اعرض مشاركة منفردة
   
Share
  رقم المشاركة :8  (رابط المشاركة)
قديم 19.01.2018, 14:58
صور الشهاب الثاقب الرمزية

الشهاب الثاقب

مشرف عام

______________

الشهاب الثاقب غير موجود

الملف الشخصي
التسجيـــــل: 14.09.2011
الجــــنـــــس: ذكر
الــديــــانــة: الإسلام
المشاركات: 991  [ عرض ]
آخــــر نــشــاط
18.05.2024 (17:03)
تم شكره 689 مرة في 467 مشاركة
افتراضي


بسم الله الرحمن الرحيم
و به نستعين















[ باب من الشرك أن يستغيث بغير اللّه أو يدعو غيره]
ش: قال شيخ الإسلام: الاستغاثة هي طلب الغوث، وهو إزالة الشدة كالاستنصار طلب النصر، والاستعانة طلب العون.وقال غيره: الفرق بين الاستغاثة والدعاء: أن الاستغاثة لا تكون إلا من المكروب كما قال تعالى:{فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ}1. وقال:{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ}2.والدعاء أعم من الاستغاثة لأنه يكون من المكروب وغيره، فعلى هذا عطف الدعاء على الاستغاثة من عطف العام على الخاص.
وقال أبو السعادات: الإغاثة: الإعانة، فعلى هذا تكون الاستغاثة هي الاستعانة. ولا ريب أن من استغاثك فأغثته فقد أعنته، إلا أن لفظ الاستغاثة مخصوص بطلب العون في حالة الشدة، بخلاف الاستعانة.
------------------------
1 سورة القصص آية: 15.
2 سورة الأنفال آية: 9.

ص -176- وقوله: "أو يدعو غيره". المراد بالدعاء هنا. هو دعاء المسألة فيما لا يقدر عليه إلا اللّه تعالى، فإن ذلك شرك لما سيذكره المصنف من الآيات.
واعلم أن الدعاء نوعان: دعاء عبادة، ودعاء مسألة كما حققه غير واحد منهم: شيخ الإسلام وابن القيم وغيرهما، ويراد به في القرآن هذا تارة، وهذا تارة، ويراد به مجموعهما، وهما متلازمان.
فدعاء المسألة هو طلب ما ينفع الداعي من جلب نفع أو كشف ضر، فالمعبود لا بد أن يكون مالكًا للنفع والضر، ولهذا أنكر اللّه تعالى على من عبد من دونه ما لا يملك ضرًّا ولا نفعًا كقوله:{قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}1. وقوله:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}2. وذلك كثير في القرآن يبين أن المعبود لا بد وأن يكون مالكًا للنفع والضر، فهو يدعى للنفع والضر دعاء المسألة، ويدعى خوفًا ورجاء دعاء العبادة، فعلم أن النوعين متلازمان. فكل دعاء عبادة مستلزم لدعاء المسألة، وكل دعاء مسألة متضمن لدعاء العبادة. وبهذا التحقيق يندفع عنك ما يقوله عباد القبور إذ احتج عليهم بما ذكر اللّه في القرآن من الأمر بإخلاص الدعاء له.
قالوا: المراد به العبادة، فيقولون في مثل قوله تعالى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً}3. أي: لا تعبدوا مع اللّه أحدًا، فيقال لهم: وإن أريد به دعاء العبادة، فلا ينفي أن يدخل دعاء المسألة في العبادة، لأن دعاء العبادة مستلزم لدعاء المسألة، كما أن دعاء المسألة متضمن لدعاء العبادة، هذا لو لم يرد في دعاء المسألة بخصوصه من القرآن إلا الآيات التي ذكر فيها دعاء العبادة. فكيف وقد ذكر اللّه في القرآن في غير موضع. قال اللّه تعالى:{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}4. وقال تعالى:{وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً}5.
------------------------
1 سورة المائدة آية: 76.
2 سورة يونس آية: 18.
3 سورة الجن آية: 18.
4 سورة الأعراف آية: 55.
5 سورة الأعراف آية: 56.

ص -177- وقال تعالى:{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ}1. وقال تعالى:{وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ}2. وقال تعالى:{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ}3.
وقال تعالى:{لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ}4. وقال تعالى: عن إبراهيم عليه السلام:{إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ}5. وقال عنه أيضًا:{وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ...}6. وقال تعالى:{ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ}7.8. وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً}9. وقال تعالى:{وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الأِنْسَانُ كَفُوراً}10. وقال تعالى:{قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}11. وقال تعالى عن زكريا عليه السلام:{قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً}12. وقال تعالى:{وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ}13. وقال تعالى:{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ}14. فكفى بهذه الآيات نجاة وحجة وبرهانًا في الفرق بين التوحيد والشرك عمومًا وفي هذه المسألة خصوصًا.
وقال تعالى:{فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ}15. وقال تعالى:{وَإِذَا مَسَّ الأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ}16. وقال تعالى:
------------------------
1 سورة آل عمران آية: 135.
2 سورة النساء آية: 32.
3 سورة آية: 40-41.
4 سورة الرعد آية: 14.
5 سورة إبراهيم آية: 39.
6 سورة آية: 48-49.
7 سورة النحل آية: 53.
8 سورة النحل آية: 53-54.
9 سورة الإسراء آية: 56.
10 سورة الإسراء آية: 67.
11 سورة الإسراء آية: 110.
12 سورة مريم آية: 4.
13 سورة القصص آية: 64.
14 سورة العنكبوت آية: 65.
15 سورة العنكبوت آية: 17.
16 سورة الزمر آية: 8.

ص -178- {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ}1. وقال تعالى:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}2. وغير ذلك من الآيات.
وفي الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يحصى، منها قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: "يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا فاستغفروني أغفر لكم"3. رواه مسلم "وقوله صلى الله عليه وسلم ينْزل ربنا تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر ثم يقول: من يدعوني فأستجب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟"4. رواه البخاري ومسلم.
وقوله: "ليس شيء أكرم على اللّه من الدعاء"5 رواه أحمد والترمذي وابن ماجة وابن حبان، والحاكم وصححه. وقوله: "من لم يدع اللّه يغضب عليه"6 رواه أحمد وابن أبي شيبة والحاكم وقوله: "سلوا اللّه من فضله فإن اللّه يحب أن يسأل"7. رواه الترمذي، وقوله: "الدعاء سلاح المؤمن، وعماد الدين، ونور السماوات والأرض". رواه الحاكم وصححه8. وقوله: "الدعاء هو العبادة"9. رواه أحمد والترمذي. وفي حديث آخر: "الدعاء مخ العبادة"10. رواه الترمذي. وقوله لما سئل: "أي العبادة أفضل؟ قال: دعاء المرء لنفسه". رواه البخاري في "الأدب"11. وقوله: "لن ينفع حذر من قدر ولكن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينْزل فعليكم بالدعاء يا عباد اللّه"12. رواه أحمد. وقوله: "سلوا اللّه كل شيء
------------------------
1 سورة فاطر آية: 13-14.
2 سورة غافر آية: 60.
3 مسلم: البر والصلة والآداب (2577) , والترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2495) , وابن ماجه: الزهد (4257) , وأحمد (5/154 ,5/160 ,5/177).
4 البخاري: الجمعة (1145) , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (758) , والترمذي: الصلاة (446) والدعوات (3498) , وأبو داود: الصلاة (1315) والسنة (4733) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1366) , وأحمد (2/258 ,2/264 ,2/267 ,2/282 ,2/419 ,2/487 ,2/504 ,2/521) , ومالك: النداء للصلاة (496) , والدارمي: الصلاة (1478 ,1479).
5 الترمذي: الدعوات (3370) , وابن ماجه: الدعاء (3829) , وأحمد (2/362).
6 الترمذي: الدعوات (3373) , وابن ماجه: الدعاء (3827) , وأحمد (2/477).
7 الترمذي: الدعوات (3571).
8 موضوع، الجامع [300].
9 البخاري: الزكاة (1461) , ومسلم: الزكاة (998) , والترمذي: تفسير القرآن (2997) , والنسائي: الأحباس (3602) , وأبو داود: الزكاة (1689) , وأحمد (3/141) , ومالك: الجامع (1875) , والدارمي: الزكاة (1655).
10 مسلم: الأقضية (1715) , وأحمد (2/367) , ومالك: الجامع (1863).
11 موضوع، الجامع [1008].
12 البخاري: الإيمان (36) وفرض الخمس (3123) والتوحيد (7457 ,7463) , ومسلم: الإمارة (1876) , والنسائي: الجهاد (3122 ,3123) والإيمان وشرائعه (5029 ,5030) , وابن ماجه: الجهاد (2753) , وأحمد (2/231 ,2/384 ,2/399 ,2/424 ,2/494) , ومالك: الجهاد (974) , والدارمي: الجهاد (2391).

ص -179- حتى الشسع1 إذا انقطع، فإنه إن لم ييسره لم يتيسر" رواه أبو يعلى بإسناد صحيح. وقوله: "ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى يسأله شسع نعله إذا انقطع وحتى يسأله الملح"2. رواه البزار بإسناد صحيح.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إني لا أحمل هم الإجابة، ولكن هم الدعاء، فإذا ألهمت الدعاء علمت أن الإجابة معه". وقال ابن عباس رضي الله عنهما: " أفضل العبادة الدعاء وقرأ وقال ربكم ادعوني أستجب لكم " رواه ابن المنذر والحياكم وصححه. "وقال مطرف: تذكرت ما جماع الخير؟ فإذا الخير كثير، الصلاة والصيام، وإذا هو في يد اللّه تعالى، وإذا أنت لا تقدر على ما في يد اللّه إلا أن تسأله فيعطيك". رواه أحمد. [في الزّهد].
والأحاديث والآثار في ذلك لا يحيط بها إلا اللّه تعالى. فثبت بهذا أن الدعاء عبادة من أجل العبادات، بل هو أكرمها على اللّه كما تقدم، فإن لم يكن الإشراك فيه شركًا، فليس في الأرض شرك، وإن كان في الأرض شرك فالشرك في الدعاء أولى أن يكون شركًا من الإشراك في غيره من أنواع العبادة، بل الإشراك في الدعاء - هو أكبر شرك المشركين الذين بعث إليهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فإنهم يدعون الأنبياء والصالحين والملائكة، ويتقربون إليهم ليشفعوا لهم عند اللّه، ولهذا يخلصون في الشدائد للّه وينسون ما يشركون، حتى جاء أنهم إذا جاءتهم الشدائد في البحر يلقون أصنامهم في البحر ويقولون: يا اللّه يا اللّه، لعلمهم أن آلهتهم لا تكشف الضر ولا تجيب المضطر. وقال تعالى:{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ
------------------------
1 الشِّسْعُ: أحد سُيور النّعل. هو الي يُدخَل بين الإصبعين، ويُدخَل طرفه في الثّقب الذي في صدر النّعل المشدود في الزّمام. والزّمام السَّير الذي يُعقَد فيه الشّسع.
2 البخاري: الجهاد والسير (2896) , وأحمد (1/173).

ص -180- الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ}1. فهم كانوا يعلمون أن ذلك للّه وحده، وأن آلهتهم ليس عندها شيء من ذلك، ولهذا احتج سبحانه وتعالى عليهم بذلك أنه هو الإله الحق، وعلى بطلان إلهية ما سواه. وقال تعالى: :{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ}2.فهذه حال المشركين الأولين.
وأما عباد القبور اليوم فلا إله إلا اللّه، كم ذا بينهم وبين المشركين الأولين من التفاوت العظيم في الشرك، فإنهم إذا أصابتهم الشدائد برًّا وبحرًا أخلصوا لآلهتهم وأوثانهم التي يدعونها من دون اللّه، وأكثرهم قد اتخذ ذكر إلهه وشيخه ديدنه، وهجيراه إن قام وإن قعد وإن عثر. هذا يقول: يا علي [الشّاذلي]، وهذا يقول: يا عبد القادر [الجيلاني]، وهذا يقول: يا ابن علوان، وهذا يدعو البدوي، وهذا يدعو العيدروس. وبالجملة ففي كل بلد في الغالب أناس يدعونهم ويسألونهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات. بل بلغ الأمر إلى أن سألوهم مغفرة الذنوب، وترجيح الميزان، ودخول الجنة والنجاة من النار، والتثبيت عند الموت والسؤال، وغير ذلك من أنواع المطالب التي لا تطلب إلا من اللّه. وقد يسألون ذلك من أناس يدعون الولاية، وينصبون أنفسهم لهذه الأمور وغيرها من أنواع النفع والضر التي هي خواص الإلهية، ويلفقون لهم من الأكاذيب في ذلك عجائب. منها أنهم يدعون أنهم يخلصون مَنِ اْلَتَجَأَ إليهم وَلاَذَ بِحماهم من النار والعذاب، فيقول أحدهم: إنه يقف عند النار فلا يدع أحدًا ممن يرتجيه ويدعوه يدخلها أو نحو هذا، وقد قال تعالى لسيد المرسلين صلى اللّه عليه وعليهم أجمعين:{أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ}3. فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يقدر على تخليص أحد من النار، فكيف بغيره، بل كيف بمن يدعي نفسه
------------------------
1 سورة النمل آية: 62.
2 سورة العنكبوت آية: 65.
3 سورة الزمر آية: 19.

ص -181- أنه هو يفعل ذلك؟! ومنها أن أكثرهم يلفق حكايات في أن بعض الناس استغاث بفلان فأغاثه، أو دعا الولي الفلاني فأجابه، أو في كربة ففرج عنه، وعند عباد القبور من ذلك شيء كثير من جنس ما عند عباد الأصنام الذين استولت عليهم الشياطين، ولعبوا بهم لعب الصبيان بالكرة.
ويوجد شيء من ذلك في أشعار المادحين لسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم الذين جاوزوا الحد في مدحه صلى الله عليه وسلم وعصوه في نهيه من الغلو فيه، وإطرائه كما أطرت النصارى ابن مريم، وصار حظهم منه صلى الله عليه وسلم هو مدحه بالأشعار والقصائد، والغلو الزائد، مع عصيانهم له في أمره ونهيه، فتجد هذا النوع من أعصى الخلق له صلوات اللّه عليه وسلامه.
ويقع من ذلك كثير في مدح غيره، فإن عباد القبور لا يقتصرون على بعض من يعتقدون فيه الضر والنفع، بل كل من ظنوا فيه ذلك بَالَغُوا في مدحه وأنزلوه منْزلة الربوبية وصرفوا له خالص العبودية، حتى إنهم إذا جاءهم رجل وادعى أنه رأى رؤيا مضمونها أنه دفن في المحل الفلاني رجل صالح، بادروا إلى المحل وبنوا عليه قبة وزخرفوها بأنواع الزخارف، وعبدوها بأنواع من العبادات.
وأما القبور المعروفة أو المتوهمة، فأفعالهم معها وعندها لا يمكن حصره، فكثير منهم إذا رأوا القباب التي يقصدونها كشفوا الرؤوس فنَزلوا عن الأكوار، فإذا أتوها طافوا بها واستلموا أركانها، وتمسحوا بها، وصلوا عندها ركعتين، وحلقوا عندها الرؤوس ووقفوا باكين متذللين متضرعين سائلين مطالبهم، وهذا هو الحج، وكثير منهم يسجدون لها إذا رأوها، ويعفرون وجوههم في التراب تعظيمًا لها، وخضوعًا لمن فيها، فإن كان للإنسان منهم حاجة من شفاء مريض أو غير ذلك، نادى صاحب القبر، يا سيدي فلان جئتك قاصدًا من مكان بعيد، لا تخيبني، وكذلك إذا قحط المطر، أو عقرت المرأة عن الولد، أو دهمهم عدو أو جراد، فزعوا إلى صاحب القبر، وبكوا عنده فإن

ص -182- جرى المقدور بحصول شيء مما يريدون، استبشروا وفرحوا ونسبوا ذلك إلى صاحب القبر، فإن لم يتيسر شيء من ذلك اعتذروا عن صاحب القبر بأنه إما غائب في مكان آخر، أو ساخط لبعض أعمالهم، أو أن اعتقادهم في الولي ضعيف، أو أنهم لم يعطوه نذره ونحو هذه الخرافات. ومن بعض أشعار المادحين لسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم قول البوصيري:

152 يا أكرم الخلق ما لي مَنْ أَلُوذُ به سواك عند حلول الحادث العمم .

153 ولن يضيق رسول اللّه جاهك بي إذا الكريم تجلى باسم منتقم .

146 فإن لي ذمة منه بتسميتي محمدًا وهو أوفى الخلق بالذمم .

147 إن لم يكن في معادي آخذًا بيدي فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم .

فتأمل ما في هذه الأبيات من الشرك.
منها. أنه نفى أن يكون له ملاذًا إذا حلت به الحوادث، إلا النبي صلى الله عليه وسلم وليس ذلك إلا للّه وحده لا شريك له، فهو الذي ليس للعباد ملاذ إلا هو.
الثاني. أنه دعاه وناداه بالتضرع وإظهار الفاقة والاضطرار إليه، وسأل منه هذه المطالب التي لا تُطْلَبُ إلا من اللّه، وذلك هو الشرك في الإلهية.
الثالث. سؤاله منه أن يشفع له في قوله: ولن يضيق رسول اللّه. البيت. وهذا هو الذي أرادها المشركون ممن عبدوه، وهو الجاه والشفاعة عند اللّه، وذلك هو الشرك وأيضًا فإن الشفاعة لا تكون إلا بعد إذن اللّه فلا معنى لطلبها من غيره، فإن اللّه تعالى هو الذي يأذن للشافع أن يشفع لأن الشافع يشفع ابتداء.
الرابع. قوله: فإن لي ذمة. إلى آخره. كذب على اللّه وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم فليس بينه وبين من اسمه محمد ذمة إلا بالطاعة، لا بمجرد الإشراك في الاسم مع الشرك.
الخامس. قوله: إن لم يكن في معادي. البيت. تناقض

ص -183- عظيم وشرك ظاهر، فإنه طلب أولاً أن لا يضيق به جاهه، ثم طلب هنا أن يأخذ بيده فضلاً وإحسانًا، وإلاّ فيا هلاكه! فيقال: كيف طلبت منه أولاً الشفاعة ثم طلبت منه هنا أن يتفضل عليك؟! فإن كنت تقول: إن الشفاعة لا تكون إلا بعد إذن اللّه، فكيف تدعو النبي صلى الله عليه وسلم وترجوه وتسأله الشفاعة؟! فهلا سألتها مَنْ له الشفاعة جميعًا الذي له ملك السموات والأرض الذي لا تكون الشفاعة إلا من بعد إذنه، فهذا يبطل عليك طلب الشفاعة من غير اللّه.
وإن قلت: ما أريد إلا جاهه، وشفاعته بإذن اللّه. قيل: فكيف سألته أن يتفضل عليك ويأخذ بيدك في يوم الدين، فهذا مضاد لقوله تعالى:{وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}1. فكيف يجتمع في قلب عبد الإيمان بهذا وهذا؟! وإن قلت: سألته أن يأخذ بيدي، ويتفضل علي بجاهه وشفاعته. قيل: عاد الأمر إلى طلب الشفاعة من غير اللّه، وذلك هو محض الشرك.
السادس. في هذه الأبيات من التبري من الخالق - تعالى وتقدس - والاعتماد على المخلوق في حوادث الدنيا والآخرة ما لا يخفى علىمؤمن، فأين هذا من قوله تعالى:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}2. وقوله تعالى:{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}3. وقوله:{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً}4. وقوله تعالى:{قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ}5.
------------------------
1 سورة الانفطار آية: 19-20-.
2 سورة الفاتحة آية: 5.
3 سورة التوبة آية: 129.
4 سورة الفرقان آية: 58.
5 سورة الجنّ آية: 21-23.

ص -184- فإن قيل: هو لم يسأله أن يتفضل عليه، وإنما أخبر أنه إن لم يدخل في عموم شفاعته فيا هلاكه. قيل: المراد بذلك سؤاله، وطلب الفضل منه، كما دعاه أول مرة وأخبر أنه لا ملاذ له سواه، ثم صرح بسؤال الفضل والإحسان بصيغة الشرط والدعاء، والسؤال كما يكون بصيغة الطلب يكون بصيغة الشرط كما قال نوح عليه السلام:{إِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}1.
ومن شعر البرعي قوله:
ماذا تعامل يا شمس النبوة من أضحى إليك من الأشواق في كبدي
فامنع جناب صريع لا صريخ له نائي المزار غريب الدار مبتعد .
حليف ودك واه الصبر منتظر لغارة منك يا ركني ويا عضدي .
أسير ذنبي وزلاتي ولا عمل أرجو النجاة به إن أنت لم تجد .
وجرى في شركه إلى أن قال:
وحُلَ عقدة كربي يا محمد من هم على خطرات القلب مطرد .
أرجوك في سكرات الموت تشهدني كيما يهون إذ الأنفاس في صعد
وإن نزلت ضريحا لا أنيس به فكن أنيس وحيد فيه منفرد .
وارحم مؤلفها عبد الرحيم ومن يليه من أجله وانعشه وافتقد .
وإن دعا فأجبه واحم جانبه من حاسد شامت أو ظالم نكد
وقوله من أخرى:
يا رسول الله يا ذا الفضل يا بهجة في الحشر جاها ومقاما .
عد على عبد الرحيم الملتجي بحمى عزك يا غوث اليتامى .
وأقلني عثرتي يا سيدي في اكتساب الذنب في خمسين عاما .
وقوله:
يا سيدي يا رسول الله يا أملي يا موئلي يا ملاذي يوم يلقاني .
هبني بجاهك ما قدمت من زلل جودًا ورجح بفضل منك ميزاني .
واسمع دعائي واكشف ما يساورني من الخطوب ونفس كل أحزاني .
------------------------
1 سورة هود آية: 47.

ص -185- فأنت أقرب من ترجى عواطفه عندي وإن بعدت داري وأوطاني .
إني دعوتك من "نيابتي برع" وأنت أسمع من يدعوه ذو شان .
فامنع جنابي وأكرمني وصل نسبي برحمة وكرامات وغفران .

لقد أنسانا هذا ما قبله، وهذا بعينه هو الذي ادعته النصارى في عيسى عليه السلام، إلا أن أولئك أطلقوا عليه اسم الإله، وهذا لم يطلقه ولكن أتى بلباب دعواهم وخلاصتها، وترك الاسم، إذ في الاسم نوع تمييز، فرأى الشيطان أن الإتيان بالمعنى دون الاسم أقرب إلى ترويج الباطل، وقبوله عند ذوي العقول السخيفة، إذ كان من المتقرر عند الأمة المحمدية أن دعوى النصارى في عيسى عليه السلام كفر.
فلو أتاهم بدعوى النصارى اسما ومعنى لردوه وأنكروه، فأخذ المعنى وأعطاه البرعي وأضرابه، وترك الاسم للنصارى وإلا فما ندري ماذا أبقى هذا المتكلم الخبيث للخالق تعالى وتقدس من سؤال مطلب أو تحصيل مأرب، فاللّه المستعان.
وهذا كثير جدًّا في أشعار المادحين لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهو حجة أعداء دينه الذين يجوزون الشرك باللّه، ويحتجون بأشعار هؤلاء، ولم يقتصروا أيضًا على طلب ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم بل يطلبون مثل ذلك من غيره، كما حدث بعض الثقاة أنه رأى في رابية صاحب مشهد من المشاهد: هذه راية البحر التيار، به أستغيث، وأستجير، وبه أعوذ من النار.
وقال بعضهم في قصيدة في بعض آلهتهم:
يا سيدي يا صفي الدين يا سندي يا عمدتي بل ويا ذخري ومفتخري
أنت الملاذ لما أخشى ضرورته وأنت لي ملجأ من حادث الدهر .

إلى أن قال:
وامنن علي بتوفيق وعافية وخير خاتمة مهما انقضى عمري .
وكف عنا أكف الظالمين إذا ام تدت بسوء لأمر مؤلم نكر .
فإنني عبدك الراجي بودك ما أملته يا صفي السادة الغرر .

ص -186- قال بعض العلماء: فلا ندري أي معنى اختص به الخالق تعالى بعد هذه المنزلة، وماذا أبقى هذا المتكلم الخبيث لخالقه من الأمر، فإن المشركين أهل الأوثان ما يؤهلون من عبدوه لشيء من هذا. انتهى.
وكثير من عباد القبور ينادون الميت من مسافة شهر وأكثر يسألونه حوائجهم، ويعتقدون أنه يسمع دعاءهم ويستجيب لهم، وتسمع عندهم حال ركوبهم البحر واضطرابه من دعاء الأموات والاستغاثة بهم ما لا يخطر على بال، وكذلك إذا أصابتهم الشدائد، من مرض، أو كسوف، أو ريح شديدة، أو غير ذلك، فالولي في ذلك نصب أعينهم، والاستغاثة به هي ملاذهم، ولو ذهبنا نذكر ما يشبه هذا لطال الكلام. إذا عرفت هذا، فقد تقدم ذكر دعاء المسألة.
تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد







توقيع الشهاب الثاقب

هل الله يُعذب نفسه لنفسههل الله يفتدى بنفسه لنفسههل الله هو الوالد وفى نفس الوقت المولوديعنى ولد نفسه سُبحان الله تعالى عما يقولون ويصفون
راجع الموضوع التالي
طريق الحياة و أدلة ساطعه على عدم الفداء