المتروك في هذا النص ليس "الحديث"، وإنما المتروك هو "الحسين بن عبد الله بن عباس"، وهو نفسه الذي وثــّّقـه بعد ذلك ابن معين. أما الحديث نفسه فحكمه صحيح قطعا، سواء لذاته أو لغيره، وتثبت صحة هذا الحديث من عدة وجوه:
أولا: الحديث رواه جمهور من المُحدّثين وكبار الحفاظ، ولو كان ضعيفا لاستحال اجتماعهم على روايته، مثل أحمد في مسنده، وأبو يعلى في مسنده، والهيثمي في مجمع الزوائد، وفي المقصد العلي، والبوصيري في إتحاف الخيرة، والبلاذري في أنساب الأشراف، وغيرهم، كما رواه بسند عن ابن عباس أبو نعيم في معرفة الصحابة، والطبراني في المعجم الكبير، كذلك رواه الدارقطني في ذخائر العقبى، وقال ذكره أيضا ابن قتيبة وأبو سعيد وغيرهم.
ثانيا: أن علة الضعف الوحيدة في الحديث هي روايته عن "الحسين بن عبد الله" لأنه "متروك" في اصطلاح أهل الجرح والتعديل، ولكن يرد ذلك أن "ابن معين" وثـّـقـه. "التوثيق" من ابن معين أقوي من "الترك" من غيره، ببساطة لأن ابن معين إمامهم في هذا العلم كما قال الذهبي نفسه: "إمام المحدثين، وإمام الجرح والتعديل ثقة حافظ مشهور"، وكما قال ابن حجر: "إمام الجرح والتعديل ثقة حافظ مشهور"، وكما قال أحمد بن حنبل الذي كان صاحب ابن معين وتلميذه: "كان أعلمنا بالرجال"، وقال: "رجل خلقه الله تعالى لهذا الشأن، يُظهر كذب الكذابين"، وقال: "كل حديث لا يعرفه فليس بحديث"، بل قال عنه البخاري نفسه: "ما استصغرت نفسي إلا عند يحيى بن معين". هذا هو ابن معين وقدره ومقامه، فإذا وثـّق ابن معين "الحسين بن عبد الله" فالأولى أن نأخذ بقوله وتوثيقه، خاصة أنه لم يتفرد بذلك بل وثقه أيضا مع ابن معين آخرون من علماء الجرح والتعديل، مثل الجرجاني قال: ممن يُكتب حديثه، ومثل الجيلي قال: لا بأس به.
ثالثا: أن الفريق الذي جرح "الحسين بن عبد الله" وضعفه وقال "متروك" إنما فعلوا ذلك فقط لاتهامه بالتشيع كما اتهموا معظم أفراد البيت النبوي (وهو حفيد العباس)، من ثم استباحوا لأنفسهم جرحه وتركه ـ وهو ثقة ـ فقط لأنه خالف رأيهم وفكرهم، ويدل على ذلك أنهم زعموا أن أحمد بن حنبل كان من بين الذين ضعّفوه وتركوه، لكننا نجد ابن حنبل يأخذ منه هذا الحديث نفسه محل الخلاف ويرويه في مسنده!!! أما الذي جاء به الأخ المسلم فهو نوع من التدليس، لأنه جاء بصورة من المسند فيها الحكم بضعف الحديث:
لكن هذا الحكم بضعف الحديث ـ كما نرى ـ جاء في هامش الصفحة الذي أضافه المحقق وليس في المتن الذي كتبه ابن حنبل نفسه!! وهل كان ابن حنبل يروي الأحاديث الضعيفه، أم يروي ما استقر في اعتقاده أنه صحيح؟ إن رواية أحمد لأي حديث في مسنده تعني أن الحديث صحيح في تقديره وحكمه، من ثم فلم "يترك" ابن حنبل "الحسين بن عبد الله" ولم يضعفه كما زعموا.
هذا يعود بنا في الحقيقة مرة أخرى إلى ابن معين: في التهذيب يُروى عن ابن الرومي أنه قال: "ما رأيت أحدا قط يقول الحق في المشايخ غير يحيى (بن معين)"، وقال هارون الرازي: "رأيت يَحْيَى بْن معين استقبل القبلة رافعا يديه، يَقُول: اللهم إن كنت تكلمت فِي رجل، وليس هُوَ عندي كذابا، فلا تغفر لي". من ذلك تظهر مشكلة السلف الطالح مع "الحسين بن عبد الله"، وهو أنه لما تشيع ضعفوه وحكموا أنه "متروك"، بل اتهمه البعض أنه "زنديق"، ولكن ابن معين وثقه وقبله رغم أنفهم لأنه لا يقول إلا الحق (ما رأيت أحدا قط يقول الحق في المشايخ غير يحيى)، ولأنه لا يقدح أو يجرح إلا في حق من تأكد لديه كذبه، وإلا فاللهم (لا تغفر لي).
رابعا: حتى لو كان الحسين بن عبد الله مجروحا عن حق ومتروكا عند الجميع ـ بما في ذلك ابن معين ـ حتى لو صح ذلك فقد ورد الحديث كما قلنا بطرق أخرى ليس فيها الحسين بن عبد الله، من ثم يرقى الحديث بمجموع الطرق لدرجة الصحيح. من ذلك على سبيل المثال سند الدارقطني في ذخائر العقبى، وسند البلاذرى في أنساب الأشراف: حدثني عبد الله بن صالح بن مسلم، عن يعقوب بن إبراهيم عن سعد عن أبيه عن محمد بن إسحاق عن الحسن، عن عبيد الله بن عبد الله بن العباس، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن أم الفضل بنت الحارث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى أم حبيب بنت العباس وهي فوق الفطيم، قال: لئن بلغت ابنة العباس هذه وأنا حيّ لأتزوجها. وفي إمتاع الأسماع للمقريزي يضيف: قال ابن عباس: في هذا تأكيد لقول عائشة إنه أحلّ للنبي صلى الله عليه وسلم من شاء من النساء، وأنه لم يُحبس على تسع! ونفس الإضافة يرويها البلاذري عن محمد بن إسحق بالمصدر السابق.
خامسا: بغض النظر عن علوم الرجال والجرح والتعديل وكل علوم الحديث، يصح الحديث ويتأكد أيضا بالتاريخ والسيرة، فعلاوة على كل ما سبق فإن أم حبيبة (أو أم حبيب) بنت العباس المذكورة في الحديث وضعها جمهور الإخباريين المسلمين في باب "ذكر من خطب النبي صلى الله عليه وسلم من النساء ثم لم ينكحهن"، والمراجع لذلك عديدة، نذكر منها الأمهات مثل الاستيعاب، الإصابة، طبقات ابن سعد، تاريخ الطبري، تاريخ الرسل والملوك، إمتاع الأسماع، وغيرها. هكذا فمجموع الأخبار التي وردت في هذه المصادر ـ وبها روايات تخالف روايات المحدثين سندا ومتنا، ليس فيها الحسين بن عبد الله ـ كلها يؤكد نفس الحقيقة التاريخية حول هذا الحديث الذي يفضح شهوانية محمد، وبهذه الأخبار والآثار يلتقي المحدثون مع الإخباريون ويتفق الحديث مع السيرة ومن ثم يتأكد ما ذهبنا إليه وهو أن هذا الحديث صحيح قطعا.
* * *
في الختام أتمنى لك سفرا سعيدا آمنا ونصلي لأجل سلامتك في الرحيل وفي العودة.