الحمد لله رب العالمين أما بعد ,,
فإن الله خلق الخلق لما سبق في علمه مما أراد بخلقهم وبهم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب وأنزل عليهم الكتاب تبيانا لكل شئ وهدى ورحمة وفرض فيهم فرائض أثبتها وأخرى نسخها رحمة لخلقه بالتخفيف عنهم وبالتوسعة عليهم زيادة فيما ابتدأهم به من نعمه وأثابهم على الانتهاء إلى ما أثبت عليهم جنته والنجاة من عذابه فعمتهم رحمته فيما أثبت ونسخ فله الحمد على نعمه . من رسالة الشافعي
قال ابن قيم الجوزية رحمه الله :
فأخبر سبحانه أن عموم قدرته وملكه وتصرفه في مملكته وخلقه لا يمنعه أن ينسخ ما يشاء ويثبت ما يشاء كما أنه يمحو من أحكامه القدرية الكونية ما يشاء ويثبت فهكذا أحكامه الدينية الأمرية ينسخ منها ما يشاء ويثبت منها ما يشاء . انتهى
مفهوم النسخ وإثباته :
قال الله عز وجل :
{ مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) }
قال أبو جعفر الطبري:
يعني جل ثناؤه بقوله:(ما ننسخ من آية): ما ننقل من حكم آية، إلى غيره فنبدله ونغيره. وذلك أن يحول الحلال حراما، والحرام حلالا والمباح محظورا، والمحظور مباحا. ولا يكون ذلك إلا في الأمر والنهي، والحظر والإطلاق، والمنع والإباحة. فأما الأخبار، فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ.
وأصل"النسخ" من"نسخ الكتاب"، وهو نقله من نسخة إلى أخرى غيرها. فكذلك معنى"نسخ" الحكم إلى غيره، إنما هو تحويله ونقل عبارته عنه إلى غيرها . فإذا كان ذلك معنى نسخ الآية، فسواء - إذا نسخ حكمها فغير وبدل فرضها، ونقل فرض العباد عن اللازم كان لهم بها - أَأُقر خطها فترك، أو محي أثرها، فعفِّي ونسي، إذ هي حينئذ في كلتا حالتيها منسوخة، والحكم الحادث المبدل به الحكم الأول، والمنقول إليه فرض العباد، هو الناسخ. يقال منه:"نسخ الله آية كذا وكذا ينسخه نسخا، و "النُّسخة" الاسم. وبمثل الذي قلنا في ذلك كان الحسن البصري يقول:حدثنا سوار بن عبد الله العنبري قال، حدثنا خالد بن الحارث قال، حدثنا عوف، عن الحسن أنه قال في قوله:(ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها)، قال: إن نبيكم صلى الله عليه وسلم أُقرئ قرآنا، ثم نسيه فلم يكن شيئا، ومن القرآن ما قد نسخ وأنتم تقرءونه. انتهى
أجمع علماء الأصول على أن النسخ على ثلاثة أنواع نذكرها بالتدليل عليها :
1-ما نُسخ لفظه وحكمه :
ما رواه ابن أبي شيبة والحاكم وصححه ووافقه الذهبي من حديث حذيفة رضي الله عنه قال " مَا تَقْرَؤُونَ رُبُعَهَا يَعْنِي بَرَاءَةَ " صححه الألباني .
وما رواه مسلم وغيره عَنْ أَبِي حَرْبِ بْنِ أَبِي الْأَسْوَدِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ بَعَثَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ إِلَى قُرَّاءِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ فَدَخَلَ عَلَيْهِ ثَلَاثُ مِائَةِ رَجُلٍ قَدْ قَرَءُوا الْقُرْآنَ فَقَالَ :
" أَنْتُمْ خِيَارُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَقُرَّاؤُهُمْ فَاتْلُوهُ وَلَا يَطُولَنَّ عَلَيْكُمْ الْأَمَدُ فَتَقْسُوَ قُلُوبُكُمْ كَمَا قَسَتْ قُلُوبُ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَإِنَّا كُنَّا نَقْرَأُ سُورَةً كُنَّا نُشَبِّهُهَا فِي الطُّولِ وَالشِّدَّةِ بِبَرَاءَةَ فَأُنْسِيتُهَا غَيْرَ أَنِّي قَدْ حَفِظْتُ مِنْهَا لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لَابْتَغَى وَادِيًا ثَالِثًا وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ وَكُنَّا نَقْرَأُ سُورَةً كُنَّا نُشَبِّهُهَا بِإِحْدَى الْمُسَبِّحَاتِ فَأُنْسِيتُهَا غَيْرَ أَنِّي حَفِظْتُ مِنْهَا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ فَتُكْتَبُ شَهَادَةً فِي أَعْنَاقِكُمْ فَتُسْأَلُونَ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ "
وفيه آثار عن أبي بن كعب وجابر بن عبد الله وأنس رضي الله عنهم قال الشيخ الألباني وكلها صحيحة .
وقال الألباني في الصحيحة ايضا ردا على من أنكر أن قوله " لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ " كانت قرآناً :
فكيف و هناك الأحاديث الأخرى المتقدمة التي تلقي اليقين في النفس أن الحديث كان من القرآن ثم نسخت تلاوته ، و في ظني أنه لم يعلم بها ، و إنه لو علم بها ما قال ما قال ، و إلا دل قوله على سوء الحال . نسأل الله السلامة .
2-ما نسخ لفظه وبقي حكمه :
ما رواه البخاري وغيره من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال :
" أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي قَائِلٌ لَكُمْ مَقَالَةً قَدْ قُدِّرَ لِي أَنْ أَقُولَهَا لَا أَدْرِي لَعَلَّهَا بَيْنَ يَدَيْ أَجَلِي فَمَنْ عَقَلَهَا وَوَعَاهَا فَلْيُحَدِّثْ بِهَا حَيْثُ انْتَهَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ وَمَنْ خَشِيَ أَنْ لَا يَعْقِلَهَا فَلَا أُحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَكْذِبَ عَلَيَّ إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَقِّ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ فَكَانَ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةُ الرَّجْمِ فَقَرَأْنَاهَا وَعَقَلْنَاهَا وَوَعَيْنَاهَا رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ فَأَخْشَى إِنْ طَالَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ وَاللَّهِ مَا نَجِدُ آيَةَ الرَّجْمِ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ وَالرَّجْمُ فِي كِتَابِ اللَّهِ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى إِذَا أُحْصِنَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إِذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ أَوْ كَانَ الْحَبَلُ أَوْ الِاعْتِرَافُ ثُمَّ إِنَّا كُنَّا نَقْرَأُ فِيمَا نَقْرَأُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَنْ لَا تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ فَإِنَّهُ كُفْرٌ بِكُمْ أَنْ تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ أَوْ إِنَّ كُفْرًا بِكُمْ أَنْ تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ "
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ :
" لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَطُولَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ حَتَّى يَقُولَ قَائِلٌ مَا أَجِدُ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ أَلَا وَإِنَّ الرَّجْمَ حَقٌّ إِذَا أُحْصِنَ الرَّجُلُ وَقَامَتْ الْبَيِّنَةُ أَوْ كَانَ حَمْلٌ أَوْ اعْتِرَافٌ وَقَدْ قَرَأْتُهَا الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ " رواه ابن ماجة وأحمد وغيرهما وصححه الألباني
وجدير بالذكر أن بعض العلماء أنكر أن يكون لفظ الآية المنسوخة " الشيخ والشيخة .. " إلا إنها ثابتة حديثياً وبغض النظر عن ثبوت اللفظ من عدمه فإن ثبوت نسخ آية الرجم لفظاً وثبوتها حكما أجمع عليه أهل العلم من الفقهاء والمحدثين والأصوليين ..
قال البيهقي رحمه لله بعد أن ساق آثر آية الرجم في سننه :
" فِى هَذَا وَمَا قَبْلَهُ دَلاَلَةٌ عَلَى أَنَّ آيَةَ الرَّجْمِ حُكْمُهَا ثَابِتٌ وَتِلاَوَتُهَا مَنْسُوخَةٌ وَهَذَا مِمَّا لاَ أَعْلَمُ فِيهِ خِلاَفًا "
وروى مسلم وأبو داود والنسائي عَنْ عَائِشَةَ
" أَنَّهَا قَالَتْ كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ مِنْ الْقُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُنَّ فِيمَا يُقْرَأُ مِنْ الْقُرْآنِ "
3-ما نسخ حكمه وبقي لفظه :
وهذا دلائله من القرآن والسنة :
قال تعالى :
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66) } الأنفال
فنُسخت الأولى بالثانية
وروى البخاري ومسلم عن عَنْ سَلَمَةَ – بن الأكوع – قَالَ :
" لَمَّا نَزَلَتْ { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } كَانَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُفْطِرَ وَيَفْتَدِيَ حَتَّى نَزَلَتْ الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا فَنَسَخَتْهَا "
ومثله عن ابن عمر رواه البخاري .
وروى البخاري قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ قُلْتُ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ :
" { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا } قَالَ قَدْ نَسَخَتْهَا الْآيَةُ الْأُخْرَى فَلِمَ تَكْتُبُهَا أَوْ تَدَعُهَا قَالَ يَا ابْنَ أَخِي لَا أُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْهُ مِنْ مَكَانِهِ "
وروى البخاري عَنْ مَرْوَانَ الْأَصْفَرِ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهْوَ ابْنُ عُمَرَ : " أَنَّهَا قَدْ نُسِخَتْ { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ } الْآيَةَ "
وروى البخاري في الأدب وابن أبي حاتم في تفسيره عن بن عباس :
" في قوله عز و جل إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف إلى قوله كما ربياني صغيرا فنسختها الآية التي في براءة ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم " حسنه الألباني
وروى البخاري عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ :
" { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ }{ وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ }
قَالَ كَانَ الْمُهَاجِرُونَ حِينَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ يَرِثُ الْأَنْصَارِيُّ الْمُهَاجِرِيَّ دُونَ ذَوِي رَحِمِهِ لِلْأُخُوَّةِ الَّتِي آخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمْ فَلَمَّا نَزَلَتْ { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ } قَالَ نَسَخَتْهَا { وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ } "
يتبع ...
توقيع أبوحمزة السيوطي |
إذا كُنت تشعر انك لاتعيش جيـداً ...فاعلم أنك لاتصلي جيداً |