القسم الإسلامي العام يجب تحري الدقة والبعد عن الأحاديث الضعيفة والموضوعة

آخر 20 مشاركات
الرد على شبهة ( بول الإبل ) (الكاتـب : د/ عبد الرحمن - آخر مشاركة : * إسلامي عزّي * - )           »          The Indian Act : وصمة عار على جبين الكنيسة (الكاتـب : * إسلامي عزّي * - )           »          فضح الكنيسة ببلاد العم سام و ممارساتها ! (الكاتـب : * إسلامي عزّي * - )           »          أفئدة تهوي وقلوب تنوي لبيك رحمة وغفرانا شاكرون ولربهم حامدون (الكاتـب : * إسلامي عزّي * - )           »          دليل الحاج و المعتمر (الكاتـب : * إسلامي عزّي * - )           »          ما السرّ وراء إستهداف الأطفال و النّساء ؟؟!! (الكاتـب : * إسلامي عزّي * - )           »          الرد على الزعم أن تقديس المسلمون للكعبة و الحجر الأسود عبادة وثنية (الكاتـب : الشهاب الثاقب - آخر مشاركة : * إسلامي عزّي * - )           »          معجزات كنيسة مغارة الحليب في بيت لحم (الكاتـب : * إسلامي عزّي * - )           »          شبهة حول شهادة الحجر الأسود لمن قبّله أو إستلمه (الكاتـب : * إسلامي عزّي * - )           »          بابا الفاتيكان يبرئ الإسلام من تهمة الإرهاب (الكاتـب : * إسلامي عزّي * - )           »          كاهن مسيحي و شهادة مُنصفة في حق الإسلام العظيم (الكاتـب : * إسلامي عزّي * - )           »          لماذا يعظم المسلمون الكعبة المشرفة ؟ (الكاتـب : * إسلامي عزّي * - )           »          رد شبهات حول الحج - الكعبة - الحجر الأسود (الكاتـب : د/مسلمة - آخر مشاركة : * إسلامي عزّي * - )           »          رد على كهنة المنتديات : العبرة من رمي الجمرات (الكاتـب : * إسلامي عزّي * - )           »          كاتب كندي : أريد أن يحكمنا المسلمون ! (الكاتـب : * إسلامي عزّي * - )           »          هل يشمل العهد الإبراهيمي إسماعيل و نسله ؟؟؟ (الكاتـب : * إسلامي عزّي * - )           »          هل الإسلام يدعو إلى الميز على أساس العرق او اللون ؟؟؟ (الكاتـب : * إسلامي عزّي * - )           »          وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ (الكاتـب : * إسلامي عزّي * - )           »          الشيخ القارئ عبد الله الجهني : تلاوة من سورتي السجدة و الإنسان (الكاتـب : * إسلامي عزّي * - )           »          الشيخ القارئ عبد الله الجهني : تلاوة من سورتي الصف و التكوير (الكاتـب : * إسلامي عزّي * - )

قصه لم يؤلفها بشر

القسم الإسلامي العام


 
 
أدوات الموضوع أنواع عرض الموضوع
   
  رقم المشاركة :1  (رابط المشاركة)
قديم 06.07.2010, 19:33
صور كلمة سواء الرمزية

كلمة سواء

عضوة مميزة

______________

كلمة سواء غير موجود

الملف الشخصي
التسجيـــــل: 04.04.2010
الجــــنـــــس: أنثى
الــديــــانــة: الإسلام
المشاركات: 3.143  [ عرض ]
آخــــر نــشــاط
09.02.2016 (19:34)
تم شكره 33 مرة في 28 مشاركة
افتراضي قصه لم يؤلفها بشر


يؤلفها

قصه لم يؤلفها بشر

للشيخ على طنطاوى


قرأت في هذه السنين التي عشتها من القصص الأدبية ، وقصص المغامرات وما يسمونه : ( القصص البوليسية ) ما لا يحصيه عد ، وعملت فترة من عمري – نحو سنة 1930 م – في الصحافة ناقدا مسرحيا ، أشهد الرواية ، أو أرى الفلم في السينما ، فألخصه وأنقده ، وعندي بقية مما كتبت في ذلك منشورة تملأ كتابا صغيرا .


ولكني لن أعرض في الذكريات لشيء منه بل ألخص وقائع أغرب من القصص ، ما ألفها أديب قصصي ، ولا عمل فيها خيال روائي ، بل ألفتها الحياة ، فجاءت بأحداثها ومصادفاتها ، وبداياتها ، وخواتيمها ، أبلغ مما ألف القصاص من الأدباء ، هذه التي أعرض بعضها في هذه الذكريات ، وما تخيلت أحداثها تخيلا ، ولكن أخذت ما وقع فصغته بقلمي هذه الصياغة التي ترونها . وإنكم لتحسبون من إحكامها وترابط أجزائها ، أنها منقولة عن أهل الخيال من الأدباء ، وأنا أؤكد لمن لم يصدقني منكم بأنها واقعة .


ومن الوقائع ما هو أغرب من الخيال .


ِكنت ذاهبا إلى بيروت من أكثر من أربعين سنة ( نشرت هذه في 27/ 11/ 1986 م في جريدة الشرق الأوسط ) في سيارة صغيرة ، لصديق لي ، فلما جاوزنا شتورا وبدأنا نتسلق الجبل ، مرت بجنبنا سيارة " شيفروليت " من المقياس الواسع ، جديدة مسرعة ، فمشينا وراءها ، وإذا هي تسابق السيارات ، كلما رأت سيارة أسرعت حتى تسبقها ، فيصيح من فيها ويضحكون ويصفقون ، فلما رأينا ذلك تأخرنا عنها ، ولكننا لبثنا نراها ، حتى إذا وصلت إلى المنعطف الكبير ، حيث يمشي الطريق على شفير الوادي ، يشرف على سهل البقاع ، رأيناها تحاول أن تسبق سيارة صهريج كبيرة من التي تنقل البنزين ، ضخمة كلها من الحديد ، وكانت تريد أن تدور ، فلم تنتظر السيارة الصغيرة دورانها ، بل زاحمتها ومرت من جنبها ، فمال الصهريج عليها ، فصدمها ، فلم نرها إلا وهي ساقطة في الوادي ، تتدحرج كأنها كرة قذفتها قدما غلام ، فدهشنا ووقفنا سيارتنا ووقفت السيارات المارة كلها ، ونزلنا نرى فلم نصل إليها إلا بعد ربع ساعة ، فوجدنا أطفالا ثلاثة وبنتا في نحو التاسعة قد أصابتهم خدوش وجروح ولكنهم أحياء ، ووجدنا فتاة شابة إلى جنب السيارة قد أصابها الإغماء ولكن يبدو أنها سليمة ، أما باقي الركاب فقد صاروا عجينة واحدة ، منظر من أفظع المناظر التي يمكن أن تراها العين ، قد اختلط فيها اللحم والعظم ، منظر لم أر مثله إلا مرة أخرى سنة 1970 م في الطريق الدولي في ألمانيا ، عند ( دوسلدورف ) – إذ تمشي السيارات في المسرى الأيسر من الطريق بسرعة تزيد دائما عن المائة والخمسين كيلا ، فإذا وقفت واحدة منها فجأة ، لم تستطع التي وراءها أن تقف فيكون هذا الصدام الهائل – فأسعفنا الأولاد ولم نمس شيئا حتى تصل النجدة التي ذهبت إحدى السيارات لطلبها من المريجات على طرف الوادي ، وسرعان ما حضر المحقق والطبيب والشرطة ، وجعل الناس ينصرفون يتابعون طريقهم ، ووقفت مع المحقق وكنت يومئذ من رجال القضاء ، فاستمعت أول التحقيق وأمسكت بطرف الخيط . فلما رجعت إلى دمشق ، تتبعت بقية القصة واطلعت على الأوراق ، وجمعت الخيوط كلها ، حتى عرفت القصة كاملة ، فقلت : لا إله إلا الله ، ما أعظم عدالتك يا رب ؟ !


ووجدت قصة فيها عبرة من أعظم العبر ، فكتبتها وتركتها بين أوراقي ، حتى جئت اليوم أقلب هذه الأوراق القديمة فوجدتها ، فقلت : أحدثكم حديثها .


كانت بنتا جميلة ، وكان أبوها واسع النعمة ، مبسوط اليد ، فنشًأها على الدلال ، وعلى أن تتمنى فتنال ، وأن تطلب فتعطى .


فلما بلغت السابعة عشرة خطبت ، فاعتل أبوها بصغرها ، فقال أبو الخاطب : ألا ترضى أن أجعلها مني بمثابة ابنتي ، وأن أسكنها معي في داري ، فتكون أبدا في سمعي وبصري ؟


قال : بلى .


وعقد العقد ، ووصاها أبوها حين زفها إلى زوجها ، أن تكون لحميها – أي لوالد زوجها – بنتا ليكون لها أبا ، وأن تمنحه التوقير والطاعة ، ليخلص لها الرعاية والحب ، وأن تجعل حماتها كأمها ، وأن تثق بها ، ولا تكذب عليها ولا تخالف أمرها .


ولم تكن تحتاج إلى هذه الوصاة لأنه كان لها من طبيعتها ، ومن أسلوب نشأتها ، ما يدفعها إلى الصدق والاستقامة ، ويمنعها من الانحراف والكذب .


وعاشت معهم ، وكانوا أربعة في الدار :


الزوج ، وهو شاب رضي الخلق صادق الحب يريد لها الخير والإسعاد ، ولكنه لا يملك مع أبيه في الدكان عطاء ولا منعا ، ولا مع أمه في الدار أمرا ولا نهيا .


وعمة الزوج ، وهي عجوز عانس سعيدة في ظاهرها ، ولكنها شقية في حقيقتها ، فهي لهذا تحسد كل بنت متزوجة سعيدة في زواجها ، وتتمنى زوال نعمتها عنها .


وأم الزوج ، وهي امرأة بخيلة شحيحة العين ، مقبوضة الكف ، ربها الدينار ، ودينها جمع المال ، ودستورها ادخار الدرهم الأبيض لليوم الأسود ، ثم إنها تظن أن الأرض كفت عن الدوران ، وأنه وقف الزمان ، وأن سنة 1920 م بعاداتها وأزيائها يمكن أن تجيء في سنة 1947 م – سنة وقعت هذه الواقعة – فإذا هي لم تجئ معها ، أفرغت غيظها على بنات هذا الجيل الجديد ، وترحمت على جيلها وزمانها .


والرابع أبو الزوج ، وهو رجل شديد الأسر ، سليط اللسان ، ولكنه إذا قابل امرأته كلّ لسانه ، ولان ساعده ، ولم يكن له مع رأيها رأي ، ولا مع سلطانها سلطان .


وعملوا بدستور المرأة وادخروا ، وكثرت في أيديهم الدراهم البيض ، والدنانير الصفر ، والأوراق الملونة المنقوشة ، ودفاتر الصكوك – الشيكات – وأسناد العمارات ، فاحتفظوا بها كلها ، خوفا من اليوم الأسود.


ولم يأت اليوم الأسود ولكنهم جعلوا أيامهم كلها من خوفهم سوداء ، كمن كان عنده الطعام الكثير فخاف أن يأكل فينفد فيجوع بعده ، فجوّع نفسه العمر كله ، خوفا من أن يجوع يوما واحدا .


وكانت في بيت أبيها تجد الطعام أمامها ، من الخبز إلى أفخر الحلوى ، ومن الفاكهة إلى النقل والسكاكر ، وكان أبوها إذا وجد منها ومن إخوتها عزوفا عن الطعام ، جعل لهم على الأكل جُعْلا ، أي مكافأة ليرغبهم فيه .

فلما جاءت بيت زوجها وجدت إقلالا من كل شيء ، إن جاؤوا يوما بعلبة حلوى ، حفظوها في الخزانة ، وأقفلوا عليها كأنما هي علبة جوهر ، وإن هم وضعوها بين أيدي الضيوف وضعوا عيونهم عليها ، وقلوهم معها ، لا يمدون أيديهم إليها ، لعل الضيف تقصر يده عنها .

وكانت قطع اللحم في بيت أبيها أكثر من حبات الفاصوليا مثلا ، فوجدت اللحم عندهم أخفى من نجم السها ، فهو لا يرى إلا بالمجهر الكهربي ( الإلكتروني ) .

وكانت الفاكهة توضع في بيت أبيها على المائدة ، فمن شاء أكل ، فوجدت ظهور الفاكهة هنا أندر من ظهور قرص الشمس في بلاد الإنكليز ، وإن هم شروها ؛ فإنما يشترون منها الرخيص الفاسد الذي لا يؤكل .

فتألمت لذلك ولكنها ما تكلمت ، وكانت قليلة الطعام ، شبعانة العين ، فلم تبال .

وكانت مدللة لا تشتغل ؛ لأن في بيت أبيها خادمتين ، فكلفت هنا خدمت الأسرة كلها ، يكومون لها كومة الصحون الوسخة ، ويدخلون ليسمروا وتبقى هي في المطبخ لتغسلها ، لا يسمحون لها من أن تسخن الماء ، خوفا من كلفة التسخين ، فكانت أصابعها تحمر من الماء البارد في الشتاء القاسي ، فإذا دخلت وجدت المدفأة مطفأة توفيرا للنقود ، وخوفا من اليوم الأسود .

فتشققت يداها ، واسودت أظافرها ، واجتمع عليها من نقص الغذاء وزيادة التعب ، وفقد الاطمئنان والعطف ، فذهبت صحتها وذاب جسمها .

وكان زوجها يحبها ويبتغي الخير لها ، وكان مستقيم السيرة ، متين الدين ، فلم يكن ينظر إلى غيرها ، أو يفكر في سواها ، ولكنه لم يكن يستطيع أن يبدي حبه إياها ، وعطفه عليها لأن هذه العيون الست كانت أبدا مفتحة عليه ناظرة إليه ، مراقبة حركاته وسكناته ، لاسيما عينا عمته العجوز العانس ، الحاسدة الحاقدة ، التي لم تعرف يوما حب الزوج ، وسعادة الزواج ، فهي تريد أن تنتقم لنفسها من المجتمع ، بحرمان هذه الفتاة من الحب والسعادة ، فكانت تلازمها دائما ، لا تفارقها لحظة ، وكانت لها ولزوجها أشد من الرقيب للمحب ، والعزول للعاشق ، وكانت أكبر من أخيها سنا ، وكانت كالمربية للزوج في صغره ، فاتخذت لنفسها حق النصح له في كبره فكانت تنخر أبدا في قلبه نخر السوس ، إن رأته منح زوجته بسمة ، أو رقق لها كلمة ، عاتبته وقالت : أنت يا ولدي صغير لا تعرف النساء ، إن المرأة إن رأت من زوجها ضعفا ركبته ركوبا ، ولم تعد تطع له أمرا . وإن رأته أطال الخلوة بها ، وسوست له وسواس الشيطان ، ووضعت في قلبه جراثيم الكره لها ، كما تضع الجراثيم بذور المرض في جسم الصحيح ، حتى كادت تكرهه بها ، فتبدلت سيرته معها ، فصار يتأخر عن العودة في المساء ، وإن عاد عاد مقطبا ، لا لذنب منها ، بل لما وسوست له شيطانته – أي : عمته – من أن إظهار الشدة للزوجة من حسن السياسة ، ومن فضل العقل . وكانت تنتظره حتى يجيء فلا يشكرها ولكنه يلومها ويستقبح عملها ، وإن هو أطال السهرة ليلة فغلبها النوم جاءته الشيطانة – أي : العمة – فقالت : أرأيت كيف تهملك ولا تبالي بك ؟ ولا تنتظرك كما تنتظر الزوجات رجالهن ؟ فزادت نقمته عليها .


وكانت البنت تحاول أن تشكو إلى أبيها ، أو أن تخبر أمها ، فلا تستطيع أن تنفرد بهما ؛ لأنهم لا يدعونها تذهب إلى أهلها وحدها ، لا تذهب إلا ومعها زوجها أو معها هذه العمة التي تظهر لها – من مكرها – أمام أهلها أشد الحب ، وأكثر الحنو ، وإذا رأوها هزيلة وسألوها ؛ قالت : إنها لا تأكل ..عجزنا عن إقناعها بوجوب الغذاء ، فيصدق أهلها.

وكانت البنت تكتم ألمها في نفسها ، لا تجد من تشكو إليه ، فتنفرد في غرفتها تبكي وحدها حتى تبلل بدموعها وسادتها ، ثم تنام ، وكان معجّل مهرها عشرة آلاف ليرة سورية ومؤجله مثل ذلك ، وكان ذلك مبلغا ضخما جدا ، وكان أبوها لسماحة نفسه ، وكرم يده ، لا يفكر بالمال ، فكتب المهر في صك الزواج ، ولم يطالب به ، ثم زاد فجهز بنته من ماله، جهازا ضخما يليق مثله ببنات الملوك .


ولم يرض أهل الزوج أولا بهذا المهر ، ولكن الوالد أصر فكتبوه مرغمين ، وهم يرسمون الخطط الشيطانية للخلاص منه، إذ كانوا يحاسبون على ( الفرنك ) ويموتون على ( الليرة ) ، أفيدفعون هذا المبلغ كله مهرا للبنت ؟ وسلكوا إلى إزعاجها كل طريق ، من الإعراض عنها وإهمالها ، إن تكلمت لم يصغوا إليها ، وإن سألت لم يجيبوها ، وإن قعدت تستريح شغلوها ، وكلفوها بأعمال الدار كلها ، يقترون عليها بالطعام أو يحدثون لها عند كل أكلة ما يزعجها حتى تقوم عن المائدة ويستعملون جهازها في استقبال ضيوفهم ، ويتخذونه لقعودهم ، ويعملون على إفساده عمدا .

وكان مقصدهم الأول أن يتخلصوا من المهر ، يقدّرون أن إزعاجها يضيق صدرها ، وينفد صبرها فيدفعها إلى طلب المخالعة ، ولكن المسكينة لم تكن تدري ما المخالعة ، ولم تسمع بها ، وكانت تتقبل ما كتب عليها صابرة لا مفزع لها إلا دمعها .


ثم وسوست إليهم الشيطانة ، فبيتوا أمرا ، فبدلوا معاملتها فجأة ، وصاروا يخصونها بالرعاية ، ويلينون لها القول ، ويقومون عنها ببعض أعمال الدار ، ويمدحونها بأنها هي المتعلمة الكاتبة القارئة ، ولم يكن في العادة يطرق بابهم طارق ، لأنهم – لبخلهم – لا يزورون أحدا أبدا ، لئلا يزورهم فيكلفهم ثمن الضيافة ، فصار بابهم يطرق كل يوم ، يطرقه موزعو البريد برسائل مسجلة ، فكانوا يجيئونها بالوصل لتمضيه ؛ لأنها هي الكاتبة القارئة وكل من في الدار أميات ؛ فكانت تسر بذلك وتفرح .

وكانت يوما في المطبخ ويدها في جلي الصحون ، فسمعت قرع الباب ، فجاءت العمة مسرعة ، قالت : خذي الله يرضى عليك إمض هنا ، قالت : ألا ترين يدي في الصابون ، انتظري حتى أغسلها وأقرأ ما في الورق ، فقالت لها : الرجل على الباب ، إمض وبعد ذلك تقرئين ما فيها ، وماذا يكون فيها ؟ إنه إيصال بريد كغيره من الإيصالات .

فمسحت يدها وأخذت الورقة ، وكانت مثنية ما يظهر ما فيها ، فوقعت حيث أشاروا إليها .

وساءت معاملتهم إياها فجأة ، كما حسنت فجأة ، وعادوا أفظع عما كانوا عليه ، وشاركهم زوجها وانقلب معهم عليها ، وكانت حاملا في شهرها الأخير ، فأرادوا أن يتخلصوا من تكاليف الولادة فطردوها ، فذهبت إلى بيت أبيها .


وعجب لما رآها داخلة عليه ، وأسرع يلومها ، ويقول لها : ما هذا العمل ، ومتى كان الحرد من شمائلنا ؟ وأيدته أمها، لأنهما لم يكونا يعرفان شيئا من حال أحمائها ، فانطلقت تبكي بكاء موجعا ، يقطع القلوب ، وتقص عليهما قصتها من خلال دموعها .

وطيب أبوها خاطرها ، وأولاها من قلبه ومن ماله ، ما ضمد جراحها ، وفتحت لها أمها صدرها ، ومشت الوسائط بين الفريقين ، فإذا بيت الأحماء يقلبون لها ظهر المجن ، ويجاهرون بالعداوة ، ويكشفون عن حقيقتهم التي كانوا يخفونها وراء ستار التصنع والنفاق ، فيئس أهل البنت ، وطلبوا أن يطلقها الزوج ويؤدي إليها حقوقها ، ويرد عليها جهازها .


قالوا : هيهات ! حقوقها وصلت إليها لقد قبضت مهرها كله ، معجله ومؤجله وسند القبض بأيدينا ، أما الجهاز فهو لنا نحن اشتريناه .

وكانت قصة الجهاز أن بيت الأحماء من مكرهم قد عرضوا على الأب أن يتولوا هم شراء الجهاز واختياره ، ورضي أبو البنت ، فاشتروه وهو الذي دفع الثمن ولكن كانت ورقة الإيصال بأسمائهم وكانت بأيديهم .

وأما المهر فإن الورقة التي جاؤوا بها إليها لتمضيها ، وزعموا أنها وصل البريد ، كانت سندا بوصول المبلغ إليها ، وكانت قصة رسائل البريد التي ترد كل يوم قصة مصطنعة اتخذوها تمهيدا لما أرادوه وبيتوه .


وأقيمت الدعوى ووكل أبو البنت محاميا قديرا ، ودفع له أجرا وفيرا ، وبذل له المحامي جهده ، وكان القاضي من قضاة العدل . ولكنهم عجزوا عن الإثبات ، فطلبوا تحليف اليمين كذبا وبهتانا ، وخسرت البنت دعواها ، خرجت بلا زوج ولا مهر ولا جهاز ، ما بقي معها إلا ابنتها التي ولدتها .

وجاء المحامي يريد أن يأذنوا له بإقامة الدعوى الجزائية لليمين الكاذبة . فقال الأب : لا أريد ، قال المحامي : لِمَ لا تريد ؟ قال : أما رأيت كيف ضاع حقنا ؟ قال : ما ضاع لتقصير في الدفاع ، ولا لميل من القاضي عن الحق ، بل لأن القضاء البشري إنما يحكم بالبينات الظاهرة ، ولا يستطيع أن ينفذ إلى الحقائق ؛ ولذلك يخطئ القاضي حينا ، ويصيب حينا ، والرسول صلى الله عليه وسلم وهو أعدل قاض في تاريخ البشرية كلها ، قال : " إنكم لتحتكمون إلي ، ولعل أحدكما ألحن بحجته من صاحبه – أي : أقدر على الدفاع – فأقضي له ، فإنما أقضي له بقطعة من النار " .

والقضاة ما عندهم إلا الأوراق والشهود والأيمان ، وقد تزّور الأوراق ، وقد يكذب الشهود ، وقد تفجر اليمين ، والله وحده هو الذي يعرف المحق من المبطل دائما ، قال الأب : ولذلك فإني أقيم الدعوى عليه عند الله .


ومرت الأيام ، وكانت الأم تجد أنسها ببنتها ، جعلتها هي حظها من دنياها ، وقنعت بها ، ووقفت نفسها عليها ، وبلغت البنت التاسعة فجاء الأب يطلبها .

وكان قد تزوج من بعدها ورزق بولدين ، فتجددت للأم المسكينة أحزانها كلها ، وعادت مأساتها التي حسبتها قد طواها النسيان ، وأصبحت تشعر بأن فراق روحها أهون عليها من فراق ابنتها .

لقد جعلت هذه البنت دنياها ، فماذا يبقى لها إن فقدتها ؟ وصارت لا تستطيع فراقها لحظة ، وكلما رأتها ضمتها إليها ، وبكت البنت بين ساعديها وبكى كل من رآهما ، وجاء يوم المحاكمة وصدر الحكم بتسليم البنت إلى أبيها .


أخذ الأب البنت ، وأراد أهله مبالغة في الكيد والانتقام ، أن يخرجوا إلى النزهة ليفرحوا في يوم مأساة الأم ، ويضحكوا في يوم بكائها ، وكانت له سيارة اشتراها على معارضة من أبيه فأخذ أباه وأمه وعمته وزوجته الجديدة وبنته الأولى التي أخذها من أمها وسافر إلى لبنان .

وكان حديثهم طول الطريق عن الزوجة الأولى ( أم البنت ) والسخرية بها ، والبنت المسكينة تسمع ، لا يدركهم خوف الله فيكفوا عن غيبة الغائبة ، وظلم البريئة ، ولا رحمة الإنسان فيرعوا عواطف هذه الطفلة التي انتزعوها من أمها .


وبلغ بهم الكبر والجبروت الغاية ، فكان من فرحه بظفره يسابق السيارات ، فكلما رأى سيارة أمامه أسرع حتى يسبقها ، فرأى ذلك الصهريج ، فقالوا له : قف حتى يمر ، قال : لا ، إني أسبقه إلى المنعطف ، وقد صارت لي خبرة للخلاص من المآزق ، أما تخلصت من تلك المرأة فأخرجتها يدا من الوراء ويدا من الأمام ، بلا مال ولا جهاز ، ثم نزعت منها ابنتها ؟ وقهقه ضاحكا ، وكان قد صار بجنب الصهريج ، ووقعت المأساة...


مال الصهريج كما عرفتم على سيارته ، كما يميل الفيل على شاة صغيرة ، فرمى بها إلى الوادي ، فتحطمت ، أما الركاب ، فإن الزوج والأب والأم والعمة قد صاروا عجينة واحدة اختلط لحمها بعظمها ، والزوجة الجديدة والأولاد الذين لا ذنب لهم خرجوا سالمين ، ما أصابهم كبير أذى لأنهم أبرياء ما اشتركوا في الجريمة ، أما الذين اشتركوا فيها ، وأقام عليهم أبو البنت المظلومة الدعوى في محكمة الله ؛ فكان هذا مصيرهم!!

ومن لم يلق مثله في الدنيا ؛ فليعلم أنه ينتظره عند الله ما هو أشد وأكبر !






انتهت





للمزيد من مواضيعي

 

الموضوع الأصلي : قصه لم يؤلفها بشر     -||-     المصدر : مُنتَدَيَاتُ كَلِمَةٍ سَوَاءِ الدَّعَويِّة     -||-     الكاتب : كلمة سواء







توقيع كلمة سواء


رد باقتباس
 

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية
يؤلفها


الذين يشاهدون هذا الموضوع الآن : 1 ( 0من الأعضاء 1 من الزوار )
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة موضوعات جديدة
لا تستطيع إضافة رد
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

رمز BB تمكين
رمز[IMG]تمكين
رمز HTML تعطيل

الانتقال السريع



لوّن صفحتك :