العقيدة و الفقه قسم يحتوي على المواضيع الفقهية و العقدية لأهل السنة و الجماعة.

آخر 20 مشاركات
خطايا يسوع : كيف تعامل الربّ المزعوم مع أمه ؟؟؟؟!!!! (الكاتـب : * إسلامي عزّي * - )           »          تواضروس و هروب مدوي من سؤال لنصراني (الكاتـب : * إسلامي عزّي * - )           »          معبود الكنيسة وغنائم الحرب (الكاتـب : * إسلامي عزّي * - )           »          سرقات توراتية ! (الكاتـب : * إسلامي عزّي * - )           »          أدعية الوتر : رمضان 1445 هجري (الكاتـب : * إسلامي عزّي * - )           »          Tarawih _ 2024 / 18 (الكاتـب : * إسلامي عزّي * - )           »          Tarawih _ 2024 / 18 (الكاتـب : * إسلامي عزّي * - )           »          Ramadán 2024 _ el mes del corán / 18 (الكاتـب : * إسلامي عزّي * - )           »          Tarawih _ 2024 / 18 (الكاتـب : * إسلامي عزّي * - )           »          تراويح 1445 هجري : ليلة 18 رمضان (الكاتـب : * إسلامي عزّي * - )           »          النصارى و كسر الوصايا (الكاتـب : * إسلامي عزّي * - )           »          القرآن الكريم يعرض لظاهرة عَمَى الفضاء (الكاتـب : * إسلامي عزّي * - )           »          أفلا أكون عبداً شكوراً (الكاتـب : * إسلامي عزّي * - )           »          Ramadán 2024 _ el mes del corán / 17 (الكاتـب : * إسلامي عزّي * - )           »          Tarawih _ 2024 / 17 (الكاتـب : * إسلامي عزّي * - )           »          Tarawih _ 2024 / 17 (الكاتـب : * إسلامي عزّي * - )           »          Tarawih _ 2024 / 17 (الكاتـب : * إسلامي عزّي * - )           »          تراويح 1445 هجري : ليلة 17 رمضان (الكاتـب : * إسلامي عزّي * - )           »          لماذا يُربط زوراً و بهتاناً الإرهاب و التطرف بإسم الإسلام ؟؟!! (الكاتـب : د/ عبد الرحمن - آخر مشاركة : * إسلامي عزّي * - )           »          كتاب ( خلاصة الترجيح في نجاة المسيح ) أخر ما كتبت في نقد عقيدة الصلب والفداء (الكاتـب : ENG MAGDY - )

رسالة الى متصوف

العقيدة و الفقه


أغلق الموضوع
 
أدوات الموضوع أنواع عرض الموضوع
   
  رقم المشاركة :1  (رابط المشاركة)
قديم 19.01.2018, 13:47
صور الشهاب الثاقب الرمزية

الشهاب الثاقب

مشرف عام

______________

الشهاب الثاقب موجود الآن

الملف الشخصي
التسجيـــــل: 14.09.2011
الجــــنـــــس: ذكر
الــديــــانــة: الإسلام
المشاركات: 991  [ عرض ]
آخــــر نــشــاط
28.03.2024 (18:59)
تم شكره 689 مرة في 467 مشاركة
افتراضي رسالة الى متصوف


بسم الله الرحمن الرحيم
و به نستعين





فإن توحيد الألوهيَّة جزءٌ مهمٌّ جدًّا من عقيدة المؤمن؛ إذ هو ثمرة توحيد الربوبيَّة والأسماء والصفات، وبدونه يَفقد توحيد الربوبيَّة والأسماء والصفات معناه، وتَنعدم فائدته.

وإذا كان توحيد الربوبيَّة يدور على المعرفة بالله وربوبيَّته، ونَفْي الشَّريك فيها، كما أنَّ توحيد الأسماء والصفات يدور على إثبات أسماء الله تعالى وصفاته، ونَفْي الشريك في الأسماء، وعدم التمثيل والتعطيل في الصفات، فإن توحيد الألوهيَّة يقوم على إفراد الله بالعبادة، المُستلزِم لعبادة الله تعالى بكلِّ ما شرَع أن يُعبَد به من أعمال القلوب والجوارح، وألاَّ يُشرَك معه غيرُه في شيءٍ منها، مع عدم الاعتراف بعبادة غيره - عزَّ وجلَّ.

وتوحيد الألوهيَّة أيضًا هو تعلُّق القلب بالربِّ تعالى؛ خوفًا ورجاءً، ورَهبةً وطمعًا، كما أنه إسلام الوجه لله تعالى، ووَقْف الحياة كلِّها عليه، فلا شيء للعبد هو لغير الله؛ بدليل قوله تعالى من سورة الأنعام: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأنعام: 162 - 163].

بهذا أُمِر النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن يقولَ ويُجاهر به، وبمثله أُمِر إبراهيم - عليه السلام - إذ قال: ﴿ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الأنعام: 78 - 79].

إن لهذا التوحيد - توحيد الإلهيَّة - شأنًا وخطرًا، ويُنبئ عن ذلك أنَّ كافة الرُّسل الذين بعَث الله تعالى بهم إلى الأُمم والشعوب، كان كلُّ واحدٍ منهم يبدَأ دعوته حينما يَبدؤها بقوله: ﴿ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾ [الأعراف: 59].

وتوحيد الألوهيَّة كذلك هو مضمون كلمة: "لا إله إلا الله"، التي جاءَ بها خاتمُ النبيِّين والمُرسلين محمدٌ - صلى الله عليهم وسلم أجمعين - ودعا إليها قولاً واعتقادًا، ولَم يُطالِب بغيرها طيلة عشرٍ من السنين، ومن أجْلها عُودِي وأُوذِي وحُورِب، كما عُودِي وأُوذي وحُورِب كلُّ مَن دعا إليها من جميع الرُّسل وأتْباعهم؛ وذلك لأنَّ قولها واعتقادَها يَستلزم الكفر الكامل بكل ما عبَد الناسُ من آلهةٍ دون الله - سبحانه - تلك الآلهة التي عرَفوها بعد فَقْدهم لهداية الله تعالى بموت الأنبياء، وانقراض أهل العلم العارفين بالله وشرائعه، يُضاف إلى ذلك أنَّ كلمة التوحيد "لا إله إلا الله" تَقضي - بل وتُوجب - المساواة بين الناس في الحقوق والواجبات، فلم يَبقَ بين الناس مَن يتميَّز عنهم ميزة يَستعلي بها، فيترفَّع ويتكبَّر، أو يَستعبد الناس، أو يَحكمهم بغير شرع ربِّهم - تبارَك وتعالى - كما جاء مضمون ذلك في كتاب رسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى هرقل ملكِ الروم، ونصُّه بعد البسملة والدِّيباجة: ((يا أهل الكتاب، تعالَوا إلى كلمةٍ سواء بيننا وبينكم، ألاَّ نَعبد إلاَّ الله، ولا نُشرك به شيئًا، ولا يتَّخذ بعضُنا بعضًا أربابًا من دون الله))؛ كما أخرَجه الإمام البخاري - رحمه الله.

ومن هنا، كانت الخصومات تَبلغ أشُدَّها بين الرُّسل وأُممهم؛ لِما تدلُّ عليه عبادة الله تعالى وحْده من الكفر بكلِّ معبودٍ سواه، وتَرْك عبادته والبَراءة منه؛ قال تعالى من سورة المجادلة: ﴿ لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ﴾ [المجادلة: 22].

كما أخبَر الله تعالى عن خليله إبراهيم والمؤمنين معه، وهو يدعونا إلى الاقتداءِ بهم في الوقوف ضد الشِّرك والمُشركين؛ حيث يقول تعالى: ﴿ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ﴾ [الممتحنة: 4].

إنَّ مدلول كلمة "لا إله إلا الله" الإيمان بالله وحْده، بأن يُعبد ولا يُشرَك به شيء من خَلقه، والكفر بكلِّ طاغوت صارفٍ عن عبادة الله وطاعته، وطاعة رسوله؛ كما قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾ [النحل: 36].

والطاغوت: هو كلُّ مَن عُبِد من دون الله، أو صَرَف عن عبادته؛ من معبودٍ رَضِي لنفسه أن يُعبد مع الله، أو مَتبوعٍ، أو مُطاعٍ في غير طاعة الله تعالى وطاعة رسوله.


أولاً: معنى توحيد الألوهيَّة:
التوحيد في اللغة: مُشتق من وحَّد الشيء: إذا جعَله واحدًا، أو اعْتَقَده واحدًا، ونفَى عنه التعدُّد، فهو مصدر وحَّد يُوحِّد؛ أي: إفراد الشيء، أو اعتقاده واحدًا فردًا.

ولا يتمُّ هذا التوحيد إلاَّ برُكنين: الإثبات والنَّفي؛ إذ النَّفي المَحض تعطيلٌ مَحض، والإثبات المَحض لا يَمنع المشاركة، فلو قِيل: زيدٌ قائم، فهو إثباتُ القيام لزيد، ولكن لا يدلُّ على انفراده به، ولو قيل: لَم يَقُم أحدٌ، فهذا نَفْي مَحض، أمَّا لو قيل: لَم يَقُم إلاَّ زيدٌ، فهذا توحيدٌ له بالقيام؛ لأنه اشتمَل على إثباتٍ ونفي.

والألوهيَّة: نِسبة إلى الإله بمعنى المَأْلوه؛ أي: المعبود، ولكن هل فِعال تأتي بمعنى مفعول؟! أقول: نعم؛ مثل: فِراش بمعنى مَفروش، وبِناء بمعنى مَبنيّ،وكتاب بمعنى مكتوب، وغير ذلك كثير.

وأمَّا توحيد الألوهيَّة، فقد اختَلَفت عبارات القوم في تحديد هذا النوع من أنواع التوحيد، ولا يَخفى ما بين عباراتهم من تقارُبٍ في المعنى، وإن بَدَت مختلفةً في بنائها اللفظي، غير أنه لَمَّا كان المُستحبُّ في الحدودِ أوْجزَها وأخْصرَها لفظًا، مع انضباط دَلالته على المُعرَّف، وكَشْفه التام عن ماهيَّته - كان التعريف المختار عندي أنَّ توحيد الألوهيَّة: هو اعتقاد انفراد الله تعالى بالعبادة، فإنَّ كلَّ التعريفات تَدور حول معنًى واحدٍ، وفي فلك واحدٍ، هو إفراد الله تعالى بالعبادة، ألاَّ تكون عبدًا لغير الله - عزَّ وجلَّ - لا تَعبد مَلَكًا، ولا نبيًّا، ولا وَلِيًّا، ولا شيخًا، ولا أبًا، ولا أُمًّا، ولا أعرافًا، أو تقاليدَ، أو أمثالاً شعبيَّةً، لا تَعبد إلاَّ الله تعالى وَحْده، فتُفرده - سبحانه - وحْده بالتعبُّد والتألُّه.

فالمقصود إذًا بتوحيد الألوهيَّة: الاعتقاد الجازم بأنَّ الله - جلَّ وعلا - هو وحْده المُستحق للعبادة، واعتقاد انفراده بجميع أنواع العبادات الظاهرة والباطنة، والبراءة من كلِّ معبود دونه، فلا يُعبد إلاَّ الله، ولا يُتَوَكَّل إلاَّ عليه، ولا يُتَحاكَم إلاَّ إليه، ولا يُتَلَقَّى الهُدى إلاَّ منه، ولا يُتوَجَّه بالعمل إلاَّ إليه، وأن يكون الله وحْده أحبَّ إلى العبد من كلِّ ما سواه، وأخوفَ عنده من كلِّ ما سواه، وأرْجى له من كلِّ ما سواه، فيَعبده بمعاني الحب والخوف والرجاء، بما يحبُّه هو ويَرضاه، وهو ما شرَعه على لسان رسوله، لا بما يريده العبد ويَهواه، وتلخيص ذلك في كلمتين: إيَّاك أُريد بما تُريد؛ فالأُولى: توحيد وإخلاص، والثانية: اتِّباع للسُّنة وتحكيمٌ للأمر.

وتوحيد الألوهيَّة مَبنيٌّ على إخلاص العمل كلِّه لله، والتوجُّه به إليه - سبحانه - دون غيره؛ سواء كان هذا العمل من أعمال القلوب، أو من أعمال الجوارح؛ مما يَستلزم التعلُّق بالربِّ تعالى؛ خوفًا ورجاءً، ورَهبة وطمعًا، وإسلام الوجه له، ووَقْف الحياة كلِّها - والمخلوق بأكمله - ابتغاءَ مَرضاة الله؛ ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 162].

والقلوب فُطِرت على حبِّ الله تعالى، وتحتاج إلى التعبُّد إليه كما تحتاج إلى الطعام والشراب؛ أي: إنها تحتاج إلى الله تعالى إلَهًا، كما تَحتاج إليه ربًّا، تحتاج إلى أن تتوجَّه بالركوع والسجود والخوف والرجاء لله - تبارَك وتعالى - فلو وُجِّهت القلوبُ إلى حبِّ غير الله، تَشقى أعظمَ شقاءٍ في الدنيا والآخرة.

قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأنعام: 162- 163].

فالإنسان يعيش لله، ويموت لله، ليس لغيره، وليس للوطن، ليس لقطعة أرضٍ هي في الأصل مَربوبة لله تعالى، ولكن تكون حياتك ومَماتك لله وحْده، أمَّا ما قاله النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن حبِّه مَكَّةَ، فذلك أنها أحبُّ البلاد إلى الله تعالى؛ ولذلك فيَجب على المسلمين أن يحبُّوا مكَّةَ أكثرَ من بلادهم، وهذه فِطرة في المسلمين جميعًا.

وإذًا فمعنى توحيد الألوهيَّة: إفراد الله تعالى بالعبادة، وهى مبنيَّة على أمرين عظيمَيْن؛ هما: المحبَّة والتعظيم، الناتج عنهما ﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا ﴾ [الأنبياء: 90].

فبالمحبَّة تكون الرغبة، وبالتعظيم تكون الرَّهبة والخوف؛ ولهذا كانت العبادة أوامرَ ونواهيَ، أوامرَ مبنيَّة على الرغبة والوصول إلى الآمر، ونواهيَ مبنيَّة على التعظيم والرَّهبة من هذا العظيم، فإذا أحْبَبتَ الله - عزَّ وجلَّ - رَغِبتَ فيما عنده، ورَغِبتَ في الوصول إليه، وطَلَبتَ الطريق المُوصِّل إليه، وقُمتَ بطاعته على الوجه الأكمل، وإذا عظَّمته خِفْتَ منه، فكلَّما هَمَمْتَ بمعصية، اسْتَشْعَرتَ عَظَمَة الخالق - جلَّ وعلا - فنَفَرتَ، وهذه من نعمة الله تعالى عليك، إذا هَمَمت بمعصية، وجَدت الله تعالى أمامَك، فهِبْتَ وخِفْتَ وتباعَدْتَ عن المعصية؛ لأنَّك تَعبد الله خوفًا وطمعًا، رَغبة ورَهبة، فما معنى العبادة؟

تَبَيَّنَ لنا - من الكلام السابق عن توحيد الألوهيَّة - أنَّ المكلَّف لا يُحَقِّقه على وجهه الصحيح إلاَّ إذا أفرَد الله تعالى بالعبادات كلِّها، وتوجَّه بها إلى الله وحْده دون ما سواه؛ مما يَستلزم منَّا أن نتعرَّف على مفهوم العبادة وأنواعها وأركانها، وشروط صحَّتها، فأقول:
يُؤخَذ مما ورَد في المعاجم اللغويَّة، أنَّ كلمة العبادة تَعني: الخضوع والتذلُّل، والطاعة والانقياد للغير، انقيادًا سَلِسًا، لا عصيان فيه، ولا مقاومةَ معه، فيقال: بعيرٌ مُعَبَّد؛ أي: مُنقاد سَلِسٌ، وطريق مُعَبَّد إذا كان مُذلَّلاً قد وَطِئَتْه الأقدام، وفي المعجم الوسيط مثلاً: العبادة: الخضوع للإله على وجْه التعظيم والشعائر الدينيَّة.

والعبادة تَجمع أصلَيْن، وهما: غاية الحبِّ، وغاية الذلِّ والخضوع، والتعبُّد: هو التذلُّل والخضوع، فمَن أحْبَبْتَه ولَم تكن خاضعًا له، لَم تكن عابدًا له، ومَن خَضَعتَ له بلا محبَّةٍ، لَم تكن عابدًا له؛ حتى تكونَ مُحِبًّا خاضعًا.

ولشيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله تعالى - نَظرةٌ عميقة لمفهوم العبادة، حلَّلَ فيها المعاني التي يَشتمل عليها هذا المفهوم، مُبْرِزًا إلى جوار المعنى الأصلي في اللغة - وهو غاية الطاعة والخضوع - عنصرًا جديدًا له أهميَّة كبرى في الإسلام، ولا تتحقَّق العبادة إلاَّ به، وهو عنصر الحبِّ، ومِن ثمَّ فالعبادة تتضمَّن غاية الذُّلِّ لله، بغاية المحبَّة له، فمَن خضَع لإنسانٍ مع بُغضه له، لا يكون عابدًا له، ولو أحبَّ شيئًا ولَم يَخضع له، لَم يكن عابدًا له، كما قد يحبُّ ولدَه وصديقه؛ ولهذا لا يَكفي أحدُهما في عبادة الله تعالى، بل يجب أن يكون اللهُ أحبَّ إلى العبد من كلِّ شيءٍ، وأن يكون الله أعظمَ عنده من كلِّ شيءٍ، بل لا يستحقُّ المحبَّةَ والذُّل التامَّ إلاَّ اللهُ تعالى، وكلُّ ما أُحِبَّ لغير الله، فمحبَّته فاسدة، وما عُظِّمَ بغير أمر الله، كان تعظيمه باطلاً.

أمَّا مفهوم العبادة اصطلاحًا، فتُطْلَق على أمرين، وهما: الفعل والمفعول، فتُطلَق على الفعل الذي هو التعبُّد، فيقال: عبَد الرجل ربَّه عبادةً وتَعبُّدًا، وإطلاقها على التعبُّد من باب إطلاق اسم المصدر على المصدر، ويُقصَد بها حينئذٍ التذلُّلُ لله - عزَّ وجلَّ - حبًّا وتعظيمًا، بفِعل أوامره واجتناب نواهيه، وكلُّ مَن ذلَّ لله تعالى، عزَّ به - سبحانه - ﴿ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [المنافقون: 8]، أو هي: غاية الحبِّ وغاية الذُّلِّ.

كذلك تُطْلَق العبادة على المفعول؛ أي: المُتعَبَّد به، ومن أجمَع تعريفاتها بهذا الإطلاق، أنها: اسم جامعٌ لكلِّ ما يحبُّه الله ويَرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، فالصلاة والزكاة، والصيام والحج، وصِدق الحديث، وأداء الأمانة، وبرُّ الوالدين، وصِلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد للكفَّار والمُنافقين، والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين، وابن السبيل والمَملوك من الآدَميِّين والبهائم، والدعاء والذِّكر والقراءة، وأمثال ذلك من العبادة، وكذلك حبُّ الله ورسوله، وخشية الله، والإنابة إليه، وإخلاصُ الدِّين له، والصبر لحُكمه، والشكر لنِعَمه، والرِّضا بقَضائه، والتوكُّل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف من عذابه، وأمثال ذلك - هذا الشيء الذي تعبَّدنا الله تعالى به، يجب توحيدُه به، لا يُصرف لغيره، وهذا هو توحيد الألوهيَّة الذي هو الفارق بين المُوحِّدين والكافرين أو المُشركين، وعليه يقع الجزاء والثواب في الأُولى والآخرة، فمَن لَم يأتِ به، كان من المُشركين.

شروط قَبول العبادة وأركانها:
لا تكون العبادة صحيحة مقبولة، ومُحَقِّقة للمقصد منها، إلاَّ بثلاثة شروط: الإيمان، والإخلاص، والاتِّباع.

فأوَّلها: الإيمان بالله وملائكته، وكُتبه ورُسله، واليوم الآخر، والقدر خيرِه وشرِّه؛ قال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ﴾ [الإسراء: 19].

والثاني: الإخلاص؛ أي: أن تكون العبادة خالصةً لوجه الله تعالى دون رياءٍ ولا سُمعة، ولا يُقصد مِن فِعْلها إلاَّ التقرُّب إلى الله، وابتغاء مَرضاته؛ كما قال - سبحانه -: ﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 110].
وفي الصحيحين عنه - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّما الأعمال بالنيَّات، وإنما لكلِّ امرئ ما نوى)).

والثالث: الاتِّباع؛ أي: أن تفعلَ العبادة على منهج النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - دون زيادة أو نُقصان، فلا يُعبَد الله إلاَّ بما شرَع، ووَفْقًا لِما جاء به الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - الذي قال كما في الصحيحين: ((مَن أحدَث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو رَدٌّ))، وفي رواية: ((مَن عَمِل عملاً ليس عليه أمرُنا، فهو رَدٌّ)).

وكلُّ عبادة لَم يُحقِّق صاحبُها الشروطَ المذكورةَ، فهي مردودة عليه؛ لأنَّ جِماع الدين والإيمان أصلان: ألاَّ نَعبد إلاَّ الله، ولا نعبده إلاَّ بما شرَع، لا نعبده بالبِدَع؛ كما قال تعالى: ﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 110]. وذلك تحقيق الشهادتين: شهادة أنْ لا إله إلا الله، وشهادة أنَّ محمدًا رسول الله؛ ففي الأولى: ألاَّ نعبد إلاَّ الله، وفي الثانية: أنَّ محمدًا هو رسوله المُبلِّغ عنه، فعلينا أن نُصَدِّق خبرَه، ونُطيع أمره، وقد بيَّن لنا ما نَعبد الله به، ونهانا عن مُحدثات الأمور، وأخبَرنا أنها ضلالة.

أمَّا أركان العبادة التي تقوم عليها، فهي ثلاثة: المحبَّة، والخوف، والرجاء، والعبادة الحَقَّة هي التي يتقلَّب صاحبها بين حبِّ الله، والخوف منه، ورجائه والطَّمع في رحمته، والعابد دون حبٍّ وخوفٍ ورجاءٍ، إنما يؤدِّي حركات جوفاءَ لا معنى لها، والخوف دون رجاءٍ رُبَّما أدَّى إلى اليأس، والرجاء دون خوفٍ رُبَّما أدَّى إلى الجُرأة على المعاصي والأمْن من مَكر الله تعالى.

فلا بدَّ للعبد أن يَجمع بين تلك الأركان الثلاثة كلِّها، فيَعبد الله حبًّا، ويَقرن إلى ذلك الخوف والرجاء؛ كما قال - سبحانه -: ﴿ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ ﴾ [الإسراء: 57].

والسبب في ضرورة الجَمْع بين الحب والخوف والرجاء معًا، هو أنَّ القلب في سَيْره إلى الله تعالى بمنزلة الطائر؛ فالمحبَّة رأسه، والخوف والرجاء جَناحاه، فمتى سَلِم الرأس والجناحان، فالطَّير جيِّدُ الطيران، ومتى قُطِع الرأس، مات الطائر، ومتى فُقِد الجناحان، فهو عُرضة لكلِّ صائد وكاسرٍ، ولكنَّ السَّلف - رَحِمهم الله - اسْتَحَبُّوا أن يُقوَّى في الصحة جَناحُ الخوف على جناح الرجاء، وعند الخروج من الدنيا يُقَوَّى جناحُ الرجاء على جَناح الخوف، وبعضهم قال: يَنبغي للقلب أن يكونَ الغالب عليه الخوفَ، فإن غلَب عليه الرجاء، فَسَد، وبعضهم قال: أكملُ الأحوال اعتدالُ الرجاء والخوف، وغلبةُ المحبَّة، فالمحبَّة هي المركب، والرجاء حادٍ، والخوف سائقٌ، والله المُوصل بمَنِّه وكَرمه.

وعلى كلِّ حالٍ، فتوحيد الألوهيَّة يَعني: توجُّه العبد بكلِّ عباداته وأفعاله الظاهرة والباطنة لله وحْده، والكفر بكلِّ ما يعبد من دونه من الطواغيت؛ أي: بُغضه وكُرهه مع اعتقاد بُطلان عبادته، وهذا هو معنى كلمة النجاة "لا إله إلا الله"، ولعلي أُفرد لها بحثًا مُستقلاًّ فيما بعدُ - إن شاء الله تعالى.

ثانيًا: الأسماء التي أُطْلقت على هذا النوع من التوحيد:
هناك عددٌ من الأسماء التي أُطْلِقت على هذا النوع من التوحيد؛ منها: تسميته بتوحيد الغاية، وأيضًا توحيد الألوهيَّة، ورُبَّما يُطْلَق عليه توحيد العبادة، وتوحيد القصْد والطَّلب، وتوحيد الشرع والقَدر، وتوحيد الإرادة.

فأمَّا تسميته بتوحيد الغاية وتوحيد العبادة؛ فلقوله تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56].

فعبادة الله وحْده لا شريك له، هي الغاية التي خُلِق الناس من أجْلها، وهى أوَّل الدِّين وآخره، وظاهره وباطنه، وقد بيَّنت الآية العلَّة في خَلْق العباد بلام التعليل في قوله: ﴿ لِيَعْبُدُونِ ﴾؛ قال شيخ الإسلام: "هذه اللام ليستْ هي اللام التي يُسَمِّيها النحاة لامَ العاقبة والصيرورة، بل هي اللام المعروفة، وهي لام كي ولام التعليل، التي إذا حُذِفت انتصَب المصدر المجرور بها على المفعول له، وتسمَّى العلَّة الغائيَّة، وهى متقدِّمة في العلم، والإرادة متأخِّرة في الوجود والحصول، وهذه العِلَّة هي المراد المطلوب المقصود من الفعل، فمقتضى اللام في قوله: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ الإرادة الدينيَّة الشرعيَّة، وهذه قد يقعُ مرادُها وقد لا يقعُ، فهو العمل الذي خُلِق العباد له".

فباعتبار إضافته إلى العابد يُسمَّى توحيد العبادة، ويُسمَّى أيضًا توحيد الألوهيَّة أو الإلهيَّة، وكلاهما صحيح؛ لأنه معنى قول العبد: "لا إله إلا الله"؛ إذ الإله هو: الْمَأْلُوه المعبود بجميع أنواع العبادة.

قال شيخ الإسلام: "توحيد العبادة: هو تحقيق شهادة أنْ لا إله إلا الله، أن يَقصد الله بالعبادة ويُريده بذلك دون ما سواه، وهذا هو الإسلام؛ فإن الإسلام يتضمَّن أصلَيْن؛ أحدهما: الاستسلام لله، والثاني: أن يكون ذلك له سالِمًا، فلا يشركه أحدٌ في الإسلام له".

فباعتبار إضافته إلى الله تعالى يُسَمَّى توحيد الألوهيَّة؛ لأنه مبنيٌّ على إخلاص التألُّه - وهو أشدُّ المحبَّة - لله.

ويسمَّى توحيد القَصْد والطلب؛ لأنه يتعلَّق بنيَّة المسلم ومَطلبه في الحياة، وإنما سُمِّي بتوحيد الإرادة؛ لأنه مبنيٌّ على إرادة وجْه الله بالأعمال، وإخلاص القصْد المُستلزم إخلاصَ العبادة لله وحْده، وسُمِّي بتوحيد العمل؛ لأنه مبنيٌّ على إخلاص العمل لله وحْده؛ كما قال تعالى: ﴿ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ﴾ [الزمر: 2].

وفي الصحيح: ((إنَّما الأعمال بالنيَّات..))، ومِن ثمَّ فإن توحيد القصْد والطلب، يتعلَّق بالمطالب العالية والأوامر التكليفيَّة الشريفة، فأعلى الغايات هي الوصول إلى رضا الله تعالى والقُرب منه، وأقرب الطُّرق والوسائل إليه طريقةُ الهدى وتوحيد الطريق، فلا يُعدَل عنها إلى غيرها، وتوحيد المطلوب، وهو الحق - سبحانه - فلا يُعْدَل عنه إلى غيره.

والهداية التامَّة تتضمَّن توحيد المطلوب، وتوحيدَ الطلب، وتوحيدَ الطريق المُوصِّلة، والانقطاعُ وتخلُّف الوصول إلى المطلوب، يقعُ من الشركة في هذه الأمور أو في بعضها، فالشركة في المطلوب تُنافي التوحيد والإخلاص، والشركة في الطلب تُنافي الصدق والعزيمة، والشركة في الطريق تُنافي اتِّباع الأمر، فالأوَّل يُوقِع في الشِّرك والرِّياء، والثاني يوقِع في المعصية والبطالة، والثالث يُوقِع في البدعة ومُفارقة السُّنة، فتأمَّلْه تَجِدْ أنَّ توحيد المطلوب يَعْصم من الشِّرك، وتوحيد الطلب يَعصم من المعصية، وتوحيد الطريق يَعصم من البدعة، والشيطان إنما يَنصب فخَّه بهذه الطرق الثلاثة.

فالعبادة تتضمَّن الطلب والقصد، والإرادة والمحبَّة، وهذا لا يتعلَّق بمعدومٍ، فإنَّ القلب يَطلب موجودًا، فإذا لَم يَطلب ما فوق العالَم، طلَب ما هو فيه.

وهذا النوع من التوحيد يُسَمَّى أيضًا: توحيد الإرادة، فالإرادة في الأصْل مِن رادَ يَرود، إذا سَعى في طلب الشيء، وهى قوَّة مُركَّبة في قلب الإنسان، جُعِلت اسمًا لشروع النفس إلى الشيء، مع الحُكم فيه بأنه يَنبغي أن يُفعَل أو لا يُفعَل، والإرادة قريبة من القصْد والنيَّة، والعزم على الفعل، وكلُّها من أعمال القلوب ومَنطقة الكسْب؛ ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ﴾ [الإسراء: 18 - 19].

وقد سُمِّي هذا التوحيد توحيدَ الإرادة؛ لتوافُق الإرادات، فالعبد إذا حقَّقه توافَقَت إرادتُه مع الإرادة الشرعيَّة الدينيَّة، والإرادة الكونيَّة القدريَّة، فالمؤمن الذي كَمُل إيمانُه، تتوافَق فيه الإرادات، والكافر تتخلَّف فيه إرادة الله الشرعيَّة فقط، وهي إرادة بمعنى الأمر الشرعي الموجَّه إلى المُكلَّفين، وتلك الإرادة قد تتخلَّف، وقد يَعصيها الإنسان، أمَّا الإرادة الكونيَّة القدريَّة، فهي بمعنى الحُكم المُنتهِي، والقضاء المُبرَم، والتقدير الواقع بأنْ يُفْعَل أو لا يُفْعَل، فمتى قيل: أرادَ الله كذا على المعنى الكوني، فمعناه: قضاه وقَدره، وحَكَم فيه أنه واقعٌ، فهي بمعنى المشيئة.

وكما سُمِّي هذا النوع بتوحيد الإرادة، فإنه يُسَمَّى كذلك توحيد الشرع والقدر؛ لأنَّ عقيدة السلف وسطٌ بين الجبريَّة والقدريَّة، فالمسلم يجب أن يُسلِّمَ لله في تدبيره الشرعي والكوني معًا، فيَعمل بشرعه ويُؤمن بقَدره، لا انفكاكَ لأحدهما عن الآخر، ومعنى ذلك أنَّ المسلم إذا وفَّقه الله إلى الطاعة والاجتهاد في أحكام العبوديَّة، وأدَّى توحيد الألوهيَّة، نَسَب الفضل في طاعته إلى ربِّه، وأنَّها كانتْ بمعونته وتوفيقه؛ لِمَا سبَق في حُكمه وقضائه وقَدره، ولا يَنسب الفضل إلى نفسه، أو يَمُنَّ به على ربِّه؛ ﴿ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [الحجرات: 17].

كما أنْ المُوحِّدَ إذا أحدَث ذنبًا ومعصية، عَلِم أنَّ أفعاله وإن كانتْ بمشيئة الله وحُكمه، وقضائه وقدره، إلاَّ أنَّ النسبةَ في العصيانِ مَردُّها إلى الإنسان، أو وَسواس الشيطان، فيَدعوه ذلك إلى التوبة وطلَبِ الغُفران، ويُقِرُّ لربِّه بذنبه، وأنَّ معصيته بسبب تقصيره وخطئه، وأنه مُستحق للعقاب بحُكمه وعدله، وأنَّ ربَّه مُنَزَّه عن ظُلم أحدٍ من العالمين، فإن أدخَل عبدًا الجنة، فبفَضله ورحمته، وإن عذَّبه، فبِعَدله وحِكمته.

قال ابن القيِّم: "وها هنا أمرٌ يجب التنبيه عليه، وهو أنَّ الجنة إنما تُدخَل برحمة الله، وليس عملُ العبد مستقلاًّ بدخولها، وإن كان سببًا؛ ولهذا أثبَت الله دخولها بالأعمال في قوله تعالى: ﴿ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [الزخرف: 72]، ونفَى الرسول- صلَّى الله عليه وسلَّم - دخولَها بالأعمال بقوله عند البخاري: ((لن يدخلَ أحدٌ منكم الجنة بعمله))، ولا تَنافي بين الأمرين".

فمَن نفى القَدر وزعَم مُنافاته للشرع، فقد عطَّل الله عن عِلْمه وقُدرته، وجعَل العبد مستقلاًّ بأفعاله، خالقًا لها كما قالت المعتزلة؛ حيث أثْبَتوا خالقًا مع الله، لا يَنحصر في واحد أو اثنين كما قالت النصارى، ولكن جعَلوا آلهةً أخرى بعدد البشر، ومَن أثبَت القدر مُحتجًّا به على الشرْع، مُحَاربًا له به، نافيًا عن العبد قُدرته التي منَحها الله إيَّاها، ونفى أمرَ الله ونَهْيه، فقد نفى الحكمة عن أفعال ربِّه، ونسَب إليه الظُّلم والعَبَث - تعالَى الله عن ذلك عُلوًّا كبيرًا.

ومِن ثمَّ، فإنَّ المؤمنين المُوَحِّدين يُثبتون القدرَ خيرَه وشرَّه، ويَنقادون للشرع أمرِه ونَهْيه؛ إذ الإيمان بالقدر مُرتبطٌ بامتثال الشرع، وامتثال الشرع مُرتبط بالإيمان بالقدر، وانفكاك أحدهما من الآخر مُحالٌ، فإن الإقرار بالقَدر مع الاحتجاج به على الشرع ومُحاربته به، مخاصمةٌ لله تعالى في أمره وشرعه، ووَعْده ووعيده، وثوابه وعقابه، وطَعْنٌ في حِكمته وعدْله، وانتقادٌ عليه في إرسال الرُّسل وإنزال الكُتب، وخَلْق الجنة لأوليائه المُصَدِّقين بها، وخَلْق النار لأعدائه المُكذِّبين، ونسبةٌ لأحْكم الحاكمين - الحكيم في خَلْقه وشَرْعه، والعدل في قوله وفِعله وحُكمه - إلى العَبَث والظُّلم في ذلك كله.

وكذلك الانقياد للشرع مع نفْي القدر، وإخراج أعمال العباد عن قُدرة الباري، وجَعْلهم مُستقلِّين بها، مُستغنين عنه - طَعْنٌ في ربوبيَّة المعبود ومَلكوته، ونِسبته إلى العَجْز، ووَصْفه بما لا يَستحق - تعالى ربُّنا وتقدَّس، وتنزَّه وجلَّ وعلا عمَّا يقول الظالمون الجاحدون عُلوًّا كبيرًا - بل الإيمان بالقدر خيرِه وشرِّه، هو نظام التوحيد، كما أنَّ الإتيان بالأسباب التي تُوصِّل إلى خيره وتَحجز عن شرِّه، والاستعانة بالله عليها، هو نظام الشرع، ولا يَنتظم أمرُ الدين ولا يَستقيم، إلاَّ لِمَن آمَن بالقَدر، وامتثَل الشرع.

كما سمَّاه بعض العلماء بالتوحيد الإرادي الطلبي، أو التوحيد العملي، وجَعَله قسيمًا للنوعين الآخَرين من التوحيد؛ أي: توحيد الربوبيَّة، وتوحيد الأسماء والصفات، واللذان يُطلق عليهما: التوحيد العلمي، أو الاعتقادي الخبري.

فهذه أغلبُ الأسماء والمُصطلحات التي تُطْلَق على توحيد الألوهيَّة في الكتب التي تَعرض له، وعلى ألْسِنة مَن يتناولونه بالشَّرح والبيان.
كَتَبه : محمود العشري من كتاب عقيدة المؤمن لأبو بكر الجزائري
للمزيد من مواضيعي

 

الموضوع الأصلي : رسالة الى متصوف     -||-     المصدر : مُنتَدَيَاتُ كَلِمَةٍ سَوَاءِ الدَّعَويِّة     -||-     الكاتب : الشهاب الثاقب





المزيد من مواضيعي


توقيع الشهاب الثاقب

هل الله يُعذب نفسه لنفسههل الله يفتدى بنفسه لنفسههل الله هو الوالد وفى نفس الوقت المولوديعنى ولد نفسه سُبحان الله تعالى عما يقولون ويصفون
راجع الموضوع التالي
طريق الحياة و أدلة ساطعه على عدم الفداء


   
  رقم المشاركة :2  (رابط المشاركة)
قديم 19.01.2018, 13:49
صور الشهاب الثاقب الرمزية

الشهاب الثاقب

مشرف عام

______________

الشهاب الثاقب موجود الآن

الملف الشخصي
التسجيـــــل: 14.09.2011
الجــــنـــــس: ذكر
الــديــــانــة: الإسلام
المشاركات: 991  [ عرض ]
آخــــر نــشــاط
28.03.2024 (18:59)
تم شكره 689 مرة في 467 مشاركة
افتراضي


بسم الله الرحمن الرحيم
و به نستعين




بيان الشرك :
الشرك ضد التوحيد ، فإذا كان معنى التوحيد : إفراد الله تعالى بالعبادة . فالشرك هو صرف شيء من العبادة لغير الله ، والشرك أعظم الذنوب ؛ لأن الله سبحانه أخبر أنه لا يغفر لمن لم يتب منه مع أنه كتب على نفسه الرحمة ، أما غيره من الذنوب فهو تحت المشيئة ، إن شاء الله عذب صاحبه وإن شاء غفر له ، كما قال تعالى : إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ .
والشرك يحبط جميع الأعمال ، كما قال تعالى : وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ، وقال تعالى : وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ .
والشرك هبوط وسقوط من أوج العز والكرامة إلى حضيض السفول والقلق وعدم الاستقرار والرذيلة ، قال تعالى : وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ .
(الجزء رقم : 20، الصفحة رقم: 197)

وقد حرم الله الجنة على المشرك وحكم عليه بالخلود في النار كما قال تعالى : إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ .
والشرك أعظم الظلم كما قال تعالى : إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ؛ لأنه تنقص لرب العالمين ، وتسوية لغيره به سبحانه .
والشرك ضلال مبين ولذلك يعترف المشركون بضلالهم فيقولون : تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ .
وإذا كان الشرك في هذا المستوى من القبح والخطورة فهذا مما يوجب شدة الحذر من الوقوع فيه ، ويوجب على المسلم أن يعرفه ليتجنبه ، ويوجب على المسلمين مقاومته والقضاء عليه ، وقد كانت مهمة الرسل عليهم الصلاة والسلام في الدرجة الأولى مقاومة الشرك والنهي عنه والتحذير منه وجهاد المشرك باليد واللسان - كما قال تعالى :
(الجزء رقم : 20، الصفحة رقم: 198)
وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ .
وكل رسول يقول لقومه : اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ؛ لأن الشرك هو أعظم الفساد الذي تصاب به الأمم وهو يناقض الخلق والأمر ، ولا فائدة في جميع الأعمال مع وجود الشرك ، وهذا يؤكد على جميع أتباع الرسل من الدعاة والمصلحين أن تتجه دعواتهم وإصلاحهم إلى مكافحة الشرك وإصلاح العقائد أولا وقبل كل شيء - أما أن تتجه دعواتهم وإصلاحهم إلى أمور جانبية ، ويتركون الشرك يعج في عقائد المسلمين بما يمارس حول الأضرحة وبين أرباب الطرق الصوفية المنحرفة فهذا انحراف بالدعوة عن منهجها الصحيح الذي رسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورسمه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من قبله ولن تأتي هذه الدعوات بنتيجة ولا فائدة ؛ لأنها بدأت من حيث النهاية .
منقول بتصرف _ مجلة البحوث الإسلاميةتصفح برقم المجلد > العدد العشرون - الإصدار : من ذو القعدة إلى صفر لسنة 1407هـ 1408هـ > البحوث > بيان التوحيد والتحذير من الشرك > بيان الشرك





   
  رقم المشاركة :3  (رابط المشاركة)
قديم 19.01.2018, 13:50
صور الشهاب الثاقب الرمزية

الشهاب الثاقب

مشرف عام

______________

الشهاب الثاقب موجود الآن

الملف الشخصي
التسجيـــــل: 14.09.2011
الجــــنـــــس: ذكر
الــديــــانــة: الإسلام
المشاركات: 991  [ عرض ]
آخــــر نــشــاط
28.03.2024 (18:59)
تم شكره 689 مرة في 467 مشاركة
افتراضي


بسم الله الرحمن الرحيم
و به نستعين





حدوث الشرك في العالم وسببه :
كان الناس بعد آدم عليه السلام على الدين الصحيح إلى أن حدث الشرك في قوم نوح بسبب غلوهم في الصالحين لما ماتوا فصوروا صورهم بإيحاء من الشيطان ونصبوها على مجالسهم ليتذكروا بها أحوالهم فينشطوا على العبادة بزعمهم فلما هلك هذا الجيل الذي نصب تلك الصور زين الشيطان للجيل الذي جاء من بعدهم عبادة تلك الصور فعبدوها . ومن ذلك الحين حدث الشرك في الأرض فبعث الله نبيه نوحا عليه الصلاة والسلام يدعو قومه إلى التوحيد وينهاهم عن هذا الشرك الذي وقعوا فيه فأصروا على شركهم : وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدًّا وَلاَ سُوَاعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا
(الجزء رقم : 20، الصفحة رقم: 199)
وتلك أسماء الصالحين الذين غلوا فيهم وصوروا صورهم وأبوا أن يتركوا عبادتهم ، وأَيِس نوح عليه السلام في هدايتهم بعد محاولة طويلة معهم كما قال الله ألف سنة إلا خمسين عاما : وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ .
عند ذلك دعا عليهم فأهلكهم الله بالطوفان وأنجى نوحا ومن آمن معه في الفلك . ثم تتابعت الرسل من بعد نوح تدعو إلى التوحيد وتنهى عن الشرك ، إلى أن جاء عهد إبراهيم خليل الله وقد بلغ الشرك والطغيان والجبروت من الطواغيت مبلغا عظيما فقاوم الشرك والمشركين بالحجة والبرهان وحطم الأصنام بيده ولقي في سبيل ذلك أشد أنواع الأذى وأقسى أنواع التعذيب الذي سلمه الله منه حين ألقوه في النار فجعلها الله بقدرته ورحمته بردا وسلاما ، وجعل العاقبة الحميدة له وجعل في ذريته النبوة والكتاب وبقيت النبوة وكلمة التوحيد في ذريته كما قال تعالى : وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ ، وقال تعالى : وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ خصوصا العرب بني إسماعيل .
فإن التوحيد لم يزل فيهم وهم على ملة إبراهيم وإسماعيل إلى أن ظهر فيهم عمرو بن لحي الخزاعي فغير فيهم دين إبراهيم ودعاهم إلى عبادة الأصنام فأجابوه ، والسبب في ذلك أنه ذهب إلى الشام فوجد أهلها يعبدون الأصنام فقلدهم في ذلك وجلب معه الأصنام إلى العرب ، وقيل :
(الجزء رقم : 20، الصفحة رقم: 200)
إن الشيطان أتاه وأرشده إلى الأصنام التي كان الطوفان قد دفنها في الأرض بعد قوم نوح وأمره بأخذها ودعوة العرب إلى عبادتها ففعل . ومن ثم انتشر الشرك في العرب ، وكانت لهم أصنام مشهورة كاللات والعزى ومناة ، وكان لقريش أصنام حول الكعبة وفي جوفها . ومن أعظم أصنامهم هبل الذي يعتزون ويقسمون به - إلى أن بعث الله نبينا محمدا خاتم النبيين فدعا إلى التوحيد ونهى عن الشرك وجاهد المشركين باليد واللسان حتى نصره الله عليهم وهدم أوثانهم وحطم أصنامهم وأعاد الحنيفية ملة إبراهيم صافية نقية وترك أمته على البيضاء ليلها كنهارها وأكمل الله به الدين وأتم به النعمة ، وواصل صحابته الكرام ، وخلفاؤه العظام مسيرة الدعوة في مشارق الأرض ومغاربها وفتحوا البلاد شرقا وغربا ونشروا فيها التوحيد وقضوا على مظاهر الشرك والوثنية حتى تحقق قول الله عز وجل : هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ .
نفس المصدر السابق





المزيد من مواضيعي
   
  رقم المشاركة :4  (رابط المشاركة)
قديم 19.01.2018, 13:51
صور الشهاب الثاقب الرمزية

الشهاب الثاقب

مشرف عام

______________

الشهاب الثاقب موجود الآن

الملف الشخصي
التسجيـــــل: 14.09.2011
الجــــنـــــس: ذكر
الــديــــانــة: الإسلام
المشاركات: 991  [ عرض ]
آخــــر نــشــاط
28.03.2024 (18:59)
تم شكره 689 مرة في 467 مشاركة
افتراضي


بسم الله الرحمن الرحيم
و به نستعين




ظهور الشرك في هذه الأمة :
لقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من الشرك غاية التحذير وسد كل الطرق الموصلة إليه ، وحمى حمى التوحيد ومن ذلك :
(1) أنه نهى عن الغلو في مدحه بما قد يفضي إلى عبادته من دون الله كما حصل للنصارى في حق عيسى ابن مريم ، قال صلى الله عليه وسلم : لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم ، إنما أنا عبد فقولوا : عبد الله ورسو له .
(2) نهى عن الغلو في تعظيم قبور الصالحين بالبناء عليها وإسراجها
(الجزء رقم : 20، الصفحة رقم: 201)
وتجصيصها والكتابة عليها ؛ لأن هذا يفضي إلى عبادتها وطلب قضاء الحوائج من الموتى .
(3) نهى عن الصلاة عند القبور سواء بني عليها مساجد أم لا ؛ لأن ذلك وسيلة لعبادتها ولو على المدى الطويل .
(4) نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها لما في ذلك من التشبه - بالذين يعبدونها ويسجدون لها في هذين الوقتين .
والمسلم مطلوب منه مخالفة المشركين في عقائدهم وعبادتهم وعاداتهم الخاصة بهم .
(5) نهى عن السفر إلى أي مكان من الأمكنة بقصد التقرب إلى الله فيه بالعبادة غير المساجد الثلاثة ( المسجد الحرام ، والمسجد النبوي ، والمسجد الأقصى ) .
(6) نهى عن الوفاء بالنذر بالذبح لله في مكان يذبح فيه لغير الله أو يقام فيه عيد من أعياد الجاهلية إبعادا عن التشبه بهم في تعظيم المكان والوثن .
(7) نهى عن الألفاظ التي فيها التسوية بين الله وبين المخلوق ، كقول : (ما شاء الله وما شئت) و (لولا الله وأنت) كل هذا صيانة للتوحيد وسدا لمنافذ الشرك وإبعادا للأمة عن أن تقع فيما وقعت فيه الأمم قبلها من فساد العقائد وقد سار صدر هذه الأمة على موجب تلك الوصايا النبوية وحافظوا على عقائدهم ، وصانوها عن كل مناقض ومنقص .
ولما انتهى وقت القرون المفضلة وامتد الزمن بالناس وجهل أغلبهم آثار الرسالة تسرب إليهم كثير من البدع والخرافات والعوائد الجاهلية في عقائدهم ووقع الكثير فيما حذر منه الرسول صلى الله عليه وسلم من
(الجزء رقم : 20، الصفحة رقم: 202)
الشرك بالله وفتح المنافذ والطرق الموصلة إليه ، فبنيت المساجد على القبور ، واتجه إليها الكثير بأنواع العبادة كالطواف بها والذبح لها والتوجه إليها بالرغبة والرهبة والدعاء والاستغاثة وأنواع من الشرك الأكبر الذي يسمونه توسلا وطلبا لشفاعتهم كما قال إخوانهم من قبل : مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ . وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا .
قال الإمام العلامة ابن القيم رحمه الله :
ومن جمع بين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبور وما أمر به ونهى عنه وما كان عليه أصحابه وبين ما عليه أكثر الناس اليوم رأى أحدهما مضادا للآخر مناقضا له بحيث لا يجتمعان أبدا .
فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة إلى القبور ، وهؤلاء يصلون عندها وإليها ، ونهى عن اتخاذها مساجد ، وهؤلاء يبنون عليها المساجد ويسمونها مشاهد مضاهاة لبيوت الله .
ونهى عن إيقاد السرج عليها ، وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل عليها . ونهى عن أن تتخذ عيدا ، وهؤلاء يتخذونها أعيادا ومناسك ويجتمعون لها كاجتماعهم للعيد أو أكثر ، . . .
وأمر بتسويتها كما روى مسلم في صحيحه عن أبي الهياج الأسدي قال : قال لي علي : ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا تدع صورة إلا طمستها ولا قبرا مشرفا إلا سويته ، وهؤلاء يبالغون في مخالفة الحديث ويرفعونها عن الأرض كالبيت
(الجزء رقم : 20، الصفحة رقم: 203)
ويعقدون عليها القباب ، ونهى عن تجصيص القبر والبناء عليه ، كما روى مسلم عن جابر رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن تجصيص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه ، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكتابة عليها ، كما روى أبو داود عن جابر أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يجصص القبر أو يكتب عليه أو يزاد عليه وهؤلاء يزيدون عليه الآجُرّ والجص والأحجار .
قال إبراهيم النخعي : كانوا يكرهون الآجر على قبورهم ، والمقصود أن هؤلاء المعظمين للقبور المتخذيها أعيادا الموقدين عليها السرج ، الذين يبنون عليها المساجد والقباب منافون لما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم محادون لما جاء به ، وأعظم ذلك اتخاذها مساجد وإيقاد السرج عليها ، وهو من الكبائر . . . انتهى كلام ابن القيم رحمه الله . . . . وهو يصف ما حدث في وقته وقد زاد الأمر على ما وصفه بأضعاف وغلوا في الموتى فعبدوهم من دون الله وكذلك ارتكبوا ما نهى عنه صلى الله عليه وسلم من الغلو في مدحه وإطرائه مضاهاة للنصارى في مدح عيسى ابن مريم حتى رفعوه فوق منزلته حتى وقعوا في الشرك الأكبر ، وأظهر لهم الشيطان هذا الغلو في قالب تعظيمه ومحبته وأن عدم الغلو فيه تنقيص له وحط من قدره .
وكذلك غلوا في الصالحين كما غلا فيهم قوم نوح من قبل حتى اعتقدوا فيهم شيئا من خصائص الإلهية من جلب النفع ودفع الضر مما لا يقدر عليه إلا الله تعالى ، فهتفوا بأسمائهم عند الشدائد والكربات ، واستغاثوا بهم في كشف الملمات وطافوا بقبورهم كما يطاف بالكعبة وذبحوا القرابين عند قبورهم وصرفوا لهم النذور . قال الإمام العلامة ابن القيم : وقد أدخل الشيطان الشرك على قوم نوح من باب الغلو في الصالحين ، وقد وقع في هذه الأمة مثل ما وقع لقوم نوح لما أظهر
(الجزء رقم : 20، الصفحة رقم: 204)
الشيطان لكثير من المفتونين الغلو والبدع في قالب تعظيم الصالحين ومحبتهم ليوقعهم فيما هو أعظم من ذلك من عبادتهم لهم من دون الله - فما زال يوحي إلى عباد القبور ويلقي إليهم أن البناء والعكوف عليها من محبة أهل القبور من الأنبياء والصالحين وأن الدعاء عندها مستجاب ثم ينقلهم من هذه المرتبة إلى الدعاء بها والإقسام على الله بها ، فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى دعاء المقبور وعبادته وسؤاله الشفاعة من دون الله واتخاذ قبره وثنا تعلق عليه القناديل والستور ويطاف به ويستلم ويقبل ويحج إليه ويذبح عنده ، فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى دعاء الناس إلى عبادته واتخاذه عيدا ومنسكا ورأوا أن ذلك أنفع لهم في دنياهم وأخراهم . . . .
فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى أن من نهى عن ذلك فقد تنقص أهل هذه الرتب العالية وحطهم عن منزلتهم وزعم أنه لا حرمة لهم ولا قدر ، وقد سرى ذلك في نفوس كثير من الجهال والطَّغَام وكثير ممن ينتسب إلى العلم والدين حتى عادوا أهل التوحيد ورموهم بالعظائم ونفروا الناس عنهم . . . انتهى كلامه رحمه الله وهو يصور الداء وأسبابه . ولا علاج لهذا الداء القاتل والوباء الفتاك إلا ببذل الأسباب الشافية والواقية والتي تتلخص في نظري فيما يأتي :
(1) الرجوع إلى الكتاب والسنة وكتب السلف الصالح لفهم العقيدة الصحيحة ومعرفة ما يضادها أو ينقصها من الشرك والبدع والخرافات ونبذ الكتب المخالفة للكتاب والسنة من كتب الصوفية والقبورية والمخرفين .
(2) تدريس كتب العقائد الصحيحة في المراحل الدراسية وتكثيف منهاجها والتركيز عليها في النجاح والرسوب واختيار المدرسين
(الجزء رقم : 20، الصفحة رقم: 205)
المتخصصين في فهم عقيدة السلف وتفهيمها للطلاب ، وأن تكون هناك دروس في المساجد لتفهيم العقيدة لعامة الناس ، ومن لا تسمح له ظروفه بمتابعة الدراسة المنهجية .
(3) اهتمام الدعاة بتصحيح العقائد والدعوة إلى التوحيد والتحذير من الشرك وإنكار ما يقع من الشرك حول الأضرحة في محاضراتهم ومؤلفاتهم وبيان العقيدة الصحيحة ، واجتماع كلمتهم على ذلك بدلا من اختلافهم في مناهج الدعوة اختلافا شتتهم وحير الجهال فيمن يتبعون منهم .
وأفرح أعداء الإسلام بعدم نجاح دعوتهم ، وقد قال الله تعالى : وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا .
(4) إزالة مظاهر الشرك من بلاد الإسلام بهدم الأضرحة ومنع بناء المساجد على القبور ومقاومة المخرفين ، والمبتدعة ، ورد شبهاتهم وكشف تزييفهم حتى يرتدعوا عن غيهم ويسلم الناس من شرهم .
(5) نشر كتب السلف الصالح وإيصالها إلى أيدي القراء بسهولة وتوفيرها في المكتبات العامة للمراجعة .
(6) توعية الشباب والدارسين بتعريفهم بالكتاب والمؤلفين المستقيمين والمؤلفات المفيدة في العقيدة وتعريفهم بالكتاب والمؤلفين المنحرفين والمؤلفات الفاسدة والمخلة في العقيدة .
نفس المصدر السابق _ صالح بن فوزان الفوزان





المزيد من مواضيعي
   
  رقم المشاركة :5  (رابط المشاركة)
قديم 19.01.2018, 13:52
صور الشهاب الثاقب الرمزية

الشهاب الثاقب

مشرف عام

______________

الشهاب الثاقب موجود الآن

الملف الشخصي
التسجيـــــل: 14.09.2011
الجــــنـــــس: ذكر
الــديــــانــة: الإسلام
المشاركات: 991  [ عرض ]
آخــــر نــشــاط
28.03.2024 (18:59)
تم شكره 689 مرة في 467 مشاركة
افتراضي


بسم الله الرحمن الرحيم
و به نستعين



















[باب من الشرك النذر لغير الله تعالى]
" باب من الشرك النذر لغير الله تعالى " وقول الله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان: 7] [الإنسان: 7] وقوله: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [البقرة: 270] [البقرة: 270] .
وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه» (1) .
فيه مسائل:
الأولى: وجوب الوفاء بالنذر.
الثانية: إذا ثبت كونه عبادة لله، فصرفه إلى غيره شرك.
الثالثة: أن نذر المعصية لا يجوز الوفاء به.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
_________
(1) أخرجه البخاري (6696) و (6700) .

(1/157)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
ولا شك أن النذر لغير الله شرك أكبر بالله - جل وعلا -، ووجه كونه شركا بالله - جل وعلا -: أن النذر هو: إلزام المكلف نفسه بعبادة لله - جل وعلا - إما مطلقا، وإما بقيد، فهذه حقيقة النذر.
ومما يدل أيضا على أن النذر عبادة: أن الله - جل وعلا - مدح الذين يوفون بالنذر فقال: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان: 7] [الإنسان: 7] ومدحه لهم يدل على أن الوفاء بالنذر أمر محبوب لله - عز وجل -، ولا يكون محبوبا إلا وهو مشروع، وذلك يقتضي أنه عبادة من العبادات، بل إن الوفاء بالنذر واجب؛ لأنه إلزام بطاعة، وقد قال: صلى الله عليه وسلم: «من نذر أن يطيع الله فليطعه» .
ومما يدل أيضا على كون النذر عبادة قوله: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} [البقرة: 270] [البقرة: 270] ووجه الدلالة: محبة الله - جل وعلا - لذلك الذي حصل منهم تعظيما له - سبحانه وتعالى - بالنذر.
وإذا كان كذلك: فإنه عبادة من العبادات، فمن صرفه لغير الله - جل وعلا - كان مشركا بالله - جل وعلا -.
وها هنا سؤال معروف قد يَرِدُ في هذا المقام، وهو أن النذر مكروه قد كرهه النبي صلى الله عليه وسلم، وسئل عنه فقال: «إنه لا يأتي بخير» (1) فكيف يكون عبادة وقد كرهه عليه الصلاة والسلام؟؟!
_________
(1) أخرجه البخاري (6693) ومسلم (1639) (4) .

(1/158)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
والجواب: أن النذر قسمان: نذر مطلق، ونذر مقيد، والنذر المطلق هو: أن يلزم العبد نفسه بعبادة لله - جل وعلا -، هكذا بلا قيد، كأن يقول مثلا: لله علي نذر أن أصلي ركعتين، وليس هذا النذر في مقابلة شيء يحدث له في المستقبل، أو شيء حدث له، فيلزم نفسه بعبادة: كصلاة، أو صيام، أو نحو ذلك، فهذا هو النذر المطلق وهو: إلزام العبد نفسه بطاعة لله - جل وعلا - أو بعبادة وليس هذا النذر هو الذي كرهه عليه الصلاة والسلام، بل النذر المكروه هو القسم الثاني: وهو النذر المقيد، وهو الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: «إنما يُستخرج به من البخيل» (1) . وحقيقته: أن يلزم العبد نفسه بطاعة لله - جل وعلا - مقابل شيء يحدثه الله - جل وعلا - له، ويقدره، ويقضيه له، كأن يقول مثلا: إن شفى الله مريضي فلله علي نذر: أن أتصدق بكذا وكذا، أو إن نجحت فسأصلي ليلة، أو إن عُيِّنت في هذه الوظيفة فسأصوم أسبوعا، ونحو ذلك، فهذا كأنه يشترط بهذا النذر على الله - جل وعلا - فيقول: يا رب إن أعطيتني كذا وكذا: صمتُ لك، وإن أنجحتني صليتُ، أو تصدقتُ، وإن شفيتَ مريضي فعلتُ كذا وكذا، يعني: مقابلةً للفعل بالفعل. وهذا هو الذي وصفه النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: «إنما يُستخرج به من البخيل» لأن البخيل هو الذي لا يعمل العبادة حتى يقاضى عليها، فصار بما أعطاه الله من النعمة أو بما دفع عنه من النقمة كأنه في حِس ذلك الناذر قد أعطي الأجر، وأعطى ثمن تلك العبادة.
_________
(1) أخرجه مسلم (1639) (2) .

(1/159)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
وهذا المعنى الخاطئ يستحضره كثير من العوام الذين يستعملون النذور، فإنهم يظنون أن حاجتهم لا تحصل إلا بالنذر، وقد قال شيخ الإسلام - رحمه الله - وغيره من أهل العلم: إن من ظن أنه لا تحصل حاجاته إلا بالنذر، فإن اعتقاده هذا مُحرَّم؛ لأنه ظن أن الله لا يعطي إلا بمقابل، وهذا سوء ظن بالله - جل وعلا - وسوء اعتقاد فيه - سبحانه وتعالى -، بل هو المتفضل المنعم على خلقه.
فإذا تبين لك ذلك فاعلم أن النذر المطلق لا يدخل في الكراهة، لكن إذا أطلقنا القول بأن: النذر عبادة، فهل يدخل في هذا الإطلاق النذر المقيد؟ والجواب: أن النذر المقيد له جهتان: الأولى: وفاؤه بالنذر الذي ألزم نفسه به فإنه يكون بذلك قد تعبد الله عبادة من هذه الجهة فيما يظهر.
الجهة الثانية: جهة الكراهة المتعلقة بهذا النذر المقيد، وهي إنما جاءت لصفة الاعتقاد لا لصفة أصل العبادة، فإنه في النذر المقيد إذا قال: إن كان كذا وكذا فلله علي نذر كذا وكذا، كانت الكراهة راجعة إلى ذلك التقييد، لا إلى أصل النذر، دل على ذلك: التعليل؛ حيث قال: " فإنما يُستخرج به من البخيل ".
فلا إشكال إذًا. فالنذر عبادة من العبادات العظيمة.
وهنا قاعدة في أنواع الاستدلال على أن الاستدلال نوعان:
النوع الأول: استدلال عام، يعني: أن كل دليل من الكتاب أو السنة فيه إفراد الله بالعبادة: يكون دليلا على أن كل عبادة لا تصلح إلا لله، فيكون الاستدلال بهذا النوع من الأدلة، على تحريم النذر لغير الله، وأنه شرك

(1/160)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
كالآتي: دل الدليل على وجوب صرف العبادة لله وحده، وعلى أنه لا يجوز صرف العبادة لغير الله - جل وعلا - وأن من صرفها لغير الله - جل وعلا - فقد أشرك، والنذر عبادة من العبادات، فمن نذر لغير الله: فقد أشرك.
والنوع الثاني من الاستدلال: هو أن تستدل على المسائل بأدلة خاصة وردت فيها، كأن تستدل على تحريم الذبح لغير الله بأدلة خاصة وردت في ذلك، وكأن تستدل على وجوب الاستغاثة بالله وحده دون ما سواه بأدلة خاصة وردت بذلك، وكذا في الاستعاذة ونحو ذلك.
فالدليل على وجوب إفراد الله بجميع أنواع العبادة تفصيلا وإجمالا، وعلى أن صرفها لغير الله شرك أكبر، يستقيم بهذين النوعين من الاستدلال: استدلال عام بكل آية أو حديث فيهما الأمر بإفراد الله بالعبادة، والنهي عن الشرك فتدخل هذه الصورة فيها؛ لأنها عبادة، بجامع تعريف العبادة.
والثاني: أن تستدل على المسألة بخصوص ما ورد فيها من الأدلة؛ ولهذا قال الشيخ - رحمه الله - هنا: " باب من الشرك النذر لغير الله " واستدل على ذلك بخصوص أدلة وردت في النذر. وأما الآيات التي قدمها في أول الكتاب، كقوله - جل وعلا: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] [الإسراء: 23] وكقوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] [الذاريات: 56] وكقوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36] [الأنعام: 151] وكقوله: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [الأنعام: 151] فهذه أدلة تصلح لأن يستدل بها على أن صرف النذر لغير الله شرك؛ فتقول: النذر لغير

(1/161)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
الله عبادة، والله - جل وعلا - نهى أن تصرف العبادة لغيره، وأن من صرف العبادة لغير الله فهو مشرك، فتقول: النذر عبادة؛ لأنه داخل في حد العبادة؛ لأن الله - جل وعلا - يرضاه، ومدح الموفين به.
فالدليل الخاص إذًا هو: أن تستدل بخصوص ما جاء في الكتاب والسنة من الأدلة على النذر؛ ولهذا أورد الشيخ هنا الدليل التفصيلي، وفي أول الكتاب أتى بالأدلة العامة على كل مسائل العبادة، وهذا من الفقه الدقيق في التصنيف. ومن الفقه في الأدلة الشرعية: أن المستدل على مسائل التوحيد ينبغي له أن يراعي التنويع؛ لأن تنويع الاستدلال، وإيراد الأدلة من عدة وجوه من شأنه أن يضعف حجة الخصوم الذين يدعون الناس لعبادة غير الله وللشرك به - جل وعلا -، فإذا أوردت على الخصم مرة دليلا خاصا، وتارة دليلا عاما، ونوعت في ذلك، فإن هذا مما يضيق به المخاصم، ويقطع حجته، أما إذ لم تورد إلا دليلا واحدا فربما أوله لك، أو ناقشك فيه، فيحصل عند المستدل ضعف عند المواجهة، أما إذا انتبه لمقاصد أهل العلم، وحفظ الأدلة: فإنه يقوى على مجادلة الخصوم، والله - جل وعلا - وعد عباده بالنصر وكما في قوله: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51] [الزمر: 51] وقد قال الشيخ - رحمه الله - في " كشف الشبهات ": والعامي من الموحدين يغلب الألف من علماء المشركين، وهذا صحيح؛ فإن عند العوام الذين علموا مسائل التوحيد، وأخذوها عن أهلها، عندهم من الحجج، ووضوح البينات في ذلك ما ليس عند بعض المتعلمين.

(1/162)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
وقول الله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان: 7] [الإنسان: 7] وجه الاستدلال به على كون النذر عبادة ظاهر: وهو أن الله - جل وعلا - مدح الموفين بالنذر، ومدحه للموفين بالنذر يقتضي أن الوفاء بالنذر محبوب له - جل وعلا -، وأنه مشروع، وما كان كذلك فهو من أنواع العبادات، فيكون صرفه لغير الله - جل وعلا - شركا أكبر.
وكذلك قوله {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} [البقرة: 270] [البقرة: 270] فإن الله عظم النذر بقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} [البقرة: 270] وعظم أهله، وهذا يدل على أن الوفاء به عبادة محبوبة لله - جل وعلا -.
قوله: وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه» : وجه الدلالة من هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب الوفاء بالنذر فقال: «من نذر أن يطيع الله فليطعه» وهذا فيه إيجاب الوفاء بالنذر المطلق الذي يكون طاعة، كأن يقول: لله على أن أصلي كذا وكذا، فهذا يجب عليه أن يوفي بنذره، وكذا إن كان النذر مقيدا، كأن يقول: إن شفى الله مريضي فلله علي أن أتصدق بمائة ريال، فهذا يجب عليه أن يوفي بنذره لله - جل وعلا -، وإيجاب ذلك يدل على أنه عبادة محبوبة؛ لأن الواجب من أنواع العبادات، وأن ما كان وسيلة إليه فإنه أيضا عبادة؛ لأن الوسيلة للوفاء بالنذر هي النذر، فلولا النذر لم يأت الوفاء، فأُوجب الوفاء؛ لأجل أن المكلف هو الذي ألزم نفسه بهذه العبادة.

(1/163)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
وأما المنع من الوفاء بنذر المعصية، الذي دل عليه قوله:. «ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه» ؛ فلأن إيجاب المكلف على نفسه معصية الله - جل وعلا - فيه معارضة لنهي الله - جل وعلا - عن العصيان، وإذا نذر العبد العصيان، فإن النذر - كما هو معلوم في الفقه - قد انعقد، ويجب عليه ألا يفي بفعل تلك المعصية، لكن يجب عليه أن يكفر عن ذلك كفارة يمين، ومحل ذلك باب النذر في كتب الفقه.
فالمقصود من هذا: أن استدلال الشيخ - رحمه الله - بالشق الأول، وهو قوله: «من نذر أن يطيع الله فليطعه» ظاهر في الدلالة على أن النذر عبادة، وكذلك في قوله: «ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه» حيث أوجب عليه كفارة يمين، فهذا يدل على أن أصله منعقد، انعقد لكونه عبادة، وإذا كان عبادة فصرفها لغير الله شرك أكبر به - جل وعلا -.
فالنذر لله - جل وعلا - عبادة عظيمة - كما ذكرنا - والنذر لغير الله - جل وعلا - أيضا عبادة، فإذا توجه الناذر لغير الله بالنذر فقد عبده، وإذا توجه الناذر لله - جل وعلا - بالنذر فقد عبد الله - جل وعلا -.
فالنذر - على أية حال كان - لله، أو لغير الله، هو عبادة، ثم إن كان لله فهو عبادة لله - جل وعلا - وإن كان لغير الله فهو عبادة لذلك الغير، والله أعلم.

هذا الباب عنونه الإمام - رحمه الله - بقوله " باب من الشرك الاستعاذة بغير الله تعالى " وهذا الباب مع الذي قبله والأبواب التي سلفت أيضا: كلها في بيان المقصد من هذا الكتاب، وبيان الغرض من تأليفه، وأن التوحيد إنما يُعرف بضده، فمن طلب التوحيد فليطلب ضده لأنه - أعني التوحيد - يجمع بين الإثبات والنفي، فيجمع بين الإيمان بالله، وبين الكفر بالطاغوت، فمن جمع بين هذين الأمرين فإنه يكون قد عرف التوحيد؛ ولهذا فصل الشيخ - رحمه الله - أفراد توحيد العبادة، وفصل أفراد الشرك؛ فبين أصناف الشرك الأصغر: القولي والعملي، وبين أصناف الشرك الأكبر: العملي والاعتقادي، فذكر الذبح لغير الله، وذكر النذر لغير الله، والذبح والنذر: عبادتان عظيمتان.
فعبادة الذبح فعلية عملية، وعبادة النذر عبادة قولية إنشاءً، وعملية وفاءً، فالشرك الأكبر الذي يكون من جهة العمل، أنواع، وقد ذكر منها - على سبيل التمثيل - الذبح لغير الله، كما أنه ذكر النذر لغير الله، مثالا على أنواع الشرك الأكبر الحاصل من جهة القول، وكل من الذبح والنذر يصاحبهما اعتقاد تعظيم المخلوق، كتعظيم الله - عز وجل - وهذا شرك، قال تعالى: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165] [البقرة: 165] وقال: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ - إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 97 - 98] [الشعراء: 97 - 98] ثم عطف على ذلك: " باب من الشرك الاستعاذة بغير
(1/164)
التمهيد لشرح كتاب التوحيد






آخر تعديل بواسطة الشهاب الثاقب بتاريخ 19.01.2018 الساعة 14:16 .
   
  رقم المشاركة :6  (رابط المشاركة)
قديم 19.01.2018, 13:52
صور الشهاب الثاقب الرمزية

الشهاب الثاقب

مشرف عام

______________

الشهاب الثاقب موجود الآن

الملف الشخصي
التسجيـــــل: 14.09.2011
الجــــنـــــس: ذكر
الــديــــانــة: الإسلام
المشاركات: 991  [ عرض ]
آخــــر نــشــاط
28.03.2024 (18:59)
تم شكره 689 مرة في 467 مشاركة
افتراضي


بسم الله الرحمن الرحيم
و به نستعين

















[باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين]
" باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين " وقول الله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [النساء: 171] [النساء 171] .
وفي الصحيح عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: في قول الله تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23] [نوح: 23] .
قال: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت (1) .
وقال ابن القيم: قال غير واحد من السلف: لما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد، فعبدوهم (2) .
وعن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله» أخرجاه. (3) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
_________
(1) أخرجه البخاري (4920) .
(2) إغاثة اللهفان. ط دار ابن زيدون 552 - 223.
(3) أخرجه البخاري (3445) (6830) ومسلم (1691) .

(1/234)

وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو» (1) ولمسلم: عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «هلك المتنطعون ". قالها ثلاثا» (2) .
فيه مسائل: الأولى: أن من فهم هذا الباب وبابين بعده؛ تبين له غربة الإسلام، ورأى من قدرة الله وتقليبه للقلوب العجب.
الثانية: معرفة أول شرك حدث في الأرض أنه بشبهة الصالحين.
الثالثة: أول شيء غير به دين الأنبياء، وما سبب ذلك، مع معرفة أن الله أرسلهم.
الرابعة: قبول البدع، مع كون الشرائع والفطر تردها.
الخامسة: أن سبب ذلك كله: مزج الحق بالباطل، فالأول محبة الصالحين. والثاني: فعل أناس من أهل العلم شيئا، أرادوا به خيرا، فظن من بعدهم أنهم أرادوا به غيره.
السادسة: تفسير الآية التي في سورة نوح.
السابعة: جبلة الآدمي في كون الحق ينقص في قلبه والباطل يزيد.
الثامنة: فيه شاهد لما نقل عن السلف، أن البدع سبب الكفر.
التاسعة: معرفة الشيطان بما تؤول إليه البدعة، ولو حسن قصد الفاعل.
العاشرة: معرفة القاعدة الكلية، وهي النهي عن الغلو ومعرفة ما يؤول إليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
_________
(1) أخرجه أحمد 1 / 215، 347 وابن ماجه (3064) .
(2) أخرجه مسلم (2670) .

(1/235)

الحادية عشرة: مضرة العكوف على القبر لأجل عمل صالح.
الثانية عشرة: معرفة النهي عن التماثيل، والحكمة في إزالتها.
الثالثة عشرة: معرفة شأن هذه القصة، وشدة الحاجة إليها مع الغفلة عنها.
الرابعة عشرة: وهي أعجب وأعجب: قراءتهم إياها في كتب التفسير والحديث، ومعرفتهم بمعنى الكلام، وكون الله حال بينهم وبين قلوبهم، حتى اعتقدوا أن فعل قوم نوح أفضل العبادات؛ فاعتقدوا أن ما نهى الله ورسوله عنه، فهو الكفر المبيح للدم والمال.
الخامسة عشرة: التصريح بأنهم لم يريدوا إلا الشفاعة.
السادسة عشرة: ظنهم أن العلماء الذين صوروا الصور، أرادوا ذلك.
السابعة عشرة: البيان العظيم في قوله: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم» فصلوات الله وسلامه على من بلغ البلاغ المبين.
الثامنة عشرة: نصيحته إيانا بهلاك المتنطعين.
التاسعة عشرة: التصريح بأنها لم تعبد حتى نسي العلم؛ ففيها بيان معرفة قدر وجوده، ومضرة فقده.
العشرون: أن سبب فقد العلم: موت العلماء.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(1/236)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
جوازه ظاهرة؟ مع أن الرسل جميعا بعثوا، ليعبد الله وحده دون ما سواه، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} [النحل: 36] [النحل: 36] ، فما سبب الغواية؟ وما سبب الشرك؟ فإذا كانت قضية التوحيد من أوضح الواضحات، والأبواب السالفة دالة بظهور ووضوح على وجوب إحقاق عبادة الله وحده، وعلى إبطال عبادة كل من سوى الله - جل جلاله وتقدست أسماؤه - فما سبب وقوع الشرك إذا؟ وكيف وقعت فيه الأمم؟ وللأجوبة على هذه الأسئلة أورد الشيخ - رحمه الله - هذا الباب وما بعده؛ ليبين أن سبب الشرك، وسبب الكفر هو: الغلو الذي نهى الله - جل وعلا - عنه، ونهى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، سواء في هذه الأمة أو في الأمم السابقة، فأحد أسباب وقوع الكفر والشرك هو: الغلو في الصالحين، بل هو سببهما الأعظم.
قال هنا: " باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين " هذا ذكر للأسباب، بعد ذكر الأصول والعقائد.
" هو الغلو في الصالحين ": الغلو: مأخوذ من غلا الشيء: يغلو، غلوا: إذا جاوز به حده، وقد جاء في الحديث «أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رمى الجمرات بحصيات، قال: " بمثل هذه فارموا وإياكم والغلو» (1) يعني: لا تجاوزوا الحد
_________
(1) رواه أحمد في المسند (1 / 215 - 347) والنسائي (5 / 268) ابن ماجه (3064) وصححه الذهبي والنووي وابن تيمية في الاقتضاء ص106.

(1/237)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
حتى في حجم تلك الحصاة، ومقدارها؛ ولذلك أرشدهم إلى الحجم الذي ينبغي أن تكون عليه بقوله: «بمثل هذه فارموا» فإذا جاوز في المثلية، بأن رمى بكبيرة: فإنه قد غلا، يعني: جاوز الحد الذي حد له في ذلك، فالغلو - إذا - هو: مجاوزة الحد.
والمقصود بـ " الغلو في الصالحين " الذي هو سبب كفر بني آدم، وتركهم، دينهم الذي أمروا به: أنهم تجاوزوا الحد الواجب في تعظيمهم حتى آل بهم الأمر إلى الشرك.
وقوله: " الصالحون ": يشمل كل من قام به هذا الوصف، من الأنبياء، والرسل، والأولياء، من أي أمة كانوا.
وأصل كلمة (الصالحين) أنها جمع (الصالح) . والصالح: هو اسم من قام به الصلاح، والصلاح في الكتاب والسنة تارة يكون بمعنى نفي الفساد أي: ما يقابل الفساد، وتارة يكون بمعنى ما يقابل السيئات، فيقال صالح بمعنى ليس بذي فساد، ويقال أيضا صالح بمعنى: ليس بسيئ.
والصالحون هنا المراد بهم.: أهل الصلاح يعني: أهل الطاعة والإخلاص لله - جل وعلا - الذين اجتنبوا الفساد واجتنبوا السيئات، وهم الذين اشتركوا في فعل الطاعات وترك المحرمات، أو كانوا من السابقين بالخيرات، فاسم الصالح يقع شرعا على المقتصد، وعلى السابق بالخيرات؛ فالمقتصد صالح، والسابق بالخيرات، صالح وكل درجات عند اله جل وعلا.
" والغلو في الصالحين " يعني: مجاوزة الحد فيهم، لكن ما الحد الذي أذن به الشرع في حق الصالحين، حتى نعلم متى يكون تعظيمهم مجاوزة للحد المعلوم؟ الجواب: أنهم إذا كانوا من الرسل: فبالأخذ بشرائعهم، واتباعهم،

(1/238)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
والاقتداء بهم، مع المحبة، والاحترام، والموالاة، والنصرة، وغير ذلك من المعاني الداخلة في الحد المأذون به في حقهم. أما الغلو فيهم مجاوزة ذلك الحد، وهو بحر لا ساحل له، فمما حصل من الغلو فيهم أنهم جعلت فيهم خصائص الإلهية كما ادعاه في حق نبينا صلى الله عليه وسلم أنه يعلم سر اللوح والقلم، وأنه من جوده الدنيا وضرتها كما قاله البوصيري في قصيدته المشهورة، المسماة بـ (البردة) :
فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم
ومن المعلوم: أن هذا لا يليق إلا بالله، فهذا من الغلو المنهي عنه، وكذلك قوله في النبي عليه الصلاة والسلام، غاليا فيه أعظم الغلو:
لو ناسبت قدره آياته عظما ... أحيا اسمه حين يدعى دارس الرمم
يقول: إن النبي عليه الصلاة والسلام لم يعط آية تناسب قدره، قال الشراح: حتى القرآن لا يناسب قدر النبي صلى الله عليه وسلم والعياذ بالله. يقولون: والقرآن المتلو بخلاف غير المتلو عند الأشاعرة؛ لأنهم يفرقون بين هذا وهذا.
فهذا البوصيري يغلو ويقول: لو ناسبت قدره - يعني النبي عليه الصلاة والسلام - آياته عظما - يعني في العظمة - أحيا اسمه حين يدعى دارس الرمم، فالذي يناسب قدره، عند البوصيري أنه إذا ذكر اسمه على ميت قد درس، وذهب رميمه في الأرض، وذهبت عظامه أن تتجمع هذه العظام وتحيى، لأجل ذكر اسم النبي صلى الله عليه وسلم عليه، وهذا من أنواع الغلو الذي يحصل من الذين يعبدون غير الله - جل وعلا - ويتوجهون إلى الأنبياء والرسل، ويجعلون في حقهم من خصائص الألوهية ما لا إذن لهم به، بل هو من الشرك الأكبر

(1/239)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
بالله جل وعلا، ومن سوء الظن بالله، ومن تشبيه المخلوق بالخالق، وهذا كفر والعياذ بالله.
فالحد المأذون به شرعا في حقهم مطلوب، وهذه هي الحالة الأولى. والغلو مذموم شرعا، ومنهي عنه، وهذه هي الحالة الثانية، ويقابلها: الجفاء، في حقهم وهي الحالة الثالثة. وهذا الجفاء له صور منها: عدم موالاتهم، وبخسهم حقهم، وترك محبتهم، فالحاصل: أن كل تقصير في حقهم يعد جفاء، وكل زيادة فيه يعد غلو.
قوله: " وقول الله عز وجل: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء: 171] مناسبته للباب ظاهرة، وهي: أنه تعالى نهى أهل الكتاب عن الغلو، فقال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء: 171] [النساء: 171] ، ووجه الاستدلال من الآية أنه قال: {لَا تَغْلُوا} [النساء: 171] و (تغلو) فعل جاء في سياق النهي فهو يعم جميع أنواع الغو في الدين، أي: لا تغلو بأي نوع من أنواع الغلو في الدين، أي لا تغلو بأي نوع من أنواع الغلو في الدين؛ فنهوا عن أي نوع من أنواع الغلو. فيدخل في هذا عموم الغلو في الصالحين وغيرهم.
والمتأمل لحال أهل الكتاب، ولما قص الله - جل وعلا - من أخبارهم: يجد أنهم قد غلوا في صالحيهم، كغلو النصارى - مثلا - في عيسى - عليه السلام - وفي أمه وفي حوارييه، وكغلو اليهود - أيضا - في عزير، وفي أصحاب موسى، وفي أحبارهم، وفي رهبانهم وهكذا. فحصل الغلو في أهل الكتاب بأن جعلوا للرسل والأنبياء خصائص الألوهية من جهة التوجه لهم، وقد قال الله

(1/240)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
جل وعلا: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ - لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} [المائدة: 72 - 73] [المائدة: 72 - 73] ، وفي آخر سورة المائدة أيضا قال الله جل وعلا: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ} [المائدة: 116] يعني: تنزيها وتعظيما لك أن أقول لهم ذلك؛ لأن ذلك من الشرك، فكيف أقول لهم ذلك؟ ! {قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ - مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة: 116 - 117] [المائدة: 116 - 117] ، وهذا كله في التوحيد. فالحاصل: أن الغلو وقع من أتباع الرسل، وأتباع الأنبياء في الأنبياء والرسل، وغلوا - أيضا - في الصالحين من أتباعهم، وجعلوا لهم بعض خصائص الإلهية، وجعلوا لهم الشفاعة، وزعموا أن لهم نصيبا من الملك، أو أنهم يدبرون الأمور، أو أنهم يصرفون شيئا من الملكوت، وهذا كما يعتقده بعض الصوفية: أن للكون أقطابا أربعة يدبرون أمر هذا العالم،

(1/241)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
وربما قالوا: الربع الفلاني، المسؤول عنه: القطب الفلاني، والربع الفلاني، المسؤول عنه: القطب الفلاني، وهكذا. فجعل هؤلاء المتصوفة لأقطابهم المزعومين نصيبا من الملك والربوبية، وجعلوا لهم - أيضا - نصيبا من الإلهية؛ فتقربوا إليهم بأنواع القربات: من الذبح، والاستغاثة، والتذلل، والخضوع، والمحبة، والتوكل، والرغب، والرهب، وخوف السر، وغيرها من أنواع العبادات القلبية والعملية.
قوله: " وفي الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما، في قول الله تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا - وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا} [نوح: 23 - 24] [نوح 23 - 24] .
قال: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم. . . . ": هذه القصة، أو هذا الأثر عن ابن عباس - رضي الله عنهما - محمول على الرفع؛ لأن هذا خبر غيبي لا يستقى إلا من مشكاة النبوة. و (ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسرا) هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح.
ونوح - عليه السلام - هو أول رسول بعثه الله بعبادة الله وحده دون من سواه، وبالدعوة إلى التوحيد، لما وقع في قومه. لكن كيف دخل الشرك في قوم نوح؟ الجواب: أن القرآن ذكر أصلين في الحالين، من أصول الشرك وذكر غيرهما أيضا: الأصل الأول: شرك قوم نوح، والأصل الثاني: شرك قوم إبراهيم.

(1/242)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
وأما شرك قوم نوح فكان بالغلو في الصالحين، وأرواحهم؛ فجاءهم الشيطان من جهة روح ذلك العبد الصالح، وأثر تلك الروح، وأن من تعلق به فإنه يشفع له، ثم ساقهم من ذلك التعظيم إلى أن صوروا لهم صورا، ونصبوا لهم أنصابا، وأوثانا، وأصناما حتى إذا طال عليهم الأمد عبدوهم.
الأصل الثاني: شرك قوم إبراهيم، وذلك شرك في التأثير، يعني: من جهة النظر في الكواكب ومن يؤثر ويحرك، فهذا شرك في الربوبية، وما تبعه من الشرك في الألوهية؛ لأنهم جعلوا لتلك الكواكب أصناما، وجعلوا لها صورا، وجعلوها أوثانا، فعبدوها من دون الله - جل وعلا - وتوجهوا إليها. فسبب وقوع الشرك في قوم نوح هو الغلو في الصالحين، كما قال ابن عباس هنا في بيان أصل وقوع هذا الشرك: " فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا، ولم تعبد، حتى إذا هلك أولئك، ونسي العلم عبدت.
وقال ابن القيم: قال غير واحد من السلف: " لما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم ": الشاهد من هذا: أن أولئك توجهوا إلى الصور - صور الصالحين - وكانوا أهل علم يعلمون أنهم إذا اتخذوا هذه الصور فإنهم لن يعبدوها. لكن كانت تلك الصور للصالحين والمعظمين وسيلة وطريقا وسببا لأن عبدت في المستقبل، لما نسي العلم. ومن حرص الشيطان المريد على إضلال العبيد: أنه ربما أتى إلى الصورة المتعلق بها، فأوهم الناظر إليها، أو المخاطب لها. أنها تتحدث

(1/243)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
وتتكلم، أو يسمع منها كلاما، أو نحو ذلك من الأشياء، وأصناف التصرفات التي تجعل القلوب تتعلق بتلك الروحانيات كما يقال، أو تلك الأرواح فيغري أولئك بهم، وهذا هو الحاصل عند عباد القبور، والعاكفين عليها؛ يأتي أحدهم، ويقول: ذهبت إلى القبر الفلاني، فكلمني أبي، ويكون ذلك شيطانا نطق على لسان أبيه، وربما تصور بصورة أبيه فخرج له في ظلام ونحوه، فيحدثه أبوه بصوته الذي يعرفه، أو يحدثه العالم، أو الوالي بصوته الذي يعرفه منه، فتقع الفتنة، وهذا من قبيل الشيطان؛ ولهذا قال ابن عباس هنا كلمة تبين السبب في ذلك؛ فقال: " أوحى الشيطان إلى قومهم " والوحي: إلقاء في خفاء، والشيطان لا يتحدث علنا، ولكن يوحي، يعني: يلقي في خفاء، فالوحي هو إلقاء الخبر في خفاء، فألقى الشيطان في روعهم وأنفسهم ذلك الأمر: فكان سببا للشرك بالله - جل وعلا - ولم يكونوا في أول الأمر يعبدونها، لكنهم لما صوروا صور أولئك الصالحين، ونصبوا لهم الأنصاب: كان ذلك سببا ووسيلة إلى عبادتهم، لكن أولئك الذين جعلوها وسائل، كان عندهم من العلم ما حجزهم عن عبادة الصالحين، لكن لما نسي العلم عبدت.
وهذا الفعل الذي فعلوه بإيحاء الشيطان هو من الغلو في أولئك الصالحين. وهذا وجه الشاهد، وهو أنهم لما ماتوا عكفوا على قبورهم، أو صوروا صورهم، أو نصبوا الأنصاب في أماكنهم ليتذكروهم، وليكون ذلك أنشط لهم في العبادة أو العلم، ولكن هذه الأفعال التي فعلوها، كانت سببا من أسباب عبادة أولئك الصالحين، الذين غلوا في حبهم. وهذا هو مراد الشيخ - رحمه الله - من إيراد هذا الأثر.

(1/244)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
" وعن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله» (1) هذا الحديث فيه: النهي عن إطرائه عليه الصلاة والسلام، والإطراء هو: مجاوزة الحد - أيضا - في المدح، أما الغلو فهو يعم أمور كثيرة؛ فقد يكون في المدح، وقد يكون في الذم، وقد يكون في الفهم، وقد يكون في العلم، وقد يكون في العمل، أما الإطراء فهو: الغلو في المدح، والثناء والوصف. والنبي عليه الصلاة والسلام نهى عن إطرائه كإطراء النصارى ابن مريم، فقال: «إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله» .
وقد ظن بعض الناس أن (الكاف) في قوله «كما أطرت النصارى ابن مريم» أنها كاف المثلية؛ يعني: لا تطروني بمثل ما أطرت النصارى ابن مريم، ويقول هذا الظان: إن النصارى أطرت ابن مريم في شيء وحد، وهو أن قالوا: هو ابن الله جل وعلا، فيكون النهي عن أن تجعل له صلى الله عليه وسلم رتبة النبوة فقط، فإذا كان كذلك فما عداه جائز. وهذا هو فهم الخرافيين لهذا النهي؛ كما قال قائلهم البوصيري في هذا المقام:
دع ما ادعته النصارى في نبيهم ... واحكم بما شئت فيه واحتكم
أو كما قال، يعني: لا تقل: إنه ولد لله، أو إنه ابن لله، فهذا هو القدر المنهي عنه فقط، ولك أن تقول فيه بعد ذلك ما شئت غير ملوم وغير مثرب عليك.
الوجه الثاني وهو الفهم الصحيح، وهو الذي يدل عليه السياق: أن (الكاف) هنا هي كاف القياس، والمعنى: لا تطروني إطراء، كما أطرت النصارى ابن مريم.
_________
(1) أخرجه البخاري (3445) والدارمي (2787) وأحمد (3029) وتقدم الحديث.

(1/245)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
وكاف القياس هي كاف التمثيل الناقص، وحقيقتها: أن يكون هناك شبه بين ما بعدها وما قبلها في أصل الفعل، فنهى صلى الله عليه وسلم في قوله: «لا تطروني كما أطرت» عن أن يطري عليه الصلاة والسلام كما حصل أن النصارى أطرت ابن مريم فهو تمثيل للحدث بالحدث، لا تمثيل أو نهي عن نوع الإطراء، فمعنى قوله: «لا تطروني كما أطرت» هو نهي عن إطرائه عليه الصلاة والسلام؛ لأجل أن النصارى أطرت ابن مريم، فقادهم ذلك إلى الكفر، والشرك بالله، وادعاء أنه ولد لله جل وعلا ولهذا قال: «إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله» .
فالكاف هنا ليست كاف التمثيل الكامل؛ بأن يكون ما بعدها مماثلا لما قبلها من كل وجه، وإنما هي كاف التمثيل الذي يكون ما بعده مشتركا مع ما قبله في المعنى، وهي القياسية التي تجمعها العلة؛ ولهذا قال العلماء كما هو معلوم: هذا كهذا، فيقولون مثلا: نبيذ غير التمر والعنب، كنبيذ التمر والعنب، مساواة بين هذا وهذا، لوجود أصل المعنى بينهما، وهنا نهي عن الإطراء، لأجل وجود أصل الإطراء، في الاشتراك بين إطراء النصارى وما سببه من الشرك، وإطراء ما لو أطري النبي صلى الله عليه وسلم وما سيسببه من الشرك.
وكثير من طوائف هذه الأمة خالفوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن إطرائه حتى جاوزوا الحد في ذلك، فزعم زاعمهم أن له من الملك نصيبا، ولا حول ولا قوة إلا بالله. مع أنه صلى الله عليه وسلم أرشدهم إلى ما ينبغي أن يكون عليه الأمر بقوله: «إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله» وهذا هو الكمال في حقه عليه الصلاة والسلام: أن يكون عبدا رسولا، فهذا أشرف مقاماته عليه الصلاة والسلام.

(1/246)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
قوله: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو» : هذا نهي عن الغلو بأنواعه، وأن من قبلنا إنما أهلكهم الغلو؛ أهلكهم من جهة الدين، وأهلكهم - أيضا - من جهة الدنيا، فالغلو سبب لكل شر، والاقتصاد سبب في كل فلاح وخير، والغلو منهي عنه بجميع صوره، في الأقوال والأعمال يعني: في جميع أقوال القلب وأعماله، وكذلك أقوال اللسان وأعمال الجوارح، فالغلو سبب لهلاك العبد في دينه ودنياه.
قوله: " ولمسلم: عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «هلك المتنطعون» يعني: هلك الذين تنطعوا فيما يأتون به في أفعالهم، أو أقوالهم، وهم الذين جاوزوا الحد في ذلك، وابتغوا علم شيء أو تكلفوا شيئا، لم يأذن به الله؛ فزادوا عما أذن لهم، وابتغوا علم شيء أو تكلفوا شيئا، لم يأذن به الله؛ فزادوا عما أذن لهم، فأتوا بأشياء، لم يؤذن لهم فيها. والتنطع، والإطراء، والغلو، متقاربة المعنى يجمعها مجاوزة الحد المشروع، والغلو يشمل الإطراء، ويشمل التنطع؛ فكل تنطع، وكل إطراء: غلو، والغلو اسم جامع لهذه جميعا، فالشيخ - رحمه الله - في هذا الباب - بين أن سبب كفر بني آدم، وسبب تركهم دينهم: هو الغلو في الصالحين، بأن جاوزوا الحد فيهم، كما جاوز قوم نوح الحد في صالحيهم، فعكفوا على قبورهم، وألهوها، فصارت آلهة، والنصارى غلت في رسولهم عيسى عليه السلام، وفي الحواريين، وفي البطارقة، حتى جعلوهم آلهة مع الله - جل وعلا - يستغيثون بهم، ويؤلهونهم، ويسألونهم ويعبدونهم، وكذلك وقع الغلو في هذه الأمة من الذين جعلوا للنبي عليه الصلاة والسلام نصيبا من

(1/247)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
خصائص الألوهية، وهذا هو عين ما نهى عنه عليه الصلاة والسلام بقوله: «لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح بن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله» .

في هذا الباب مع الأبواب بعده بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصا على هذه الأمة، وأنه كان بالمؤمنين رؤوفا رحيما، ومن تمام حرصه على الأمة أن حذرهم كل وسيلة تصل بهم إلى الشرك، وسد جميع الذرائع الموصلة إلى ذلك، وغلظ في ذلك، وشدد فيه، وأبدى وأعاد، حتى إنه بين ذلك؛ خشية أن يفوت تأكيده، وهو يعاني سكرات الموت عليه الصلاة والسلام.
فهذه الأبواب في بيان وسائل الشرك الأكبر، وما ينبغي سده ومنعه من الذرائع الموصلة إليه؛ رعاية وحماية للتوحيد؛ لأن النبي - عليه الصلاة والسلام - غلظ على من يفعلون شيئا من تلك الوسائل، أو الذرائع الموصلة إلى الشرك.
وهذا الباب في بيان أحد الوسائل الموصلة إلى الشرك، والذرائع التي يجب منعها.
قوله - رحمه الله: " باب ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح ". صورة ذلك: أن يأتي آت إلى قبر رجل صالح، يعلم صلاحه - كأن يكون من الأنبياء والمرسلين، أو أن يكون من صالحي هذه الأمة، أو صالحي أمة غير هذه الأمة - فيتحرى ذلك المكان؛ كي يعبد الله وحده دون ما سواه؛ رجاء بركة هذه البقعة.
وقد راج هذا الأمر عند الكثيرين من الناس، والدهماء، حيث اعتقدوا أن ما حول قبور الأنبياء والصالحين من الأمكنة والبقاع مبارك، وأن العبادة عندها ليست كالعبادة عند غيرها. والنبي عليه الصلاة والسلام غلظ في ذلك
(1/248)
التمهيد لشرح كتاب التوحيد





   
  رقم المشاركة :7  (رابط المشاركة)
قديم 19.01.2018, 13:54
صور الشهاب الثاقب الرمزية

الشهاب الثاقب

مشرف عام

______________

الشهاب الثاقب موجود الآن

الملف الشخصي
التسجيـــــل: 14.09.2011
الجــــنـــــس: ذكر
الــديــــانــة: الإسلام
المشاركات: 991  [ عرض ]
آخــــر نــشــاط
28.03.2024 (18:59)
تم شكره 689 مرة في 467 مشاركة
افتراضي


بسم الله الرحمن الرحيم
و به نستعين


















[باب من الشرك الاستعاذة بغير الله تعالى]
" باب من الشرك الاستعاذة بغير الله تعالى " وقول الله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن: 6] [الجن: 6] .
وعن خولة بنت حكيم رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من نزل منزلا فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرحل من منزله ذلك» رواه مسلم (1) .
فيه مسائل: الأولى: تفسير آية الجن.
الثانية: كونه من الشرك.
الثالثة الاستدلال على ذلك بالحديث؛ لأن العلماء يستدلون به على أن كلمات الله غير مخلوقة؛ قالوا: لأن الاستعاذة بالمخلوق شرك.
الرابعة: فضيلة هذا الدعاء مع اختصاره.
الخامسة: أن كون الشيء يحصل به منفعة دنيوية؛ من كف شر؛ أو جلب نفع؛ لا يدل على أنه ليس من الشرك.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
_________
(1) أخرجه مسلم (2708) .

(1/165)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
الله " لأن الاستعانة بغير الله تكون بالقول الذي معه اعتقاد؛ ولذلك ناسبت أن تكون بعد " باب من الشرك النذر لغير الله ".
وقوله - رحمه الله -: " من الشرك ": (من) هاهنا تبعيضية كما ذكرنا فيما سبق من الأبواب، والشرك المقصود هنا هو: الشرك الأكبر، أي من الشرك الأكبر الاستعاذة بغير الله؛ لأن (الألف واللام) أو (اللام وحدها) الداخلة على قوله: " الشرك " هي: للعهد؛ فتكون عائدة إلى الشرك المعهود، وهو الأكبر، يعني: باب من الشرك الأكبر الاستعاذة بغير الله.
والاستعاذة: طلب العياذ، يقال استعاذ: إذا طلب العياذ، والعياذ: ما يؤمِّن من الشر، كالفرار من شيء مخوف إلى ما يؤمِّن منه، أو إلى من يؤمِّن منه، ويقابلها اللياذ، وهو: الفرار إلى طلب الخير، والتوجه إليه، والاعتصام به، والإقبال عليه، لطلب الخير.
والاستعاذة: استفعال، ومادة (استفعل) موضوعة في الغالب للطلب، فغالب مجيء (الألف والسين والتاء) للطلب؛ فمعنى: استعاذ، واستعان، واستغاث، واستسقى: طلب تلك الأمور، وتأتي أحيانا للدلالة على كثرة الوصف في الفعل، كما في قوله - جل وعلا -: {وَاسْتَغْنَى اللَّهُ} [التغابن: 6] [التغابن: 6] ؛ فـ (استغنى) ليس معناها طلب الغنى، وإنما جاء بالسين والتاء هنا: للدلالة على عظم الاتصاف بالوصف الذي اشتمل عليه الفعل، وهو: الغني. فـ (استعاذ) و (استغاث) و (استعان) ، وأشباه ذلك فيها طلب، والطلب من أنواع التوجه والدعاء، لأن الطلب يدل على أن هناك من يُطلب منه والمطلوب منه لما كان أرفع درجة من الطالب: كان الفعل المتوجه إليه يسمى دعاء؛

(1/167)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
ولهذا فإن حقيقة الاستعاذة لغة، ودلالتها شرعا هي: طلب العوذ، أو طلب العياذ؛ وهو الدعاء المشتمل على ذلك، والاستغاثة هي: طلب الغوث وهو دعاء مشتمل على ذلك، وهكذا في كل ما فيه طلب نقول: إنه دعاء، وإذا كان دعاء فإنه يكون عبادة، والعبادة حق لله وحده دون من سواه، كما قام الإجماع على هذا، ودلت النصوص عليه، كقوله سبحانه: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18] [الجن: 18] وكقوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] [الإسراء: 23] كقوله: أيضا: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36] [النساء: 36] إذًا: فكل فعل من الأفعال، أو قول من الأقوال فيه طلب: يكون عبادة؛ لأنه دعاء؛ وكل طلب: فهو دعاء. والطلب يختلف نوعه ومسماه باختلاف المطلوب منه: فإذا كان الطلب من مقارن: فيسمى التماسا، وإذا كان ممن هو دونك: فيسمى أمرا، وإذا كان ممن هو أعلى منك: فيسمى دعاء. والمستعيذ والمستغيث، لا شك أنه طالب ممن هو أعلى منه؛ لحاجته إليه؛ فلهذا يصح أن يكون كل دليل فيه ذكر إفراد الله - جل وعلا - بالدعاء أو بالعبادة، دليلا على خصوص هذه المسألة، وهي: أن الاستعاذة من العبادات العظيمة، وإذ كانت كذلك، فإن إفراد الله بها واجب.
وقوله هنا: " من الشرك الاستعاذة بغير الله ": هذا الغير شامل لكل من يتوجه إليهم بالعبادة، ويشركونهم مع الله، ويدخل في ذلك - بالأولية - ما كان المشركون الجاهليون يتوجهون إليهم بالعبادة: من الجن، والملائكة،

(1/168)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
والرسل، والأنبياء، والصالحين، والأشجار، والأحجار، وغير ذلك من معبوداتهم.
لكن هل مقصوده بقوله: " باب من الشرك الاستعاذة بغير الله " شمول هذا الحكم على فاعله بالشرك، لكل أنواع الاستعاذة، ولو كان فيما يقدر عليه المخلوق؟ والجواب: أن هذا فيه تفصيل، فمن العلماء من يقول: الاستعاذة توجه القلب، واعتصامه، والتجاؤه، ورغبه، وهذه المعاني جميعا لا تصلح إلا لله - جل وعلا -.
وقال آخرون: قد جاءت أدلة بأنه يستعاذ بالمخلوق فيما يقدر عليه؛ لأن حقيقة الاستعاذة: طلب انكفاف الشر، وطلب العياذ، وهو: أن يستعيذ من شر أحدق به، وإذا كان كذلك: فقد يملك المخلوق شيئا من ذلك، وعلى هذا فتكون الاستعاذة بغير الله شركا أكبر، إذا كان ذلك المخلوق لا يقدر على أن يعيذ، أو طلبت منه الإعاذة فيما لا يقدر عليه إلا الله.
والذي يظهر أن المقام كما سبق فيه تفصيل، وهو: أن الاستعاذة فيها عمل ظاهر، وفيها عمل باطن، فالعمل الظاهر: أن يطلب العوذ، وأن يطلب العياذ، وهو أن يُعصم من هذا الشر، أو أن ينجو من هذا الشر، وفيها أيضا عمل باطن وهو: توجه القلب وسكينته، واضطراره، وحاجته إلى هذا المستعاذ به، واعتصامه بهذا المستعاذ به، وتفويض أمر نجاته إليه.
فإذا كانت الاستعاذة تجمع هذين النوعين فيصح أن يقال: إن الاستعاذة لا تصلح إلا بالله، لأن منها ما هو عمل قلبي كما تقدم وهو بالإجماع لا يصلح التوجه به إلا لله. وإذا قصد بالاستعاذة العمل الظاهر فقط وهو

(1/169)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
طلب العياذ والملجأ، فيجوز أن يتوجه بها إلى المخلوق، وعلى هذا يحمل الدليل الوارد في جوازها.
فحقيقة الاستعاذة إذًا تجمع بين الطلب الظاهر، والمعنى الباطن؛ ولهذا اختلف أهل العلم في جواز طلبها من المخلوق، فالذي ينبغي أن يكون منك دائما على ذكر: أن توجُّه أهل العبادات الشركية لمن يشركون به من الأولياء، أو الجن، أو الصالحين، أو غيرهم، أنهم جمعوا بين القول باللسان، وأعمال القلوب التي لا تصلح إلا لله - جل وعلا -، وبهذا يبطل ما يقوله أولئك الخرافيون من: أن الاستعاذة بهم إنما هي فيما يقدرون عليه، وأن الله أقدرهم على ذلك؛ فيكون إبطال مقالهم راجعا إلى جهتين:
الجهة الأولى: أن يُبطل قولهم بأن يقال: إن هذا المَيْت، أو هذا الجني يقدر على هذا الأمر الذي طلب منه، فإذا لم يقتطع بذلك، أو حصل عنده اشتباه ما، انتقل الجني إلى الجهة الثانية من الإبطال: وهو إثبات أن الاستعاذة فيها توجه بالقلب إلى المستعاذ به واضطرار إليه، واعتصام به، وافتقار إليه؛ وهذا الذي توجه إلى ذلك الميت أو الولي قد قامت هذه المعاني بقلبه، ولا يجوز أن يكون شيء من ذلك إلا لله وحده - عز وجل -.
فنقول إذًا: الاستعاذة بغير الله شرك أكبر؛ لأنها صرف عبادة لغير الله - جل جلاله -. لكن إن كان الاستعاذة في الظاهر فقط مع طمأنينة القلب بالله وتوجهه إلى الله، وحسن ظنه بالله، وأن هذا العبد إنما هو سبب، وأن القلب مطمئن لما عند الله فإن هذه تكون استعاذة بالظاهر، وأما القلب: فإنه لم تقم به حقيقة الاستعاذة. وإذا كان كذلك: كان هذا جائزا.

(1/170)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
قال - رحمه الله -: (وقول الله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن: 6] [الجن: 6] .
قوله: (وَأَنَّهُ) هذه معطوفة على أول السورة، وهو ما أوحى الله - جل وعلا - إلى نبيه بقوله: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} [الجن: 1] [الجن: 1] ثم قال بعد آيات: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن: 6] [الجن: 6] ومعنى {رَهَقًا} [الجن: 6] أي: خوفا، واضطرابا في القلب؛ أوجب لهم الإرهاق، والرهق: في الأبدان وفي الأرواح، فلما كان كذلك تعاظمت الجن، وزاد شرها، وقد كان المشركون يعتقدون أن لكل مكان مخوف جنيا أو سيدا من الجن يخدم ذلك المكان، هو له ويسيطر عليه، فكانوا إذا نزلوا واديا، أو مكانا قالوا: نعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، يعنون الجن، فعاذوا بالجني لأجل أن يكف عنهم الشر مدة مقامهم؛ لهذا قال جل وعلا: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن: 6] يعني: زاد الجن الإنس خوفا، واضطرابا، وتعبا في الأنفس، وفي الأرواح، وإذا كان كذلك: كان هذا عقوبة لهم. والعقوبة إنما تكون على ذنب، فدلت الآية على ذم أولئك، وإنما ذموا؛ لأنهم صرفوا تلك العبادة لغير الله - جل وعلا - والله سبحانه أمر أن يستعاذ به دون ما سواه فقال سبحانه {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق: 1] [الفلق: 1] وقال:

(1/171)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس: 1] [الناس: 1] وقال {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ - وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون: 97 - 98] [المؤمنون: 97] والآيات في ذلك كثيرة، كقوله: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [الأعراف: 200] [الأعراف: 200] ، فَعُلِمَ من التنصيص على المستعاذ به وهو الله - جل وعلا - أن الاستعاذة حصلت بالله، وبغيره وأن الله أمر نبيه أن تكون استعاذته به وحده دون ما سواه. وقد ذكرت لكم أصل الدليل في ذلك، وأن الاستعاذة عبادة، وإذا كانت عبادة فتدخل فيما دلت عليه الآيات من إفراد العبادة بالله وحده.
وقال قتادة وبعض السلف: إن معنى قوله: {رَهَقًا} [الجن: 6] إثما، (1) أي: فزادوهم إثما، وهذا أيضا ظاهر من جهة الاستدلال، لأن الاستعاذة إذا كانت موجبة للإثم، فهي إذًا عبادة شركية إذا صرفت لغير الله، وعبادة مطلوبة إذا صرفت لله - جل جلاله - وهذا يستقيم مع الترجمة من أن الاستعاذة بغير الله شرك.
قوله: (وعن خولة بنت حكيم قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من نزل منزلا فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرحل من منزله ذلك» رواه مسلم.
_________
(1) تفسير ابن كثير (8 / 226) .

(1/172)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
وجه الدلالة من هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم يبين فضل الاستعاذة بكلمات الله فقال: «من نزل منزلا فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق» وجعل المستعاذ منه: المخلوقات الشريرة والمستعاذ به هو: كلمات الله وقد استدل أهل العلم لما ناظروا المعتزلة، وردوا عليهم بهذا الحديث، على أن كلمات الله ليست بمخلوقة، قالوا: لأن المخلوق لا يستعاذ به، والاستعاذة به شرك، كما قاله الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة. فوجه الدلالة من الحديث: إجماع أهل السنة على الاستدلال به على أن الاستعاذة بالمخلوق شرك، وأنه ما أمر بالاستعاذة بكلمات الله إلا لأن كلمات الله - جل وعلا - ليست بمخلوقة.
قال: «من نزل منزلا فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق» : المقصود بـ " كلمات الله التامات " هنا الكلمات الكونية التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، وهي المقصودة بقوله جل وعلا: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} [الكهف: 109] [الكهف: 109] وبقوله: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان: 27] [لقمان: 27] وقوله {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام: 115] [الأنعام: 115] وفي القراءة الأخرى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام: 115] [الأنعام: 115] فهذه الآية في الكلمات الشرعية، وكذلك في الكلمات الكونية.
إذًا: فقوله: «أعوذ بكلمات الله التامات» يعني: الكلمات الكونية.

(1/173)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
قوله: " مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ ": يعني: من شر الذي خلقه الله - جل وعلا -، وهذا العموم المقصود منه: من شر المخلوقات التي فيها شر، إذ ليست كل المخلوقات فيها شر، بل ثَمَّ مخلوقات طيبة ليس فيها شر: كالجنة، والملائكة، والرسل، والأنبياء، والأولياء، وهناك مخلوقات خلقت وفيها شر، فاستُعيذ بكلمات الله - جل وعلا - من شر الأنفس الشريرة، والمخلوقات التي فيها شر.

قوله: " باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره " الشرك: المراد به كما ذكرنا فيما سبق: الشرك الأكبر.
قوله: " أن يستغيث ": يعني الاستغاثة؛ لأن (أن) مع الفعل تؤول بمصدر، يعني: (باب من الشرك الاستغاثة بغير الله) ، أو (استغاثة بغير الله) ، وكذلك قوله: " يدعو " يؤول بمصدر، يعني: من الشرك، (دعوة غيره) ، أو (دعاء غيره) . والاستغاثة - كما ذكرنا -: طلب؛ والطلب نوع من أنواع الدعاء؛ ولهذا قال العلماء: إن في قوله: " أو يدعو غيره " بعد قوله: " أن يستغيث بغير الله " عطفا للعام على الخاص، ومن المعلوم: أن الخاص قد يعطف على العام، وأن العام قد يعطف على الخاص.
وقوله: " أن يستغيث بغير الله ": هذا أحد أفراد الدعاء - كما ذكرنا - لأن الاستغاثة طلب، والطلب دعاء.
(1/174)
التمهيد لشرح كتاب التوحيد





المزيد من مواضيعي
   
  رقم المشاركة :8  (رابط المشاركة)
قديم 19.01.2018, 13:58
صور الشهاب الثاقب الرمزية

الشهاب الثاقب

مشرف عام

______________

الشهاب الثاقب موجود الآن

الملف الشخصي
التسجيـــــل: 14.09.2011
الجــــنـــــس: ذكر
الــديــــانــة: الإسلام
المشاركات: 991  [ عرض ]
آخــــر نــشــاط
28.03.2024 (18:59)
تم شكره 689 مرة في 467 مشاركة
افتراضي


بسم الله الرحمن الرحيم
و به نستعين















[ باب من الشرك أن يستغيث بغير اللّه أو يدعو غيره]
ش: قال شيخ الإسلام: الاستغاثة هي طلب الغوث، وهو إزالة الشدة كالاستنصار طلب النصر، والاستعانة طلب العون.وقال غيره: الفرق بين الاستغاثة والدعاء: أن الاستغاثة لا تكون إلا من المكروب كما قال تعالى:{فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ}1. وقال:{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ}2.والدعاء أعم من الاستغاثة لأنه يكون من المكروب وغيره، فعلى هذا عطف الدعاء على الاستغاثة من عطف العام على الخاص.
وقال أبو السعادات: الإغاثة: الإعانة، فعلى هذا تكون الاستغاثة هي الاستعانة. ولا ريب أن من استغاثك فأغثته فقد أعنته، إلا أن لفظ الاستغاثة مخصوص بطلب العون في حالة الشدة، بخلاف الاستعانة.
------------------------
1 سورة القصص آية: 15.
2 سورة الأنفال آية: 9.

ص -176- وقوله: "أو يدعو غيره". المراد بالدعاء هنا. هو دعاء المسألة فيما لا يقدر عليه إلا اللّه تعالى، فإن ذلك شرك لما سيذكره المصنف من الآيات.
واعلم أن الدعاء نوعان: دعاء عبادة، ودعاء مسألة كما حققه غير واحد منهم: شيخ الإسلام وابن القيم وغيرهما، ويراد به في القرآن هذا تارة، وهذا تارة، ويراد به مجموعهما، وهما متلازمان.
فدعاء المسألة هو طلب ما ينفع الداعي من جلب نفع أو كشف ضر، فالمعبود لا بد أن يكون مالكًا للنفع والضر، ولهذا أنكر اللّه تعالى على من عبد من دونه ما لا يملك ضرًّا ولا نفعًا كقوله:{قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}1. وقوله:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}2. وذلك كثير في القرآن يبين أن المعبود لا بد وأن يكون مالكًا للنفع والضر، فهو يدعى للنفع والضر دعاء المسألة، ويدعى خوفًا ورجاء دعاء العبادة، فعلم أن النوعين متلازمان. فكل دعاء عبادة مستلزم لدعاء المسألة، وكل دعاء مسألة متضمن لدعاء العبادة. وبهذا التحقيق يندفع عنك ما يقوله عباد القبور إذ احتج عليهم بما ذكر اللّه في القرآن من الأمر بإخلاص الدعاء له.
قالوا: المراد به العبادة، فيقولون في مثل قوله تعالى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً}3. أي: لا تعبدوا مع اللّه أحدًا، فيقال لهم: وإن أريد به دعاء العبادة، فلا ينفي أن يدخل دعاء المسألة في العبادة، لأن دعاء العبادة مستلزم لدعاء المسألة، كما أن دعاء المسألة متضمن لدعاء العبادة، هذا لو لم يرد في دعاء المسألة بخصوصه من القرآن إلا الآيات التي ذكر فيها دعاء العبادة. فكيف وقد ذكر اللّه في القرآن في غير موضع. قال اللّه تعالى:{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}4. وقال تعالى:{وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً}5.
------------------------
1 سورة المائدة آية: 76.
2 سورة يونس آية: 18.
3 سورة الجن آية: 18.
4 سورة الأعراف آية: 55.
5 سورة الأعراف آية: 56.

ص -177- وقال تعالى:{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ}1. وقال تعالى:{وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ}2. وقال تعالى:{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ}3.
وقال تعالى:{لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ}4. وقال تعالى: عن إبراهيم عليه السلام:{إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ}5. وقال عنه أيضًا:{وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ...}6. وقال تعالى:{ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ}7.8. وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً}9. وقال تعالى:{وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الأِنْسَانُ كَفُوراً}10. وقال تعالى:{قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}11. وقال تعالى عن زكريا عليه السلام:{قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً}12. وقال تعالى:{وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ}13. وقال تعالى:{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ}14. فكفى بهذه الآيات نجاة وحجة وبرهانًا في الفرق بين التوحيد والشرك عمومًا وفي هذه المسألة خصوصًا.
وقال تعالى:{فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ}15. وقال تعالى:{وَإِذَا مَسَّ الأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ}16. وقال تعالى:
------------------------
1 سورة آل عمران آية: 135.
2 سورة النساء آية: 32.
3 سورة آية: 40-41.
4 سورة الرعد آية: 14.
5 سورة إبراهيم آية: 39.
6 سورة آية: 48-49.
7 سورة النحل آية: 53.
8 سورة النحل آية: 53-54.
9 سورة الإسراء آية: 56.
10 سورة الإسراء آية: 67.
11 سورة الإسراء آية: 110.
12 سورة مريم آية: 4.
13 سورة القصص آية: 64.
14 سورة العنكبوت آية: 65.
15 سورة العنكبوت آية: 17.
16 سورة الزمر آية: 8.

ص -178- {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ}1. وقال تعالى:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}2. وغير ذلك من الآيات.
وفي الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يحصى، منها قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: "يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا فاستغفروني أغفر لكم"3. رواه مسلم "وقوله صلى الله عليه وسلم ينْزل ربنا تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر ثم يقول: من يدعوني فأستجب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟"4. رواه البخاري ومسلم.
وقوله: "ليس شيء أكرم على اللّه من الدعاء"5 رواه أحمد والترمذي وابن ماجة وابن حبان، والحاكم وصححه. وقوله: "من لم يدع اللّه يغضب عليه"6 رواه أحمد وابن أبي شيبة والحاكم وقوله: "سلوا اللّه من فضله فإن اللّه يحب أن يسأل"7. رواه الترمذي، وقوله: "الدعاء سلاح المؤمن، وعماد الدين، ونور السماوات والأرض". رواه الحاكم وصححه8. وقوله: "الدعاء هو العبادة"9. رواه أحمد والترمذي. وفي حديث آخر: "الدعاء مخ العبادة"10. رواه الترمذي. وقوله لما سئل: "أي العبادة أفضل؟ قال: دعاء المرء لنفسه". رواه البخاري في "الأدب"11. وقوله: "لن ينفع حذر من قدر ولكن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينْزل فعليكم بالدعاء يا عباد اللّه"12. رواه أحمد. وقوله: "سلوا اللّه كل شيء
------------------------
1 سورة فاطر آية: 13-14.
2 سورة غافر آية: 60.
3 مسلم: البر والصلة والآداب (2577) , والترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2495) , وابن ماجه: الزهد (4257) , وأحمد (5/154 ,5/160 ,5/177).
4 البخاري: الجمعة (1145) , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (758) , والترمذي: الصلاة (446) والدعوات (3498) , وأبو داود: الصلاة (1315) والسنة (4733) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1366) , وأحمد (2/258 ,2/264 ,2/267 ,2/282 ,2/419 ,2/487 ,2/504 ,2/521) , ومالك: النداء للصلاة (496) , والدارمي: الصلاة (1478 ,1479).
5 الترمذي: الدعوات (3370) , وابن ماجه: الدعاء (3829) , وأحمد (2/362).
6 الترمذي: الدعوات (3373) , وابن ماجه: الدعاء (3827) , وأحمد (2/477).
7 الترمذي: الدعوات (3571).
8 موضوع، الجامع [300].
9 البخاري: الزكاة (1461) , ومسلم: الزكاة (998) , والترمذي: تفسير القرآن (2997) , والنسائي: الأحباس (3602) , وأبو داود: الزكاة (1689) , وأحمد (3/141) , ومالك: الجامع (1875) , والدارمي: الزكاة (1655).
10 مسلم: الأقضية (1715) , وأحمد (2/367) , ومالك: الجامع (1863).
11 موضوع، الجامع [1008].
12 البخاري: الإيمان (36) وفرض الخمس (3123) والتوحيد (7457 ,7463) , ومسلم: الإمارة (1876) , والنسائي: الجهاد (3122 ,3123) والإيمان وشرائعه (5029 ,5030) , وابن ماجه: الجهاد (2753) , وأحمد (2/231 ,2/384 ,2/399 ,2/424 ,2/494) , ومالك: الجهاد (974) , والدارمي: الجهاد (2391).

ص -179- حتى الشسع1 إذا انقطع، فإنه إن لم ييسره لم يتيسر" رواه أبو يعلى بإسناد صحيح. وقوله: "ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى يسأله شسع نعله إذا انقطع وحتى يسأله الملح"2. رواه البزار بإسناد صحيح.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إني لا أحمل هم الإجابة، ولكن هم الدعاء، فإذا ألهمت الدعاء علمت أن الإجابة معه". وقال ابن عباس رضي الله عنهما: " أفضل العبادة الدعاء وقرأ وقال ربكم ادعوني أستجب لكم " رواه ابن المنذر والحياكم وصححه. "وقال مطرف: تذكرت ما جماع الخير؟ فإذا الخير كثير، الصلاة والصيام، وإذا هو في يد اللّه تعالى، وإذا أنت لا تقدر على ما في يد اللّه إلا أن تسأله فيعطيك". رواه أحمد. [في الزّهد].
والأحاديث والآثار في ذلك لا يحيط بها إلا اللّه تعالى. فثبت بهذا أن الدعاء عبادة من أجل العبادات، بل هو أكرمها على اللّه كما تقدم، فإن لم يكن الإشراك فيه شركًا، فليس في الأرض شرك، وإن كان في الأرض شرك فالشرك في الدعاء أولى أن يكون شركًا من الإشراك في غيره من أنواع العبادة، بل الإشراك في الدعاء - هو أكبر شرك المشركين الذين بعث إليهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فإنهم يدعون الأنبياء والصالحين والملائكة، ويتقربون إليهم ليشفعوا لهم عند اللّه، ولهذا يخلصون في الشدائد للّه وينسون ما يشركون، حتى جاء أنهم إذا جاءتهم الشدائد في البحر يلقون أصنامهم في البحر ويقولون: يا اللّه يا اللّه، لعلمهم أن آلهتهم لا تكشف الضر ولا تجيب المضطر. وقال تعالى:{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ
------------------------
1 الشِّسْعُ: أحد سُيور النّعل. هو الي يُدخَل بين الإصبعين، ويُدخَل طرفه في الثّقب الذي في صدر النّعل المشدود في الزّمام. والزّمام السَّير الذي يُعقَد فيه الشّسع.
2 البخاري: الجهاد والسير (2896) , وأحمد (1/173).

ص -180- الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ}1. فهم كانوا يعلمون أن ذلك للّه وحده، وأن آلهتهم ليس عندها شيء من ذلك، ولهذا احتج سبحانه وتعالى عليهم بذلك أنه هو الإله الحق، وعلى بطلان إلهية ما سواه. وقال تعالى: :{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ}2.فهذه حال المشركين الأولين.
وأما عباد القبور اليوم فلا إله إلا اللّه، كم ذا بينهم وبين المشركين الأولين من التفاوت العظيم في الشرك، فإنهم إذا أصابتهم الشدائد برًّا وبحرًا أخلصوا لآلهتهم وأوثانهم التي يدعونها من دون اللّه، وأكثرهم قد اتخذ ذكر إلهه وشيخه ديدنه، وهجيراه إن قام وإن قعد وإن عثر. هذا يقول: يا علي [الشّاذلي]، وهذا يقول: يا عبد القادر [الجيلاني]، وهذا يقول: يا ابن علوان، وهذا يدعو البدوي، وهذا يدعو العيدروس. وبالجملة ففي كل بلد في الغالب أناس يدعونهم ويسألونهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات. بل بلغ الأمر إلى أن سألوهم مغفرة الذنوب، وترجيح الميزان، ودخول الجنة والنجاة من النار، والتثبيت عند الموت والسؤال، وغير ذلك من أنواع المطالب التي لا تطلب إلا من اللّه. وقد يسألون ذلك من أناس يدعون الولاية، وينصبون أنفسهم لهذه الأمور وغيرها من أنواع النفع والضر التي هي خواص الإلهية، ويلفقون لهم من الأكاذيب في ذلك عجائب. منها أنهم يدعون أنهم يخلصون مَنِ اْلَتَجَأَ إليهم وَلاَذَ بِحماهم من النار والعذاب، فيقول أحدهم: إنه يقف عند النار فلا يدع أحدًا ممن يرتجيه ويدعوه يدخلها أو نحو هذا، وقد قال تعالى لسيد المرسلين صلى اللّه عليه وعليهم أجمعين:{أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ}3. فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يقدر على تخليص أحد من النار، فكيف بغيره، بل كيف بمن يدعي نفسه
------------------------
1 سورة النمل آية: 62.
2 سورة العنكبوت آية: 65.
3 سورة الزمر آية: 19.

ص -181- أنه هو يفعل ذلك؟! ومنها أن أكثرهم يلفق حكايات في أن بعض الناس استغاث بفلان فأغاثه، أو دعا الولي الفلاني فأجابه، أو في كربة ففرج عنه، وعند عباد القبور من ذلك شيء كثير من جنس ما عند عباد الأصنام الذين استولت عليهم الشياطين، ولعبوا بهم لعب الصبيان بالكرة.
ويوجد شيء من ذلك في أشعار المادحين لسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم الذين جاوزوا الحد في مدحه صلى الله عليه وسلم وعصوه في نهيه من الغلو فيه، وإطرائه كما أطرت النصارى ابن مريم، وصار حظهم منه صلى الله عليه وسلم هو مدحه بالأشعار والقصائد، والغلو الزائد، مع عصيانهم له في أمره ونهيه، فتجد هذا النوع من أعصى الخلق له صلوات اللّه عليه وسلامه.
ويقع من ذلك كثير في مدح غيره، فإن عباد القبور لا يقتصرون على بعض من يعتقدون فيه الضر والنفع، بل كل من ظنوا فيه ذلك بَالَغُوا في مدحه وأنزلوه منْزلة الربوبية وصرفوا له خالص العبودية، حتى إنهم إذا جاءهم رجل وادعى أنه رأى رؤيا مضمونها أنه دفن في المحل الفلاني رجل صالح، بادروا إلى المحل وبنوا عليه قبة وزخرفوها بأنواع الزخارف، وعبدوها بأنواع من العبادات.
وأما القبور المعروفة أو المتوهمة، فأفعالهم معها وعندها لا يمكن حصره، فكثير منهم إذا رأوا القباب التي يقصدونها كشفوا الرؤوس فنَزلوا عن الأكوار، فإذا أتوها طافوا بها واستلموا أركانها، وتمسحوا بها، وصلوا عندها ركعتين، وحلقوا عندها الرؤوس ووقفوا باكين متذللين متضرعين سائلين مطالبهم، وهذا هو الحج، وكثير منهم يسجدون لها إذا رأوها، ويعفرون وجوههم في التراب تعظيمًا لها، وخضوعًا لمن فيها، فإن كان للإنسان منهم حاجة من شفاء مريض أو غير ذلك، نادى صاحب القبر، يا سيدي فلان جئتك قاصدًا من مكان بعيد، لا تخيبني، وكذلك إذا قحط المطر، أو عقرت المرأة عن الولد، أو دهمهم عدو أو جراد، فزعوا إلى صاحب القبر، وبكوا عنده فإن

ص -182- جرى المقدور بحصول شيء مما يريدون، استبشروا وفرحوا ونسبوا ذلك إلى صاحب القبر، فإن لم يتيسر شيء من ذلك اعتذروا عن صاحب القبر بأنه إما غائب في مكان آخر، أو ساخط لبعض أعمالهم، أو أن اعتقادهم في الولي ضعيف، أو أنهم لم يعطوه نذره ونحو هذه الخرافات. ومن بعض أشعار المادحين لسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم قول البوصيري:

152 يا أكرم الخلق ما لي مَنْ أَلُوذُ به سواك عند حلول الحادث العمم .

153 ولن يضيق رسول اللّه جاهك بي إذا الكريم تجلى باسم منتقم .

146 فإن لي ذمة منه بتسميتي محمدًا وهو أوفى الخلق بالذمم .

147 إن لم يكن في معادي آخذًا بيدي فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم .

فتأمل ما في هذه الأبيات من الشرك.
منها. أنه نفى أن يكون له ملاذًا إذا حلت به الحوادث، إلا النبي صلى الله عليه وسلم وليس ذلك إلا للّه وحده لا شريك له، فهو الذي ليس للعباد ملاذ إلا هو.
الثاني. أنه دعاه وناداه بالتضرع وإظهار الفاقة والاضطرار إليه، وسأل منه هذه المطالب التي لا تُطْلَبُ إلا من اللّه، وذلك هو الشرك في الإلهية.
الثالث. سؤاله منه أن يشفع له في قوله: ولن يضيق رسول اللّه. البيت. وهذا هو الذي أرادها المشركون ممن عبدوه، وهو الجاه والشفاعة عند اللّه، وذلك هو الشرك وأيضًا فإن الشفاعة لا تكون إلا بعد إذن اللّه فلا معنى لطلبها من غيره، فإن اللّه تعالى هو الذي يأذن للشافع أن يشفع لأن الشافع يشفع ابتداء.
الرابع. قوله: فإن لي ذمة. إلى آخره. كذب على اللّه وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم فليس بينه وبين من اسمه محمد ذمة إلا بالطاعة، لا بمجرد الإشراك في الاسم مع الشرك.
الخامس. قوله: إن لم يكن في معادي. البيت. تناقض

ص -183- عظيم وشرك ظاهر، فإنه طلب أولاً أن لا يضيق به جاهه، ثم طلب هنا أن يأخذ بيده فضلاً وإحسانًا، وإلاّ فيا هلاكه! فيقال: كيف طلبت منه أولاً الشفاعة ثم طلبت منه هنا أن يتفضل عليك؟! فإن كنت تقول: إن الشفاعة لا تكون إلا بعد إذن اللّه، فكيف تدعو النبي صلى الله عليه وسلم وترجوه وتسأله الشفاعة؟! فهلا سألتها مَنْ له الشفاعة جميعًا الذي له ملك السموات والأرض الذي لا تكون الشفاعة إلا من بعد إذنه، فهذا يبطل عليك طلب الشفاعة من غير اللّه.
وإن قلت: ما أريد إلا جاهه، وشفاعته بإذن اللّه. قيل: فكيف سألته أن يتفضل عليك ويأخذ بيدك في يوم الدين، فهذا مضاد لقوله تعالى:{وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}1. فكيف يجتمع في قلب عبد الإيمان بهذا وهذا؟! وإن قلت: سألته أن يأخذ بيدي، ويتفضل علي بجاهه وشفاعته. قيل: عاد الأمر إلى طلب الشفاعة من غير اللّه، وذلك هو محض الشرك.
السادس. في هذه الأبيات من التبري من الخالق - تعالى وتقدس - والاعتماد على المخلوق في حوادث الدنيا والآخرة ما لا يخفى علىمؤمن، فأين هذا من قوله تعالى:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}2. وقوله تعالى:{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}3. وقوله:{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً}4. وقوله تعالى:{قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ}5.
------------------------
1 سورة الانفطار آية: 19-20-.
2 سورة الفاتحة آية: 5.
3 سورة التوبة آية: 129.
4 سورة الفرقان آية: 58.
5 سورة الجنّ آية: 21-23.

ص -184- فإن قيل: هو لم يسأله أن يتفضل عليه، وإنما أخبر أنه إن لم يدخل في عموم شفاعته فيا هلاكه. قيل: المراد بذلك سؤاله، وطلب الفضل منه، كما دعاه أول مرة وأخبر أنه لا ملاذ له سواه، ثم صرح بسؤال الفضل والإحسان بصيغة الشرط والدعاء، والسؤال كما يكون بصيغة الطلب يكون بصيغة الشرط كما قال نوح عليه السلام:{إِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}1.
ومن شعر البرعي قوله:
ماذا تعامل يا شمس النبوة من أضحى إليك من الأشواق في كبدي
فامنع جناب صريع لا صريخ له نائي المزار غريب الدار مبتعد .
حليف ودك واه الصبر منتظر لغارة منك يا ركني ويا عضدي .
أسير ذنبي وزلاتي ولا عمل أرجو النجاة به إن أنت لم تجد .
وجرى في شركه إلى أن قال:
وحُلَ عقدة كربي يا محمد من هم على خطرات القلب مطرد .
أرجوك في سكرات الموت تشهدني كيما يهون إذ الأنفاس في صعد
وإن نزلت ضريحا لا أنيس به فكن أنيس وحيد فيه منفرد .
وارحم مؤلفها عبد الرحيم ومن يليه من أجله وانعشه وافتقد .
وإن دعا فأجبه واحم جانبه من حاسد شامت أو ظالم نكد
وقوله من أخرى:
يا رسول الله يا ذا الفضل يا بهجة في الحشر جاها ومقاما .
عد على عبد الرحيم الملتجي بحمى عزك يا غوث اليتامى .
وأقلني عثرتي يا سيدي في اكتساب الذنب في خمسين عاما .
وقوله:
يا سيدي يا رسول الله يا أملي يا موئلي يا ملاذي يوم يلقاني .
هبني بجاهك ما قدمت من زلل جودًا ورجح بفضل منك ميزاني .
واسمع دعائي واكشف ما يساورني من الخطوب ونفس كل أحزاني .
------------------------
1 سورة هود آية: 47.

ص -185- فأنت أقرب من ترجى عواطفه عندي وإن بعدت داري وأوطاني .
إني دعوتك من "نيابتي برع" وأنت أسمع من يدعوه ذو شان .
فامنع جنابي وأكرمني وصل نسبي برحمة وكرامات وغفران .

لقد أنسانا هذا ما قبله، وهذا بعينه هو الذي ادعته النصارى في عيسى عليه السلام، إلا أن أولئك أطلقوا عليه اسم الإله، وهذا لم يطلقه ولكن أتى بلباب دعواهم وخلاصتها، وترك الاسم، إذ في الاسم نوع تمييز، فرأى الشيطان أن الإتيان بالمعنى دون الاسم أقرب إلى ترويج الباطل، وقبوله عند ذوي العقول السخيفة، إذ كان من المتقرر عند الأمة المحمدية أن دعوى النصارى في عيسى عليه السلام كفر.
فلو أتاهم بدعوى النصارى اسما ومعنى لردوه وأنكروه، فأخذ المعنى وأعطاه البرعي وأضرابه، وترك الاسم للنصارى وإلا فما ندري ماذا أبقى هذا المتكلم الخبيث للخالق تعالى وتقدس من سؤال مطلب أو تحصيل مأرب، فاللّه المستعان.
وهذا كثير جدًّا في أشعار المادحين لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهو حجة أعداء دينه الذين يجوزون الشرك باللّه، ويحتجون بأشعار هؤلاء، ولم يقتصروا أيضًا على طلب ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم بل يطلبون مثل ذلك من غيره، كما حدث بعض الثقاة أنه رأى في رابية صاحب مشهد من المشاهد: هذه راية البحر التيار، به أستغيث، وأستجير، وبه أعوذ من النار.
وقال بعضهم في قصيدة في بعض آلهتهم:
يا سيدي يا صفي الدين يا سندي يا عمدتي بل ويا ذخري ومفتخري
أنت الملاذ لما أخشى ضرورته وأنت لي ملجأ من حادث الدهر .

إلى أن قال:
وامنن علي بتوفيق وعافية وخير خاتمة مهما انقضى عمري .
وكف عنا أكف الظالمين إذا ام تدت بسوء لأمر مؤلم نكر .
فإنني عبدك الراجي بودك ما أملته يا صفي السادة الغرر .

ص -186- قال بعض العلماء: فلا ندري أي معنى اختص به الخالق تعالى بعد هذه المنزلة، وماذا أبقى هذا المتكلم الخبيث لخالقه من الأمر، فإن المشركين أهل الأوثان ما يؤهلون من عبدوه لشيء من هذا. انتهى.
وكثير من عباد القبور ينادون الميت من مسافة شهر وأكثر يسألونه حوائجهم، ويعتقدون أنه يسمع دعاءهم ويستجيب لهم، وتسمع عندهم حال ركوبهم البحر واضطرابه من دعاء الأموات والاستغاثة بهم ما لا يخطر على بال، وكذلك إذا أصابتهم الشدائد، من مرض، أو كسوف، أو ريح شديدة، أو غير ذلك، فالولي في ذلك نصب أعينهم، والاستغاثة به هي ملاذهم، ولو ذهبنا نذكر ما يشبه هذا لطال الكلام. إذا عرفت هذا، فقد تقدم ذكر دعاء المسألة.
تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد





المزيد من مواضيعي
   
  رقم المشاركة :9  (رابط المشاركة)
قديم 19.01.2018, 14:00
صور الشهاب الثاقب الرمزية

الشهاب الثاقب

مشرف عام

______________

الشهاب الثاقب موجود الآن

الملف الشخصي
التسجيـــــل: 14.09.2011
الجــــنـــــس: ذكر
الــديــــانــة: الإسلام
المشاركات: 991  [ عرض ]
آخــــر نــشــاط
28.03.2024 (18:59)
تم شكره 689 مرة في 467 مشاركة
افتراضي


بسم الله الرحمن الرحيم
و به نستعين





[كلام العلماء في الغلو والمغالين]
وأما دعاء العبادة، فهو عبادة اللّه تعالى بأنواع العبادات، من الصلاة، والذبح، والنذر، والصيام، والحج وغيرها، خوفًا وطمعًا، يرجو رحمته، ويخاف عذابه، وإن لم يكن في ذلك صيغة سؤال وطلب، فالعابد الذي يريد الجنة ويهرب من النار، وهو سائل راغب راهب. يرغب في حصول مراده، ويذهب من فواته، وهو سائل لما يطلبه بامتثال الأمر في فعل العبادة، وقد فسر قوله تعالى:{ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}1. بهذا. وهذا قيل: اعبدوني وامتثلوا أمري أستجب لكم، وقيل: سلوني أعطكم، وعلى هذا القول تدل الأحاديث والآثار.
إذا تبين ذلك، فاعلم أن العلماء أجمعوا على أن من صرف شيئًا من نوعي الدعاء لغير اللّه فهو مشرك، ولو قال لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه وصلى وصام، إذ شرط الإسلام مع التلفظ بالشهادتين أن لا يعبد إلا اللّه، فمن أتى بالشهادتين وعبد غير اللّه فما أتى بهما حقيقة وإن تلفظ بهما كاليهود الذين يقولون: لا إله إلا اللّه وهم
------------------------
1 سورة غافر آية: 60.

ص -187- مشركون، ومجرد التلفظ بهما لا يكفي في الإسلام بدون العمل بمعناهما واعتقاده إجماعًا.
ذكر شيء من كلام العلماء في ذلك وإن كنا غنيين بكتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم عن كل كلام، إلا أنه قد صار بعض الناس منتسبًا إلى طائفة معينة، فلو أتيته بكل آية من كتاب اللّه وكل سنة عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم
لم يقبل حتى تأتيه بشيء من كلام العلماء، أو بشيء من كلام طائفته التي ينتسب إليها.
قال الإمام أبو الوفاء علي بن عقيل الحنبلي صاحب كتاب "الفنون" الذي ألفه في نحو أربعمائة مجلد، وغيره من التصانيف.
قال في الكتاب المذكور: لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم، وهم عندي كفار لهذه الأوضاع، مثل تعظيم القبور، وخطاب الموتى بالحوائج، وكتب الرقاع فيها: يا مولاي افعل بي كذا وكذا، أو إلقاء الخرق على الشجر اقتداء بمن عبد اللات والعزى. نقله غير واحد، مقررين له، راضين به، منهم الإمام أبو الفرج بن الجوزي، الإمام ابن مفلح صاحب كتاب "الفروع" وغيرهما.
وقال شيخ الإسلام في "الرسالة السنية": فإذا كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من انتسب إلى الإسلام من مرق منه مع عبادته العظيمة، فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام والسنة في هذه الأزمان أيضًا قد يمرق أيضًا من الإسلام وذلك بأسباب: منها الغلو الذي ذمه اللّه في كتابه حيث قال:{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ...}1. وكذلك الغلو في بعض المشايخ، بل الغلو في علي بن أبي طالب، بل الغلو في المسيح عليه السلام، فكل من غلا في نبي أو رجل صالح وجعل فيه نوعًا من الإلهية، مثل أن يقول: يا سيدي فلان انصرني، أو أغثني، أو ارزقني أو اجبرني، أو أنا في حسبك، ونحو
------------------------
1 سورة النساء آية: 171.

ص -188- هذه الأقوال، فكل هذا شرك وضلال، يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل، فإن اللّه إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب ليعبد وحده، ولا يدعى معه إله آخر والذين يدعون مع اللّه آلهة أخرى، مثل المسيح، والملائكة، والأصنام، لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق أو تنْزل المطر، أو تنبت النبات، وإنما كانوا يعبدونهم أو يعبدون قبورهم، أو يعبدون صورهم، يقولون:إنما {نَعْبُدُهُمْ... لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}1. ويقولون:{هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}2. فبعث اللّه رسله تنهى أن يدعى أحد من دونه، لا دعاء عبادة، ولا دعاء استغاثة. انتهى.
وقد نص الحافظ أبو بكر أحمد بن علي المقريزي صاحب كتاب "الخطط" في كتاب له في التوحيد على أن دعاء غير اللّه شرك.
وقال شيخ الإسلام: من جعل بينه وبين اللّه وسائط يتوكل عليهم يدعوهم ويسألهم، كفر إجماعًا، نقله عنه غير واحد مقررين له، منهم ابن مفلح في "الفروع" وصاحب "الإنصاف [المرداوي]" وصاحب "الغاية [مرعي الكرمي]" وصاحب "الإقناع [الحجاوي]" وشارحه [البهوتي]، وغيرهم، ونقله صاحب "القواطع [ابن حجر الهيثمي]" في كتابه عن صاحب "الفروع".
قلت: وهو إجماع صحيح معلوم بالضرورة من الدين، وقد نص العلماء من أهل المذاهب الأربعة، وغيرهم في باب حكم المرتد، على أن من أشرك باللّه فهو كافر، أي: عبد مع اللّه غيره بنوع من أنواع العبادات.
وقد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن دعاء اللّه عبادة له، فيكون صرفه لغير اللّه شركًا.
وقال الإمام ابن النحاس الشافعي في كتاب "الكبائر": ومنها إيقادهم السرج عند الأحجار، والأشجار والعيون، والآبار، ويقولون: إنها تقبل النذر، وهذه كلها بدع شنيعة ومنكرات قبيحة تجب
------------------------
1 سورة الزمر آية: 3.
2 سورة يونس آية: 18.

ص -189- إزالتها ومحو أثرها، فإن أكثر الجهال يعتقدون أنها تنفع وتضر، وتجلب وتدفع، وتشفي المرض وترد الغائب، إذا نذر لها، وهذا شرك ومحادة للّه تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
قلت: فصرح رحمه اللّه أن الاعتقاد في هذه الأمور أنها تضر وتنفع وتجلب، وتدفع، وتشفي المريض وترد الغائب إذا نذر لها، أن ذلك شرك، وإذا ثبت أنه شرك، فلا فرق في ذلك بين اعتقاده في الملائكة والنبيين، ولا بين اعتقاده في الأصنام والأوثان، إذ لا يجوز الإشراك بين اللّه تعالى وبين مخلوق فيما يختص بالخالق سبحانه، كما قال تعالى:{وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}1 وهذا بعينه هو الذي يعتقده من دعا الأنبياء والصالحين، ولهذا يسألونهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، وشفاء ذوي الأمراض والعاهات، فثبت أن ذلك شرك.
وقال الإمام ابن القيم رحمه اللّه تعالى في "شرح المنازل" ومن أنواعه أي: الشرك، طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم، فإن الميت قد انقطع عمله وهو لا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا، فضلاً لمن استغاث به أو سأله أن يشفع إلى اللّه، وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده، فإن اللّه سبحانه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، واللّه سبحانه لم يجعل سؤال غيره سببًا لإذنه، وإنما السبب لإذنه كمال التوحيد، فجاء هذا المشرك بسبب يمنع الإذن، والميت محتاج إلى من يدعو له، كما أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم إذا زرنا قبور المسلمين أن نترحم عليهم، وندعو لهم، ونسأل لهم العافية والمغفرة، فعكس المشركون هذا وزاروهم زيارة العبادة، وجعلوا قبورهم أوثانًا تعبد، فجمعوا بين الشرك بالمعبود وتغيير دينه، ومعاداة أهل التوحيد، ونسبتهم إلى التنقص بالأموات، وهم قد تنقصوا الخالق سبحانه بالشرك وأولياءه الموحدين بذمهم ومعاداتهم، وتنقصوا من أشركوا به
------------------------
1 سورة آل عمران آية: 80.

ص -190- غاية التنقص، إذ ظنوا أنهم راضون منهم بهذا، وأنهم أمروهم به، وهؤلاء هم أعداء الرسل في كل زمان ومكان. وما أكثر المستجيبين لهم! وللّه در خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام حيث قال:{وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ}1. وما نجا مَنْ أشرك بهذا الشرك الأكبر، إلا مَنْ جرد توحيده للّه، وعادى المشركين في اللّه، وتقرب بمقتهم إلى اللّه.
وقال الإمام الحافظ ابن عبد الهادي في رده على السبكي وقوله: أي: قول السبكي: إن المبالغة في تعظيمه، أي تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم واجبة: إن أريد به المبالغة بحسب ما يراه كل أحد تعظيمًا، حتى الحج إلى قبره، والسجود له، والطواف به، واعتقاد أنه يعلم الغيب، وأنه يعطي ويمنع، ويملك لمن استغاث به من دون اللّه الضر والنفع، وأنه يقضي حوائج السائلين، ويفرج كربات المكروبين، وأنه يشفع فيمن يشاء، ويدخل الجنة من يشاء، فدعوى المبالغة في هذا التعظيم مبالغة في الشرك وانسلاخ من جملة الدين.
قلت: هذا هو اعتقاد عباد القبور فيمن هو دون الرسول صلى الله عليه وسلم فضلاً عن الرسول صلى الله عليه وسلم كما تقدم بعض ذلك، والأمر أعظم وأطم من ذلك. وفي "الفتاوى البزازية" من كتب الحنفية، قال علماؤنا: من قال: أرواح المشايخ حاضرة تعلم، يكفر.
فإن أراد بالعلماء علماء الشريعة فهو حكاية للإجماع على كفر معتقد ذلك، وإن أراد علماء الحنفية خاصة، فهو حكاية لاتفاقهم على كفر معتقد ذلك، وعلى التقديرين تأمله تجده صريحًا في كفر من دعا أهل القبور، لأنه ما دعاهم حتى اعتقد أنهم يعلمون ذلك، ويقدرون على إجابة سؤاله، وقضاء مأموله.
وقال الشيخ صنع اللّه الحلبي الحنفي في كتابه الذي ألفه في الرد على من ادعى أن للأولياء تصرفًا على الحياة وبعد الممات في سبيل
------------------------
1 سورة إبراهيم آية: 35-36.

ص -191- الكرامة: هذا وإنه قد ظهر الآن فيما بين المسلمين جماعات يدعون أن للأولياء تصرفات في حياتهم وبعد الممات، ويستغاث بهم في الشدائد والبليات، وبهممهم تكشف المهمات، فيأتون قبورهم، وينادونهم في قضاء الحاجات، مستدلين على أن ذلك منهم كرامات، وقالوا: منهم أبدال ونقباء، وأوتاد ونجباء، وسبعون وسبعة، وأربعون وأربعة، والقطب هو الغوث للناس، وعليه المدار بلا التباس، وجوزوا لهم الذبائح والنذور، وأثبتوا لهم فيها الأجور.
قال: وهذا الكلام فيه تفريط وإفراط، بل فيه الهلاك الأبدي، والعذاب السرمدي، لما فيه من روائح الشرك المحقق، ومصادمة الكتاب العزيز المصدق، ومخالف لعقائد الأئمة وما اجتمعت عليه الأمة. وفي التنْزيل:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً}1، إلى أن قال: الفصل الأول فيما انتحلوه من الإفك الوخيم والشرك العظيم. إلى أن قال: فأما قولهم: إن للأولياء تصرفات في حياتهم وبعد الممات، فيرده قوله تعالى:{أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ}2،{أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ}3، {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}4، ونحوه من الآيات الدالة على أنه المنفرد بالخلق والتدبير، والتصرف والتقدير، ولا شيء لغيره في شيء ما بوجه من الوجوه، فالكل تحت ملكه وقهره تصرفًا وملكًا، وإحياء وإماتة، وخلقًا، وتمدح الرب سبحانه بانفراده في ملكه بآيات من كتابه كقوله:{هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ}5.{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ}6. وذكر آيات في هذا المعنى ثم قال: فقوله في الآيات كلها {مِنْ دُونِهِ} ، أي: من غيره، فإنه عام يدخل فيه من اعتقدته من ولي وشيطان تستمده، فإن من لم يقدر على نصر نفسه كيف يمد غيره، إلى أن قال: فكيف يتصور لغيره من ممكن أن يتصرف، إن هذا من السفاهة لقول وخيم، وشرك عظيم، إلى أن قال: وأما القول بالتصرف بعد
------------------------
1 سورة النساء آية: 115.
2 سورة النمل آية: 60.
3 سورة الأعراف آية: 54.
4 سورة آل عمران آية: 189.
5 سورة فاطر آية: 3.
6 سورة فاطر آية: 13.

ص -192- الممات فهو أشنع وأبدع من القول بالتصرف في الحياة. قال جل ذكره:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}1،{اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ}2،{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}3،{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}4.
وفي الحديث: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله"5. الحديث، فجميع ذلك وما هو نحوه دال على انقطاع الحس والحركة من الميت، وأن أرواحهم ممسكة، وأن أعمالهم منقطعة عن زيادة ونقصان، فدل ذلك أن ليس للميت تصرفًا في ذاته فضلاً عن غيره بحركة، وأن روحه محبوسة مرهونة بعملها من خير وشر، فإذا عجز عن حركة نفسه فكيف يتصرف في غيره؟! فاللّه سبحانه يخبر أن الأرواح عنده، وهؤلاء الملحدون يقولون: إن الأرواح مطلقة متصرفة. قل أأنتم أعلم أم اللّه؟.
قال: وأما اعتقادهم أن هذه التصرفات لهم من الكرامات، فهو من المغالطة، لأن الكرامة شيء من عند اللّه يكرم بها أولياءه، لا قصد لهم فيه ولا تحدي، ولا قدرة ولا علم، كما في قصة مريم بنت عمران، وأسيد بن حضير، وأبي مسلم الخولاني.
قال: وأما قولهم: فيستغاث بهم في الشدائد، فهذا أقبح مما قبله، وأبدع لمصادمته قوله جل ذكره:{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ}6،{قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}7. وذكر آيات في هذا المعنى ثم قال: فإنه جل ذكره قرر أنه الكاشف للضر لا غيره، وأنه المتعين لكشف الشدائد والكرب وأنه المتفرد بإجابة المضطرين، وأنه المستغاث لذلك كله، وأنه القادر على دفع الضر، والقادر على إيصال الخير، فهو المنفرد بذلك فإذا تعين هو جل ذكره، خرج غيره من ملك ونبي وولي.
قال: والاستغاثة تجوز في الأسباب الظاهرة العادية من الأمور الحسية في قتال أو إدراك عدو أو سبع ونحوه كقولهم: يا لزيد
------------------------
1 سورة الزمر آية: 30.
2 سورة الزمر آية: 42.
3 سورة آل عمران آية: 185.
4 سورة المدثر آية: 38.
5 مسلم: الوصية (1631) , والترمذي: الأحكام (1376) , والنسائي: الوصايا (3651) , وأبو داود: الوصايا (2880) , وأحمد (2/372) , والدارمي: المقدمة (559).
6 سورة النمل آية: 62.
7 سورة الأنعام آية: 63.

ص -193- يا لقوم يا للمسلمين كما ذكروا ذلك في كتب النحو بحسب الأسباب الظاهرة بالفعل، وأما الاستغاثة بالقوة والتأثير، أو في الأمور المعنوية من الشدائد، كالمرض وخوف الغرق والضيق والفقر وطلب الرزق ونحوه، فمن خصائص اللّه، فلا يطلب فيها غيره.
قال: وأما كونهم معتقدين التأثير منهم في قضاء حاجاتهم كما تفعله جاهلية العرب والصوفية والجهال، وينادونهم ويستنجدون بهم، فهذا من المنكرات، إلى أن قال: فمن اعتقد أن لغير اللّه من نبي أو ولي أو روح أو غير ذلك في كشف كربه أو قضاء حاجته تأثيرًا، فقد وقع في وادي جهل خطير، فهو على شفا حفرة من السعير. وأما كونهم مستدلين على أن ذلك منهم كرامات، فحاشا للّه أن تكون أولياء اللّه بهذه المثابة، فهذا ظن أهل الأوثان كذا أخبر الرحمن {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}1،{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}2،{أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ}3. فإنَّ ذكر ما ليس من شأنه النفع ولا دفع الضر من نَبِيٍّ وولي وغيره على وجه الإمداد منه إشراك مع اللّه، إذ لا قادر على الدفع غيره، ولا خير إلا خيره قال: وأما ما قالوه: من أن منهم أبدالاً ونقباء، وأوتادًا ونجباء، وسبعين وسبعة، وأربعين وأربعة، والقطب هو الغوث للناس، فهذا من موضوعات إفكهم، كما ذكره القاضي المحدث ابن العربي في "سراج المريدين" وابن الجوزي وابن تيمية. انتهى باختصار. ومثل هذا يوجد في كلام غيرهم من العلماء، والمقصود أن أهل العلم ما زالوا ينكرون هذه الأمور ويبينون أنها شرك، وإن كان بعض المتأخرين ممن ينتسب إلى العلم والدين ممن أصيب في عقله ودينه قد يُرَخِّصُ في بعض هذه الأمور، وهو مخطئ في ذلك، ضال مخالف لكتاب اللّه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين، فكل أحد مأخوذ من قوله ومتروك إلا قول ربنا، وقول رسوله صلى الله عليه وسلم فإن ذلك لا
------------------------
1 سورة يونس آية: 18.
2 سورة الزمر آية: 3.
3 سورة يس آية: 23.

ص -194- يتطرق إليه الخطأ بحال، بل واجب على الخلق اتباعه في كل زمان، على أنه لو أجمع المتأخرون على جواز هذا لم يعتد بإجماعهم المخالف لكلام اللّه وكلام رسوله في محل النّزاع، لأنه إجماع غير معصوم، بل هو من زلة العالم التي حُذِّرْنَا من اتباعها، وأما الإجماع المعصوم، فهو إجماع الصحابة والتابعين وما وافقه، وهو السواد الأعظم الذي ورد الحث على اتباعه وإن لم يكن عليه إلا الغرباء الذين أخبر بهم صلى الله عليه وسلم في قوله: "بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ فطوبى للغرباء"1 رواه مسلم، لا ما كان عليه العوام والطغام، والخلف المتأخرون الذين يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون.
[النفع والضر من الله وحده]
قال: وقول اللّه تعالى:{وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ...}2.
ش: قال ابن عطية: معناه قيل لي: ولا تدع، فهو عطف على "أقم" وهذا الأمر والمخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم إذا كانت هكذا، فأحرى أن يحذر من ذلك غيره.
وقال غيره:{فَإِنْ فَعَلْتَ} معناه: فإن دعوت من دون اللّه ما لا ينفعك ولا يضرك، فكنى عنه بالفعل إيجازًا، {فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ}، إذًا جزاء للشرط وجواب لسؤال مقدر، كأن سائلاً سأل عن تبعة عبادة الأوثان، وجُعِلَ من الظالمين، لأنه لا ظلم أعظم من الشرك {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}3.
قلت: حاصل كلام المفسرين أن اللّه تعالى نهى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يدعو من دونه ما لا ينفعه ولا يضره، والمراد به كل ما سوى اللّه، فإنهم لا ينفعون ولا يضرون وسواء في ذلك الأنبياء والصالحون وغيرهم، كما قال تعالى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً}4. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس: "إذا سألت فاسأل اللّه وإذا استعنت فاستعن باللّه، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك
------------------------
1 مسلم: الإيمان (145) , وابن ماجه: الفتن (3986) , وأحمد (2/389).
2 سورة يونس آية: 106-107.
3 سورة لقمان آية: 13.
4 سورة الجن آية: 18.

ص -195- بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه اللّه لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه اللّه عليك"1 رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح.
وفي الآية تنبيه على أن المدعو لا بد أن يكون مالكًا للنفع والضر حتى يعطي من دعاه أو يبطش بمن عصاه، وليس ذلك إلا للّه وحده، فتعين أن يكون هو المدعو دون ما سواه، والآية شاملة لنوعي الدعاء.
وقوله:{فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} أي المشركين، وهذا كقوله:{فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ}2. وقوله:{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}3. وقوله في الأنعام:{وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}4. فإذا كان هذا الأمر لا يصدر من الأنبياء وحاشاهم من ذلك لم يفكوا أنفسهم من عذاب اللّه، فما ظنك بغيرهم؟! فلم يبق شيء يقرب إلى اللّه ويباعد من سخطه إلا توحيده والعمل بما يرضاه، لا الاعتماد على شخص أو قبر أو صنم أو وثن أو مال أو غير ذلك من الأسباب {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ}5 والآية. نص في أن دعاء غير اللّه والاستغاثة به شرك أكبر، ولهذا قال:{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ}6؛ لأنه المتفرد بالملك والقهر والعطاء والمنع، ولازم ذلك إفراده بتوحيد الإلهية لأنهما متلازمان، وإفراده بسؤال كشف الضر وجلب الخير، لأنه لا يكشف الضر إلا هو، ولا يجلب الخير إلا هو {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}7. فتعين أن لا يدعى لذلك إلا هو، وبطل دعاء من سواه ممن لا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا فضلاً عن غيره، وهذا ضد ما عليه عباد القبور، فإنهم يعتقدون أن الأولياء والطواغيت الذي يسمونهم
------------------------
1 الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2516) , وأحمد (1/293 ,1/303 ,1/307).
2 سورة الشعراء آية: 213.
3 سورة الزمر آية: 65.
4 سورة الأنعام آية: 88.
5 سورة المؤمنون آية: 117.
6 سورة يونس آية: 107.
7 سورة فاطر آية: 2.

ص -196- المجاذيب ينفعون ويضرون ويمسون بالضر ويكشفونه، وأن لهم التصرف المطلق في الملك، أي: على سبيل الكرامة، وهذا فوق شرك كفار العرب، وإما على سبيل الوساطة بينهم وبين اللّه بالشفاعة وهذا شرك الذين قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}1.وفي الآية دليل على أن أصلح الناس لو يفعله إرضاء لغيره صار من الظالمين. ذكره المصنف.
وقوله:{يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}، فلا يرده عنه راد، لأنه العزيز الذي لا يغالب ولا يمانع ولا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، فأي فائدة في دعاء غيره لشفاعة أو غيرها؟ فإنه تعالى فعال لما يريد، لا يغنيه عنه شفيع ولا غيره، بل لا يتكلم أحد عنده إلا بإذنه، ولا يشفع أحد إلا بإذنه {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ}2.
وقوله:{وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} أي لمن تاب إليه وأقبل عليه حتى ولو كان من الشرك.
قال: وقوله:{فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ}3.
ش: أمر اللّه تعالى بابتغاء الرزق عنده لا عند غيره ممن لا يملك رزقًا من الأوثان والأصنام وغيرها، كما قال في أولا الآية: {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً}، [العنكبوت، من الآية: 17]. قال ابن كثير: وهذا أبلغ في الحصر كقوله:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}4. {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ}5. ولهذا قال:{فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ}6. أي: لا عند غيره لأنه المالك له وغيره لا يملك شيئًا من ذلك {فَاعْبُدُوهُ}، أي: أخلصوا له العبادة وحده لا شريك له {وَاشْكُرُوا لَهُ} أي: على ما أنعم عليكم {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}، أي: فيجازي كل عامل بعمله.
قلت: في الآية الرد على المشركين الذين يدعون غير اللّه
------------------------
1 سورة الزمر آية: 3.
2 سورة السجدة آية: 4.
3 سورة العنكبوت آية: 17.
4 سورة الفاتحة آية: 5.
5 سورة التحريم آية: 11.
6 سورة العنكبوت آية: 17.

ص -197- ليشفعوا لهم عنده في جلب الرزق، فما ظنك بمن دعاهم أنفسهم، واستغاث بهم ليرزقوه وينصروه كما هو الواقع من عباد القبور؟ .
وقال المصنف: وفيه أن طلب الرزق لا ينبغي إلا من اللّه، كما أن الجنة لا تطلب إلا منه.
قال: وقوله {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ}، [الأحقاف الآيتان: 5-6].
ش: حاصل كلام المفسرين أن اللّه تعالى حكم بأنه لا أضل ممن يدعو من دون اللّه، لا دعاء عبادة ولا دعاء مسألة واستغاثة من هذه حاله. ومعنى الاستفهام فيه إنكار أن يكون في الضلال كلهم أبلغ ضلالاً ممن عبد غير اللّه ودعاه، حيث يتركون دعاء السميع المجيب القادر على تحصيل كل بغية ومرام، ويدعون من دونه من لا يستجيب لهم، ولا قدرة به على استجابة أحد منهم ما دام في الدنيا وإلى أن تقوم القيامة، كما قال تعالى:{لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ}1 وقوله:{وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ}2.أي لا يشعرون بدعاء من دعاهم، لأنهم إما عباد مسخرون مشتغلون بأحوالهم كالملائكة، وإما أموات كالأنبياء والصالحين، وإما أصنام وأوثان. وقوله:{وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً}3. أي: إذا قامت القيامة وحشر الناس للحساب عادوهم وكانوا بعبادتهم الدعاء وغيره من أنواع العبادة كافرين، كما قال تعالى:{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً}4. فليسوا في الدارين إلا على نكد ومضرة، لا تتولاهم بالاستجابة في الدنيا، وتجحد عبادتهم في الآخرة وهم أحوج ما كانوا إليها.
وفي الآيتين مسائل نبه عليها المصنف: أحدها: أنه لا أضل ممن دعا غير اللّه. الثانية: أنه غافل عن دعاء الداعي لا يدري عنه. الثالثة:
------------------------
1 سورة الرعد آية: 14.
2 سورة الأحقاف آية: 5.
3 سورة الأحقاف آية: 6.
4 سورة مريم آية: 81-82.

ص -198- أن تلك الدعوة سبب لبغض المدعو للداعي وعداوته له. الرابعة: تسمية تلك الدعوة عبادة للمدعو. الخامسة: كفر المدعو بتلك العبادة. السادسة: أن هذه الأمور هي سبب كونه أضل الناس.
[لا يجيب المضطر إلا الله]
قال: وقوله:{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ}1 .
ش: يقرر تعالى أنه الإله الواحد الذي لا شريك له، ولا معبود سواه مما يشترك في معرفته المؤمن والكافر، لأن القلوب مفطورة على ذلك، فمتى جاء الاضطرار رجعت القلوب إلى الفطرة، وزال ما ينازعها، فالتجأت إليه وأنابت إليه وحده لا شريك له، كما قال تعالى:{ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ}2 وقال تعالى:{وَإِذَا مَسَّ الأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ}3. ومثل هذا كثير في القرآن.
يبين تعالى أنه المدعو عند الشدائد، الكاشف للسوء وحده، فيكون هو المعبود وحده، وكذا قال في هذه الآية: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ}4. أي: من هو الذي لا يلجأ المضطر إلا إليه والذي لا يكشف ضر المضطرين سواه، ومن المعلوم أن المشركين كانوا يعلمون أنه لا يقدر على هذه الأمور إلا اللّه وحده، وإذا جاءتهم الشدائد أخلصوا الدعاء للّه، كما قال تعالى:{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ}5 .
فتبين أن من اعتقد في غير اللّه أنه يكشف السوء أو يجيب دعوة المضطر، أو دعاه لذلك فقد أشرك شركًا أكبر من شرك العرب كما هو الواقع من عباد القبور.
[تحريم الاستغاثة بغير الله]
قال: وروى الطبراني بإسناده أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين. فقال بعضهم: قوموا بنا نستغيث برسول اللّه صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق. فقال النبي صلى الله عليه وسلم "إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث باللّه" .
------------------------
1 سورة النمل آية: 62.
2 سورة النّحل آية: 53-54.
3 سورة الزمر آية: 8.
4 سورة النمل آية: 62.
5 سورة العنكبوت آية: 65.

ص -199- ش: قوله: (روى الطبراني)، هو: الإمام الحافظ الثقة، سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطير اللخمي الطبراني صاحب المعاجم الثلاثة وغيرها. روى عن النسائي وإسحاق بن إبراهيم الدَّبَرِي وخلق كثير، ومات سنة ستين وثلاثمائة، وقد بيض المصنف لاسم الراوي، وكأنه واللّه أعلم نقله عن غيره أو كتبه من حفظه، والحديث عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
قوله: (إنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين). هذا المنافق لم أقف على تسميته، ويحتمل أن يكون هو عبد اللّه بن أُبَيّ، فإنه معروف بالأذى للمؤمنين بالكلام في أعراضهم ونحو ذلك، أما أذاهم بنحو ضرب أو زجر، فلا نعلم منافقًا بهذه الصفة.
قوله: (فقال بعضهم). أي: بعض المؤمنين، وهذا البعض القائل لذلك يحتمل أن يكون واحدًا، وأن يكون جماعة، والظاهر أنه واحد، وأظن في بعض الروايات أنه أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
قوله: (قوموا بنا نستغيث برسول اللّه صلى الله عليه وسلم). مرادهم الاستغاثة به فيما يقدر عليه بكف المنافق عن أذاهم، بنحو ضربه أو زجره، لا الاستغاثة به فيما لا يقدر عليه إلا اللّه.
قوله: "إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث باللّه" قال بعضهم: فيه التصريح بأنه لا يستغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم في الأمور، وإنما يستغاث باللّه. والظاهر أن مراده صلى الله عليه وسلم إرشادهم إلى التأدب مع اللّه في الألفاظ، لأن استغاثتهم به صلى الله عليه وسلم من المنافق من الأمور التي يقدر عليها، إما بزجره أو تعزيره ونحو ذلك، فظهر أن المراد بذلك الإرشاد إلى حسن اللفظ والحماية منه صلى الله عليه وسلم لجناب التوحيد، وتعظيم اللّه تبارك وتعالى. فإذا كان هذا كلامه صلى الله عليه وسلم في الاستغاثة به فيما يقدر عليه، فكيف بالاستغاثة به أو بغيره في الأمور المهمة التي لا يقدر عليها أحد إلا اللّه كما هو جار على ألسنة كثير من الشعراء وغيرهم؟! وقَلَّ من يعرف أن ذلك منكر، فضلاً عن معرفة كونه شركًا.

ص -200- فإن قلت: ما الجمع بين هذا الحديث وبين قوله تعالى:{فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ}1. فإن ظاهر الحديث المنع من إطلاق لفظ الاستغاثة على المخلوق فيما يقدر عليه، وظاهر الآية جوازه. قيل: تحمل الآية على الجواز، والحديث على الأدب والأولى، واللّه أعلم. وقد تبين بما ذُكِرَ في هذا الباب وشرحه من الآيات والأحاديث وأقوال العلماء أن دعاء الميت والغائب والحاضر فيما لا يقدر عليه إلا اللّه والاستغاثة بغير اللّه في كشف الضر أو تحويله، هو الشرك الأكبر، بل هو أكبر أنواع الشرك، لأن الدعاء مخ العبادة، ولأن من خصائص الإلهية إفراد اللّه بسؤال ذلك، إذ معنى الإله هو الذي يعبد لأجل هذه الأمور، ولأن الداعي إنما دعوا إلهه عند انقطاع أمله مما سواه، وذلك هو خلاصة التوحيد، وهو انقطاع الأمل مما سوى اللّه، فمن صرف شيئًا من ذلك لغير اللّه، فقد ساوى بينه وبين اللّه، وذلك هو الشرك، ولهذا يقول المشركون لآلهتهم وهم في الجحيم:{تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}2. ولكن لعباد القبور على هذا شبهات، ذكر المصنف كثيرًا منها في "كشف الشبهات" ونحن نذكر هنا ما لم يذكره.
فمن ذلك أنهم احتجوا بحديث رواه الترمذي في "جامعه" حيث قال: حدثنا محمود بن غيلان، ثنا عثمان بن عمرو، ثنا شعبة عن أبي جعفر عن عمارة بن خزيمة بن ثابت عن عثمان بن حُنَيْف "أن رجلاً ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادع اللّه أن يعافيني، قال: إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت، فهو خير لك قال: فادعه، فأمره أن يتوضأ، ويحسن وضوءه، ويدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك، وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، إني توجهت به إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى، اللهم فشفعه في". قال: هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من رواية أبي جعفر،
------------------------
1 سورة القصص آية: 15.
2 سورة الشّعراء آية: 97-98.

ص -201- وهو غير الخطمي، هكذا رواه الترمذي ورواه النسائي وابن شاهين والبيهقي كذلك، وفي بعض الروايات: "يا محمد إني أتوجه..."1 إلى آخره.
وهذه اللفظة هي التي تعلق بها المشركون، وليست عند هؤلاء الأئمة. قالوا: فلو كان دعاء غير اللّه شركًا لم يعلم النبي صلى الله عليه وسلم الأعمى هذا الدعاء الذي فيه نداء غير اللّه.
والجواب من وجوه:
الأول: أن هذا الحديث من أصله وإن صححه الترمذي، فإن في ثبوته نظرًا، لأن الترمذي يتساهل في التصحيح كالحاكم، لكن الترمذي أحسن نقدًا، كما نص على ذلك الأئمة. ووجه عدم ثبوته أنه قد نص أن أبا جعفر الذي عليه مدار هذا الحديث هو غير الخطمي، وإذا كان غيره، فهو لا يعرف، ولعل عمدة الترمذي في تصحيحه أن شعبة لا يروي إلا عن ثقة، وهذا فيه نظر، فقد قال عاصم بن علي: سمعت شعبة يقول: لو لم أحدثكم إلا عن ثقة لم أحدثكم إلا عن ثلاثة، وفي نسخة عن ثلاثين، ذكره الحافظ العراقي، وهذا اعتراف منه بأنه يروي عن الثقة وغيره فينظر في حاله، ويتوقف الاحتجاج به على ثبوت صحته.
الثاني: أنه في غير محل النّزاع، فأين طلب الأعمى من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له، وتوجهه بدعائه مع حضوره، من دعاء الأموات، والسجود لهم، ولقبورهم، والتوكل عليهم، والالتجاء إليهم في الشدائد والنذر والذبح لهم، وخطابهم بالحوائج من الأمكنة البعيدة: يا سيدي يا مولاي افعل بي كذا؟! فحديث الأعمى شيء، ودعاء غير اللّه تعالى والاستغاثة به شيء آخر، فليس في حديث الأعمى شيء غير أنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له، ويشفع له، فهو توسل بدعائه وشفاعته، ولهذا قال في آخره "اللهم فشفعه في". فعلم أنه شفع له.
------------------------
1 البخاري: الفتن (7056) , والنسائي: البيعة (4149 ,4151 ,4152 ,4153 ,4154) , وابن ماجه: الجهاد (2866) , وأحمد (3/441 ,5/316 ,5/318 ,5/319 ,5/325) , ومالك: الجهاد (977).



ص -202- وفي رواية أنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له، فدل الحديث على أنه صلى الله عليه وسلم شفع له بدعائه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره هو أن يدعو اللّه ويسأله قبول شفاعته، فهذا من أعظم الأدلة على أن دعاء غير اللّه شرك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يسأل قبول شفاعته، فدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يدعى. ولأنه صلى الله عليه وسلم لم يقدر على شفائه إلا بدعاء اللّه له. فأين هذا من تلك الطوام، والكلام إنما هو في سؤال الغائب أو سؤال المخلوق فيما لا يقدر عليه إلا اللّه، أما أن تأتي شخصًا يخاطبك فتسأله أن يدعو لك فلا إنكار في ذلك على ما في حديث الأعمى، فالحديث سواء كان صحيحًا أو لا، وسواء ثبت قوله فيه: يا محمد أو لا، لا يدل على سؤال الغائب، ولا على سؤال المخلوق فيما لا يقدر عليه إلا اللّه بوجه من وجوه الدلالات. ومن ادعى ذلك، فهو مفتر على اللّه وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه إن كان سأل النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، فهو لم يسأل منه إلا ما يقدر عليه، وهو أن يدعو له، وهذا لا إنكار فيه وإن كان توجه به من غير سؤال منه نفسه، فهو لم يسأل منه، وإنما سأل من اللّه به،سواء كان متوجهًا بدعائه، كما هو نص أول الحديث وهو الصحيح، أو كان متوجهًا بذاته على قول ضعيف، فإن التوجه بذوات المخلوقين، والإقسام بهم على اللّه بدعة منكرة، لم تأت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه، والتابعين لهم بإحسان، ولا الأئمة الأربعة ونحوهم من أئمة الدين. قال أبو حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو اللّه إلا به. وقال أبو يوسف: أكره بحق فلان وبحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت، والمشعر الحرام. وقال القدوري: المسألة بحق المخلوق لا تجوز، فلا يقول: أسألك بفلان أو بملائكتك أو أنبيائك ونحو ذلك، لأنه لا حق للمخلوق على الخالق، واختاره العز بن عبد السلام، إلا في حق النبي صلى الله عليه وسلم خاصة إن ثبت الحديث، يشير إلى حديث الأعمى، وقد تقدم أنه على تقدير ثبوته ليس فيه إلا أنه توسل بدعائه لا بذاته.

ص -203- وقد ورد في ذلك حديث رواه الحاكم في "مستدركه" فأبعد النجعة من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم [عن أبيه عن جدّه عن عمر بن الخطاب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما أذنب آدم الذنب الذي أذنبه، رفع رأسه إلى العرش، فقال: أسألك بحق محمد إلا غفرت لي". الحديث. وهو حديث ضعيف بل موضوع، لأنه مخالف للقرآن. قال تعالى:{قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}1. فهذا هو الذي قاله آدم. قال الذهبي في هذا الحديث: أظنه موضوعًا، وعبد الرحمن بن زيد متفق على ضعفه، قال ابن معين: ليس حديثه بشيء.
الثالث. أن قوله: يا محمد إني أتوجه إلخ لم تثبت في أكثر الروايات. وبتقدير ثبوتها لا يدل على جواز دعاء غير اللّه، لأن هذا خطاب لحاضر معين يراه ويسمع كلامه، ولا إنكار في ذلك، فإن الحي يطلب منه الدعاء كما يطلب منه ما يقدر عليه، فأين هذا من دعاء الغائب والميت لو كان أهل البدع والشرك يعلمون؟! .
واحتجوا أيضًا بحديث رواه أبو يعلى وابن السني في "عمل اليوم والليلة" فقال ابن السني: حدثنا أبو يعلى ثنا الحسن بن عمرو بن شقيق ثنا معروف بن حسان أبو معاذ السمرقندي عن سعيد عن قتادة عن أبي بردة عن أبيه عن عبد اللّه بن مسعود قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم "إذا انفلتت دابة أحدكم بأرض [فلاة] فليناد يا عباد اللّه احبسوا" هكذا في كتاب ابن السني. وفي "الجامع الصغير:"فإن للّه عز وجل في الأرض حاضرًا سيحبسه عليكم".والجواب أن هذا الحديث مداره على معروف ابن حسان وهو أبو معاذ السمرقندي. فقوله في الأصل: ثنا أبو معاذ السمرقندي خطأ أظنه من الناسخ. قال ابن عدي: منكر الحديث، وقال الذهبي في "الميزان": قال ابن عدي: منكر الحديث، قد روى عن عمر بن ذر
------------------------
1 سورة الأعراف آية: 23.

ص -204- نسخة طويلة كلها غير محفوظة، وقال السيوطي: حديث ضعيف، وأقول: بل هو باطل، إذ كيف يكون عند سعيد عن قتادة، ثم يغيب عن أصحاب سعيد الحفاظ الأثبات مثل يحيى القطان، وإسماعيل بن علية، وأبي أسامة، وخالد بن الحارث، وأبي خالد الأحمر وسفيان، وشعبة، وعبد الوارث، وابن المبارك، والأنصاري، وغندر، وابن أبي عدي ونحوهم، حتى يأتي به هذا الشيخ المجهول المنكر الحديث! فهذا من أقوى الأدلة على وضعه، وبتقدير ثبوته لا دليل فيه، لأن هذا من دعاء الحاضر فيما يقدر عليه كما قال: "فإن للّه في الأرض حاضرًا سيحبسه عليكم".
واحتجوا أيضًا بحديث رواه الطبراني في "المعجم الكبير" فقال: حدثنا طاهر بن عيسى بن قيرس المصري ثنا أصبغ بن الفرج، ثنا ابن وهب عن أبي سعيد المكي عن روح بن القاسم عن أبي جعفر الخطمي المديني عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف "أن رجلاً كان يختلف إلى عثمان ابن عفان في حاجة له فكان عثمان لا يلتفت إليه، ولا ينظر في حاجته، فلقي ابن حنيف فشكا إليه ذلك، فقال له عثمان بن حنيف: ائت الميضأة فتوضأ، ثم ائت المسجد فصل فيه ركعتين، ثم قل: اللهم إني أسألك، وأتوجه إليك بنبينا محمد نبي الرحمة يا محمد إني أتوجه بك إلى ربك ليقضي لي حاجتي". الحديث. والجواب من وجوه:
الأول: أن راوية طاهر بن عيسى ممن لا يعرف بالعدالة بل هو مجهول، قال الذهبي: طاهر بن عيسى بن قيرس أبو الحسين المصري المؤدب عن سعيد بن أبي مريم، ويحيى بن بكير، وأصبغ بن الفرج. وعنه الطبراني. توفي سنة اثنتين وتسعين ومائتين، ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً، فهو إذًا مجهول الحال لا يجوز الاحتجاج بخبره، لا سيما فيما يخالف نصوص الكتاب والسنة.
الثاني: قوله: عن أبي سعيد المكي أشد جهالة من الأول،


ص -205- فإن مشايخ ابن وهب المكيين معروفون كداود بن عبد الرحمن، وزمعة بن صالح، وابن عيينة، وطلحة بن عمرو الحضرمي، وابن جريج، وعمر بن قيس، ومسلم بن خالد الزنجي، وليس فيهم من يكنى أبا سعيد، فتبين أنه مجهول.
الثالث: إن قلنا بتقدير ثبوته، فليس فيه دليل على دعاء الميت والغائب، غاية ما فيه أنه توجه به في دعائه، فأين هذا من دعاء الميت؟ فإن التوجه بالمخلوق سؤال به لا سؤال منه، والكلام إنما هو في سؤال المخلوق نفسه ودعائه والاستغاثة به فيما لا يقدر عليه إلا اللّه، وكل أحد يفرق بين سؤال الشخص، وبين السؤال به، فإنه في السؤال به قد أخلص الدعاء للّه، ولكن توجه على اللّه بذاته أو بدعائه. وأما في سؤاله نفسه ما لا يقدر عليه إلا اللّه، فقد جعله شريكًا للّه في عبادة الدعاء، فليس في حديث الأعمى، وحديث ابن حنيف هذا إلا إخلاص الدعاء للّه كما هو صريح فيه، إلا قوله، يا محمد إني أتوجه بك، وهذا ليس فيه المخاطبة لميت فيما لا يقدر عليه، إنما فيه مخاطبته مستحضرًا له في ذهنه كما يقول المصلي: السلام عليك أيها النبي ورحمة اللّه وبركاته.
الرابع: أنهم زعموا أنه دليل على دعاء كل غائب وميت من الصالحين، فخرجوا عما فهموه من الحديث بفهمهم الفاسد إلى أنه دليل على دعاء كل غائب وميت صالح، ولا دليل فيه أصلاً على دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم بعد موته، ولا في حياته فيما لا يقدر عليه، ثم لو كان فيه دليل على ذلك لم يكن فيه دليل على دعاء الغائب والميت مطلقًا، لأن هذا قياس مع وجود الفارق، وهو باطل بالإجماع، إذ ما ثبت للنبي صلى الله عليه وسلم من الفضائل والكرامات لا يساويه فيه أحد، فلا يجوز قياس غيره عليه، وأيضًا فالقياس إنما يجوز للحاجة ولا حاجة إلى قياس غيره عليه، فبطل قياسهم بنفس مذهبهم، هذا غاية ما احتجوا به مما هو موجود في بعض الكتب

ص -206- المعروفة، وما سوى هذه الأحاديث الثلاثة فهو مما وضعوه بأنفسهم، كقولهم: إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور، وقولهم: لو حسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه. قال ابن القيم: وهو من وضع المشركين عباد الأوثان.
تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد





المزيد من مواضيعي
   
  رقم المشاركة :10  (رابط المشاركة)
قديم 19.01.2018, 14:02
صور الشهاب الثاقب الرمزية

الشهاب الثاقب

مشرف عام

______________

الشهاب الثاقب موجود الآن

الملف الشخصي
التسجيـــــل: 14.09.2011
الجــــنـــــس: ذكر
الــديــــانــة: الإسلام
المشاركات: 991  [ عرض ]
آخــــر نــشــاط
28.03.2024 (18:59)
تم شكره 689 مرة في 467 مشاركة
افتراضي


بسم الله الرحمن الرحيم
و به نستعين

















[باب من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه]
" باب من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه " وقول الله تعالى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ} [الزمر: 38] الآية [الزمر: 38]
عن عمران بن الحصين رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا في يده حلقة من صفر فقال: " ما هذه؟ " قال: من الواهنة، فقال: " انزعها، فإنها لا تزيدك إلا وهنا، فإنك لو مت، وهي عليك، ما أفلحت أبدا» رواه أحمد بسند لا بأس به (1) وله عن عقبة بن عامر مرفوعا: «من تعلق تميمة فلا أتَمَّ الله له، ومن تعلق ودعة فلا وَدَعَ الله له» (2) وفي رواية: «من تعلق تميمة فقد أشرك» (3) ولابن أبي حاتم عن حذيفة رضي الله عنه أنه رأى رجلا في يده خيط من الحمى فقطعه وتلا قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106] (4) .
فيه مسائل: الأولى: التغليظ في لُبس الحلقة والخيط ونحوهما لمثل ذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
_________
(1) أخرجه أحمد 4 / 445 وابن حبان 7 / 628 والحاكم 4 / 216.
(2) أخرجه أحمد 4 / 154 وأبو يعلى (1759) والحاكم 4 / 417.
(3) أخرجه أحمد 4 / 156 والحاكم 4 / 417.
(4) ذكره ابن كثير في التفسير 4 / 342.

(1/88)

الثانية: أن الصحابي لو مات وهي عليه؛ ما أفلح. فيه شاهد لكلام الصحابة: أن الشرك الأصغر أكبر من الكبائر.
الثالثة: أنه لم يعذر بالجهالة.
الرابعة: أنها لا تنفع في العاجلة؛ بل وتضر لقوله «لا تزيدك إلا وهنا» .
الخامسة الإنكار بالتغليظ على من فعل مثل ذلك.
السادسة: التصريح بأن من تعلق شيئا وُكِل إليه.
السابعة: التصريح بأن من تعلق تميمة فقد أشرك.
الثامنة: أن تعليق الخيط من الحُمَّى من ذلك.
التاسعة: تلاوة حذيفة الآية دليل على أن الصحابة يستدلون بالآيات التي في الشرك الأكبر على الأصغر، كما ذكر ابن عباس في آية البقرة.
العاشرة: أن تعليق الوَدَع عن العين من ذلك.
الحادية عشرة: الدعاء على من تعلق تميمة أن الله لا يُتِمُّ له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له؛ أي: ترك الله له.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(1/89)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
وهذا صحيح: فإن التوحيد يُعرف حسْنُه بمعرفة قبح الشرك. وقد بدأ الإمام - رحمه الله - في ذكر ما هو مضاد للتوحيد.
وما يضاد التوحيد منه: ما يضاد أصله، وهو الشرك الأكبر الذي إذا أتى به المكلف فإنه ينقض توحيده، ويكون مشركا شركا أكبر مخرجا من الملة، فمثل هذا يقال فيه: أنه قد أتى بما ينافي التوحيد، أو ينافي أصل التوحيد.
والثاني: ما ينافي كمال التوحيد الواجب، وهو: ما كان حاصلا من جهة الشرك الأصغر، فإنه ينافي كماله الواجب، فإذا أتى بشيء منه، فقد نافى بذلك كمال التوحيد؛ لأن كمال التوحيد إنما يكون بالتخلص من أنواع الشرك جميعا، وكذلك الرياء فإنه من أفراد الشرك الأصغر أعني: يسير الرياء، وهو ينافي كمال التوحيد. ومنها أشياء يقول العلماء عنها: إنها نوع شرك، فيعبرون عن بعض المسائل من الشركيات بأنها نوع شرك أو نوع تشريك فصارت ألفاظهم - عندنا - في هذا الباب أربعة:
الأول: الشرك الأكبر.
الثاني: الشرك الأصغر.
الثالث: الشرك الخفي.
الرابع: قولهم في بعض المسائل: فيها نوع شرك، أو نوع تشريك، وذلك مثل ما سيأتي في قوله - جل وعلا -: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} [النحل: 83] [النحل: 83] ، وفي نحو قوله {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الأعراف: 191] [الأعراف: 191] وهذا يدخل في باب الطاعة، كما سيأتي بيانه مفصلا - إن شاء الله -.

(1/90)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
ابتدأ الشيخ - رحمه الله - في هذا الباب: بتفصيل وبيان صور من الشرك الأصغر، التي يكثر وقوعها، وقدّم الأصغر على الأكبر: انتقالا من الأدنى إلى الأعلى؛ لأن الشبهة في الأدنى ضعيفة بخلاف الشبهة في الأعلى، فإنها أقوى، لأن شبهة المتعلّق بالخيط، وبالتمائم أضعف من شبهة المتعلّق بالأولياء والصالحين، فإذا علم المتعلّق بالخيط، والتمائم، ونحوها خطأه وبطلان تعلّقه، سَهُلَ - بعد ذلك - إقناعه ببطلان التعلق بغير الله من الأولياء والصالحين، وبأنه أقبح من الأول - كما هو الحال في الشرك الأكبر -، أما إذا جاء إلى من هو متلبس بالشرك الأكبر، كالذي يتعلّق بالأولياء، ويدعوهم، ويسألهم، ويذبح لهم، فلا يَحْسُنُ فيمن هذه حاله أن يُنْتَقل في إقناعه ببطلان ما هو عليه من الأعلى إلى الأدنى؛ لقوة الشبهة عنده تجاه من أشرك بهم، وهي - بزعمه - أن أولئك لهم مقامات عند الله - جل وعلا - فهذه حقيقة حال الذين يتوجهون إلى أولئك المدعوين، ويشركون بهم الشرك الأكبر المخرج من الملة - والعياذ بالله - فإنهم يقولون: إنما أردنا الوسيلة، وهؤلاء الذين ندعوهم لهم مقامات عند الله، وإنما أردنا الوسيلة. فحال هؤلاء كحال المشركين الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم الذين قال الله - جل وعلا - فيهم: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] [الزمر: 3] والمقصود: أن الشيخ - رحمه الله - بدأ أولا بتفصيل الشرك الأصغر انتقالا من الأدنى إلى الأعلى حتى يكون ذلك أقوى في الحجة، وأمكن في النفوس، من جهة: ضرورة التعلّق بالله، وإبطال التعلق بغيره.

(1/91)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
قوله - رحمه الله -: (بابٌ من الشرك) : (مِن) هنا تبعيضية؛ يعني: أن هذه الصورة التي في الباب هي بعض الشرك، لكن هل هي بعض أفراده أو بعض أنواعه؟ الجواب: أنها شاملة للأمرين؛ لأن ما ذُكر - وهو لبس الحلقة أو الخيط - هو أحد أنواع الشرك، وهو: الشرك الأصغر، وهو أيضا أحد أفراد الشرك بعمومه؛ لأنها صورة من صور الإشراك.
قوله: (باب من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما) : المقصود بقوله: (ونحوهما) ما يكون نحو الحلقة والخيط مثل: الخرز، والتمائم، والحديد، ونحو ذلك مما قد يُلبس، ومثله أيضا ما يعلّق في البيوت، أو في السيارات، أو يعلّق على الصغار، ونحو ذلك، مما فيه لبس، أو تعليق، فكل ذلك يدخل في هذا الباب، وأنه من الشرك.
والحلقة: إما أن تكون من صُفر يعني: من نحاس، وإما أن تكون من حديد، أو تكون من أي معدن. والخيط: معروف، والمراد عَقْدُهُ في اليد على وجه الاعتقاد، وليس المراد خيطا بعينه.
وكان للعرب اعتقاد في الحلقة والخيط، ونحوهما: كالتمائم، وغيرها، إذ كانوا يعتقدون أن من تعلّق شيئا من ذلك: أثر فيه ونفع، إما من جهة دفع البلاء قبل وقوعه، وإما من جهة رفع البلاء أو المرض بعد وقوعه؛ ولهذا قال الشيخ - رحمه الله -: (لرفع البلاء أو دفعه) ؛ لأن الحالتين موجودتان، فمنهم من يعلّق الحلق، والخيوط، ونحوهما قبل وقوع البلاء لدفعه، ولا شك أن هذا أعظم إثما وذنبا من الذي يعلّق هذه الأشياء لرفع البلاء بعد حصوله؛ لأنه يعتقد أن هذه الأشياء الخسيسة الوضعية تدفع قدر الله - جل وعلا -،

(1/92)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
فالصنف الأول، هم من ذكرنا، والصنف الثاني: هم الذين يلبسون تلك الأشياء، ويعلّقونها لرفع البلاء بعد حصوله، كمن مرض فلبس خيطا، ليرفع ذلك المرض، أو أصابته عين فلبس الخيط ليرفع تلك العين، وهكذا: في أصناف شتى، من أحوال الناس في ذلك.
ثمّ لِمَ كان لُبس الحلقة أو الخيط من الشرك الأصغر؟ الجواب: لأنه تعلق قلبه بها، وجعلها سببا لرفع البلاء، أو سببا لدفعه، والقاعدة في هذا الباب: أن إثبات الأسباب المؤثرة وكون الشيء سببا: لا يجوز إلا من جهة الشرع فلا يجوز إثبات سبب إلا أن يكون سببا شرعيا، أو أن يكون سببا قد ثبت بالتجربة الواقعة أنه يؤثر أثرا ظاهرا لا خفيا فمن لبس حلقة أو خيطا أو نحوهما لرفع البلاء أو دفعه فإنه يكون بذلك قد اتخذ سببا ليس مأذونا به شرعا، وكذلك من جهة التجربة: لا يحصل له ذلك على وجه الظهور وإنما هو مجرد اعتقاد من الملابس لذلك الشيء فيه، فقد يوافق القدر، فيُشفى مِن حِين لُبس أو بعد لبسه، أو يدفع عنه أشياء يعتقد أنها ستأتيه فيبقى قلبه معلقا بذلك الملبوس، ويظن بل يعتقد أنه سبب من الأسباب، وهذا باطل.
أما وجه كون لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه شركا أصغر: فإن من لبسها فقد تعلق قلبه بها، وجعلها تدفع وتنفع، أو جعلها تؤثر في رفع الضرر عنه، أو في جلب المنافع له. وهذا إنما يستقل به الله - جل وعلا - وحده؛ إذ هو وحده النافع الضار، وهو - سبحانه وتعالى - الذي يفيض بالرحمة، ويفيض بالخير أو يمسك ذلك. وأما الأسباب التي تكون سببا لمسبباتها فهذه لا بد أن يكون مأذونا بها في الشرع؛ ولهذا يعبر بعض العلماء

(1/93)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
عما ذكرت بقوله: من أثبت سببا - يعني: ادّعى أنه يُحدِث المسبَّب، أو يُحْدِث النتيجة - لم يجعله الله سببا، لا شرعا، ولا قدرا: فقد أشرك، يعني الشرك الأصغر.
هذه القاعدة صحيحة - في الجملة - لكن قد يُشْكِل دخول بعض الأمثلة فيها، لكن المقصود من هذا الباب: إثبات أن الأسباب لا بد أن تكون إما من جهة الشرع، وإما من جهة التجربة الظاهرة، مثل: دواء الطبيب بالنار، ومثل: الانتفاع ببعض الأسباب التي فيها الانتفاع ظاهر، كأن تتدفأ بالنار أو تتبرد بالماء أو نحو ذلك، فهذه أسباب ظاهرة بَيِّنَةُ الأثر، فتحصَّل من هذا: أن تعلّق القلب بشيء لرفع البلاء، أو دفعه لم يجعله الشارع سببا، ولم يأذن به، يكون نوع شرك، وهذا مراد الشيخ بهذا الباب؛ فإن لبس الخيط والحلقة من الشرك الأصغر.
وهنا تنبيه: وهو أن كل أصناف الشرك الأصغر قد تكون شركا أكبر بحسب حال من فعلها: فالأصل: أن لبس الحلقة أو الخيط. وتعليق التمائم، والحلف بغير الله، وقول: ما شاء الله وشئت، ونحو ذلك من الأعمال، أو الاعتقادات، أو الأقوال الأصل فيها: أنها من الشرك الأصغر، لكن قد تكون شركا أكبر بحسب حال صاحبها، يعني: إن اعتقد في الحلقة والخيط مثلا أنها تؤثر بنفسها: فهذا شرك أكبر، وإذا اعتقد أنها ليست سببا لكن تؤثر بنفسها وتدفع الضرر بنفسها، فتدفع المرض بنفسها، وتدفع العين بنفسها، أو ترفع المرض بنفسها، أو ترفع العين بنفسها. فإذا اعتقد أنها ليست أسبابا بل هي مؤثرة بنفسها: فقد وقع في الشرك الأكبر؛ لأنه جعل التصرف في

(1/94)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
هذا الكون لأشياء مع الله - جل وعلا -، ومعلوم أن هذا من أفراد الربوبية، فيكون ذلك شركا في الربوبية فعماد هذا الباب على تعلّق القلب بهذه الأشياء: كالحلقة، والخيط، ونحوهما؛ لدفع ما يسوؤه، أو لرفع ما حل به من مصائب.
ثم ساق الشيخ - رحمه الله - بعد ذلك قول الله - جل وعلا -: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ} [الزمر: 38] [الزمر: 38] . قوله - جل وعلا - في هذه الآية من سورة الزمر: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الزمر: 38] قال بعض أهل العلم: إن (الفاء) إذا جاءت بعد همزة الاستفهام، فإنها تكون عاطفة على جملة محذوفة يدل عليها السياق، وهذه الآية أولها {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ} [الزمر: 38] يعني: قل: أتقرون بأن الذي خلق السماوات والأرض هو الله وحده، ومع ذلك تدعون غيره؛ وتتوجهون لغيره؟! أتقرون بذلك، وتفعلون هذه الأشياء؟ أو يكون التقدير: أتقرون بأن الله هو الواحد في ربوبيته، وأنه هو الذي خلق السماوات والأرض وحده؟؟ إذا أقررتم هذه الأشياء التي تتوجهون لها من دون الله، هل هي قادرة على دفع المضار عنكم؟ أو هل تجلب لكم رحمة من دون الله؟؟!! فعلى هذا: تكون (الفاء) هنا ترتيبية؛ رتبت ما بعدها على ما قبلها، وهذا هو المقصود هنا من هذا الاحتجاج؛ لأن

(1/95)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
طريقة القرآن أنه يحتج على المشركين بما أقروا به من توحيد الربوبية على ما أنكروه من توحيد الإلهية، وهم أقروا بالربوبية، فرتب على إقرارهم بهذا: أنه يلزمهم أن يبطلوا عبادة غير الله - جل وعلا - ومعنى قوله: تَدْعُونَ أي: تعبدون، وقد تكون العبادة بدعاء المسألة، وقد تكون بأنواع العبادة الأخرى، وقوله: تَدْعُونَ يشمل دعاء المسألة، ودعاء العبادة؛ لأنهما حالتان من أحوال أهل الإشراك بالله.
و (ما) في قوله: مَا تَدْعُونَ عامة؛ لأنها اسم موصول بمعنى الذي؛ أي: أفرأيتم الذي تدعونه من دون الله. والذي يدعونه من دون الله - الذي شملته هذه الآية - أنواع، كل ما دعي من دون الله مما جاء بيانه في القرآن، وقد جاء في القرآن بيان الأصناف التي أُشرِك بها من دون الله - جل وعلا - وتُوُجِّهَ لها بالعبادة، وهي أنواع:
الأول: بعض الأنبياء والرسل والصالحين، كما قال - جل وعلا - في آخر سورة المائدة: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ} [المائدة: 116] [المائدة: 116] الآيات، فهذا فيه بيان هذا النوع من المعبودين.
الثاني: الملائكة، كما جاء بيان ذلك في آخر سورة سبأ في قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ - قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ: 40 - 41] [سبأ: 40 - 41] .

(1/96)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
ونوع آخر من المشركين: يتوجهون للكواكب بالعبادة، مثل من يعبد الشمس والقمر، وغيرهما من الكواكب.
ونوع آخر كانوا يتوجهون للأشجار، والأحجار.
ونوع كانوا يتوجهون للأصنام والأوثان، فقوله: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الزمر: 38] يدخل فيه كل من توجه إليه بشيء من أنواع العبادة، وذلك يفيدنا في معرفة وجه الاستدلال من هذه الآية، كما سيأتي.
قوله: {إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} [الزمر: 38] فيه إبطال أن يكون لتلك الآلهة - بأنواعها - إضرار أو نفع، ومعنى قوله: {إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ} [الزمر: 38] أي: لا يستطيعون ذلك، كما أنه إن أرادني الله - جل وعلا - برحمة، فهل تستطيع هذه الآلهة أن تدفع رحمة الله؟! الجواب: أنها لا تستطيع أيضا. فَبَطَلَ إذًا أن يكون ثَمَّ تعلّق بتلك الآلهة العظيمة التي يظن أن لها مقامات عند الله - جل وعلا - موجبة لشفاعتها.
إذا تبين ذلك فقد قال بعض أهل العلم: إن هذه الآية واردة في الشرك الأكبر، فَلِمَ جعلها الشيخ - رحمه الله - في سرد بيان أصناف من الشرك الأصغر؟؟ والجواب عن ذلك من وجهين:
الوجه الأول: أن الآيات الواردة في الشرك الأكبر، دلت من جهة المعنى على وجوب التعلق بالله، وبطلان التعلق بغيره، وهذا المعنى متحقق في

(1/97)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
الشرك الأصغر - أيضا -، ولذا فإن من السلف من نزّل الآيات الواردة في الشرك الأكبر على الشرك الأصغر بجامع أن في كلا الشركين تعلّقا بغير الله - جل وعلا - فإذا بطل التعلق في الأعظم بطل التعلق فيما هو دونه من باب أولى.
الوجه الثاني: أن هذه الآية واردة في الشرك الأكبر، ولكن المعنى الذي دارت عليه هو تقرير أن كل من يدعى من دون الله لا يستطيع من الأمر شيئا، فلا يقدر أن يرفع ضرا ولا بلاء، ولا أن يمنع رحمة وفضلا عمن أراده الله بذلك وهذا المعنى الذي هو التعلق بما يعتقد أنه يضر أو ينفع هو المعنى الذي من أجله تعلّق المشرك -الشرك الأصغر- بالحلقة وبالخيط؛ لأنه ما علق الخيط، ولا علق الحلقة، وغيرهما إلا لأنه يعتقد أن لهما تأثيرا من جهة رفع البلاء أو دفع الضر، وأنهما يجلبان النفع أو يدفعان الضر، مع أن هذه الأشياء مهينة وأمور وضيعة، فإذا نُفِيَ عن الأشياء العظيمة: كالأنبياء، والمرسلين، والملائكة، والصالحين، أو الأوثان التي لها روحانيات كما يقولون فإن انتفاء النفع والضر عما سواها - مما هو أدنى - لا شك أنه أظهر في البرهان، وأبين.
وقوله: بِضُرٍّ الوارد في سياق قوله تعالى: {إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ} [الزمر: 38] نكرة في سياق الشرط، فهو يعمّ جميع أنواع الضرر، يعني: أن غير الله - جل وعلا - لا يستطيع أن يرفع ضرا - أيّ ضرّ - أنزله الله - جل وعلا - إلا بإذنه سبحانه.
ثم ساق - رحمه الله - في الباب عدة أحاديث؛ فقال: عن عمران بن حصين رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا في يده حلقه من صفر، فقال:

(1/98)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
" ما هذه؟ " قال: من الواهنة، فقال: انزعها، فإنها لا تزيدك إلا وهنا، فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا» (1) .
مناسبة الحديث للباب ظاهرة، وهي: أنه عليه الصلاة والسلام رأى رجلا في يده حلقة من صفر وكان أهل الجاهلية يعلقونها رجاء النفع أو دفع الضر فقال عليه الصلاة والسلام: " ما هذه؟ "، فإن قيل: فما نوع الاستفهام في هذا الحديث؟ الجواب أن من أهل العلم من قال: إنه استفهام إنكار. ولكن المسؤول لم يفهم أنه إنكار، بل فهم أنه استفصال، فلذلك أجاب؛ فقال: من الواهنة.
وقال آخرون من أهل العلم: إنه يحتمل أن يكون استفهام استفصال، أو استفهام إنكار؛ ولهذا أجاب المسؤول بقوله: من الواهنة. والأظهر: الأول، يعني: أنه يفيد الإنكار الشديد، وإنما كان هو الأظهر من حيث دلالة السياق عليه؛ وليس في السياق ما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يقصد بسؤاله الاستفصال عن السبب الذي من أجله لبس الرجل حلقه الصفر، كأن يكون قد لبسها للتحلي، أو لأي أمر آخر.
والمقصود أن الاستفهام في قوله: «ما هذه؟» لا يحتمل أن يكون استفصالا عن وجه اللبس، هل هو: للاعتقاد، أو يكون قد لبس لغير ذلك، بل هو استفهام للإنكار. وإذا احتمل أن يكون الاستفهام للاستفصال، فإن في قول المسؤول: «من الواهنة» ما يعين سبب اللبس، فعلى كلا القولين: يكون قد لبسها لأجل تعلقه بها، لرفع المرض، أو لدفعه. والواهنة: نوع مرض من الأمراض يهن الجسم، ويطرحه، ويضعف قواه.
_________
(1) تقدم.

(1/99)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
وقوله عليه الصلاة والسلام: «انزعها» : هذا أمر، وفيه: أن تغيير المنكر يكون باللسان، إذا كان المأمور يطيع الآمر؛ ويكتفى بذلك عن تغييره باليد؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام له حق الولاية، وبإمكانه تغيير هذا المنكر بيده، لكن لما علم من حال ذلك المأمور أنه يمتثل الأمر قال له: «انزعها» . فلا تعارض بين هذا وبين ما سيأتي من أن حذيفة رضي الله عنه قطع خيطا من يد رجل؛ فإن ذلك مبني على حال أخرى.
قوله: «فإنها لا تزيدك إلا وهنا» : يعني: أن ضررها أقرب من نفعها، وهذا شامل لجميع أنواع الشرك، فإن ما أشرك به ضرره أعظم من نفعه، لو فُرض أن فيه نفعا، وقد قال العلماء في قوله هنا: «انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهنا» يعني: لو كان فيها أثر فإن أثرها الإضرار بدنيا، وروحيا، ونفسيا؛ لأنها تضعف الروح والنفس عن مقابلة الوهن والمرض، فيكون تعلّقه بذلك الحلقة أو الخيط سببا في حصول الضعف.
قوله: «فإنها لا تزيدك إلا وهنا» : وهذا حال كل من أشرك فإن شركه يجره من ضرر إلى ضرر أكثر منه، وإن ظن أنه في انتفاع.
قوله صلى الله عليه وسلم: «فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا» : لأن حال المعلِّق يختلف، فقد يكون علقها لاعتقاده أنها تؤثر استقلالا، وقد يكون علّقها من جهة التسبب، فإذا كان الذي رُئِيَتْ في يده صحابيا، تعين أن تعليقه لها من جهة التسبب، لا من جهة اعتقاده تأثيرها استقلالا، ولكن الفائدة من قوله: «ما أفلحت أبدا» حصول العبرة له، ولغيره، وبيان عاقبة ذلك.
والفلاح المنفي - في هذا الحديث - يختلف معناه، باختلاف حال المعلِّق؛ فيكون المراد: إما نفي الفلاح المطلق، بمعنى: الحرمان من دخول الجنة،

(1/100)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
والخلود في النار. وهذا في حق من اعتقد أن تعليق الحلقة أو الخيط ينفع استقلالا، فهذا: شرك أكبر، وإما نفي مطلق الفلاح، أو نفي نوع منه، أو درجة من درجاته، فيكون واقعا في الشرك الأصغر، وهذا: إن اعتقد أن تعليق الحلقة أو الخيط سبب لحصول النفع، فهذا: قد اتخذ من الأسباب ما لم يجعله الله - عز وجل - سببا، لا شرعا، ولا قدرا، ومطلق الشيء، والشيء المطلق: مصطلحان يكثر وردوهما في كتب أهل العلم، وفي كتاب التوحيد خاصة، فتجدهم يقولون - مثلا -: التوحيد المطلق ومطلق التوحيد، والإسلام المطلق ومطلق اللإسلام والإيمان المطلق ومطلق الإيمان، والشرك المطلق ومطلق الشرك، والفلاح المطلق ومطلق الفلاح، والدخول المطلق ومطلق الدخول، والتحريم المطلق - يعني تحريم دخول الجنة أو تحريم دخول النار - ومطلق التحريم.
ومن المهم أن تعلم أن الشيء المطلق هو: الكامل، فالإيمان المطلق هو الإيمان الكامل، والإسلام المطلق هو الإسلام الكامل، والتوحيد المطلق هو التوحيد الكامل، والفلاح المطلق هو الفلاح الكامل.
وأما مطلق الشيء فهو: أقل درجاته، أو درجة من درجاته، فمطلق الإيمان هو أقل درجاته؛ فنقول مثلا: هذا ينافي الإيمان المطلق، يعني: ينافي الإيمان، أو نقول: هذا ينافي مطلق الإيمان، يعني ينافي أقل درجات الإيمان.
وإذا تقرر هذا: فإنا نقول: الفلاح المنفي يحتمل أن يكون: الفلاح المطلق، وقد تقدم أن هذا يُعتَبَر بحسب حال المعلِّق، فإن كان معتقدا فيها، أنها تنفع استقلالا فهو من أهل النار، وإن كان يعتقد أنها سبب، فهو من أهل النار، لكنه لا يُخلّد فيها، كعصاة الموحدين.

(1/101)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
قال - رحمه الله -: (وله عن عقبة بن عامر مرفوعا: «من تعلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له» ) (1) المقصود من هذا الحديث ذكر لفظ (التعلق) . وتعلّق يعني: أنه علّق وتعلق قلبه بما علق، ولفظ (تعلق) يشمل التعليق، وتعلق قلبه بما علق، فهو نوع لبس. والمعنى: أنه تعلق قلبه بما لبس، سواء كان المعلق في صدره، أو يده، أو في أي موضع آخر، فالمقصود: أن يكون قلبه معلقا بما تعلقه.
والتميمة لها معنى سيأتي شرحه لاحقا - إن شاء الله تعالى - لكن هي: نوع خرزات، وأشياء توضع على صدور الصغار غالبا، وقد يضعها الكبار؛ لأجل دفع العين، أو دفع الضرر، أو الحسد، أو أثر الشياطين، ونحو ذلك. وقوله: «فلا أتم الله له» : دعاء منه صلى الله عليه وسلم على معلّقها بألا يتم الله له مراده؛ لأن التميمة أخذت من تمام الأمر، وسميت تميمة لاعتقاده فيها أنه بها يتم له الأمر الذي أراد فدعا عليه الرسول عليه الصلاة والسلام بأن لا يتم الله - جل وعلا - له ما أراد.
قوله: «ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له» : الودعة: نوع من الصدف، أو الخرز يوضع على صدور الناس، أو يعلق على العضد، ونحو ذلك؛ لأجل دفع أو رفع العين ونحوها من الآفات.
ومعنى قوله: «فلا ودع الله له» دعاء عليه أيضا ومعناه: فلا تركه ذلك، ولا جعله في دعة، وسكون وراحة، وإنما دعا عليه الصلاة والسلام عليه بذلك، لأن ذاك المعلِّق أشرك بالله - جل وعلا -.
_________
(1) تقدم.

(1/102)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
قال: وفي رواية: «من تعلق تميمة فقد أشرك» لأن تعليق التمائم والتعلق بها شرك أصغر، وقد يكون أكبر بحسب حال المعلق، كما سيأتي تفصيل الكلام عليه إن شاء الله تعالى.
قال: " ولابن أبي حاتم عن حذيفة رضي الله عنه أنه رأى رجلا في يده خيط من الحمى فقطعه وتلا قوله تعالى {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106] [يوسف: 106] (1) مناسبة هذا الأثر للباب ظاهرة، وهي أن حذيفة الصحابي رضي الله عنه رأى رجلا في يده خيط من الحمى فقطعه، واستدل بالآية على أن ذلك من الشرك. و (مِنْ) هنا تعليلية، يعني: أنه علق الخيط لأجل رفع الحمى، أو لرفعها.
و (مِنْ) لها معان كثيرة، فتكون تبعيضية وتعليلية، وغير ذلك، وقد جمعها ابن أم قاسم في نظمه لبعض حروف المعاني بقوله:
أتتنا (مِنْ) لتبيين وبعـ ... وتعليل وبدء وانتهـ
وزائدة وإبدال وفصـ ... ومعنى على وعن وفي وبـ
فـ (مِنْ) في هذا الأثر: تفيد التعليل، ومعنى قوله: «من الحمى» أي لأجل دفع الحمى، أو لرفعها، فـ (من) تعليل لوضع الخيط في اليد.
قوله:. . «فقطعه» : يدل على أن هذا منكر عظيم، يجب إنكاره، ويجب قطعه.
_________
(1) تقدم.

(1/103)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
قوله:. وتلا قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106] [يوسف: 106] : قال السلف في معنى هذه الآية {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ} [يوسف: 106] أي: أنهم مع إقرارهم بأن الله هو الرب، وهو الرزاق، وهو المحيي، وهو المميت، وتوحيدهم إياه في الربوبية {إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106] به - جل وعلا - في العبادة. فليس توحيد الربوبية بِمُنْجٍ، بل لا بد من أن يضم إليه توحيد العبادة ومع أن هذه الآية واردة في الشرك الأكبر إلا أنه يصح الاستدلال به على الشرك الأصغر، وإلى هذا أشار المصنف - رحمه الله - بقوله: فيه أن الصحابة يستدلون بما نزل في الشرك الأكبر على الشرك الأصغر.

في الباب السابق قال الإمام - رحمه الله -: " باب من الشرك لبس الحلقة والخيط " وقال هنا: " باب ما جاء في الرقى والتمائم " ولم يقل: باب من الشرك الرقى والتمائم، وذلك لأن الرقى منها ما هو جائز مشروع، ومنها ما هو شرك ممنوع، والتمائم منها ما هو متفق عليه أنه شرك، ومنها ما قد اختلف الصحابة فيه هل هو من الشرك أو لا؟ لهذا عبر - رحمه الله - بقوله: " باب ما جاء في الرقى والتمائم " وهذا من أدب التصنيف العالي.
والرقى: جمع رقية، وهي معروفة، وقد كانت العرب تستعملها، وحقيقتها: أنها أدعية وألفاظ تقال أو تتلى، ثم ينفث فيها، ومنها ما له أثر عضوي في البدن، ومنها ما له أثر في الأرواح، ومنها ما هو جائز مشروع، ومنها ما هو شرك ممنوع.
وثبت أنه عليه الصلاة والسلام رقى نفسه، ورقى غيره، بل ثبت أنه رُقِيَ أيضا رقاه جبريل، (1) ورقته عائشة، (2) فهذا الباب - باب ما جاء في الرقى والتمائم - معقود لبيان حكم الرقى، وقد رخّص الشارع في الرقى ما لم تكن شركا، وهي الرقى التي خلت من الشرك. وقد سأل بعض الصحابة النبي
_________
(1) أخرجه مسلم (2186) والترمذي (97292) .
(2) أخرجه البخاري (5735) .
(1/104)
التمهيد لشرح كتاب التوحيد





المزيد من مواضيعي
أغلق الموضوع

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية
متصوف, المريد،العارف, البدوى،البدوي, الدسوقي،الدسوقى، الحسين, الشاذلية،القطب،الأقطاب, السيدة،زينب،الجيلانى, الشرك, الطريقة،الأحمدية, العارف بالله, صوفى، التوحيد, صوفي،صوفية، متصوفه، صوفيه


الذين يشاهدون هذا الموضوع الآن : 1 ( 0من الأعضاء 1 من الزوار )
 
أدوات الموضوع
أنواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة موضوعات جديدة
لا تستطيع إضافة رد
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

رمز BB تمكين
رمز[IMG]تمكين
رمز HTML تعطيل

الانتقال السريع

الموضوعات المتماثلة
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى ردود آخر مشاركة
رسالة إلى أبي .. (م.ن) البتول قسم الأسرة و المجتمع 1 07.12.2012 23:36
رسالة لِـ ست البنات راجية الاجابة من القيوم قسم الصوتيات والمرئيات 0 11.05.2012 18:37
أخـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــتر رقم من(1-10)قبل متشوف لازم تختار ام البراء الاندلسيه قسم الحوار العام 11 26.06.2011 19:28
حقا رسالة مفيدة جدا queshta الإعجاز فى القرآن و السنة 3 16.02.2010 21:17
رسالة إلى كل عاق!! زهراء القسم الإسلامي العام 6 26.08.2009 12:43



لوّن صفحتك :