك: كان هذا عقوبة لهم. والعقوبة إنما تكون على ذنب، فدلت الآية على ذم أولئك، وإنما ذموا؛ لأنهم صرفوا تلك العبادة لغير الله - جل وعلا - والله سبحانه أمر أن يستعاذ به دون ما سواه فقال سبحانه {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق: 1] [الفلق: 1] وقال: (1/171) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ [التمهيد لشرح كتاب التوحيد] {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس: 1] [الناس: 1] وقال {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ - وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون: 97 - 98] [المؤمنون: 97] والآيات في ذلك كثيرة، كقوله: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [الأعراف: 200] [الأعراف: 200] ، فَعُلِمَ من التنصيص على المستعاذ به وهو الله - جل وعلا - أن الاستعاذة حصلت بالله، وبغيره وأن الله أمر نبيه أن تكون استعاذته به وحده دون ما سواه. وقد ذكرت لكم أصل الدليل في ذلك، وأن الاستعاذة عبادة، وإذا كانت عبادة فتدخل فيما دلت عليه الآيات من إفراد العبادة بالله وحده. وقال قتادة وبعض السلف: إن معنى قوله: {رَهَقًا} [الجن: 6] إثما، (1) أي: فزادوهم إثما، وهذا أيضا ظاهر من جهة الاستدلال، لأن الاستعاذة إذا كانت موجبة للإثم، فهي إذًا عبادة شركية إذا صرفت لغير الله، وعبادة مطلوبة إذا صرفت لله - جل جلاله - وهذا يستقيم مع الترجمة من أن الاستعاذة بغير الله شرك. قوله: (وعن خولة بنت حكيم قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من نزل منزلا فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرحل من منزله ذلك» رواه مسلم. _________ (1) تفسير ابن كثير (8 / 226) . (1/172) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ [التمهيد لشرح كتاب التوحيد] وجه الدلالة من هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم يبين فضل الاستعاذة بكلمات الله فقال: «من نزل منزلا فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق» وجعل المستعاذ منه: المخلوقات الشريرة والمستعاذ به هو: كلمات الله وقد استدل أهل العلم لما ناظروا المعتزلة، وردوا عليهم بهذا الحديث، على أن كلمات الله ليست بمخلوقة، قالوا: لأن المخلوق لا يستعاذ به، والاستعاذة به شرك، كما قاله الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة. فوجه الدلالة من الحديث: إجماع أهل السنة على الاستدلال به على أن الاستعاذة بالمخلوق شرك، وأنه ما أمر بالاستعاذة بكلمات الله إلا لأن كلمات الله - جل وعلا - ليست بمخلوقة. قال: «من نزل منزلا فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق» : المقصود بـ " كلمات الله التامات " هنا الكلمات الكونية التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، وهي المقصودة بقوله جل وعلا: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} [الكهف: 109] [الكهف: 109] وبقوله: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان: 27] [لقمان: 27] وقوله {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام: 115] [الأنعام: 115] وفي القراءة الأخرى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام: 115] [الأنعام: 115] فهذه الآية في الكلمات الشرعية، وكذلك في الكلمات الكونية. إذًا: فقوله: «أعوذ بكلمات الله التامات» يعني: الكلمات الكونية. (1/173) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ [التمهيد لشرح كتاب التوحيد] قوله: " مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ ": يعني: من شر الذي خلقه الله - جل وعلا -، وهذا العموم المقصود منه: من شر المخلوقات التي فيها شر، إذ ليست كل المخلوقات فيها شر، بل ثَمَّ مخلوقات طيبة ليس فيها شر: كالجنة، والملائكة، والرسل، والأنبياء، والأولياء، وهناك مخلوقات خلقت وفيها شر، فاستُعيذ بكلمات الله - جل وعلا - من شر الأنفس الشريرة، والمخلوقات التي فيها شر. قوله: " باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره " الشرك: المراد به كما ذكرنا فيما سبق: الشرك الأكبر. قوله: " أن يستغيث ": يعني الاستغاثة؛ لأن (أن) مع الفعل تؤول بمصدر، يعني: (باب من الشرك الاستغاثة بغير الله) ، أو (استغاثة بغير الله) ، وكذلك قوله: " يدعو " يؤول بمصدر، يعني: من الشرك، (دعوة غيره) ، أو (دعاء غيره) . والاستغاثة - كما ذكرنا -: طلب؛ والطلب نوع من أنواع الدعاء؛ ولهذا قال العلماء: إن في قوله: " أو يدعو غيره " بعد قوله: " أن يستغيث بغير الله " عطفا للعام على الخاص، ومن المعلوم: أن الخاص قد يعطف على العام، وأن العام قد يعطف على الخاص. وقوله: " أن يستغيث بغير الله ": هذا أحد أفراد الدعاء - كما ذكرنا - لأن الاستغاثة طلب، والطلب دعاء. (1/174) التمهيد لشرح كتاب التوحيد المزيد من مواضيعي
|
رقم المشاركة :5 (رابط المشاركة)
|
|||||||||||||||||||||
|
|||||||||||||||||||||
![]() بسم الله الرحمن الرحيم و به نستعين [ باب من الشرك أن يستغيث بغير اللّه أو يدعو غيره] ش: قال شيخ الإسلام: الاستغاثة هي طلب الغوث، وهو إزالة الشدة كالاستنصار طلب النصر، والاستعانة طلب العون.وقال غيره: الفرق بين الاستغاثة والدعاء: أن الاستغاثة لا تكون إلا من المكروب كما قال تعالى:{فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ}1. وقال:{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ}2.والدعاء أعم من الاستغاثة لأنه يكون من المكروب وغيره، فعلى هذا عطف الدعاء على الاستغاثة من عطف العام على الخاص. وقال أبو السعادات: الإغاثة: الإعانة، فعلى هذا تكون الاستغاثة هي الاستعانة. ولا ريب أن من استغاثك فأغثته فقد أعنته، إلا أن لفظ الاستغاثة مخصوص بطلب العون في حالة الشدة، بخلاف الاستعانة. ------------------------ 1 سورة القصص آية: 15. 2 سورة الأنفال آية: 9. ص -176- وقوله: "أو يدعو غيره". المراد بالدعاء هنا. هو دعاء المسألة فيما لا يقدر عليه إلا اللّه تعالى، فإن ذلك شرك لما سيذكره المصنف من الآيات. واعلم أن الدعاء نوعان: دعاء عبادة، ودعاء مسألة كما حققه غير واحد منهم: شيخ الإسلام وابن القيم وغيرهما، ويراد به في القرآن هذا تارة، وهذا تارة، ويراد به مجموعهما، وهما متلازمان. فدعاء المسألة هو طلب ما ينفع الداعي من جلب نفع أو كشف ضر، فالمعبود لا بد أن يكون مالكًا للنفع والضر، ولهذا أنكر اللّه تعالى على من عبد من دونه ما لا يملك ضرًّا ولا نفعًا كقوله:{قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}1. وقوله:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}2. وذلك كثير في القرآن يبين أن المعبود لا بد وأن يكون مالكًا للنفع والضر، فهو يدعى للنفع والضر دعاء المسألة، ويدعى خوفًا ورجاء دعاء العبادة، فعلم أن النوعين متلازمان. فكل دعاء عبادة مستلزم لدعاء المسألة، وكل دعاء مسألة متضمن لدعاء العبادة. وبهذا التحقيق يندفع عنك ما يقوله عباد القبور إذ احتج عليهم بما ذكر اللّه في القرآن من الأمر بإخلاص الدعاء له. قالوا: المراد به العبادة، فيقولون في مثل قوله تعالى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً}3. أي: لا تعبدوا مع اللّه أحدًا، فيقال لهم: وإن أريد به دعاء العبادة، فلا ينفي أن يدخل دعاء المسألة في العبادة، لأن دعاء العبادة مستلزم لدعاء المسألة، كما أن دعاء المسألة متضمن لدعاء العبادة، هذا لو لم يرد في دعاء المسألة بخصوصه من القرآن إلا الآيات التي ذكر فيها دعاء العبادة. فكيف وقد ذكر اللّه في القرآن في غير موضع. قال اللّه تعالى:{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}4. وقال تعالى:{وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً}5. ------------------------ 1 سورة المائدة آية: 76. 2 سورة يونس آية: 18. 3 سورة الجن آية: 18. 4 سورة الأعراف آية: 55. 5 سورة الأعراف آية: 56. ص -177- وقال تعالى:{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ}1. وقال تعالى:{وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ}2. وقال تعالى:{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ}3. وقال تعالى:{لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ}4. وقال تعالى: عن إبراهيم عليه السلام:{إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ}5. وقال عنه أيضًا:{وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ...}6. وقال تعالى:{ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ}7.8. وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً}9. وقال تعالى:{وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الأِنْسَانُ كَفُوراً}10. وقال تعالى:{قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}11. وقال تعالى عن زكريا عليه السلام:{قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً}12. وقال تعالى:{وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ}13. وقال تعالى:{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ}14. فكفى بهذه الآيات نجاة وحجة وبرهانًا في الفرق بين التوحيد والشرك عمومًا وفي هذه المسألة خصوصًا. وقال تعالى:{فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ}15. وقال تعالى:{وَإِذَا مَسَّ الأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ}16. وقال تعالى: ------------------------ 1 سورة آل عمران آية: 135. 2 سورة النساء آية: 32. 3 سورة آية: 40-41. 4 سورة الرعد آية: 14. 5 سورة إبراهيم آية: 39. 6 سورة آية: 48-49. 7 سورة النحل آية: 53. 8 سورة النحل آية: 53-54. 9 سورة الإسراء آية: 56. 10 سورة الإسراء آية: 67. 11 سورة الإسراء آية: 110. 12 سورة مريم آية: 4. 13 سورة القصص آية: 64. 14 سورة العنكبوت آية: 65. 15 سورة العنكبوت آية: 17. 16 سورة الزمر آية: 8. ص -178- {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ}1. وقال تعالى:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}2. وغير ذلك من الآيات. وفي الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يحصى، منها قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: "يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا فاستغفروني أغفر لكم"3. رواه مسلم "وقوله صلى الله عليه وسلم ينْزل ربنا تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر ثم يقول: من يدعوني فأستجب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟"4. رواه البخاري ومسلم. وقوله: "ليس شيء أكرم على اللّه من الدعاء"5 رواه أحمد والترمذي وابن ماجة وابن حبان، والحاكم وصححه. وقوله: "من لم يدع اللّه يغضب عليه"6 رواه أحمد وابن أبي شيبة والحاكم وقوله: "سلوا اللّه من فضله فإن اللّه يحب أن يسأل"7. رواه الترمذي، وقوله: "الدعاء سلاح المؤمن، وعماد الدين، ونور السماوات والأرض". رواه الحاكم وصححه8. وقوله: "الدعاء هو العبادة"9. رواه أحمد والترمذي. وفي حديث آخر: "الدعاء مخ العبادة"10. رواه الترمذي. وقوله لما سئل: "أي العبادة أفضل؟ قال: دعاء المرء لنفسه". رواه البخاري في "الأدب"11. وقوله: "لن ينفع حذر من قدر ولكن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينْزل فعليكم بالدعاء يا عباد اللّه"12. رواه أحمد. وقوله: "سلوا اللّه كل شيء ------------------------ 1 سورة فاطر آية: 13-14. 2 سورة غافر آية: 60. 3 مسلم: البر والصلة والآداب (2577) , والترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2495) , وابن ماجه: الزهد (4257) , وأحمد (5/154 ,5/160 ,5/177). 4 البخاري: الجمعة (1145) , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (758) , والترمذي: الصلاة (446) والدعوات (3498) , وأبو داود: الصلاة (1315) والسنة (4733) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1366) , وأحمد (2/258 ,2/264 ,2/267 ,2/282 ,2/419 ,2/487 ,2/504 ,2/521) , ومالك: النداء للصلاة (496) , والدارمي: الصلاة (1478 ,1479). 5 الترمذي: الدعوات (3370) , وابن ماجه: الدعاء (3829) , وأحمد (2/362). 6 الترمذي: الدعوات (3373) , وابن ماجه: الدعاء (3827) , وأحمد (2/477). 7 الترمذي: الدعوات (3571). 8 موضوع، الجامع [300]. 9 البخاري: الزكاة (1461) , ومسلم: الزكاة (998) , والترمذي: تفسير القرآن (2997) , والنسائي: الأحباس (3602) , وأبو داود: الزكاة (1689) , وأحمد (3/141) , ومالك: الجامع (1875) , والدارمي: الزكاة (1655). 10 مسلم: الأقضية (1715) , وأحمد (2/367) , ومالك: الجامع (1863). 11 موضوع، الجامع [1008]. 12 البخاري: الإيمان (36) وفرض الخمس (3123) والتوحيد (7457 ,7463) , ومسلم: الإمارة (1876) , والنسائي: الجهاد (3122 ,3123) والإيمان وشرائعه (5029 ,5030) , وابن ماجه: الجهاد (2753) , وأحمد (2/231 ,2/384 ,2/399 ,2/424 ,2/494) , ومالك: الجهاد (974) , والدارمي: الجهاد (2391). ص -179- حتى الشسع1 إذا انقطع، فإنه إن لم ييسره لم يتيسر" رواه أبو يعلى بإسناد صحيح. وقوله: "ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى يسأله شسع نعله إذا انقطع وحتى يسأله الملح"2. رواه البزار بإسناد صحيح. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إني لا أحمل هم الإجابة، ولكن هم الدعاء، فإذا ألهمت الدعاء علمت أن الإجابة معه". وقال ابن عباس رضي الله عنهما: " أفضل العبادة الدعاء وقرأ وقال ربكم ادعوني أستجب لكم " رواه ابن المنذر والحياكم وصححه. "وقال مطرف: تذكرت ما جماع الخير؟ فإذا الخير كثير، الصلاة والصيام، وإذا هو في يد اللّه تعالى، وإذا أنت لا تقدر على ما في يد اللّه إلا أن تسأله فيعطيك". رواه أحمد. [في الزّهد]. والأحاديث والآثار في ذلك لا يحيط بها إلا اللّه تعالى. فثبت بهذا أن الدعاء عبادة من أجل العبادات، بل هو أكرمها على اللّه كما تقدم، فإن لم يكن الإشراك فيه شركًا، فليس في الأرض شرك، وإن كان في الأرض شرك فالشرك في الدعاء أولى أن يكون شركًا من الإشراك في غيره من أنواع العبادة، بل الإشراك في الدعاء - هو أكبر شرك المشركين الذين بعث إليهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فإنهم يدعون الأنبياء والصالحين والملائكة، ويتقربون إليهم ليشفعوا لهم عند اللّه، ولهذا يخلصون في الشدائد للّه وينسون ما يشركون، حتى جاء أنهم إذا جاءتهم الشدائد في البحر يلقون أصنامهم في البحر ويقولون: يا اللّه يا اللّه، لعلمهم أن آلهتهم لا تكشف الضر ولا تجيب المضطر. وقال تعالى:{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ ------------------------ 1 الشِّسْعُ: أحد سُيور النّعل. هو الي يُدخَل بين الإصبعين، ويُدخَل طرفه في الثّقب الذي في صدر النّعل المشدود في الزّمام. والزّمام السَّير الذي يُعقَد فيه الشّسع. 2 البخاري: الجهاد والسير (2896) , وأحمد (1/173). ص -180- الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ}1. فهم كانوا يعلمون أن ذلك للّه وحده، وأن آلهتهم ليس عندها شيء من ذلك، ولهذا احتج سبحانه وتعالى عليهم بذلك أنه هو الإله الحق، وعلى بطلان إلهية ما سواه. وقال تعالى: :{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ}2.فهذه حال المشركين الأولين. وأما عباد القبور اليوم فلا إله إلا اللّه، كم ذا بينهم وبين المشركين الأولين من التفاوت العظيم في الشرك، فإنهم إذا أصابتهم الشدائد برًّا وبحرًا أخلصوا لآلهتهم وأوثانهم التي يدعونها من دون اللّه، وأكثرهم قد اتخذ ذكر إلهه وشيخه ديدنه، وهجيراه إن قام وإن قعد وإن عثر. هذا يقول: يا علي [الشّاذلي]، وهذا يقول: يا عبد القادر [الجيلاني]، وهذا يقول: يا ابن علوان، وهذا يدعو البدوي، وهذا يدعو العيدروس. وبالجملة ففي كل بلد في الغالب أناس يدعونهم ويسألونهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات. بل بلغ الأمر إلى أن سألوهم مغفرة الذنوب، وترجيح الميزان، ودخول الجنة والنجاة من النار، والتثبيت عند الموت والسؤال، وغير ذلك من أنواع المطالب التي لا تطلب إلا من اللّه. وقد يسألون ذلك من أناس يدعون الولاية، وينصبون أنفسهم لهذه الأمور وغيرها من أنواع النفع والضر التي هي خواص الإلهية، ويلفقون لهم من الأكاذيب في ذلك عجائب. منها أنهم يدعون أنهم يخلصون مَنِ اْلَتَجَأَ إليهم وَلاَذَ بِحماهم من النار والعذاب، فيقول أحدهم: إنه يقف عند النار فلا يدع أحدًا ممن يرتجيه ويدعوه يدخلها أو نحو هذا، وقد قال تعالى لسيد المرسلين صلى اللّه عليه وعليهم أجمعين:{أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ}3. فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يقدر على تخليص أحد من النار، فكيف بغيره، بل كيف بمن يدعي نفسه ------------------------ 1 سورة النمل آية: 62. 2 سورة العنكبوت آية: 65. 3 سورة الزمر آية: 19. ص -181- أنه هو يفعل ذلك؟! ومنها أن أكثرهم يلفق حكايات في أن بعض الناس استغاث بفلان فأغاثه، أو دعا الولي الفلاني فأجابه، أو في كربة ففرج عنه، وعند عباد القبور من ذلك شيء كثير من جنس ما عند عباد الأصنام الذين استولت عليهم الشياطين، ولعبوا بهم لعب الصبيان بالكرة. ويوجد شيء من ذلك في أشعار المادحين لسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم الذين جاوزوا الحد في مدحه صلى الله عليه وسلم وعصوه في نهيه من الغلو فيه، وإطرائه كما أطرت النصارى ابن مريم، وصار حظهم منه صلى الله عليه وسلم هو مدحه بالأشعار والقصائد، والغلو الزائد، مع عصيانهم له في أمره ونهيه، فتجد هذا النوع من أعصى الخلق له صلوات اللّه عليه وسلامه. ويقع من ذلك كثير في مدح غيره، فإن عباد القبور لا يقتصرون على بعض من يعتقدون فيه الضر والنفع، بل كل من ظنوا فيه ذلك بَالَغُوا في مدحه وأنزلوه منْزلة الربوبية وصرفوا له خالص العبودية، حتى إنهم إذا جاءهم رجل وادعى أنه رأى رؤيا مضمونها أنه دفن في المحل الفلاني رجل صالح، بادروا إلى المحل وبنوا عليه قبة وزخرفوها بأنواع الزخارف، وعبدوها بأنواع من العبادات. وأما القبور المعروفة أو المتوهمة، فأفعالهم معها وعندها لا يمكن حصره، فكثير منهم إذا رأوا القباب التي يقصدونها كشفوا الرؤوس فنَزلوا عن الأكوار، فإذا أتوها طافوا بها واستلموا أركانها، وتمسحوا بها، وصلوا عندها ركعتين، وحلقوا عندها الرؤوس ووقفوا باكين متذللين متضرعين سائلين مطالبهم، وهذا هو الحج، وكثير منهم يسجدون لها إذا رأوها، ويعفرون وجوههم في التراب تعظيمًا لها، وخضوعًا لمن فيها، فإن كان للإنسان منهم حاجة من شفاء مريض أو غير ذلك، نادى صاحب القبر، يا سيدي فلان جئتك قاصدًا من مكان بعيد، لا تخيبني، وكذلك إذا قحط المطر، أو عقرت المرأة عن الولد، أو دهمهم عدو أو جراد، فزعوا إلى صاحب القبر، وبكوا عنده فإن ص -182- جرى المقدور بحصول شيء مما يريدون، استبشروا وفرحوا ونسبوا ذلك إلى صاحب القبر، فإن لم يتيسر شيء من ذلك اعتذروا عن صاحب القبر بأنه إما غائب في مكان آخر، أو ساخط لبعض أعمالهم، أو أن اعتقادهم في الولي ضعيف، أو أنهم لم يعطوه نذره ونحو هذه الخرافات. ومن بعض أشعار المادحين لسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم قول البوصيري: 152 يا أكرم الخلق ما لي مَنْ أَلُوذُ به سواك عند حلول الحادث العمم . 153 ولن يضيق رسول اللّه جاهك بي إذا الكريم تجلى باسم منتقم . 146 فإن لي ذمة منه بتسميتي محمدًا وهو أوفى الخلق بالذمم . 147 إن لم يكن في معادي آخذًا بيدي فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم . فتأمل ما في هذه الأبيات من الشرك. منها. أنه نفى أن يكون له ملاذًا إذا حلت به الحوادث، إلا النبي صلى الله عليه وسلم وليس ذلك إلا للّه وحده لا شريك له، فهو الذي ليس للعباد ملاذ إلا هو. الثاني. أنه دعاه وناداه بالتضرع وإظهار الفاقة والاضطرار إليه، وسأل منه هذه المطالب التي لا تُطْلَبُ إلا من اللّه، وذلك هو الشرك في الإلهية. الثالث. سؤاله منه أن يشفع له في قوله: ولن يضيق رسول اللّه. البيت. وهذا هو الذي أرادها المشركون ممن عبدوه، وهو الجاه والشفاعة عند اللّه، وذلك هو الشرك وأيضًا فإن الشفاعة لا تكون إلا بعد إذن اللّه فلا معنى لطلبها من غيره، فإن اللّه تعالى هو الذي يأذن للشافع أن يشفع لأن الشافع يشفع ابتداء. الرابع. قوله: فإن لي ذمة. إلى آخره. كذب على اللّه وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم فليس بينه وبين من اسمه محمد ذمة إلا بالطاعة، لا بمجرد الإشراك في الاسم مع الشرك. الخامس. قوله: إن لم يكن في معادي. البيت. تناقض ص -183- عظيم وشرك ظاهر، فإنه طلب أولاً أن لا يضيق به جاهه، ثم طلب هنا أن يأخذ بيده فضلاً وإحسانًا، وإلاّ فيا هلاكه! فيقال: كيف طلبت منه أولاً الشفاعة ثم طلبت منه هنا أن يتفضل عليك؟! فإن كنت تقول: إن الشفاعة لا تكون إلا بعد إذن اللّه، فكيف تدعو النبي صلى الله عليه وسلم وترجوه وتسأله الشفاعة؟! فهلا سألتها مَنْ له الشفاعة جميعًا الذي له ملك السموات والأرض الذي لا تكون الشفاعة إلا من بعد إذنه، فهذا يبطل عليك طلب الشفاعة من غير اللّه. وإن قلت: ما أريد إلا جاهه، وشفاعته بإذن اللّه. قيل: فكيف سألته أن يتفضل عليك ويأخذ بيدك في يوم الدين، فهذا مضاد لقوله تعالى:{وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}1. فكيف يجتمع في قلب عبد الإيمان بهذا وهذا؟! وإن قلت: سألته أن يأخذ بيدي، ويتفضل علي بجاهه وشفاعته. قيل: عاد الأمر إلى طلب الشفاعة من غير اللّه، وذلك هو محض الشرك. السادس. في هذه الأبيات من التبري من الخالق - تعالى وتقدس - والاعتماد على المخلوق في حوادث الدنيا والآخرة ما لا يخفى علىمؤمن، فأين هذا من قوله تعالى:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}2. وقوله تعالى:{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}3. وقوله:{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً}4. وقوله تعالى:{قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ}5. ------------------------ 1 سورة الانفطار آية: 19-20-. 2 سورة الفاتحة آية: 5. 3 سورة التوبة آية: 129. 4 سورة الفرقان آية: 58. 5 سورة الجنّ آية: 21-23. ص -184- فإن قيل: هو لم يسأله أن يتفضل عليه، وإنما أخبر أنه إن لم يدخل في عموم شفاعته فيا هلاكه. قيل: المراد بذلك سؤاله، وطلب الفضل منه، كما دعاه أول مرة وأخبر أنه لا ملاذ له سواه، ثم صرح بسؤال الفضل والإحسان بصيغة الشرط والدعاء، والسؤال كما يكون بصيغة الطلب يكون بصيغة الشرط كما قال نوح عليه السلام:{إِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}1. ومن شعر البرعي قوله: ماذا تعامل يا شمس النبوة من أضحى إليك من الأشواق في كبدي فامنع جناب صريع لا صريخ له نائي المزار غريب الدار مبتعد . حليف ودك واه الصبر منتظر لغارة منك يا ركني ويا عضدي . أسير ذنبي وزلاتي ولا عمل أرجو النجاة به إن أنت لم تجد . وجرى في شركه إلى أن قال: وحُلَ عقدة كربي يا محمد من هم على خطرات القلب مطرد . أرجوك في سكرات الموت تشهدني كيما يهون إذ الأنفاس في صعد وإن نزلت ضريحا لا أنيس به فكن أنيس وحيد فيه منفرد . وارحم مؤلفها عبد الرحيم ومن يليه من أجله وانعشه وافتقد . وإن دعا فأجبه واحم جانبه من حاسد شامت أو ظالم نكد وقوله من أخرى: يا رسول الله يا ذا الفضل يا بهجة في الحشر جاها ومقاما . عد على عبد الرحيم الملتجي بحمى عزك يا غوث اليتامى . وأقلني عثرتي يا سيدي في اكتساب الذنب في خمسين عاما . وقوله: يا سيدي يا رسول الله يا أملي يا موئلي يا ملاذي يوم يلقاني . هبني بجاهك ما قدمت من زلل جودًا ورجح بفضل منك ميزاني . واسمع دعائي واكشف ما يساورني من الخطوب ونفس كل أحزاني . ------------------------ 1 سورة هود آية: 47. ص -185- فأنت أقرب من ترجى عواطفه عندي وإن بعدت داري وأوطاني . إني دعوتك من "نيابتي برع" وأنت أسمع من يدعوه ذو شان . فامنع جنابي وأكرمني وصل نسبي برحمة وكرامات وغفران . لقد أنسانا هذا ما قبله، وهذا بعينه هو الذي ادعته النصارى في عيسى عليه السلام، إلا أن أولئك أطلقوا عليه اسم الإله، وهذا لم يطلقه ولكن أتى بلباب دعواهم وخلاصتها، وترك الاسم، إذ في الاسم نوع تمييز، فرأى الشيطان أن الإتيان بالمعنى دون الاسم أقرب إلى ترويج الباطل، وقبوله عند ذوي العقول السخيفة، إذ كان من المتقرر عند الأمة المحمدية أن دعوى النصارى في عيسى عليه السلام كفر. فلو أتاهم بدعوى النصارى اسما ومعنى لردوه وأنكروه، فأخذ المعنى وأعطاه البرعي وأضرابه، وترك الاسم للنصارى وإلا فما ندري ماذا أبقى هذا المتكلم الخبيث للخالق تعالى وتقدس من سؤال مطلب أو تحصيل مأرب، فاللّه المستعان. وهذا كثير جدًّا في أشعار المادحين لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهو حجة أعداء دينه الذين يجوزون الشرك باللّه، ويحتجون بأشعار هؤلاء، ولم يقتصروا أيضًا على طلب ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم بل يطلبون مثل ذلك من غيره، كما حدث بعض الثقاة أنه رأى في رابية صاحب مشهد من المشاهد: هذه راية البحر التيار، به أستغيث، وأستجير، وبه أعوذ من النار. وقال بعضهم في قصيدة في بعض آلهتهم: يا سيدي يا صفي الدين يا سندي يا عمدتي بل ويا ذخري ومفتخري أنت الملاذ لما أخشى ضرورته وأنت لي ملجأ من حادث الدهر . إلى أن قال: وامنن علي بتوفيق وعافية وخير خاتمة مهما انقضى عمري . وكف عنا أكف الظالمين إذا ام تدت بسوء لأمر مؤلم نكر . فإنني عبدك الراجي بودك ما أملته يا صفي السادة الغرر . ص -186- قال بعض العلماء: فلا ندري أي معنى اختص به الخالق تعالى بعد هذه المنزلة، وماذا أبقى هذا المتكلم الخبيث لخالقه من الأمر، فإن المشركين أهل الأوثان ما يؤهلون من عبدوه لشيء من هذا. انتهى. وكثير من عباد القبور ينادون الميت من مسافة شهر وأكثر يسألونه حوائجهم، ويعتقدون أنه يسمع دعاءهم ويستجيب لهم، وتسمع عندهم حال ركوبهم البحر واضطرابه من دعاء الأموات والاستغاثة بهم ما لا يخطر على بال، وكذلك إذا أصابتهم الشدائد، من مرض، أو كسوف، أو ريح شديدة، أو غير ذلك، فالولي في ذلك نصب أعينهم، والاستغاثة به هي ملاذهم، ولو ذهبنا نذكر ما يشبه هذا لطال الكلام. إذا عرفت هذا، فقد تقدم ذكر دعاء المسألة. تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد المزيد من مواضيعي
|
![]() |
العلامات المرجعية |
الذين يشاهدون هذا الموضوع الآن : 1 ( 0من الأعضاء 1 من الزوار ) | |
|
|
![]() |
||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | ردود | آخر مشاركة |
رسالة إلى أبي .. (م.ن) | البتول | قسم الأسرة و المجتمع | 1 | 08.12.2012 00:36 |
رسالة لِـ ست البنات | راجية الاجابة من القيوم | قسم الصوتيات والمرئيات | 0 | 11.05.2012 18:37 |
أخـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــتر رقم من(1-10)قبل متشوف لازم تختار | ام البراء الاندلسيه | قسم الحوار العام | 11 | 26.06.2011 19:28 |
حقا رسالة مفيدة جدا | queshta | الإعجاز فى القرآن و السنة | 3 | 16.02.2010 22:17 |
رسالة إلى كل عاق!! | زهراء | القسم الإسلامي العام | 6 | 26.08.2009 12:43 |