الرد على الإلحاد و الأديان الوثنية قسم مخصص للرد على الملحدين و اللادينيين و أتباع الأديان الوثنية

آخر 20 مشاركات
The Heritage Of Abraham PBUH (الكاتـب : * إسلامي عزّي * - )           »          تلاوة عشائية ساحرة بصوت خالد الرياعي (الكاتـب : * إسلامي عزّي * - )           »          حقوق الأجراء و الخدم في الإسلام (الكاتـب : * إسلامي عزّي * - )           »          الفيلم الوثائقي : كسوة الكعبة المشرفة (الكاتـب : * إسلامي عزّي * - )           »          مكّة المكرّمة : أورشليم - مدينة السلام الموعودة ! (الكاتـب : * إسلامي عزّي * - )           »          مسيحية تمزق على الهواء كتابها المقدس (الكاتـب : * إسلامي عزّي * - )           »          من الذبيح ؟؟؟ (الكاتـب : * إسلامي عزّي * - )           »          القطف الجني لتلاوات الشيخ عبدالله الجهني : شهر شوال 1445هجري (الكاتـب : * إسلامي عزّي * - )           »          نص خروج 33 : 11 يسقط الهولي بايبل في التناقض (الكاتـب : * إسلامي عزّي * - )           »          لمحات مكية : كثرة أسماء الكعبة المشرّفة (الكاتـب : * إسلامي عزّي * - )           »          لمحات مكية : ماء زمزم (الكاتـب : * إسلامي عزّي * - )           »          حنين الجذع للنبي حقيقة أم خرافة ؟؟؟ (الكاتـب : * إسلامي عزّي * - )           »          فإلهكم إلهٌ واحد (الكاتـب : * إسلامي عزّي * - )           »          هل يشمل العهد الإبراهيمي إسماعيل و نسله ؟؟؟ (الكاتـب : * إسلامي عزّي * - )           »          ملة أبيكم إبراهيم (الكاتـب : * إسلامي عزّي * - )           »          الإعجاز الغيبي في الإخبار عن حشّاشي الهرمنيوطيقا (الكاتـب : * إسلامي عزّي * - )           »          نصوص محذوفة من إنجيل مرقس (الكاتـب : * إسلامي عزّي * - )           »          وفد الله (الكاتـب : * إسلامي عزّي * - )           »          وأذن في الناس بالحج (الكاتـب : * إسلامي عزّي * - )           »          AL-MARIZ : Islam 's last refuge (الكاتـب : * إسلامي عزّي * - )

اعترافات تولستوي : رحلة البحث عن الله

الرد على الإلحاد و الأديان الوثنية


رد
 
أدوات الموضوع أنواع عرض الموضوع
   
  رقم المشاركة :1  (رابط المشاركة)
قديم 08.08.2010, 10:42

الاشبيلي

مشرف أقسام النصرانية و رد الشبهات

______________

الاشبيلي غير موجود

الملف الشخصي
التسجيـــــل: 23.04.2009
الجــــنـــــس: ذكر
الــديــــانــة: الإسلام
المشاركات: 2.798  [ عرض ]
آخــــر نــشــاط
12.01.2024 (10:38)
تم شكره 157 مرة في 101 مشاركة
افتراضي اعترافات تولستوي : رحلة البحث عن الله


اعترافات تولستوي : رحلة البحث عنالله



أتذكرجيداًَ ذلك الشعور الغريب الذي انتابني عند قراءة إحدى ملاحظات مكسيم غوركي عنتولستوي{1}. يقول غوركي : صعقني قولغريب في اليوميات التي أعطاني إياها تولستوي, تلك العبارة هي "الله هو أمنيتي". حينما استوضحته عن معنى هذه الأمنية قال : "فكرة غير مكتملة, لا بد أني قصدت إلىالقول, الله هو أمنيتي كيما أدركه .. لا , ليس هذا .. ". كان تولستوي حسب تصورغوركي, ومن أحاديث جانبية بينهما, تشغله فكرة الله حتى تكدر صفاء ذهنه. يقولتولستوي في بعض أقواله المذكورة في ملاحظات غوركي: ماذا نقصد عندما نقول أننا نعرف؟أعرف أنني تولستوي, ولي زوجة, وأولاد, وشائب الشعر, وقبيح الوجه, ولي لحية. وهذاكله مدون في جواز سفري. ولكنهم لا يدلفون إلى الروح في جوازات السفر! كل ما أعرفهعن روحي أنها تتوق إلى الاقتراب من الله. لكن ما هو الله ؟ هذا الذي روحي هي ذرةمنه. هذا هو كل شيء!

هذا الملاحظات أصبحت صور تمر في ذهني كلما مر اسمتولستوي في أي قراءة. أتخيل وجه مكسيم وهو يسأل معلمه عن هذه الأمنية الحلم, فيردوجه الشيخ الكثيف اللحية, المعتمر قبعة الفلاحين, بإبتسامة عريضة تنسي المحاورالآخر السؤال برمته, وما إن يلتفت إلى الخلف, تطفر منه دمعة كشخص ساذج, ويوليهارباً حتى تشتعل هذه الأمنية كبركان على وشك الإنفجار.

هذه الملاحظات لمأعرف ماذا تشكل على وجه الحقيقة في حياة تولستوي, المفكر والأديب المشهور. دستويفسكي في أغلب أعماله الكبيرة, وحتى في كتب البيوغرافيا, يعطي توضيح حاد لرحلتهإلى الله والإيمان : "لقد وصلت إلى الله عبر طريق طويل وشائك من الإلحاد والشكالكبير". قرأت رائعةآناكارينيناقبل فترة, وكانت أول عمل كامل لتولستوي أتم قراءته بالكامل. كنت أتمنىأن أجد تفسير في الرواية لهذه الأمنية التي تراود تولستوي في دفاتر يومياته, ولكنلم أجد إلا حيرة مضاعفة بسبب شخصية قسطنطين ليفين, والذي عبر عن أكثر أراء تولستويغموضاً. ليفين : تلك الشخصية التي لم تكن إلا تولستوي نفسها بكل تطرفها. كتبتولستوي عن نفسه في هذه الرواية وعبر عن أكثر أراءه بشكل حاد. من سيقرأ بعض ما كتبفي يوميات تولستوي المنشورة في صور أدبية لمكسيم غوركي سيجد أغلب أفكاره مطروحة فيشخصية ليفين. من أنا؟ وما هو هدف حياتي؟ والأهم : أين الله؟ من هو الله؟ وكيف أحيابوجود الله؟ ماهو الوجود؟ ولماذا أنا موجود؟ هذه الأسئلة لإنسان مغرق في الشك - وملحد - كانت ذا تأثير عميق في الرواية, وتفنن تولستوي بتصويرها بأروع ما يكونالتصوير الفني. ولكن, وهذا السؤال هو الأهم : من أين ظهرت هذه الأمنية؟ وما دلالتهافي حياة تولستوي الأدبية والفكرية؟ وأخيراً : هل تحققت أمنيته؟ هل عرف الله كماتتمناها روحه؟

لمعرفة الجواب يستلزم أن تقرأ أكثر, أن تعرف سيرة حياته, وبشكل خاص مسيرة تولستوي الفكرية. كانت مهمة البحث عن أجوبه لهذه الأسئلة ليستبالسهلة على الإطلاق. كتب البيوغرافيا التي تحدثت عن تولستوي لم تستطع الإجابة عنهذه الأسئلة بالتفصيل. الناقد الروسي ك. لومونوف عبر كتابه صفحات مجهولة من حياةتولستوي يقدم سيرة أدبية رائعة ومشوقة لتولستوي. الجانب الأدبي طغى على الجانبالفكري مما سبب غموض أكثر بالنسبة لي. لومونوف يقدم لي تولستوي الأديب, صاحبالروائع الخالدة : "الحرب والسلم", "آنا كارينينا", "البعث", أنا لا أريد تولستويهذا, أريد تولستوي صاحب الأمنية الكبيرة : الله هو أمنيتي.

دائماً ما أجدأقوال دستويفسكي عن تولستوي موفقة وتصف الحالة العامة لتولستوي على وجه الدقة, هولا يتكلم كثيراً ولا يرفع منافسه لمستوى أكبر منه, رغم أنهما منافسين شرسيين. حينمايقول أن آنا كارينينا هي أعظم رواية روسية فهو صادق{2}. آنا كارينينا هي أقرب لمسمى الرواية أكثر من أي عملروسي أخر. أما حينما يقول أن أمثال تولستوي هم معلموا المجتمع، معلمونا، ونحن مجردتلاميذ لهم, فذلك يستلزم البحث لتعرف لماذا وصف دستويفسكي منافسه الشهير بوصفالمعلم الكبير؟ وهل لهذا الوصف والتبجيل علاقة بأمنية تولستوي؟

لن يستطيعأحد أن يحلل ويفسر لي أمنية تولستوي أكثر من تولستوي نفسه, عبر كتابه الشهيراعترافات تولستوي "A Confession and Other Religious Writings" . ولكن المصيبة أنالكتاب غير متوفر في المكتبة العربية حسب علمي المتواضع. قررت شراء الكتاب في أقربزيارة للخارج, وإلى أن يحين الوقت, حاولت قراءة كتاب سيروا في النور وثلاثة وعشرونحكاية "Walk in the Light & Twenty-Three Tales ". هذه المجموعة القصصيه تقدملي أمنية تولستوي عبر الأدب على وجه التقريب . لم تستمر قراءتي للكتاب طويلاً. إذوجدت الكتاب من مكتبة إنجليزية بطبعة فاخرة, وها هو كتاب الاعترافات بين يدي الآن, مع نهاية هذه السنة أجد هذا الكتاب أكثر الكتب تأثيراً عليّ حتى الآن!





اعترفات تولستوي .. صدر هذا الكتاب عام 1879م, أي بعد صدور آناكارينينا بفترة ليست بالطويلة. إن كان تولستوي أراد أن يكون ليفين هي الشخصية التيتعبر عن أراءه الفكرية بشكل يحمل بعض الغموض, فإن كتاب الاعترافات أزال هذا الغموضبشكل كبير, وأعلن صاحبه أن هذه الشخصية هي جزء منه, جزء من قلبه الذي بحث عن اللهوالإيمان, ولا يعرف حتى الآن أي طريق سيسلك لتحقيق هذا الحلم.

أني أرثي بحقللمكتبة العربية التي لا تحتفل بمثل هذه الكتب المليئة بالروحانية والنور. كانتصوري أن الكتاب مملاً كعادة بعض المؤلفين حين يكشفون عن أنفسهم ويعرون أرواحهمأمام الملأ, مع تولستوي الأمر مختلف : سأكشف لك كل أسرار حياتي لكي تعلم, أن رحلتيللبحث عن الله الخالق ليست بالهينة. لقد حاول الكاتب في أعنف مراحل حياته الفكريةالإبتعاد عن أي شيء مادي قد يتسبب في موته, أنه يهرب من الحبال مخافة أن يشنق نفسه, وقاوم نفسه العاشقة للصيد, أن يمسك سلاحاً نارياً مخافة أن يطلق النار على نفسه, ويتخلص من هذا النار المحترقه في عقله, وقلبه!

تولستوي الشاب, في أولىمراحل حياته تحرر من كل ضروب العبادة والإيمان التي تعلمها من الصغر. الطبقةالنبيلة التي ينتسب إليها كانت ذا تأثير عميق في تلك الفترة, يلخص تولستوي مركزهمبأن نور المعرفة والحياة قد أذاب قصور الإيمان المصنوعة من الشمع في أعماقهم, فأدركفريق منهم حقيقة الأمر وتخلصوا من الإيمان, ولكن الفريق الآخر ظل متعامياً عن هذهالحقيقة فلم يشعر بها. بعد هذا التحليل لإيمان الطبقة النبيلة, يعترف تولستوي فيبداية اعترافاته بأن الإيمان المغروس في أعماقه قد زال بشكل كليّ, ولم يكمل السادسةعشر حتى انقطع عن الصلاة. هذا التحول من الإيمان إلى الإلحاد تسبب بأزمة وحيدة هيالأزمة الروحية لكل حياة تولستوي: الله !

تولستوي لم ينكر وجود الله, ولكنلم يعرف من هو هذا الإله الذي لم ينكر وجوده. في عمر الخامسة عشر بالتحديد بدأبقراءة كتب الفلاسفة . تحولت حياته بعد أن تخلص من كل ضروب الإيمان, إلى الحصول علىأسمى مراتب الأخلاق الصالحة : الطموح, القوة, الحصول على الربح, الكبرياء, الغرور, الغضب والإنتقام. تلك كانت عقيدة هذا الشيخ الروسي العتيد. أصبح بإستسلامه لهذهالأهواء ممثلاً ومماثلاً لأبناء طبقته النبيله.

تولستوي يعري تلك الأيامالسوداء من حياته :" قتلت الكثيرين في الحرب, بارزت الكثيرين لأفقدهم حياتهم, خسرتأموالاً كثيرة بالمقامرة, وأنفقت الأموال الكثيرة التي وصلت إليّ بأعراق الفلاحين, قاسياً عاتياً مع معاملة خدمي, لم أترك سبيلاً من سبل الفسق إلا وسلكته, الكذب, والسرقة, والزنا, والسكر, والتمرد, والقتل, كل هذا جزء من حياتي في تلك الأيام, فليس في قاموس الجرائم جريمة واحدة لم أرتكبها, ولكنني كنت مع كل ذلك مكرماًمحترماً من أبناء عشيرتي".

هذه الاعترافات مخيفة, كيف برجل وصل إلى قمة مجدهالأدبي أن يعلن بصراحة أن كل هذه السيئات قام بإرتكابها, هل هي تخاريف رجل كبير فيالسن, أم كشف معالم النفس أمام الجميع .. كل هذا لا يهم, المهم هو الطريقة التييكشف فيها تولستوي سيرة حياته المظلمة. هو يسلك طرق الظلام ليصل إلى النهاية, إلىالنور. هو لا يفصل سيرة حياته المظلمه كما فعل محمد شكري في الخبز الحافي, هي فترةوأنقضت, ولا سبيل لإعادة أحيائها من جديد. تمنيت لو أن محمد شكري سلك طريق تولستويفي كتابة السيرة الذاتيه, وقدم مختصر حياته المظلمة, ثم يرحل بعيداً إلى الطريقالذي أنار إليه معالم الحياة كما في الجزء الثاني من ثلاثيته " الشطار ".


تولستوي المفكر, والمقبل على الأدب والمجد يسلك في السادسة والعشرينمنهج الأدب والشعر لكي يعوض فقدان الإيمان الذي تخلص منه. لقدر ارتحل إلى بطرسبروغوانضم إلى جماعة الكتاب : تلك الجماعة التي تؤمن بأن واجبهم في الحياة كمفكرينفنانين وشعراء أن يعلموا الناس الطريق الصحيح, وتصبغ أفكارهم بصبغة أفكارهم. أنيأستغرب كيف سقط تولستوي تحت فكر هذه الجماعة وهو الهارب من سلطة رجال الدينالأرثوذكس. السبب لن يكون إلا في الفكرة الشعرية الجذابه, والشعور بالفراغ الروحي. لو تخلص تولستوي من الشعور بالجاذبية تجاه هذه الجماعة, وفكر مثلما يفكر في السنةالثالثة لأعلن كفره بهذه الجماعه المتخاصمة, الماكره : "الأكثرية الساحقة منهم فيمستوى أكثر انحطاطاً من المستوى الذي عاش فيه رفقائي في العسكرية, كنا نمثل روايةكامل أبطالها مجانين من الدرجة الأولى".

يطلق على هذه الفترة من حياةتولستوي الفكرية, مرحلة الفن والشعر. لم تستمر هذه المرحلة أكثر من ستة سنوات, لميتقبل عقله فكرة تعليم وتثقيف الناس وهو لا يعرف حتى الآن ما هية الخير والشر, ومدىارتباط الاخلاق بالخالق. المرحلة الثانية هي المرحلة التقدمية. تأثيرات هذه المرحلةبدأت بعد مغادرته إلى أوروبا للتعرف على عظماء مفكريها وعلمائها. من أبسط الأشياءتولد ردات الفعل العنيفة. فكرة العيش من أجل الناس والتقدم العام فكرة جذابهللجميع, لا يستطيع أحد أن يرفض فكرة التعليم والتثقيف من أجل الجميع, هدف العيشالآن أصبح من أجل التقدم العام. ولكن منظر الرؤوس الساقطة على الأرض بسبب آلةالإعدام ضرب هذه الفكرة في وقت حرج, ما من نظرية محددة ولا عقائد مقررة من بدءالخليقة إلى الآن تبرر قطع الرؤوس حسب تعبيره. ثم موت أخيه ديمتري المرير, الذي ماتمريضاً وهو لا يعلم لماذا عاش في هذا العالم, جاهلاً الموت كل الجهل, رغم قلبهالرقيق, وهدوئه ورصانته.

التقدم يجب أن ترافقه الحرية والعقل, قد يكون هذاالتبرير هو طمس لمعالم الرأس الذي سقط على الأرض, والنفس التي رحلت ولا تدري ماهوالموت على حقيقته. عاد تولستوي إلى روسيا بعد تحرير العبيد. أصبح قاضياً, وعمد إلىتعليم غير المتعلمين بواسطة المدارس والصحافة. مرت حادثة ساعدته على نسيان أمنيتهمؤقتاً : زواجه من صوفيا آندريفنا. قادته السعادة التي وجدها في حياته الزوجيه إلىالهرب من السعي وراء إدراك معنى الحياة. على هذه الصورة عاش خمسة عشر سنة, ولم يعرفأن في نهاية هذه السنين ستعود هذه الأسئلة بشكل أكبر وأعنف : "لماذا تعيش؟ وماهيالغاية من حياتك؟". هذه الأسئلة القلقة كانت تمطر عليّ بكثرة عند قراءة آناكارينينا عبر شخصية ليفين. :" حسن وجميل, لدي مساحة أرض كبيرة, وثلاثمائة حصان, و .. لكن مالفائدة من كل هذا؟ مالفائدة إذا صرت أشهر من فولتير وبوشكين ومولييروغوغول .. هذا جميل ولكن ماذا بعد؟". هذه الأسئلة كالشبح القاتم يردد بصوته الراعب, لماذا تعيش! هي ليست أسئلة صبيان بسيطة, بل هي الحقيقة الشاملة لأعمق أسرار الحياةالبشرية, وهو عاجز أن يجيب على أي سؤال من هذه الأسئلة :
"
لم يبقى لي عذرللحياة, يجب أن أموت!".

الموت : أحد الثيمات المفضلة في كتابات تولستويالأدبية. هو يختلف عن غيره من أدباء العالم في تصوير الموت. فيكتور هيجو يبجل الموتعند موت أحد شخصياته, الموت هو طريق الحرية والكمال الأعظم, ولذلك يصوره بشكل هادئوسلس. تولستوي عند تصويره للموت يستخدم كل أسلحته المرعبه لتصوير هذا الأسودالقادم. أتذكر جيداً تلك الصفحات التي أفردها لموت نيقولاي في رائعة آنا كارينينا, كانت أكثر من ما يقارب ثلاثين صفحة كلها تعذيب وموت لهذا الرجل المريض بالسل, ولكنالأعنف .. الموت الحقيقي, من يريد أن يعرف الموت الحقيقي عند تولستوي عليه أن يقرأتلك القطعة الخالدة من أدبه, عندما يصور آنا وهي تائهه, خارجة عن نطاق الوعي, تخرجمن المنزل وهي تلعن عشيقها التي ضربت من أجله مجتمعها وعائلتها عرض الحائط, ثم تنظرإلى أحوال الناس في الطريق إلى محطة القطار, تضحك وتبكي على حالها, وفي الأخير, عندآخر ظهور لهذه الشخصية الجحيمية, لن تقول أكثر من : ياألله. بقدر قوة الألم في هذاالتصوير: من أين لتولستوي هذه القدرة المرعبة على تصوير هذا الموت بهذا الشكلالعنيف والدرامي؟

للإجابة على هذا السؤال يجب العودة لاعترافات تولستويالتي كشفت حقيقة الموت لديه. في فيلم "Anna Karenina - 1997" يقتبس المخرج حكاية منالتراث الشرقي القديم كنقطة بداية لهذه الملحمة. يبدأ الفيلم بتصوير الموت بطريقةرمزية, كان ليفين يهرب في الريف, يحاول النجاة بنفسه من الذئاب التي تطارده, والتيهي بدورها الأسئلة المقلقة في الرواية والاعترافات, ثم يسقط في حفرة, ويتمسك بجذعشجرة قبل السقوط, ولو سقط, لوجد الموت الذي يفر منه, لأن أحد الحيوانات المفترسةاتخذ من الحفرة مصيدة للبشر. قبل هذا المشهد يبدأ السرد في الفيلم من ليفين, يقولبما معناه " دوماً في أحلامي أتعلق بفرع شجرة, وأدرك تماماً أن الموت حتما ينتظرني, الخوف من الموت بدون معرفة الحب, كان أقوى من الخوف من الموت نفسه. أعرف الآن أنيلم أكن لوحدي في رعب هذا الظلام, وكان أيضاً خوف آنا كارينينا" . هذه الشجرة التيتعلق بها يوردها تولستوي في اعترافاته, فيما هو متمسك بجذع الشجرة يرى جرذين يقرضانالجذع بكل همة ونشاط, فكر هذا الرجل المتسك بجذع الشجرة بأنه ساقط لا محالة, ولكنهنظر في الوقت نفسه بضع نقاط من العسل على جذع الشجرة, فمد لسانه وشرع يلحسهامتناسياً شقاءه كله !

"
هكذا أنا أتعلق بغضن شجرة الحياة, عارفاً أن تنينالموت ينتظرني, وهو على استعداد ليمزقني ارباً ارباً. كانت فكرة الإنتحار تخطر ليفي كل يوم وحين, إنني أكره الحياة ولا أريد أن أعيش! ولكن خوفي من الموت كان يضطرنيإلى استنباط الحيلة ضد نفسي لكي لا أضع حداً لحياتي. كانت حياتي أضحوكة جنونيةموجهة إلي من شخص لا أعرفه, ومع أنني لم أكن أعترف بوجود هذا الشخص الذي يقولون أنهخلقني, فإن النتيجة القائلة بأن هذا الشخص قد ضحك عليّ بجنون وسخرية عندما خلقني فيهذا العالم كانت تظهر ليّ كأنها أصدق ما في الحياة من النائج الطبيعية".

-
من أنا ؟ وما هو الوجود ؟
-
كل شيء . ولا شيء !
-
لماذا وجدت هنا؟
-
لاأعرف !
-
ما مصير حياتي ؟
-
لا شيء !

إنه أشبه برجل ضائع في غابة, يقبل على سهل فسيح, فيتسلق شجرة وينظر من أعلاها سهولاً واسعة لا تقف العين علىآخرها, ولا مأوى يلجأ إليه فيها, يرى كل هذا فيدرك أن ليس فيها أحد ينقذه, فيرجعإلى ظلمة الأسئلة. انتهت مرحلة الشعر والفن, ومرحلة التقدم, وبدأت مرحلة الفلسفةللإجابة عن هذه الأسئلة, فأي أجوبة تلك التي تقدر على نسف هذه الأسئلة وطمس معالمهامن قلبه بشكل كامل. إن الفلسفة بكامل علومها لا تستطيع أن تقدم له أجوبه أكثر مماأجاب عليه. لو كان الأمر متعلق بأحد مسائل فروع المعرفة البشرية لوجد إجابة عن : التركيب الكيميائي للمواد, حركة الشمس, الذرات الصغيرة. ولكن الجواب عن تفسير معنىالحياة العام لم يكن إلا هروب من السؤال نفسه :" الوجود أبدي وخالد وغير مدرك, وحياة الإنسان جزء صغير غير مدرك من الوجود الكلي الغير مدرك". بأجوبتها الغارقة فيالتحليل الفلسفي تبرهن أن هذه العلوم لا تقدر أن تجاوب على هذا السؤال الكبير, بلتقضي على كل رجاء في القلب لمعنى يستحق أن يعيش من أجله الإنسان.

بعد أنفشل في كل المراحل: الفن والشعر, التيار التقدمي, الفلسفة, شرع ينشد الإجابة من نفسالمكان, من الحياة نفسها! ولكن كيف بوجود أبناء هذه الطبقة النبيلة البعيدة كلالبعد عن إثارة هذه الأسئلة فقط. إنهم يهربون منها بشعور أو بغير شعور عبر أربعةوسائل حسب تصنيف تولستوي: الوسيلة الأولى الجهل الذي يضرب أسس هذه الطبقة, هم لايرون الوحش الذي ينتظرهم ليفترسهم. وسيلة الهرب الثانية هي التي يلجأ إليهاالشهوانيون وعباد أهوائهم الجامحة, على هذه الصورة يقضي أبناء هذه الطبقة, توضح لهمالجميل وتحجب عن أعينهم القبيح. الوسيلة الثالثة هي القوة والعزم, عدم الوجود خيرمن الوجود, يجب وضع حد لهذه الحياة بالإنتحار:" حبل حول العنق أو ماء يغرقون فيه, أو قطار يقفون في طريقه فيذهب بهم ويريحهم من شقائهم, أن عدد الذين يقدمون على هذاالعمل من أبناء هذه الطبقة يتزايد في كل يوم". والوسيلة الرابعة هي الضعف, الإستسلام لهذه الحياة رغم معرفتهم بأنها عقيمة لا جدوى منها. بمثل هذه الطرق ينقذأبناء الطبقة الراقية ذواتهم من تناقض مزعج في الحياة.

ينقسم الكتاب فينهاية الفصل السابع إلى قسمين, القسم الأول مخصص للبحث عن إجابة لهذا السؤال؟ ما هيالحياة؟ ولماذا أنا موجود؟ . والجزء الثاني مخصص للأمنية الكبيرة: أين الله؟

إن كان تولستوي بطبقته الراقية تعيش هذا الخواء الفكري, فما هو المعنىالذي أعطته الحياة للملايين من الناس, الذي عاشوا ويعيشون في هذا العالم؟ أستطيع أنأقول الآن أن شخصية ليفين كانت تعبر عن تولستوي بكل مهارة واتقان, وكما كتب هو عننفسه في اعترافاته. الصراع النفسي والروحي يشتعل سريعاً ويثور في أوقات مفاجئة عندليفين. من قرأ كلمات الفلاح البسيط في رواية آنا فسيعرف بدون أي قراءة لهذهالاعترافات كيف اهتدى تولستوي إلى معنى الحياة :" إنه يعيش من أجل روحه, ولا ينسىالله" .. بالمقارنة بين طبقة تولستوي وطبقة الفقراء والعمال, وجد هذا الرجل المتعطشلليقين شيئاً يختلف كل الإختلاف. حياة الفقراء والعمال مليئة بالتضحية والألم, الإنتحار معدوم فيما بينهم, عن طريق الألم يعرف تولستوي معنى الحياة. هذه المعرفةالتي لا سلطان للعقل عليها هي الإيمان الذي لم يتقبله تولستوي. كان مشوشاً فيما مضىلأن المعرفة التي يقيمها العقل تنكر الحياة, والمعرفة التي تمنحها الحياة تنكرالعقل, ولكن أكثرية أبناء الإنسان يتمسكون بمعرفة لا أثر للعقل فيها, وهذه المعرفةتثبت لهم أن للحياة معنى سامياً!

في جميع أبحاث تولستوي كان يقابل المحددبالمحدود, وغير المحدود بغير المحدود, ولذلك كانت النتيجة التي لا بد منها كما يحدثفي الرياضيات. يعلن تولستوي أن الأجوبة التي يقدمها الإيمان مهما خالفت أحكام العقلوتمردت على شرائعه فهي تمتاز بأنها تقدم لكل سؤال علاقة بين المحدود وغير المحدود, وبدون هذه العلاقة لا يمكن الحصول على جواب. أصبحت الأجوبة الآن سهلة المنال :

-
كيف أعيش؟
-
تحت شريعة الله
-
هل بعد حياتي شيء حقيقي ثابت؟
-
عذاب أو راحة أبدية
-
هل في حياتي معنى لا يستطيع الموت أن يذهب به ؟
-
نعم, وهو الوحدة مع إله غير محدود في الفردوس.

"
مهما تعددت أنواع الأجوبة التييقدمها الإيمان للإنسان, فإن كل واحد منها يجعل لحياة الإنسان المحدودة معنى غيرمحدود, معنى لا يزول ولا يفنى مهما اجتمعت لمحاربته جيوش الآلام والوحدة والموت. الإيمان الحقيقي الكامل هو معرفة معاني الحياة الإنسانية معرفة تحمل الإنسان علىمحبة الحياة والمحافظة عليها. الرجل الحي يؤمن بشيء, وبغير الإيمان لا يستطيع بشرأن يعيش في هذا العالم, لأن الذي لا يؤمن بأن في الوجود غاية يعيش لأجلها هو ميتبالحقيقة ".

-
من أنا ؟
-
جزء من غير المحدود

تلك هي القضيةبأكملها, ولكن أي إيمان سيتخذه تولستوي لنفسه, إيمان رجال الدين الأرثوذكس؟ أمإيمان الفقراء الذي كان فعالاً في حيرته المجنونة؟ يقول تولستوي في أحد رسائلهالمنشورة:" بعد سنتين من هذه الحياة مع الشعب, حدث في تحول. إن حياة أمثالي منالأغنياء والمتعلمين لم تبعث في نفسي إلا الإشمئزاز, وبدت لي فارغة من المعنى. ظهرتلي جميع أفعالنا ومشاغلنا الفكرية وفنوننا وعلومنا بمظهر جديد. حينذاك استطعت أنأرى الأشياء جميعاً بوضوح".

سأفصل دخوله في حياة الفقراء والإيمان بهم لأنهجزء مهم في مسيرة تولستوي المعيشية والفكرية. تولستوي في كتابه حياة محمد وشيء عنالإسلام يورد بعض الاحاديث في البداية التي تدلل حب الأنبياء للطبقة الفقيرة, وأنأكثر الناس اتباعاً للأنبياء هم الفقراء, يقول النبي محمد عليه السلام : اللهمأحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة{3}. وفي حديث أخر يقول لا تميتوا القلببكثرة الطعام والشراب فإن القلب كالزرع يفسد إذا كثر عليه الماء, وفي حديث أخر : ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء. كان تولستوي معجباً بحكمة النبي محمد عليهالسلام, ومن خلال نظامه المعيشي, ودراسة حياة الفقراء العامة وعقائدهم ترسخ فيأعماق لبه بأن الإيمان الحقيقي كائن في قلوب هؤلاء الفقراء, وأنهم يعتقدون في أعماقنفوسهم أن هذا الإيمان جزء مكمل لحياتهم وبدونه لا يجدون من معنى لوجودهم علىالأرض. إنهم يفرحون بالحياة, راضين بقسمتهم, ثائرين أمام أوجاعهم وأمراضهم, يعيشونويمرضون ويموتون من غير أن تفارقهم الثقة بحكمة الحياة. لأجل كل هذا أحبهم تولستويودنا منهم, فأصبح يتعلم من حياة الفقراء, فآثر اقتفاء خطواتهم والتحلي بأخلاقهم.

"
إنَّ أكثر الأشياء أهمية على هذه الأرض عند كانط هو النظام الأخلاقيالموجود بداخلنا، أو التلقائية الذاتية الأخلاقية the moral autonomy التي تميّزالإنسان و تعطيه قيمته الإنسانية. إنها التلقائية الذاتية التي تجعلُ الفرد يستشعرحريته الكاملة في اختياره الأخلاقي، و رغم ذلك يقوم بالإلتزام بنظامه الأخلاقيالذاتي. إنّ هذا النظام الأخلاقي الداخلي هو أهم شئ في الحياة، و بدونه لا يمكن أنتقوم حضارة أو أي شكل من أشكال التواصل الإنساني" {4}رأى تولستوي بوضوح - كما عبر كانط - أن على الراغب فيإدارك معنى الحياة أن يعيش هو نفسه أولاً حياة بعيدة عن الشر ممتلئة بالمعانيالصالحة, وحينئذ تستنير بصيرته فيرى المعنى الحقيقي لحياته. يجب على الذي يتكلم عنالحياة أن ينظر إليها نظرة عامة, ولا يقصر نظره على حشرات دنيئة عليها. إن فيالوجود إرادة كلية تدير كل ما فيه من الكائنات, وهذه الإرادة الكلية لا عمل لها سوىالعناية بحياتنا وبالوجود الذي نعيش فيه. لكي نرجو إدراك غاية هذه الإرادة يجب قبلكل شيء أن نعمل الواجبات المفروضة علينا, إن لم أقم أنا بقسطي من الواجب في الوجود, فإنني لن أعرف شيئاً عن هذه الإرادة ولا عن الوجود الذي أنا جزء منه!

جميعهذه الاعترافات ورحلة البحث عن معنى الحياة والوجود لم تكن إلا بوابة العبور لتحقيقأمنية تولستوي الكبيرة: الله. ما يدفعه للبحث عن الله ناتج من شعور قلبي, عاطفةقلبية تدفعه للبحث عنه. إذا كنت أنا موجود فلا بد من علة لوجودي, ماهي هذه العلة أوالقوة؟ وما هي العلاقة التي بيني وبين الله؟ لم يجد تولستوي رغم انضمامه للفقراءإلا الجواب البسيط :"هو الخالق بارئ كل الكائنات". عادت إليه الشكوك من الجديد, وشرع يصلي بحرارة للإله, بيد أن افراطه في الصلاة لم يزده إلا ثقة بأن صلواته لميسمعها أحد, ولذلك صرخ من أعماق قلبه واليأس يغمره لعدم مقدرته على الإهتداء إلىالإله الذي يفتش عنه :

"
يارب أرحمني وخلصني .. أيها الرب العظيم .. ياإلهيالعزيز أنقذني " !

مثل هذه الصرخات الحية صورها تولستوي كذلك في رواية آنا, عندما يصرخ ليفين وهو يسمع عذابات زوجته عند الولادة, وهو الملحد الغارق في الشكحتى في وجود الله نفسه يصرخ من أعماق قلبه :

"
يالله أرحمني ".

وهوالذي لم يرفع رأسه منذ سنوات, رفعها من أجل ظهور معجزة هذا الطفل الذي لم يكن قبلساعة في هذا الوجود. كيف ظهر هذا الطفل إلى الوجود؟ معجزة؟ نمو طبيعي في جسمالإنسان؟ حين أقرأ ليفين وهو ينتظر زوجته التي تعاني آلام الولادة يظهر لي تولستويالكهل الكبير وهو يتساءل هذه الأسئلة التي يعرف أجوبتها من الطفولة, حين كان يرضعمن ثدي أمه :

"
أليس هذا دليلاً على أن هناك أماً ولدتني؟ وأعتنت بتربيتيوأطعمتني؟ أين هي تلك الأم؟ أنني لا أستطيع أن أتعامي عن رؤية هذه الحقيقة, وهي أنكائناً أحبني وكان السبب في وجودي؟ هو - بلا شك - الله. هو موجود بالحقيقة وفي كللحظة أعترف بوجوده, أشعر بأن حياتي قد تجددت, وإيماني بما في الوجود قد نهض منرمسه. إلا أنني لا أستطيع الإيمان بالإله المثلث الأقانيم, لقد ذاب كالجليد أمامعيني. ولكن من أين لي بالشعور الذي يعمل في قلبي ويحملني إلى البحث عن الله! هذاالشعور يختلج في أعماقي. أنني لم أعش في ما مضى من عمري إلا عندما كنت أؤمن بالله. كلما آمنت بالله أشعر بالحياة. كلما أعرضت عن هذا الإيمان أشعر بأنني ميت بالحقيقة. ما أنشده هو الكائن الذي لا تستقيم الحياة بدونه! الله هو الحياة. عش لتسعى إلىالله, لأن الحياة لا تكون بدون الله, بمثل هذا آمنت أخيراً من أعماق قلبي, فشعرتبقوة الحياة الحقيقية. ولم يفارقني هذا النور الذي أشرق على حياتي حتى اليوم! رجعتبالفكر إلى الماضي البعيد, إلى أيام شبابي, آمنت بأن واجب الحياة تقوم بسعي الإنسانليصير أفضل مما هو عليه, ويعمل ما هو عدل في شريعة هذه الإرادة الكلية, هذه الإرادةالتي لا تظهر إلا في الصلاح الذي أجمعت عليه الإنسانية. رجعت إلى الإيمان بالله, وبالكمال الأدبي, وبالتقليد الذي يمنح الحياة معناها الحقيقي".

اعترافاتتولستوي, وتحقيق الأمنية لا تنتهي عند هذا الحد. كان هنالك شيء وحيد حول هذهالاعترافات أكسبها شهرة عالمية لم يصل إليها أي كاتب في زمانه. ألا وهي علاقةالمؤمنين بالكنيسة ورجال الدين. عندما عاد إليه الإيمان من جديد شارك تولستويالبسطاء في صلواتهم, ومناولة الأسرار المقدسة, والصيام. لم يخلب عقله في القداسالديني سوى هذه الجملة " لنحب بعضنا بعضاً بعزم واحد" وكل شيء, بما فيها الاعترافبالأب والإبن والروح القدس فأعرض عنها لأنها غير طبيعية. كان الإيمان في بدايته فيحياة تولستوي, مما أجبره على مسايرة الكنيسة وعدم الاعتراض على أي شيء قد يعيد إليهأيام الشك الرهيب.

بعد أن عكف على تعلم العبرية واليونانية، ليتّسق له أنيطلع على المنبع الذي صدرت عنه مختلف ترجمات العهد القديم والعهد الجديد. قارنبعضها ببعض وأشار إلى الغموض الذي يحيط ببعض النصوص الدينية وما نتج عن ذلك منتفسيرات متناقضة وانتهى إلى القول أن المسيح نفسه، ليس بإله، ولا يمكن أن يكون سوىإنسان بريء من السمة الإلهية التي يقرن إليها. وهاجم الطقوس الدينية، واتهمها بأنهاموضوعة مزيفة، ونظر إلى الكنيسة نظرة تحدٍ ومناجزة، فقد رأى كيف تغلّف القشورالكاذبة فكرة الإيمان، وشرع يفوّق سهامه اللاذعة إلى الكنيسة داعياً إلى دين منزهعن التمويه والتضليل.

نتج عن هذه الأراء الحادة التي كانت تؤذي رجالالكنيسة، قرار اللعن والطرد من الكنيسة الصادر من المجمع الكنسي الأرثوذكسي بحقتولستوي. أولى القضايا التي أوجبت انفصاله عن الكنيسة الأرثوذكسية هي علاقة الكنيسةالأرثوذكسية مع بقية الكنائس المسيحية, كالكاثوليكية والبروتستانت. شغف تولستويالعظيم بالإيمان قاده إلى التعرف بأساتذة كثيرين من طوائف متعددة. أراد أن يكونأخاً لهؤلاء الرجال المؤمنين المخلصين في إيمانهم, لكن النتيجة .. النتيجة أتتمخالفة على عكس ما توقع؟

العقائد التي يخيل أنها تعد بوحدة جميع الناس, بإيمان واحد, ومحبة واحدة, بشخوص أفضل وأعظم ممثليها من رجال الدين يعيشون في الكذبوالضلال, مقدرتهم على الحياة حسب تصور تولستوي مستمدة من الشيطان وليس من الله. الإهانة الصادرة من رجل من طائفة " أ " ضد رجل من طائفة " ب " يتهمه فيها بأنه يعيشعلى الكذب هي أعظم إهانة يستطيع الإنسان أن يوجهها إلى أخيه الإنسان. ممثلي الطوائفهؤلاء يفتشون عن خير الوسائل التي تمكنهم من القيام بواجبات بشرية يبيضون فيهاوجوههم أمام الناس, ويحفظون سلطانهم من الإندثار.

النقطة الثانية التيأوجبت تولستوي انفصاله عن الكنيسة الأرثوذكسية, هي العلاقة بين الكنيسة والحرب. كانقتل المسيحي للمسيحي باسم المسيحية هي الجريمة بعينها ويجب أن تدان :" زعماءالكنيسة كانوا يقبلون كل جرائم القتل هذه كأنها نتائج لا بد منها للمحافظة علىالإيمان. نظرت إلى كل ما يجري حوالي من الحوادث الفظيعة التي كان يقوم بها رجاليدعون المسحية فارتعدت من أعماق قلبي".


من أهم ما يقدمه تولستوي فياعترافاته بأن:‏
الحياة الروحية تُعاش لا تلقن.‏
وكسب الحياة يكون بخدمةالناس لا باعتزالهم.‏
وفهم الكتاب المقدس هو بحرية العقل ونقاء القلب لابالترديد.

أقرب وصف فني درامي لهذه الاعترافات هي اللحظات الأخيرة من حياةتولستوي.

"
اطلبوا إلى تولستوي أن يتوب عن أخطائه..تب إلى خالقك ياتولستوي.. قبل أن تمثل أمام المحكمة الربانية." تلك الرسائل والبرقيات لم تظهر إلافي اللحظات الأخيرة من حياة تولستوي, في سكة القطار! قبيل وفاته بدقائق قدم رئيسالقساوسة، ومعه تكليف من القيصر بالدخول إلى الكونت تولستوي ليتلقى اعترافاته فيساعاته الأخيرة. ما إن سمعت صوفيا زوجة تولستوي بذلك حتى تركت مقصورتها متجهةً نحومكتب ناظر المحطة :"لن أسمح لأحد أن يدخل على زوجي ليزوّر عليه فيما بعد ما لميقُل.. اطردوا هذا القسيس من استابوفو".

طلب القس الدخول في غرفة تولستويلتلقي اعترافاته قبل موته، لكن ساشا, ابنة تولستوي, خرجت بكراسة أبيها وهي تصيح فيوجه الجميع: " اللعنة على من يريد أن يرغم أبي على ما لا يريد. إليك أيها المحافظما كتب أبي عن ذلك حين اشتد به المرض, واسمع أنت أيها القس المأجور, اسمعوا ماذاكتب أبي لتريحوا أنفسكم من تلقي اعترافاته, ثم أخذت تقرأ أمام الحشود التي صمتتاحتراماً لكلمات الكاتب الكبير :



"
حين يحوم الموت حول رأسي فلا أريد أن يقتحم لقائي مع ربي أحدٌ من رجالالدين, أريد أن أقترب من خالقي في فيضٍ من نور المحبة, وليس مع ثرثرةكهنوتية."

بعد كل هذا النور والتجلي الكبير من تولستوي, هل وصفدستويفسكي لتولستوي " بالمعلم الكبير " يحمل كل الحقيقة والصدق؟
هو معلم كبيربلا شك!





بعد ظهور الاعترافات أعلن ممثلو نقد علم الجمال, الذين باركواالعبقرية الفنية لكاتب "الحرب والسلم" و "آنا كارينينا" أن تولستوي الأخلاقي قد قتلتولستوي الفنان! وممثلوا الحركة الإجتماعية تحدثوا كذلك عن وجود إزدواجية بينتولستوي المفكر, وتولستوي الفنان! فأي حقيقة تلك التي أوجبت على ممثلي علم نقدالجمال والحركة الإجتماعية أن ينتقدوا تولستوي المفكر وداعية السلام, ويرثونتولستوي الفنان الذي قتل بعد الاعترافات حسب تعبيرهم؟ وما علاقة كل هذا بالفنوالجمال؟

على أرض الواقع تولستوي قبل الاعترافات مختلف كل الإختلاف عنتولستوي بعد الاعترافات - في إطار الأدب بالتحديد-. إذا كان التغيير قد طال الفكرونظام الحياة بشكل كامل, فما يضر الأدب لو تغير معه كذلك وأصبح مرآة لحياة هذاالروسي الكبير. الفن الذي أعلن ممثلوه أن تولستوي قتله يرى بعد الاعترافات أن الفنمبني على أن الإنسان الذي يتلقى بوساطة السمع أو البصر أحاسيس إنسان آخر، بوسعه أنيعاني من تلك الأحاسيس نفسها التي عاناها الإنسان الذي عبر عنها. إنه يعلن أن الفناتجه للواقع وتخلى عن النظرة الرومانسية, وأصبح الفن يقوم بدور التوصيل والنقلوالتعبير، والفن هو نشاط إنساني يكمن في أن يقوم إنسان ما بوعي وبوساطة إشاراتخارجية معروفة، بنقل الأحاسيس التي يعاني منها، إلى الآخرين.

يرى تولستوي فيكتابه "ماهو الفن" أن وظيفة الفن تتلخص في أن يبعث في المتلقي شعوراً يشبه الشعورالذي أحس به المبدع نفسه، ويرى أنّ انتشار العمل الأدبي هو مقياس لأصالته وجودته،أما اقتصار الفن على طبقة الأغنياء فدليل على زيفه وعدم أصالته، فالعمل الأدبيالغير المفهوم يشبه الطعام الشهي الذي لا يتقبله معظم الناس. العمل الأدبي الجيد هوالعمل المفهوم من قبل الفلاح البسيط. ولذلك فهو يستبعد الأعمال الأدبية التي تسدفراغ الطبقات المترفة، والتي لا تخدم الفلاحين. ولا يكتفي تولستوي بذلك، إلى درجةأنه استبعد إحدى روائعه مثل آنا كارينينا لأن الفلاح لا يستطيع قراءة رواية تقع فيثلاثة مجلدات. فلجأ تولستوي إلى كتابة الحكايات الشعبية القصيرة المفهومة من قبلالفلاحين، فهو لا يطلب من الفلاح البسيط الارتقاء إلى مستوى الأدب الرفيع، بل يطلبمن الأديب أن يكتب أعمالاً مفهومة من قبل الفلاحين. وبالتالي, فبرأيه أن الحكاياتالشعبية البسيطة، وأغاني الفلاحين، هي أهم من روائع الأعمال الأدبية.‏

بعدقراءة اعترافات تولستوي بدأت بقراءة هذه المجموعة القصصية لتولستوي, سيروا في النوروثلاثة وعشرون حكاية " Walk in the Light & Twenty-Three Tales ". ينقسم الكتاببين قصص قصيرة, وقصص طويلة, وحكايات للأطفال, وقصص من التراث الشعبي, ومن حكاياتالجآن, وحكايات للسينما, وحكايتين مقتبسة من كتاب فرنسيين.

لا يوجد أجمل بعدأن تكتشف تولستوي المفكر بعد الاعترافات أن تتعرف على تولستوي الأديب عبر هذهالمجموعة المذهلة. تولستوي ينزل من الأعلى, من الطبقة الراقية في أعماله الضخمة إلىالفلاحين والفقراء. إذا كانت الاعترافات هي الخط الفكري لتولستوي, فإن هذا الكتابهو الخط الأدبي لهذه الاعترافات. جميع تساؤلات وحيرة تولستوي المطروحة فيالاعترافات هي نفسها الموجودة في هذه القصص القصيرة المميزة. تولستوي موجود في بعضشخصيات هذه القصص, قصة "اصطياد الدب " ليست إلا مغامرة تعرض لها تولستوي نفسه عام 1858م, ثم بعد أكثر من عشرين سنة أقلع عن الصيد لأسباب إنسانية.

بشكل عام : لن أقول بأن القصص قد راقت لي, أو لم تعجبني بعضها, بل سأقول وأنا على يقين بأن هذهالمجموعة القصصية هي أجمل ما قرأت في فن القصة القصيرة على الإطلاق. الأفكار العامةفي هذه القصص محصوره في الجوانب الأخلاقية والإجتماعية, السعادة العائلية والزوجية, الإيمان بالله, والبحث عن الله, والتحلي بأخلاق المسيح والسير على طريقه. أعتقد بأنبعض القراء سوف يرفض أو يتحفظ على قراءة قصص مليئة بالوعظ الديني لديانة أخرى. أنالم أجد ما هو مختلف في الوعظ القصصي لتولستوي بين الروح الدينية الإسلامية أوالمسيحية. عناوين القصص بسيطة وتعطي تأويل محصور بالفكر الوعظي في قصص تولستوي مثل : سيروا في النور مادام لكم النور, الله يرى الحقيقة ولكن يتأنى, بم يحيا الإنسان, حيث تكن المحبة يكن الله, الشر يغري لكن الخير أبقى .. الخ. وفي مقدمات هذه القصصيقتبس تولستوي بعض الآيات من الإنجيل للتدليل على قضيته, وغالباً ما تكون هذهالآيات تدعو للخير والمحبة . قصة بما يحيا الإنسان مثلاً بدأت بست آيات من الإنجيل :" وأما من كان له معيشة العالم, ونظر أخاه محتاجاً, وأغلق أحشاءه عنه, فكيف تثبتمحبة الله فيه؟ لا نحب بالكلام ولا باللسان, بل بالعمل والحق .. الله محبة, ومنيثبت في المحبة يثبت في المحبة والله فيه .. إن قال أحد إني أحب الله, وأبغض أخاه, فهو كذاب, لأن من لا يحب أخاه الذي أبصره, كيف يقدر أن يحب الله الذي لا يبصره؟ .. الخ

في قصة طريق النور يستخدم تولستوي أسلوب التوازي لإبداء التناقضات،سعادة بمفيليوس, وتعاسة يوليوس. في زمن أحد أباطرة روما الخمسة "تراجان" تجري حكايةهذه القصة في بداية صعود الديانة المسيحية. يوليوس في بداية القصة يطرح تساؤلاتتولستوي في كتاب الاعترافات : من أنا ؟ إنسان يبحث عن السعادة ولم يجدها. يعتزميوليوس الذهاب إلى مكان مخصص للمسيحيين حيث يقيم فيه صديقه العزيز بمفيليوس للبحثعن أسباب السعادة, وفي كل مرة يريد الذهاب إليه يصطدم بأحد المثقفين الرومان, الذييصده عن طريقه ويرده إلى الفكر الروماني والحضارة الرومانية بفنونها وعلومها. السعادة موجودة في هذه الحضارة وليس في مكان أغلب سكانه ينكرون الذات حسب تصور هذاالمثقف! القصة تحمل فكر فني وفلسفي رفيع, من يقرأ أعمال تولستوي الكبيرة السابقةسيجد روح تولستوي الروائية بكثرة, خاصة بالحوارات الفكرية المميزة التي يتميز بهاهذا الروسي.

قصة أخرى من القصص الشعبية أثارت إعجابي, وهي قصة بم يحياالإنسان؟ هذه القصة عميقة جداً. أسلوب طرح القصة - وهذا هو الشيء المثير - بسيطجداً وواضح. القضية في الحكاية رائعة جداً. القصة تدور في منزل سيمون الإسكافي, فيطريق عودته يجد إنسان غريب جداً سيمائيته غريبه. يذهب هذا الغريب إلى منزل سيمونوتدور أحداث هذه القصة في منزل سيمون لست سنوات. هذا الرجل في الأخير لم يكن إلاملاك عصى الله. كانت معصية هذا الملاك أن الله أرسله ليقبض روح أمراة مريضة, بعدماوضعت قبل ساعتين بنتين تؤامين. لم يطع الملاك إرادة الله, فعاد إلى السماء وقدأثاره منظر الأم وهي تجذب أطفاله إليها. حينها يؤمر هذا الملاك بالعودة للأرض لقبضروح هذه المرأة, ولكي يتعلم ثلاثة حقائق عميقة: ماذا يسكن داخل الإنسان؟ وما لميعطه الإنسان ؟ وبما يحيا الإنسان ؟

قصة أخرى مثيرة بفكرتها وبنيتهاالقصصية, وهي قصة إيفان المغفل. إيفان رجل مغفل بكل ما تحمله الكلمة من معنى, طريقسعادته ونور حياته هي الفلاحة وعدم رد أي محتاج, أي محتاج أياً كان! يستطيع بفترةوجيزة أن يحكم مملكة كبيرة تضم أناس من أفكاره وشخصيته. إنه مثال للمسيح الروسي, يسير على خطى المسيح : باركوا لاعنيكم, صلوا لأجل اعدائكم ولأجل مضطهديكم, أحبوا منيبغضونكم, إذا لطمك أحد على خدك الأيمن, فحول له الخد الآخر, فتكون كاملاً, وإذاأجبرك أحد على السير معه ميلاً واحداً فسر معه ميلين. هل يستطيع إيفان أن يتأقلم مععالم فيه من الشر الكثير؟ هذا ما ستجيب عنه القصة المليئة بالإثارة والسخرية, حينيغزو أحد الملوك أرض إيفان, ينتصر إيفان رغم أنه لم يملك أي قطعة سلاح, يعلن عليهالشيطان الحرب وينتصر مرة أخرى بجنود لا يحملون أي قطعة سلاح, في مواجهة الحروب تجدهؤلاء المغفلين ينشدون الأناشيد الشعبية. القصة فيها سخرية حادة وذكية, من قرأرواية الأبلة لدستويفسكي سيجد شخصية إيفان المغفل مشابهه جداً لشخصية الأميرميتشكن, الرجل الطيب, المسيح الروسي حسب تصور دستويفسكي.

{1}مكسيم غوركي - الأعمال الكاملة / دار رادوغا/ المجلدالرابع
{2}ذكرت هذه الإشادة فيمقالة لدستويفسكي بعنوان "آنا كارينينا حقيقة ذات أهمية خاصة", في كتاب عودةالإنسان لدستويفسكي/ إصدار دار علاء الدين.
{3}يورد تولستوي في مقدمة كتابه حياة محمد وشيء عن الإسلامبعض الأحاديث عن النبي, مترجمة للروسية. بعض هذه الأحاديث غريبة وموضوعه, وبعضهاصحيحة. الحديث الأول غريب ولم أجد له تصحيح.
{4}من مقالة للزميل علي بعنوان الجمال و الأخلاق عند كانط .

نسخة عربية غير كاملة لكتاب الاعترافات.
كتاب سيروا في النور وثلاثة وعشرون حكاية
حكم النبى محمد , و شيئ عنالإسلام
للمزيد من مواضيعي

 






رد باقتباس
رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية
الله, البحث, اعترافات, تولستوي, رحلة


الذين يشاهدون هذا الموضوع الآن : 1 ( 0من الأعضاء 1 من الزوار )
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة موضوعات جديدة
لا تستطيع إضافة رد
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

رمز BB تمكين
رمز[IMG]تمكين
رمز HTML تعطيل

الانتقال السريع

الموضوعات المتماثلة
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى ردود آخر مشاركة
أدعوكم لتسافروا معي فهي رحلة مجرد رحلة !!! طائر السنونو قسم الحوار العام 9 24.10.2010 17:53
صور من رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بغير المسلمين نور اليقين الحديث و السيرة 1 16.09.2009 10:34



لوّن صفحتك :