آخر 20 مشاركات
الهولي بايبل و معاملة النساء زمن الحروب و الصّراعات المسلّحة (الكاتـب : * إسلامي عزّي * - )           »          إجابة عن سؤال : ماذا قدّم المسلمون للبشرية ! (الكاتـب : * إسلامي عزّي * - )           »          المهتدي مويزو روتشيلد و رحلة من اليهودية إلى الإسلام (الكاتـب : * إسلامي عزّي * - )           »          أسرار خطيرة عن التمويلات الكنَسية (الكاتـب : * إسلامي عزّي * - )           »          تلاوة مُباركة من سورة الزّمر : الشيخ إبراهيم أبو حجلة (الكاتـب : * إسلامي عزّي * - )           »          تلاوة مُباركة من سورة فاطر : الشيخ القارئ إياد عوني (الكاتـب : * إسلامي عزّي * - )           »          الخمر و الحشيش و الدعارة في كتاب النصارى ! (الكاتـب : * إسلامي عزّي * - )           »          سورةالزُمَر : الشيخ القارئ خالد بن محمد الرَّيَّاعي (الكاتـب : * إسلامي عزّي * - )           »          سورة غافر : الشيخ القارئ خالد بن محمد الرَّيَّاعي (الكاتـب : * إسلامي عزّي * - )           »          يهوه ينادي بالحج ! (الكاتـب : * إسلامي عزّي * - )           »          إشهار إسلام الأخت مارتينا ممدوح (الكاتـب : * إسلامي عزّي * - )           »          مصيبة عيد القيامة في الكنائس (الكاتـب : * إسلامي عزّي * - )           »          الأضحية هي قربان لله أم للأوثان ؟؟؟ (الكاتـب : * إسلامي عزّي * - )           »          الكنيسة الأرثوذكسية تصــرخ : هننقرض بعد 300 سنة ! (الكاتـب : * إسلامي عزّي * - )           »          الكنيسة الأرثوذكسية تصــرخ : هننقرض بعد 300 سنة ! (الكاتـب : * إسلامي عزّي * - )           »          زاهي حواس ينفي وجود ذكر للأنبياء في الآثار (الكاتـب : * إسلامي عزّي * - )           »          ضربة لمعبود الكنيسة تعادل في نتائجها الآثار المرعبة لهجوم نووي (الكاتـب : * إسلامي عزّي * - )           »          سؤال حيّر الأنبا رفائيل وجعله يهدم المسيحية (الكاتـب : * إسلامي عزّي * - )           »          تلاوة عذبة من سورة القلم : الشيخ القارئ عبدالله الجهني (الكاتـب : * إسلامي عزّي * - )           »          تلاوة من سورتي السجدة و الإنسان : الشيخ القارئ عبد الله الجهني (الكاتـب : * إسلامي عزّي * - )


رد
 
أدوات الموضوع أنواع عرض الموضوع
   
  رقم المشاركة :71  (رابط المشاركة)
قديم 04.12.2010, 15:33
صور أمــة الله الرمزية

أمــة الله

مديرة المنتدى

______________

أمــة الله غير موجود

الملف الشخصي
التسجيـــــل: 24.04.2009
الجــــنـــــس: أنثى
الــديــــانــة: الإسلام
المشاركات: 3.944  [ عرض ]
آخــــر نــشــاط
29.08.2013 (18:25)
تم شكره 30 مرة في 26 مشاركة
افتراضي


مشكلة عكا

وفي هذه الأثناء ـ وتجهيز الجيش على قدم وساق ـ كانت هناك جهود دبلوماسية رائعة يقوم بها قطز رحمه الله لتمهيد الطريق إلى اللقاء الكبير المرتقب مع التتار..
لقد كانت هناك أجزاء ليست بالقليلة من فلسطين ولبنان وسوريا ـ وخاصة على ساحل البحر الأبيض المتوسط ـ محتلة من قبل الإمارات الصليبية، فكانت هناك إمارات صليبية في عكا وحيفا وصيدا وصور وبيروت واللاذقية وأنطاكية وغيرها.. وكانت أقوى هذه الإمارات مطلقاً هي إمارة عكا في فلسطين، وهذه الإمارة تقع في طريق قطز رحمه الله إذا أراد أن يحارب التتار في فلسطين.. فماذا يفعل قطز رحمه الله مع الصليبيين في عكا؟!..
تعالوا نفكر مع قطز رحمه الله..

ـ أولاً: الصليبيون أعداء الأمة كما أن التتار أعداء الأمة، بل إن الصليبيين - كما أشرنا قبل ذلك ـ أشد خطراً على الإسلام من التتار؛ لأن حرب التتار حرب همجية ليست لها جذور ولا أهداف ولا قواعد، فهي لمجرد التدمير، لا لشيء غير التدمير، أما المشروع الصليبي في أرض الإسلام فهو مشروع مختلف، فالصليبيون يحاربون المسلمين حرباً عقائدية، والكراهية شديدة في قلوبهم للمسلمين، وتخطيطهم لحرب الإسلام نفسه، بينما كان التتار يحاربون أي بشر وأي حضارة، والمشروع الصليبي يهدف إلى الاستيطان في بلاد المسلمين، وإحلال النصارى مكان سكان البلد المسلمة الأصلية سواء في فلسطين أو في سوريا أو في لبنان، وشتان بين احتلال الشعوب واحتلال الجيوش!.. الجيوش التترية ليس لها - مستقبلاً - إلا المغادرة لا محالة، أما الشعوب الصليبية المستوطنة فقد جاءت لتعيش في هذا المكان.. فكون الصليبيين يحاربون من منطلق عقائدي، وكونهم يحاربون ليستوطنوا في البلاد, وليعيشوا فيها يجعل خطورتهم أكبر من خطورة التتار، مع أن الحروب التترية أشد فتكاً وأكثر تدميراً من حروب الصليبيين، وكلاهما مُرّ.. فقطز رحمه الله يعلم أن الصليبيين أعداؤه كما أن التتار أعداؤه، ولابد أن يوضع هذا في الحسبان..

ـ ثانياً: تاريخ التعاون الصليبي مع التتار قديم ومعروف، فهم الذين رغّبوا التتار أصلاً في بلاد المسلمين من أيام جنكيزخان، وهم الذين ساعدوا هولاكو في إسقاط بغداد ومدن الشام، وما تحالُف التتار مع الأرمن والكرج وأنطاكية ببعيد.. فوارد جداً أن يصل التتار إلى تحالف استراتيجي خطير مع الصليبيين في عكا..
ـ ثالثاً: مع كون هذا التحالف الصليبي التتري أمر وارد، إلا أن قطز رحمه الله كان يعلم أن الصليبيين في عكا يكرهون التتار أيضاً كما يكرهون المسلمين، وهم لا يكرهونهم فقط بل يخافون منهم كذلك.. فالتتار لا عهد لهم أبداً.. ومذابح التتار الجماعية مشهورة، وفظائعهم في شرق أوروبا وفي روسيا لا تُنسى، وأعداد النصارى الذين قُتلوا على أيدي التتار لا تحصى، كما أن نهب إماراتي صيدا وبيروت على يد التتار لم يمض عليه إلا شهور قليلة.. هذا كله بالإضافة إلى الحقد الصليبي الرهيب على هولاكو لأنه فرض بطريركاً أرثوذكسياً يونانياً على كنائس أنطاكية الكاثوليكية الإيطالية، وذلك في سابقة لم تحدث قبل ذلك أبداً، والجميع يعلم العداء المستحكم بين الأرثوذكس والكاثوليك، ونصارى عكا كانوا من الكاثوليك المتعصبين جداً، ولا يتصورون أن يحدث ذلك في أنطاكية فضلاً أن يحدث معهم في عكا.. فكل هذه الخلفيات تجعل الصليبيين في عكا يتوجسون خيفة من التتار، ويعاملونهم في حذر شديد..

ـ رابعاً: الصليبيون في ذلك الوقت ـ في سنة 658 هجرية ـ يعانون من ضعف شديد، فمنذ هزيمة المنصورة سنة 648 هجرية، ومنذ رحيل لويس التاسع ملك فرنسا إلى بلده، وقتل عدد كبير من الجنود الصليبيين في هذه المعركة، وأسر كل الجيش الباقي.. منذ كل هذه الأحداث والصليبيون في تدهور مستمر.. فإذا أضفنا إلى كل ما سبق تحرير بيت المقدس قبل ذلك في سنة 643 هجرية على يد الصالح أيوب رحمه الله يتضح الوضع الحقيقي للصليبيين الآن.. فكل هذه التداعيات أدّت إلى هبوط كبير في إمكانيات وقدرات ومعنويات الجيش الصليبي في عكا.. ومن هنا فقطز يعلم أنه يتعامل مع عدو شديد الكراهية، ولكنه ليس شديد القوة..

ـ خامساً: إمارة عكا إمارة حصينة جداً جداً.. بل هي أحصن مدينة على الإطلاق في كل الشام وفلسطين، واستولى عليها النصارى سنة 492 هجرية، أي منذ مائة وست وستين سنة، ومنذ ذلك التاريخ والقواد المسلمون (بمن فيهم صلاح الدين الأيوبي رحمه الله) يفشلون دائماً في فتحها، ولا شك أن قطز يعلم أن فتح المدينة صعب جداً، حتى وإن كانت الإمارة في أشد حالات ضعفها..

إذن خلاصة هذه الأمور أن الصليبيين أعداء المسلمين كما أن التتار أعداؤهم، وتحالف الصليبيين في عكا مع التتار أمر وارد، وإن كان الصليبيون في عكا يكرهون التتار ويخافون منهم، والصليبيون في أشد حالات ضعفهم الإعدادي والمعنوي، وإن كانت مدينتهم عكا ما زالت أحصن مدن الشام وفلسطين..
في ضوء هذه المعطيات وجد قطز رحمه الله أن قتال الصليبيين في عكا سيؤثّر سلباً على جيشه.. نعم الهدف العام والنهائي لقطز هو تحرير كل البلاد الإسلامية من أي احتلال سواء كان تترياً أم صليبياً، لكن الهدف المرحلي الآن هو قتال التتار، وحصار المدينة الحصينة عكا وقتال حاميتها سيضعف جيش المسلمين، وسيضيع عليهم وقتاً، وسيبدد طاقاتهم، وسيرهق جيشهم قبل الموقعة الكبيرة مع التتار..

لكن قطز - في نفس الوقت - لا يستطيع أن يحارب التتار في فلسطين دون الانتهاء من مشكلة الصليبيين في عكا، فلو حدث تعاون (صليبي ـ تتري) فإن هذا سيضع الجيش المسلم بين شقي الرحى.. بين التتار من جهة، وبين الصليبيين من جهة أخرى..
ومن ثم وجد قطز رحمه الله أن أفضل الحلول هو الإسراع بعقد معاهدة مع الصليبيين في عكا، قبل أن يتحالف الصليبيون مع التتار..

وأسرع قطز رحمه الله بإرسال سفارة إلى عكا للتباحث في إمكانية إقامة هدنة سلام مؤقتة بين المسلمين والصليبيين، ولو وُفق الوفد المسلم في هذه الهدنة فإن هذا سيحيّد جيش الصليبيين من جهة، وسيُؤمّن ظهر الجيش المسلم من ناحية أخرى، وبالفعل جلس الوفد المسلم مع أمراء الصليبيين يتباحثون في أمر هذه الهدنة، وكان الصليبيون من الضعف بحيث إنهم خافوا ألا يظفروا من المسلمين بعهد فينقلب عليهم المسلمون، ولذلك فقد تقبلوا فكرة الهدنة بسرعة، بل أن بعضهم عرض فكرة التحالف العسكري لقتال التتار، غير أن هذه الفكرة لم تلق موافقة من كلا الطرفين.. فبقية أمراء الصليبيين كانوا يخشون من الخروج من عكا بجيشهم فيدخل المسلمون عكا إذا انتصروا على التتار، كما أن المسلمين كانوا لا يضمنون خيانة الصليبيين أثناء القتال، وخاصة أن جيش التتار متعاون مع بعض ملوك وأمراء النصارى (ملك أرمينيا وملك الكرج وأمير أنطاكية(، كما أن قائد التتار الحالي نصراني وهو كتبغا..
لذلك قبل الطرفان بفكرة الهدنة المؤقتة، وأصر الوفد المسلم على أن تكون هذه الهدنة مؤقتة تنتهي بانتهاء حرب التتار؛ لأنه ليس من المقبول شرعاً أن يقر المسلمون بسلام دائم مع مغتصب للأرض الإسلامية، وليس من الشرع أن يعترف المسلمون بدولة صليبية أو غيرها فوق الأرض الإسلامية مهما تقادم الزمان عليها في احتلال الأرض واستيطانها، واذكروا أن الصليبيين يعيشون الآن في عكا منذ مائة وست وستين سنة، أي أن هناك أجيالاً كاملة ولدت وعاشت وماتت في عكا، ومع ذلك لم يعترف قطز أبداً بأحقية هؤلاء المغتصبين في الأرض الفلسطينية المسلمة..

ولكن لأن قطز رحمه الله يعلم أن هؤلاء لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة، فإنه أخذ حذره عن طريق الترهيب والترغيب مع الصليبيين.. فقد حذرهم الوفد المسلم بشدة من أنه إذا حدثت أي خيانة للعهد، فإن المسلمين سيتركون التتار وينقلبون على الصليبيين، ولن يتركوهم حتى يحرروا عكا، وهكذا فالمعاهدة من منطلق القوة والبأس تختلف كثيراً عن المعاهدة من منطلق الضعف والخَوَر.. القوي دائماً يملي شروطه، والضعيف يتلقى شروط الآخر، ولذلك فإذا عاهد المسلمون قوماً آخرين سواء كانوا تتاراً أو صليبيين أو يهوداً فإنهم لابد أن يملكوا وسيلة العقاب للطرف الآخر إذا خالف المعاهدة أو نقض بنداً من بنودها، وإلا فلا معنى للمعاهدة، لأنهم حتماً سيخالفون إذا وجدوا فرصة.. "أو كلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم، بل أكثرهم لا يؤمنون "
كان هذا هو جانب الترهيب.. أما الترغيب فإن قطز قد وعدهم أنه في حالة الانتصار على جيش التتار، فإنهم سيبيعون خيول المغول لأهل عكا بأسعار مخفضة.. وهذا إغراء كبير، وذلك لحاجة الناس والأمراء والجيوش الشديدة للخيول.. وخيول التتار مشهورة بالقوة..

هذا وقد اتفق قطز أيضاً مع الصليبيين في عكا أن يسهموا في إمداد الجيش المسلم بالمؤن والطعام أثناء تواجده في فلسطين ووافق الصليبيون على ذلك..
وأصبح بذلك الطريق إلى لقاء التتار آمناً، وبدأ قطز رحمه الله يضع اللمسات الأخيرة في جيشه استعداداً للانطلاق..

وتطهَّر الجيش المسلم!
وسبحان الله!.. برغم كل هذا الإعداد المادي والدبلوماسي والمعنوي والاقتصادي لهذا الجيش، وبرغم التحفيز العظيم الذي قام به العلماء لحثّ الناس على الجهاد، إلا أن هناك بعض المسلمين الضعفاء لم يصدقوا أن القتال أصبح أمراً واقعاً.. وبالطبع أنا أقصد ضعفاء القلب لا ضعفاء البدن، فإنهم طوال هذه الفترة يعتقدون أن هذه مجرد نفرة حماسية، وسوف تهدأ الأمور بعدها، اعتقدوا أن هذه كلمات تقال من قطز كعادة الزعماء في الضحك على شعوبهم لمجرد التنفيس عن الضغوط لكي لا يحدث انفجار، وما اعتقدوا أبداً أن قطز رحمه الله يُعدّ إعداداً حقيقياً للقتال.. فلما اقتربت ساعة الصفر أيقن هؤلاء أن الأمر حقيقي، وأن اللقاء قريب، بل قريب جداً..

هنا تزعزعت قلوب هؤلاء الرجال ـ أو صور الرجال ـ وبدءوا يفكرون في الهرب من الجيش.. ثم بدأ بعضهم فعلاً في الفرار، والاختباء عن أعين المراقبين, بل إن منهم من خرج بالكلية من مصر ليهرب إلى قطر آخر: فمنهم من هرب إلى الحجاز، ومنهم من هرب إلى اليمن, ومنهم من وصل في هروبه إلى بلاد المغرب!!..
قد يعتبر بعض المحللين أن هذه خسارة.. وأن الجيش فقد بعضاً من عناصره الهامة، أو على الأقل سيصبح الجيش قليلاً في أعين الأعداء..

لكن سبحان الله!.. الخير كل الخير كان في هروب هؤلاء في هذه اللحظات السابقة للقتال!.. ولعل الله عز وجل يصعّب جداً من اللقاء قبل حدوثه حتى ينقّي الصف، فلا يخرج إلى القتال إلا من ينوي أن يثبت..
ماذا يحدث لو خرج هؤلاء المتذبذبون في جيش المسلمين؟
لقد ردّ الله عز وجل على هذا السؤال بوضوح في سورة التوبة فقال:
"لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً، ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة، وفيكم سمّاعون لهم، والله عليم بالظالمين"
هؤلاء المذبذبون لو خرجوا في الجيش المسلم لأضعفوا قوته، ولبثّوا فيه الاضطراب والقلق، تارة عن غير عمد بخوفهم وجبنهم، وتارة عن عمد بُغية إثارة الفتنة، ورغبة في إضعاف الصف، وهذه ليست المشكلة الوحيدة، بل المشكلة الأكبر أن بعض المسلمين الصادقين قد يستمع إلى كلامهم ويقتنع بتشكيكاتهم، فيفقد المسلمون قوة أخرى هامة.. وذلك كما يقول الله عز وجل: "فيكم سمّاعون لهم" ولذلك فخروج هؤلاء من الصف في هذا الوقت المبكر كان مصلحة للجيش المسلم، وإن ظهر للعين غير ذلك، ولذلك لم يحرص قطز رحمه الله كثيراً على إعادة ضمّ هؤلاء؛ فالجندية الحقيقية في الإسلام لا يُهرب منها، بل يُشتاق إليها..





رد باقتباس
   
  رقم المشاركة :72  (رابط المشاركة)
قديم 04.12.2010, 15:34
صور أمــة الله الرمزية

أمــة الله

مديرة المنتدى

______________

أمــة الله غير موجود

الملف الشخصي
التسجيـــــل: 24.04.2009
الجــــنـــــس: أنثى
الــديــــانــة: الإسلام
المشاركات: 3.944  [ عرض ]
آخــــر نــشــاط
29.08.2013 (18:25)
تم شكره 30 مرة في 26 مشاركة
افتراضي


إلى فلسطين..

وبدأ تجمع الجيش المسلم في معسكر الانطلاق، وكان هذا المعسكر في منطقة الصالحية بمحافظة الشرقية الآن، وهي منطقة صحراوية واسعة تستوعب الفرق العسكرية المختلفة، وكانت نقطة انطلاق للجيوش المصرية المتجهة إلى الشرق وتجمعت الفرق العسكرية من معسكرات التدريب المنتشرة في القاهرة والمدن الكبرى، ثم أعطى قطز رحمه الله إشارة البدء والتحرك في اتجاه فلسطين..
اللهم أنت الصاحب في السفر.. والخليفة في الأهل..
اللهم هوّن علينا سفرنا هذا.. واطو عنا بُعده..
اللهم إنا نعوذ بك من وعثاء السفر, وكآبة المنظر، وسوء المنقلب في المال والأهل..
واتجه الجيش المسلم من الصالحية إلى اتجاه الشمال الشرقي حتى وصل إلى سيناء، ثم اتجه شمالاً أكثر ليسلك طريق الساحل الشمالي لسيناء بحذاء البحر الأبيض المتوسط..
كان هذا التحرّك في أوائل شهر شعبان سنة 658 هجرية وهذا يوافق شهر يوليو من سنة 1260 ميلادية، أي أن هذا التحرك كان في أشد شهور السنة حرّاً، والسير في الصحراء القاحلة الطويلة في سيناء، وليس في الطريق مدن آهلة اللهم إلا العريش.. ومع ذلك فقد صبر الجيش المجاهد.. وليتذكر الجميع غزوة تبوك وما صاحبها من صعوبات شديدة الشبه بما يصاحب هذه الموقعة؛ فالمسلمون في تبوك فوق الحر وفوق الأزمة الاقتصادية وفوق قطع المسافة الصحراوية الطويلة كانوا يذهبون لقتال قوة هائلة هي قوة الرومان، وهذه المرة كذلك يقطع المسلمون المسافة الطويلة في هذا الحر وفي هذه الأزمة الاقتصادية ليقابلوا جيشاً هائلاً هو جيش التتار.. والتاريخ يكرّر نفسه.. غير أن المسلمين في تبوك لم يجدوا الرومان في انتظارهم فلم تتم المعركة، أما في موقفنا هذا فالتتار كانوا في الانتظار..
كان قطز رحمه الله يتحرك على تعبئة.. بمعنى أنه يتحرك وقد رتّب جيشه الترتيب الذي سيقاتل به لو حدث قتال، وذلك حتى إذا فاجئه جيش التتار كان مستعداً.
وكان قطز رحمه الله قد وضع على مقدمة جيشه ركن الدين بيبرس القائد العسكري الفذ، ليكون أول من يصطدم بالتتار، فيحدث نصراً ـ ولو جزئياً ـ مما سيرفع من معنويات المسلمين بالتأكيد..
وكان قطز أيضاً قد سلك في ترتيب جيشه أمراً لم يكن يعهده المعاصرون في زمانه، وذلك على سبيل التجديد في القيادة والإعداد حتى يربك خطط العدو، فكون قطز رحمه الله مقدمة الجيش من فرقة كبيرة نسبياً على رأسها ركن الدين بيبرس، وجعل هذه الفرقة تتقدم كثيراً عن بقية الجيش، وتظهر نفسها في تحركاتها، بينما يتخفي بقية الجيش في تحركاته، فإذا كان هناك جواسيس للتتر اعتقدوا أن مقدمة الجيش هي كل الجيش، فيكون استعداد التتار على هذا الأساس، ثم يظهر بعد ذلك قطز، وقد فاجأ التتار الذين لم يستعدوا له..





رد باقتباس
   
  رقم المشاركة :73  (رابط المشاركة)
قديم 04.12.2010, 15:34
صور أمــة الله الرمزية

أمــة الله

مديرة المنتدى

______________

أمــة الله غير موجود

الملف الشخصي
التسجيـــــل: 24.04.2009
الجــــنـــــس: أنثى
الــديــــانــة: الإسلام
المشاركات: 3.944  [ عرض ]
آخــــر نــشــاط
29.08.2013 (18:25)
تم شكره 30 مرة في 26 مشاركة
افتراضي


أول النصر.. غزة!!:

وهكذا اجتاز ركن الدين بيبرس الحدود المصرية في 26 يوليو سنة1260 ميلادية، ودخل حدود فلسطين المباركة، وتبعه قطز بعد ذلك في سيره .. واجتازوا رفح وخان يونس ودير البلح واقتربوا جداً من غزة ..
وكما ذكرنا من قبل, فإن التتار كانوا قد احتلوا غزة، وحدث ما توقعه قطز رحمه الله, واكتشفت عيون التتار مقدمة الجيش الإسلامي بقيادة ركن الدين بيبرس، واعتقدت أن هذا هو جيش المسلمين كله، ونقلت الأخبار إلى حامية غزة التترية، وأسرعت الحامية التترية للقاء ركن الدين بيبرس، وتم فعلاً بينهما قتال سريع، هذا كله وجيش قطز الرئيسي ما زال يعبر الحدود الفلسطينية المصرية، ولكن كما ذكرنا كانت مقدمة الجيش المسلم مقدمة قوية وقائدها ركن الدين بيبرس قائد بارع، والحامية التترية في غزة صغيرة نسبيًا، والجيش التتري الرئيسي على مسافة كبيرة من غزة، فقد كان جيش التتر بقيادة كتبغا يربض في سهل البقاع في لبنان على مسافة ثلاثمائة كيلومتر تقريباً من غزة، فتم اللقاء في غزة بمعزل عن الجيوش الرئيسية للمسلمين والتتار، وبفضل الله استطاعت مقدمة الجيش المسلم أن تنتصر في هذه الموقعة الصغيرة.. وقُتل بعض جنود الحامية التترية، وفرّ الباقون في اتجاه الشمال لينقلوا الأخبار إلى كتبغا في لبنان..

لقد فوجئت الحامية التترية في غزة!.. وكانت المفاجأة سبباً لهزيمة قاسية لهم، وليست المفاجأة الوحيدة في وقعة غزة هي مفاجأة المباغتة أو الخطة العسكرية أو الأبعاد الاستراتيجية في اتخاذ المواقع المناسبة أو غير ذلك من مفاجآت فنون الحرب.. إنما المفاجأة الحقيقية للتتار كانت اكتشاف أن هناك طائفة من المسلمين ما زالت تقاتل، وما زالت تحمل السيوف, وما زالت تدافع عن دينها وعن أرضها وعن شرفها وعن كرامتها.. لقد ألف التتار أن يجدوا جموع المسلمين يفرون ويهربون، وألف زعماء التتار أن يجدوا زعماء المسلمين يطلبون التحالف المخزي والركوع المذل.. وما توقعوا أن تظل هناك طائفة مسلمة تدافع عن حقها..

لقد كان هذا هو ظن التتار، وهو ظن ليس في محلّه حتماً، فإن هذه الأمة مهما ضعفت فإنها لا تموت، ومهما ركع منها رجال فسيظلّ فيها آخرون يدافعون عنها ما بقيت الحياة..
روى الإمام مسلم عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه سلم:
"لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله"
وسبحان الله!!.. ففي رواية الإمام أحمد عن أبي إمامة رضي الله عنه هناك زيادة هامة، وهي أن الصحابة سألوا عن هذه الطائفة فقالوا: "يا رسول الله وأين هم؟" قال" ببيت المقدس، وأكناف بيت المقدس!"..

ومع أن الذين قاتلوا التتار في غزة, ثم بعد ذلك في عين جالوت لم يكونوا - في المعظم ـ من أهل بيت المقدس ولا فلسطين، إلا أن الله سبحانه وتعالى قد جعل هذا المكان الطاهر "فلسطين" موطناً لانتصارات المسلمين..
نعم قد تحدث هنّات وسقطات.. لكن حتماً يكون هناك قيام..
على أرض فلسطين وما حولها من أرض الشام وُجهت ضربات إسلامية موجعة للإمبراطورية الرومانية في أجنادين وبيسان واليرموك وبيت المقدس..
وعلى أرض فلسطين وما حولها وجهت ضربات إسلامية موجعة للصليبيين في حطين وطبرية وبيت المقدس..
وعلى أرض فلسطين وجهت ضربات إسلامية موجعة للتتار في غزة ثم في عين جالوت كما سنرى ثم في بيسان.

وعلى أرض فلسطين وجهت ضربات إسلامية موجعة لبقايا الصليبيين بعد ذلك في عكا وعسقلان وحيفا..
وعلى أرض فلسطين وجهت ضربات إسلامية موجعة للفرنسيين في عكا..
وعلى أرض فلسطين كذلك وجهت ضربات إسلامية موجعة للإنجليز في الثورات المختلفة وأشهرها ثورة 1936 والتي استمرت قرابة أربع سنوات..
وعلى أرض فلسطين وُجِّهَت ـ وما زالت تُوَجَّه ـ ضربات إسلامية موجعة لليهود..

وسيكون هلاك اليهود ـ بإذن الله ـ على هذه الأرض..
وستكون الحرب الأخيرة بين المسلمين واليهود على هذه الأرض، وسيقتلهم المسلمون..
هذا ليس استنتاجاً أو استنباطاً، إنما هو حقيقة كونية، وبشارة نبوية!!..
روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ الْيَهُودَ, فَيَقْتُلُهُمْ الْمُسْلِمُونَ.. حَتَّى يَخْتَبِئَ الْيَهُودِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ, فَيَقُولُ الْحَجَرُ أَوْ الشَّجَرُ: يَا مُسْلِمُ.. يَا عَبْدَ اللَّهِ.. هَذَا يَهُودِيٌّ خَلْفِي فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ... إِلَّا الْغَرْقَدَ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرِ الْيَهُودِ "...
نعود إلى بيبرس وإلى قطز وإلى الجيش المسلم..
لقد انتصر المسلمون على التتار، ولو كان هذا الانتصار جزئياً أو مرحلياً أو بسيطاً..

بعض المؤرخين يُبَسّطون جداً من شان معركة غزة، حتى يتغافلها بعضهم تماماً، والحق أنها كانت - في رأيي - من أهمّ المواقع الحربية في تاريخ المسلمين، ليس لكثرة قتلى التتار، ولا لأهمية غزّة الاستراتيجية ولا لغير ذلك، إنما في الأساس لأنها عالجت الهزيمة النفسية عند المسلمين..
لقد رأى المسلمون بأعينهم أن التتار يفرّون، وسقطت المقولة التي انتشرت في تلك الآونة، التي كانت تقول: "من قال لك أن التتار يُهزمون فلا تصدقه"..

الآن من الممكن أن تصدقه.. هذه أول مرة يهزم فيها التتار منذ سنين طويلة..
لقد كان لموقعة غزة أثر إيجابي هائل على جيش المسلمين، وكان لها أيضاً أثر سلبي هائل على جيش التتار..
ولا يجب أن يستصغر المسلمون عملاً من الأعمال..
لا يستصغرنّ مسلم أن حجارة تُلقى على يهودي فيجري ويهرب..
ولا يستقلنّ مسلم أن يُقتل جندي يهودي أو أمريكي..
الهزيمة الحقيقية يا إخوة هي هزيمة الروح والنفس.. والانتصارات المرحلية البسيطة ـ وإن كانت عسكرياً لا تمثل الكثير ـ إلا أنها تفيد كثيراً في رفع الروح المعنوية للأمة..





رد باقتباس
   
  رقم المشاركة :74  (رابط المشاركة)
قديم 04.12.2010, 15:35
صور أمــة الله الرمزية

أمــة الله

مديرة المنتدى

______________

أمــة الله غير موجود

الملف الشخصي
التسجيـــــل: 24.04.2009
الجــــنـــــس: أنثى
الــديــــانــة: الإسلام
المشاركات: 3.944  [ عرض ]
آخــــر نــشــاط
29.08.2013 (18:25)
تم شكره 30 مرة في 26 مشاركة
افتراضي


إلى عين جالوت

اتجه الجيش المسلم بعد انتصار غزة إلى ناحية الشمال وهم يسيرون بحذاء ساحل البحر الأبيض المتوسط ليمرّوا على المدن الإسلامية العظيمة الواحدة تلو الأخرى، فمرّوا على عسقلان ثم على يافا )المدينة الإسلامية الجميلة) - نسأل الله أن يحررها وأن يحرر كل فلسطين من دنس اليهود - ومن المعروف يا أخواني أن مدينة تل أبيب قد أنشئت في شمال يافا مباشرة، ثم أكمل قطز والجيش المسلم طريقه في اتجاه الشمال، فمرّ في غرب طولكرم، ثم وصل إلى مدينة حيفا، ثم اتجه شمالاً بعدها إلى عكا المدينة المسلمة المحتلة من قبل الصليبيين.
وعسكر قطز رحمه الله في الحدائق المحيطة بحصن عكا في السهل الواقع في شرق عكا، ثم بدأت المراسلات بين قطز رحمه الله وأمراء عكا الصليبيين للتأكيد على الاتفاقيات السابقة، وأرسل قطز رحمه الله وفداً من الأمراء المسلمين، فدخلوا حصن عكا، وأحسن الأمراء الصليبيون استقبال المسلمين، وأكّد الطرفان على ما سبق الاتفاق عليه، وتكررت الزيارات أكثر من مرة، واطمأن الطرفان على استقرار الوضع، ومن ثم عزم قطز على الرحيل من عكا واختيار مكان مناسب للّقاء الهام المرتقب بينه وبين التتار..
وعندما بدأ قطز رحمه الله في مغادرة منطقة عكا أشار عليه أحد الأمراء الذين قاموا بالسفارة بينه وبين الأمراء الصليبيين أن عكا الآن في أشد حالات ضعفها، وأنهم مطمئنون إلى المعاهدة الإسلامية، وغير جاهزين للقتال، فإذا انقلب عليهم قطز فجأة فقد يتمكن من إسقاط حصن عكا، وتحرر المدينة الإسلامية بعد مائة وست وستين سنة من الاحتلال، فرد عليه قطز رحمه الله رداً قاطعاً صارماً واضحاً.. قال: " نحن لا نخون العهود!"..
يا الله!! الرؤية واضحة جداً جداً في عين قطز رحمه الله..
هذه قيادة تأخذ بأسباب النصر الحقيقية.. ومن أسباب النصر الحقيقية اتباع شروط الله عز وجل في كل صغيرة وكبيرة، وحفظ العقود وعدم نقض المواثيق من صميم شرع الله عز وجل..
يقول الله تعالى: "يأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود "..
وأنا أريد أن أنقل للصليبيين ولليهود وللتتار وللعالم أجمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه الترمذي وأبو داود، وقال الترمذي حسن صحيح عن عمرو بن عبسة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"من كان بينه وبين قوم عهد، فلا يَحُلنَّ عهداً، ولا يشدنه )أي لا يغيرن العهد بأي طريقة) حتى يمضي أمده، أو ينبذ إليهم على سواء"..
فإما أن تنقضي مدة العهد، وإما أن تخبر أعداءك بأنك لسبب أو لآخر ستقطع العهد .. أما الغدر فلا مكان له في العقود الإسلامية..
هذا هو دين الإسلام.. وهذا هو شرع الإسلام.. وهذه هي قوانين الإسلام.. وهؤلاء هم قادة الإسلام..
وهكذا ترك قطز رحمه الله عكا، واتجه إلى الجنوب الشرقي منها ليبحث عن مكان يصلح للمعركة القادمة..
في هذه الأثناء كان كتبغا قد وصلته فلول جيش التتار الفارة من غزّة ينقلون إليه تحركات الجيش المسلم، فغضب كتبغا غضباً شديداً لهزيمة حاميته العسكرية في غزة، وغضب أكثر لأن هناك من المسلمين من يتجمع لقتاله، وكأنّ الأصل أن المسلمين ليس لهم حق المقاومة، فإن قاوموا عدوهم كان هذا داعياً لغضب كتبغا والتتار!!.. وعقد كتبغا اجتماعاً استشارياً مع قادته، وحضر هذا الاجتماع الأشرف الأيوبي أمير حمص، واتخذ كتبغا قراره في هذا الاجتماع أن يتوجه بسرعة لحرب هؤلاء المتطرفين المسلمين الذين سيقوضون عملية السلام الدائرة بين كتبغا وبين الزعماء المسلمين.. ويهددون المباحثات التترية ـ الإسلامية بالفشل..
وكان واضحًا أن حركة التتار في اتجاه المسلمين كانت بطيئة جداً، لأن قطز قطع معظم الساحل الفلسطيني من أقصى جنوبه إلى أقصى شماله دون أن يدخل التتار حدود فلسطين أصلاً، مع أن المسافة بين سهل البقاع اللبناني حيث يعسكر جيش التتار والحدود اللبنانية الفلسطينية لا تزيد عن مائة كيلومتر، وهي مسافة تقطعها الجيوش عادة في يومين أو ثلاثة..
المهم أن قطز هو الذي بدأ التحرك للبحث عن المكان المناسب للمعركة، وبذلك يسجل نقطة هامة لصالحه، ويستطيع أن يرتب جيوشه في وضع أفضل، ويختبر المنطقة، ويعلم طبيعتها وخباياها..
وتحرك كتبغا في اتجاه الجنوب بين جبال لبنان حتى دخل فلسطين من شمالها الشرقي غرب مرتفعات الجولان، ثم عبر نهر الأردن، ووصل إلى الجليل الشرقي، واكتشفت الاستطلاعات الإسلامية المنتشرة في المنطقة تحركات كتبغا، ونقلت الأخبار بسرعة إلى قطز الذي كان قد غادر عكا في اتجاه الجنوب الشرقي، فأسرع قطز باجتياز مدينة الناصرة، وتعمق أكثر في الجنوب الشرقي حتى وصل إلى منطقة تعرف بسهل عين جالوت، وهي تقع في الوسط تقريباً بين مدينتي بيسان في الشمال ونابلس في الجنوب، وهي بالقرب جداً من معسكر جنين الآن وهي المنطقة التي ستدور فيها معركة من أهم المعارك في تاريخ الأرض، وسبحان الله فإن الأيام قد دارت وحدثت موقعة أخرى شريفة على أرض جنين بين المجاهدين الفلسطينيين وبين اليهود، وذلك في عام2002 ميلادية، وزاد شهداء المسلمين فيها على خمسمائة بعد أن صبروا في قتالهم صبراً عجيباً..
ويقع سهل عين جالوت على مسافة65 كيلومتر جنوب منطقة حطين التي دارت فيها الموقعة الخالدة حطين في سنة583 هجرية قبل خمسة وسبعين سنة من وقعة عين جالوت، ويقع كذلك على مسافة حوالي ستين كيلومتر إلى الغرب من منطقة اليرموك حيث دارت المعركة الخالدة بقيادة خالد بن الوليد وأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهما ضد الروم منذ أكثر من ستة قرون..
وهكذا ساهمت هذه الذكريات في رفع الروح المعنوية للجيش الإسلامي إلى أقصى درجة..
وجد قطز رحمه الله سهل عين جالوت منطقة مناسبة جداً للمعركة المرتقبة؛ فهو عبارة عن سهل واسع منبسط تحيط به التلال المتوسطة من كل جوانبه إلا الجانب الشمالي فهو مفتوح.. كما تعلو هذه التلال الأشجار والأحراش، مما يوفر مخبأً مناسباً جداً للجيش الإسلامي؛ فيسهل عمل الكمائن الكثيرة على جوانب السهل المنبسط..
ورتّب قطز جيشه بسرعة.. فوضع على ناحية السهل الشمالية مقدمة جيشه بقيادة ركن الدين بيبرس, وجعلها في مكان ظاهر حتى يغري جيش التتار بالقدوم إليها، بينما أخفي قطز رحمه الله بقية الجيش خلف التلال والأحراش..
كان هذا الترتيب والإعداد في 24 رمضان من سنة 658 هجرية في العشر الأواخر من شهر رمضان الكريم.. وهو الشهر الذي حدثت فيه الانتصارات الإسلامية الخالدة قبل ذلك.. مثل بدر وفتح مكة وفتح الأندلس... وانتظر المسلمون على تعبئة.. وعيونهم الاستخبارية تنقل أخبار كتبغا وجيش التتار، وقد اقتربوا جداً من سهل عين جالوت..
وما بقيت إلا ساعات قليلة ويحدث الصدام المروع بين قوة أمة الإسلام وقوة التتار..
ونسأل الله عز وجل النصر الدائم للإسلام والمسلمين...





رد باقتباس
   
  رقم المشاركة :75  (رابط المشاركة)
قديم 04.12.2010, 15:35
صور أمــة الله الرمزية

أمــة الله

مديرة المنتدى

______________

أمــة الله غير موجود

الملف الشخصي
التسجيـــــل: 24.04.2009
الجــــنـــــس: أنثى
الــديــــانــة: الإسلام
المشاركات: 3.944  [ عرض ]
آخــــر نــشــاط
29.08.2013 (18:25)
تم شكره 30 مرة في 26 مشاركة
افتراضي


العفو الحقيقي

أما الخطوة الثانية لقطز رحمه الله في إعداده للتتار فكانت خطوة في منتهى الروعة والحكمة، وأبرزت الأخلاق الرفيعة جداً لقطز رحمه الله..
لقد أصدر قراراً بالعفو العام "الحقيقي" عن كل المماليك البحرية!!.. وأقصد بكونه "حقيقياً" أنه لم يكن خدعة سياسية لأجل معين، ولم يكن هذا العفو "شهر عسل" مؤقت إلى أن تهدأ الأمور.. إنما كان أمراً يهدف فعلاً إلى المصالحة الحقيقية، ويرمي بصدق إلى إصلاح الأوضاع، ولَمّ الشمل، ودرء المفاسد..
لقد كان قراراً في منتهى الروعة!!.. على عكس ما يفعل بعض الزعماء السياسيين الذين لم يتفقهوا بعد في السياسة, ولا يدركون موازين القوى في بلادهم؛ فيتعاملون تعاملاً غبيًا مع الأحداث.. فهو إما أن يقصي القوى الفاعلة في المجتمع تمامًا عن كل شيء؛ لأنها على خلاف معه! وأحيانًا يقيد حريتهم.. وأحيانًا يخرجهم من البلاد تمامًا... إما أن يفعل ذلك وإما أن يتجاهلهم تمامًا وكأنهم لا وجود لهم.. يضع رأسه في الرمال.. لا يعترف بوجودهم.. يُنكر طاقاتهم.. يهمل كيانهم...

كل هذا ولا شك لا يصب أبدًا في مصلحة البلد أو مصلحة الشعب..
أما قطز رحمه اله فكان رجلاً متجردًا لله.. محبًا لوطنه وأمته.. يفعل ما فيه المصلحة ولو كان خطرًا على كرسيه وسلطته..
لقد مر بنا كيف أنه قد حدثت فتنة بين المماليك البحرية وبين المماليك المعزية، وكانت بدايات الفتنة من ست سنوات (سنة 652 هـ) عندما قُتل فارس الدين أقطاي زعيم المماليك البحرية، ثم بدأت الفتنة تتفاقم تدريجياً إلى أن وصلت إلى الذروة بعد مقتل الملك المعز عزّ الدين أيبك ثم شجرة الدرّ، ووصل الأمر إلى أن معظم المماليك البحرية ـ وعلى رأسهم القائد ركن الدين بيبرس ـ فروا من مصر إلى مختلف إمارات الشام، ومنهم من شجع أمراء الشام على غزو مصر، ووصل الأمر إلى حد خطير.. فلما اعتلى قطز رحمه الله عرش مصر أصدر قراره الحكيم جداً بالعفو عن المماليك البحرية، وبدعوتهم إلى العودة إلى مصر بلدهم..
لقد أبرز هذا القرار الرائع أخلاق قطز الرفيعة، ونسيانه لكل الضغائن السابقة، وذلك مع كون القوة في يديه، وهذا من أرفع الأخلاق: "العفو عند المقدرة"، كما أبرز هذا القرار النظرة السياسية العميقة لقطز رحمه الله، فقوات المصريين من المماليك المعزية وغيرهم قد لا تكفي لحرب التتار، ولا شك أن المماليك البحرية قوة عظيمة جداً وقوية جداً، ولها خبرات واسعة في الحروب، وقد اشترك الكثير منهم في حروب الصليبيين السابقة، ومن أشهرها موقعة "المنصورة" العظيمة، والتي كانت منذ عشر سنوات (سنة 648 هجرية(.. فإضافة قوة المماليك البحرية إلى قوة المماليك المعزية ستنشئ جيشاً قوياً أقدر على مهاجمة التتار، وهذا مما لا يشك فيه أحد، إذ إنه معلوم أن الوحدة طريق النصر، كما أن التنازع والتصارع والفرقة طريق الفشل والهزيمة..


وقطز رحمه الله يعلم أن أوضاع المماليك البحرية في بلاد الشام غير مستقرة، وما ذهبوا إلى هناك إلا مضطرين، وأملاكهم وحياتهم وقوتهم في مصر، وهو بهذا الإعلان النبيل الذي قام به سيستقدم عدداً لا بأس به منهم، وقد تحقق له فعلاً ما أراد، ومنذ أن أعلن هذا القرار والمماليك البحرية تتوافد على مصر من بلاد سلاجقة الروم (تركيا الآن(، ومن الكرك بالأردن، ومن دمشق، ومن غيرها، وهكذا صار المماليك قوة واحدة من جديد، واستقبلهم قطز استقبالاً لائقاً، ولم يتكبر عليهم تكبر المتمكن، بل عاملهم كواحد منهم..

وإذا كان فعل قطز النبيل مع كل المماليك البحرية في كفة، ففعله النبيل مع قائد المماليك البحرية ركن الدين بيبرس في كفة أخرى.. فبيبرس هو أخطرهم مطلقاً، ولو كان في نفس قطز غدر أو خيانة أو مصالح سياسية مجردة من الأخلاق ما استقدم بيبرس إلى مصر أبداً..

وكان بيبرس قد فرَّ من مصر إلى الناصر يوسف صاحب دمشق ـ ذلك الرجل الخائن الذي كان موالياً للتتار في فترات كثيرة، ومدعياً الجهاد ضدهم في فترات أخرى ـ وقد أنكر عليه بيبرس خضوعه أمام التتار وعزمه على عدم القتال، ولكن الناصر يوسف لم يسمع له، وعندما قدم التتار في اتجاه دمشق فرّ الناصر يوسف ومن معه إلى الجنوب، واضطر بيبرس ـ وقد وجد نفسه بمفرده ـ أن يهرب هو الآخر إلى الجنوب في اتجاه فلسطين، حيث واصل الناصر يوسف فراره إلى الكرك ثم إلى الصحراء.. ووجد بيبرس نفسه وحيداً في غزة ولم يدر ماذا يفعل!..

في هذا الموقف العصيب، وقد ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وهو الذي كان قائداً للمماليك البحرية بأكملهم، أي بمثابة وزير الحربية في زماننا، في هذا الموقف العصيب وهو مشتت بين قوات التتار القادمة من الشمال، والملك الناصر الذي فر إلى الصحراء، ومصر التي هرب منها.. في هذا الموقف الصعب يأتيه خطاب قطز رحمه الله يعرض عليه القدوم إلى مصر معززاً مكرماً مرفوع الرأس محفوظ المكانة!!.. أية أخلاق عالية من قطز!.. وأي فقه سياسي بارع!..

لقد كان قطز رحمه الله يدرك أموراً كثيرة هامة..
يدرك أولاً الكفاءة القتالية العالية جداً، والمهارة القيادية رفيعة المستوى لركن الدين بيبرس، والحمية الإسلامية لهذا القائد الفذ..
ويدرك ثانياً الذكاء الحاد الذي يتميز به بيبرس، والذي سيحاول قطز أن يوظفه لصالح معركة التتار بدلاً من أن يُوظف في معارك داخلية ضد المماليك المعزية..

ويدرك ثالثاً ولاء المماليك البحرية لركن الدين بيبرس، وأنه إن ظل هارباً فلا يأمن أحد أن ينقلب عليه المماليك البحرية في أي وقت، لذلك فمن الأحكم سياسياً أن يستقطب بيبرس لصفه، ويعظم قدره، ويستغل قدارته وإمكانياته، وبذلك يضمن استقرار النفوس، وتجميع الطاقات لحرب التتار بدلاً من الدخول في معارك جانبية لا معنى لها..

لذلك لما قدم بيبرس إلى مصر بعد استقدام قطز له، عظّم قطز من شأنه جداً، وأنزله دار الوزارة، وعرف له قدره وقيمته، بل وأقطعه "قليوب" وما حولها من القرى، وعامله كأمير من الأمراء المقدمين، بل وسيجعله كما سنرى على مقدمة جيوشه، وهكذا نتعلم من قطز رحمه الله العفو عند المقدرة، وإنزال الناس منازلهم، والفقه السياسي الحكيم، والحرص على الوحدة، ونتعلم منه شيئاً في غاية الأهمية في الأصول الإسلامية: وهو أنه ليس معنى أن يكون الإنسان سياسياً حكيماً بارعاً أن يتنازل عن أخلاقه؛ فليست السياسة في الإسلام نفاقاً، وليست السياسة في الإسلام ظلماً، وليست السياسة في الإسلام كبراً، وليست السياسة في الإسلام فقداناً للضمير أو خلفاً للعهد أو نقضاً للمواثيق.. بل السياسة في الإسلام جزء لا يتجزأ من الدين.. فلا يمكن بأي حال من الأحوال أن يفصل بينها وبين الدين، ولا أن تستخدم فيها معايير تختلف مع أصول الإسلام.. كما علمنا قطز رحمه الله أن القائد الذي يثق في نفسه لا يمانع من ظهور طاقات بارزة إلى جواره، وذلك على عكس ما يفعل كثير من الزعماء الضعفاء فلا يسمحون أبداً لأي كفاءة أن تبدع إلى جوارهم، وذلك لكي لا يصبح لهذه الكفاءات رصيد من الحب والاحترام عند الشعب فتقوى مكانتهم، ويرتفع قدرهم، ومن ثم قد ينازعون الزعيم سلطانه، وما كل هذه المخاوف في قلوب هؤلاء الزعماء إلا لإحساسهم بضعفهم وصغارهم وافتقادهم للرصيد الحقيقي من الحب عند شعوبهم، ولكن قطز رحمه الله لم يكن من هذه الزعامات الفارغة، إنما كان زعيماً قوياً ذكياً مخلصاً واعياً محباً لدينه ووطنه وأمته.. كان يدرك من نفسه هذه الأمور، وكذلك كان الشعب يدرك عنه هذه الأمور، ومن ثم لم يكن هناك داع للتردد أو الخوف..


وهكذا انضمت قوة المماليك البحرية ـ وعلى رأسها القائد ركن الدين بيبرس ـ إلى قوة الجيش المصري المسلم، ولا شك أن هذا رفع من معنويات المصريين جداً..
لقد كانت خطوة العفو عن المماليك البحرية من أعظم الخطوات في حياة قطز رحمه الله وحقاً كانت كل خطواته عظيمة..
إذن كانت الخطوة الأولى لقطز رحمه الله هي الاهتمام بالاستقرار الداخلي للبلاد، وكانت خطوته الثانية هي استقدام الفارّين من المماليك البحرية، والاستفادة من طاقاتهم وإمكانياتهم، وتقوية الجيش بهم..
الوحدة مع الشام





رد باقتباس
   
  رقم المشاركة :76  (رابط المشاركة)
قديم 04.12.2010, 15:36
صور أمــة الله الرمزية

أمــة الله

مديرة المنتدى

______________

أمــة الله غير موجود

الملف الشخصي
التسجيـــــل: 24.04.2009
الجــــنـــــس: أنثى
الــديــــانــة: الإسلام
المشاركات: 3.944  [ عرض ]
آخــــر نــشــاط
29.08.2013 (18:25)
تم شكره 30 مرة في 26 مشاركة
افتراضي


الوحدة مع الشام

أما الخطوة الثالثة له فكانت أيضاً خطوة رائعة!.. بل في غاية الروعة!!..
فبعد الاستقرار "الداخلي" في مصر حرص قطز على الاستقرار "الخارجي" مع جيران مصر من المسلمين..
فالعلاقات ـ كما فصلنا قبل ذلك ـ كانت متوترة جداً جداً مع إمارات الشام الأيوبية، وقد فكروا أكثر من مرة في غزو مصر، ونقضوا الحلف الذي كان بين مصر والشام أيام الصالح أيوب، واستقطبوا المماليك البحرية عندهم عندما فروا من مصر، وهم يتربصون بمصر الدوائر في كل يوم، بل إن الناصر يوسف الأيوبي أمير دمشق وحلب كان قد طلب من التتار بعد سقوط بغداد أن يعاونوه في غزو مصر!!..

مع كل هذه الخلفيات المعقدة للعلاقة بين مصر والإمارات الأيوبية إلا أن قطز سعى لإذابة الخلافات التي بينه وبين أمراء الشام، وكان يسعى إلى الوحدة مع الشام، أو على الأقل تحييد أمراء الشام، فيخلوا بينه وبين التتار دون أن يطعنوه في ظهره كما اعتادوا أن يفعلوا..
ووجد قطز رحمه الله أن رأس هؤلاء والمقَدَّم عليهم هو الناصر يوسف الأيوبي صاحب إمارتي حلب ودمشق، وهو أكبرهم، ويحكم أعظم مدينتين في الشام، وكان قطز يعلم تمام العلم كراهية الناصر يوسف له، ويعلم بأنه طلب من التتار أن يساعدوه في حربه.. ومع كل هذا فقد أرسل له قطز رحمه الله رسالة تفيض رقة وعذوبة، وكأنه يخاطب أقرب المقربين إليه... (وأورد هذه الرسالة المقريزي في السلوك (...

وكانت هذه الرسالة قبل قدوم التتار إلى حلب، واحتمال التعاون بين التتار والناصر يوسف قائم، فأراد قطز أن يوحد بينه وبين الناصر يوسف ـ على ما به من عيوب وخطايا ـ بدلاً من أن يضطر قطز إلى مواجهة جيش الشام من المسلمين، ولكن قطز كان يعلم أن أعظم أهداف الناصر هو البقاء على كرسي الحكم، ولن يضحي به مهما كانت الظروف، لذلك فإن قطز أرسل له رسالة عجيبة فعلاً!..
لقد أرسل له يعرض عليه الوحدة ، على أن يكون الناصر يوسف الأيوبي هو ملك مصر والشام!!!.. لقد عرض عليه أن يكون هو - أي قطز - تابعاً للناصر يوسف، مع أن موقف قطز العسكري الآن أفضل بكثير من موقف الناصر يوسف، ومع أن مصر كدولة أقوى بكثير من مدينتي حلب ودمشق!!..

لقد قال له قطز رحمه الله في رسالته أنه لا ينازع الملك الناصر في الملك ولا يقاومه، وأنه ـ أي قطز ـ نائب عن الناصر في ديار مصر، وأن الناصر متى جاء إلى مصر أجلسه فوراً على كرسي الحكم فيها!!!..
هذه أمور لا يتخيلها إنسان بموازين السياسة المادية، ولا يمكن أن تُفهم إلا إذا أدخلت في حساباتك البعد الإيماني الأخلاقي ـ لا السياسي فقط ـ عند قطز..
ثم إن قطز رحمه الله علم أن الناصر يوسف قد يتشكك في أمر الوحدة الكاملة، أو في أمر القدوم إلى مصر، فعرض عليه أن يقوم (أي: قطز) بإمداده بالمساعدة لحرب التتار، فتتحقق المصلحة المشتركة في هزيمة التتار، وإن لم تتحقق الوحدة الكاملة بين مصر والشام..

قال قطز في أدب جمّ، وخلق رفيع: "وإن اخترتَني خَدَمْتُكَ، وإن اخترتَ قَدِمْتُ وَمَنْ معي من العَسْكر نجدةً لك على القادم عليك، فإن كنت لا تَأْمَن حُضوري سَيَّرْتُ لك العساكر صُحْبَةَ من تختاره..!!
فهو يعطي الناصر يوسف صلاحيات اختيار قائد الجيش المصري الذي يذهب لنجدته في الشام!!..
لكن الناصر يوسف لم يستجب لهذه النداءات النبيلة من قطز، وآثر التفرق على الوحدة، فماذا كانت النتيجة؟!

لقد مرت الأيام، وسقطت حلب، وهُدّدت دمشق، وفرّ الناصر فراره المخزي إلى فلسطين، وعند فلسطين حدث الذي كان لابد أن يحدث منذ زمن.. لقد خرج جيش الناصر عن طوعه، وآثر الانضمام إلى جيش مصر حيث القائد المحنك المسلم المخلص "قطز"، وحيث القضية الواضحة والهدف الثابت، وحيث الجهاد في سبيل الله, لا في سبيل الكرسيّ..
وعلى قدر نجاح القائد الفذ قطز فإن الناصر يوسف قد فشل في كل امتحاناته.. لقد فشل أمام التتار، وفشل أمام قطز، وفشل أمام جيشه، وفشل أمام شعبه، والآن اتجه جيشه إلى مصر، بينما فرّ هو وحيداً إلى حصن الكرك بالأردن، ثم لم يطمئن هناك فترك الحصن، واتجه إلى الصحراء عند بعض الأعراب..!

مصير الناصر يوسف
عندما وصل الناصر يوسف إلى المكان الذي اختفى فيه في الصحراء في منطقة تسمى "الجفر" في جنوب الأردن إذا بالمجموعة التترية التي أرسلها هولاكو للقبض عليه تلقاه في ذلك المكان، فأمسكوا به ذليلاً هو وابنه (العزيز!!)، واقتادوهما إلى هولاكو، ولكن هولاكو كان قد غادر حلب إلى تبريز في فارس كما وضحنا سابقاً، فتوجهوا به إلى هولاكو في تبريز، وهناك بعد أن استقبل هولاكو الناصر فكر في أن يبقيه على قيد الحياة ليستعمله في قيادة الشام بعد ذلك لطول خبرته، ولخسة نفسه، فلم يقتله بل رده مع جنده إلى الشام، وفي الطريق التقى الناصر يوسف ببعض التتار الفارين من الشام بعد هزيمة عين جالوت كما سيأتي فرأوا الناصر فقتلوه!..

لقد كانت هذه نهايات ذليلة جداً لأمراء كان من الممكن أن يرتفعوا فوق الأعناق، ويُخَلدوا في التاريخ، لو رفعوا راية الجهاد بصدق، ولكنهم آثروا الذل على العزة، وفضلوا الحياة التعيسة الضنك على الموت الشريف في سبيل الله..
وهكذا ازداد قطز رحمه الله قوة بانضمام جيش الناصر الشامي له، وبقتل الناصر الذي كان يمثل حجر عثرة في طريق المسلمين..

ولم يكتف قطز رحمه الله بهذه الجهود الدبلوماسية مع الناصر بل راسل بقية أمراء الشام، فاستجاب له الأمير "المنصور" صاحب حماة، وجاء من حماة ومعه بعض جيشه للالتحاق بجيش قطز في مصر..
أما المغيث عمر صاحب الكرك بالأردن فقد آثر أن يقف على الحياد، فقد كان من الذين عاونوا الناصر في حركة الجهاد المزعومة التي قام بها الناصر، ولما فر الناصر عاد المغيث عمر إلى حصن الكرك، وهو ليس من أهل الجهاد، ويكنّ كراهية كبيرة للمماليك، ولا ننسى أنه حاول مرتين قبل ذلك أن يحتل مصر، وصده قطز في المرتين، فآثر المغيث عمر أن يظل مراقباً للأحداث للالتحاق بعد ذلك بالمعسكر الفائز سواء كانوا من المسلمين أو من التتار.. ولا يجب أن يغيب عنا في ذلك الموقف عظمة قطز الذي تناسى محاولات المغيث عمر لاحتلال مصر، ولم يجعل هذه الخلفية الكئيبة سبباً للفرقة بين المسلمين..

وأما الأشرف الأيوبي صاحب حمص فقد رفض الاستجابة تماماً لقطز، وفضل التعاون المباشر مع التتار، وبالفعل أعطاه هولاكو إمارة الشام كلها ليحكمها باسم التتار!..
وأما الأخير وهو الملك السعيد (هذا لقبه!) "حسن بن عبد العزيز" صاحب بانياس فقد رفض التعاون مع قطز هو الآخر رفضاً قاطعاً، بل انضم بجيشه إلى قوات التتار يساعدهم في فتح بلاد المسلمين!!..
وهكذا خرج قطز من علاقاته الدبلوماسية الخارجية بأمور مهمة.. فقد تحالف مع أمير حماة "المنصور".. وانضم إليه أيضاً جيش الناصر، وحيّد إلى حد كبير المغيث عمر صاحب الكرك.. وهذه النتائج تعتبر نتائج هامة جداً ومؤثرة للغاية، وحتى الانضمام السافر للأمير الأشرف الأيوبي والملك السعيد بن عبد العزيز إلى التتار كان مهماً، حيث إنه كشف أوراقهما بجلاء، وبُنيت خطة قطز على أساس وضوح الرؤية تماماً..
ونعود لنرتب الأوراق مع قطز رحمه الله:

ـ أولاً: الوضع الداخلي مستقر، والحكومة الجديدة تدين بالولاء التام لقطز..
ـ ثانيا: المهمة الأولى للدولة في تلك الآونة واضحة ومعلنة، وهي إعداد جيش قوي لمقابلة التتار في معركة فاصلة )وضوح الهدف(..
ـ ثالثاً: العفو عن المماليك البحرية أشاع جواً من الهدوء النفسي والراحة القلبية عند عموم شعب مصر وليس عند المماليك البحرية فقط، فمن المؤكد أن جو المشاحنات يترك آثاره السلبية ليس على القادة والجيش فقط وإنما على الشعب كله، ولا شك أيضاً أن الجيش المصري قد ازداد قوة باتحاد طرفيه الكبار المماليك البحرية والمماليك المعزية..
ـ رابعاً: انضم إلى جيش مصر الكثير من الجنود الشاميين.. وهؤلاء هم معظم جيش الناصر يوسف صاحب دمشق وحلب، وجيش حماة وعلى رأسه المنصور أمير حماة..
كان هذا هو الوضع السياسي والعسكري لمصر في أوائل سنة 658 هجرية، وقد سقطت في ذات الوقت حلب ودمشق وكل فلسطين حتى غزة تحت حكم التتار، والمعروف أن غزة قريبة جداً من الحدود المصرية (أقل من خمسة وثلاثين كيلومترًا .. )

أنا ألقى التتار بنفسي..!
لقد سلك قطز طريقين من أعظم طرق التربية، ومن أبلغ وسائل التحميس والتحفيز على عمل قد يستصعبه كثير من الناس..
أما الطريق الأول فهو طريق "التربية بالقدوة"..
لقد قال لهم قطز في شجاعة وعزم: " أنا ألقي التتار بنفسي"..
قطز الذي يجلس على عرش الدولة العظيمة مصر سيخرج بنفسه للقاء التتار!..
قطز الذي لم "يستمتع" أو "يستفد" بعد من كرسيه ومنصبه سيخرج للجهاد!..
قطز الشاب الذي ما زالت أمامه الحياة طويلة ـ كما يقولون ـ سيخرج للموت في سبيل الله!!..
لن يرسل جيشاً لمقابلة التتار ويبقى هو في قصره الآمن في القاهرة، بل سيتحمل مع شعبه ما يتحمل، وسيعاني مع جيشه ما يعاني.. ولو أرسل قطز جيشاً وبقي هو في القاهرة ما لامه أحد، فهو قائد المسلمين، والآمال معقودة عليه، ولو مات فقد ينفرط عقد الأمة، ولكن قطز لم يجد وسيلة أفضل من هذه الوسيلة لتحميس القلوب الخائفة، ولتثبيت الأفئدة المضطربة.. كما أنه يشتاق إلى الجهاد، ويشتاق إلى الشهادة، ويشتاق إلى الجنة..
وفي كل الأحوال هو لن يموت قبل الموعد الذي حدده الله له..
لقد فقه قطز عملياً ما أدركه كل المسلمين نظرياً.. وهو أنه "لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها".. لكن مَن مِن المسلمين يعيش واقع حياته فعلاً بهذا المفهوم الذي عرفه نظرياً؟!

إن الناس تتصارع دائماً لأجل زيادة الرزق، وتتصارع دائماً لأجل زيادة العمر، لكن الذي لا يعرفه كثير من الناس أن الشجاعة لا تقلل أبداً من الأرزاق، ولا تقصر مطلقاً من الأعمار، وأن الجبن لا يكثر من المال المقسوم للإنسان، ولا يخلده في الحياة.
كما فقه قطز رحمه الله الحقيقة الرائعة وهي أن الحياة بعزة ولو ساعة، خير من البقاء أبد الدهر في ذل وهوان..
ماذا كان ردّ فعل الأمراء؟!
لا شك أن الأمراء والوزراء لما شاهدوا قطز رحمه الله بهذه الحمية تحمست قلوبهم..

هذه هي القدوة أيها المؤمنون..
"فعل رجل في ألف رجل خير من قول ألف رجل في رجل"..
إن القائد مهما قام بجولات بين جنوده وقواده وشعبه يحمسهم ويشجعهم، لكنهم يعلمون أنه عند الضوائق والشدائد لن يجدوه معهم، بل سيؤمن نفسه وأحبابه فقط، ويترك جنوده وشعبه لمصيرهم، فإن هذه الجولات وهذه الخطب لا تؤثر شيئاً في الناس..
وقدوتنا العظمى في القادة الذين يعيشون هموم شعبهم، ويشاركونهم في كل صغيرة وكبيرة هو رسول الله صلى الله عليه وسلم..
روى البخارى عن أنس رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق الناس قبل الصوت، فاستقبلهم النبي صلى الله عليه وسلم، وقد سبق الناس إلى الصوت وهو يقول: "لن تراعوا، لن تراعوا"، وهو على فرس لأبي طلحة، عُري ما عليه سرج، في عنقه السيف، فقال: لقد وجدته بحراً"..

لقد سمع الرسول صلى الله عليه وسلم صوتاً مفزعاً في الليل وهو في المدينة، فما أمر أحداً بالخروج للبحث عن مصدر الصوت، مع أنه قائد المدينة المنورة ورسول المسلمين، وكان خروجه سريعاً حتى إنه استعار فرساً من أبي طلحة ولم ينتظر وضع السرج عليه، ولكنه فقط أخذ سيفه، وركب الفرس، وانطلق يبحث عن مصدر الصوت.. ولما اطمأن أنه لا شيء يهدد المدينة عاد إليها وقد خرج الناس فزعين فإذا هو يطمئنهم: "لن تراعوا"، أي لن تفزعوا، ثم قال كلمة يثني فيها على الفرس الذي كان مشهوراً بالبطء، فقال: "لقد وجدته بحراً" أي سريعاً في الجري.. يقول ثابت أحد رواة الحديث كما جاء في سنن ابن ماجة: "كان فرساً لأبي طلحة رضي الله عنه يُبطأ (يُتَّهم بالبطء) فما سُبق بعد ذلك اليوم"..

والشاهد من الموقف أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعيش هموم شعبه، ويفتديهم بروحه، ويضحي بنفسه من أجلهم، ولا يفعل مثلما يفعل كثير من الزعماء الذي يضحون بشعوبهم بكاملها من أجل أنفسهم..
يروي الإمام أحمد رحمه الله عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال:
"كنا إذا احمرَّ البأس (اشتدَّت الحرب)، ولقي القومُ القومَ، اتقينا (احتمينا) برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فما يكون منا أحد أدنى من القوم منه"..
هذه هي "التربية بالقدوة"..
وهكذا فعل قطز رحمه الله مع الأمراء والقواد حين قال لهم: " أنا ألقي التتار بنفسي"..
كان هذا هو الطريق الأول الذي سلكه قطز رحمه الله في تحميس القوم.
يتبع





رد باقتباس
   
  رقم المشاركة :77  (رابط المشاركة)
قديم 04.12.2010, 17:22
صور جادي الرمزية

جادي

مشرف عام

______________

جادي غير موجود

الملف الشخصي
التسجيـــــل: 14.08.2010
الجــــنـــــس: ذكر
الــديــــانــة: الإسلام
المشاركات: 3.885  [ عرض ]
آخــــر نــشــاط
08.10.2020 (20:27)
تم شكره 130 مرة في 82 مشاركة
افتراضي


اقتباس
قال الشيخ العزّ بن عبد السلام رحمه الله: .
"إذا طرق العدو البلاد وجب على العالم كلهم قتالهم )أي العالم الإسلامي(، وجاز أن يؤخذ من الرعية ما يستعان به على جهازهم )أي فوق الزكاة( بشرط أن لا يبقى في بيت المال شيء )هذا هو الشرط الأول) أما الشرط الثاني فكان أصعب!.. قال الشيخ العزّ بن عبد السلام رحمه الله: "وأن تبيعوا مالكم من الممتلكات والآلات (أي يبيع الحكام والأمراء والوزراء ما يمتلكون(، ويقتصر كل منكم على فرسه وسلاحه، وتتساووا في ذلك أنتم والعامة، وأما أخذ أموال العامة مع بقاء ما في أيدي قادة الجند من الأموال والآلات الفاخرة فلا!!"..
فتوى في منتهى الجرأة!!..


ماعظمهم من علماء مجاهدين رحم الله ابن عبد السلام وجزاه الله خيرا
هكذا يكون العماء ...

جزاكم الله خيرا اختنا الفاضلة نورا
ماشاء الله جعله الله في موازين حسناتكم







توقيع جادي
رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآَتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ( آل عمران )
جلس أبو الدرداء يبكي بعد فتح جزيرة قبرص لمّا رأى بكاء أهلها وفرقهم، فقيل: ما يبيكيك يا أبا الدرداء في يوم أعزالله به الإسلام؟ فقال: (ويحكم ما أهون الخلق على الله إن هم تركوا أمره بينما هم أمة كانت ظاهرة قاهرة، تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترون




رد باقتباس
   
  رقم المشاركة :78  (رابط المشاركة)
قديم 07.12.2010, 19:58
صور أمــة الله الرمزية

أمــة الله

مديرة المنتدى

______________

أمــة الله غير موجود

الملف الشخصي
التسجيـــــل: 24.04.2009
الجــــنـــــس: أنثى
الــديــــانــة: الإسلام
المشاركات: 3.944  [ عرض ]
آخــــر نــشــاط
29.08.2013 (18:25)
تم شكره 30 مرة في 26 مشاركة
افتراضي


اقتباس
ماعظمهم من علماء مجاهدين رحم الله ابن عبد السلام وجزاه الله خيرا
هكذا يكون العماء ...

نسأل الله أن يبعث فينا رجلاً أمثال هؤلاء العظماء
اقتباس
جزاكم الله خيرا اختنا الفاضلة نورا
ماشاء الله جعله الله في موازين حسناتكم

وجزاك الله كل خير أخي الفاضل جادي

وبارك الله فيك مشكور على المرور الكريم والمشجع
حياك الله





رد باقتباس
   
  رقم المشاركة :79  (رابط المشاركة)
قديم 07.12.2010, 20:00
صور أمــة الله الرمزية

أمــة الله

مديرة المنتدى

______________

أمــة الله غير موجود

الملف الشخصي
التسجيـــــل: 24.04.2009
الجــــنـــــس: أنثى
الــديــــانــة: الإسلام
المشاركات: 3.944  [ عرض ]
آخــــر نــشــاط
29.08.2013 (18:25)
تم شكره 30 مرة في 26 مشاركة
افتراضي


الشعب.. قبل المعركة

إذا كان هذا هو الوضع بالنسبة للسلطة الحاكمة وبالنسبة للجيش.. فماذا كان الوضع بالنسبة للشعب في ذلك التوقيت؟.
كيف كانت حالتهم النفسية ومعنوياتهم وتربوياتهم وأهدافهم؟
هل كان الشعب مؤهلاً لمثل هذا الصدام المروع الذي سيحدث بعد أيام أو شهور مع أكبر وأقوى قوة على وجه الأرض على الإطلاق؟؟ هل يستطيع شعب مصر أن يقف في مواجهة تلك القوة العاتية التي أسقطت نصف العالم تحت سيطرتها؟!
الواقع أن الشعب في تلك الآونة كان يعاني من أزمة اقتصادية طاحنة، والأزمات الاقتصادية عادة ما تؤثر كثيراً على حياة الشعوب، فيفقدون الطموح في أي شيء، ولا يرغبون إلا في الحصول على لقمة العيش، إلا إذا جاء القائد الذي يعظم عندهم الموت في سبيل الله، ويرفع عندهم قيمة الدين، فعندها تهون المشاكل المادية والأزمات الاقتصادية إلى جانب الهدف الأعلى: "الجهاد في سبيل الله".. وعندها يصبح الموت في سبيل الله أمنية.

لكن الوضع الذي استلم فيه قطز حكم مصر كان وضعاً صعباً للغاية؛ فالفتن الدائرة على كرسي الحكم منذ عشر سنوات جعلت الحكام لا يلتفتون كثيراً إلى شعوبهم، إنما كان همّهم تثبيت دعائم ملكهم فقط، وكانت أحلام شعوبهم تأتي في مراتب متأخرة جداً في أولوياتهم.. ولذلك لم يكن المصريون في ذلك الوقت بالشعب الأمثل الذي يشتاق إلى مثل ذلك اليوم الذي يقابل فيه التتار، ولا يحلم بذلك اليوم الذي ينتصر فيه عليهم، بل على العكس، كان الشعب ـ كغيره من شعوب المسلمين ـ يخاف من التتار، ويصيبه الذعر الشديد، والهلع الكبير، عند سماع أخبار الجيوش التترية، وكلما اقترب التتار بصورة أكبر من مصر اضطربت الأفئدة, وتزعزعت النفوس..

ولذلك كانت مهمة رفع الهمة عند هذا الشعب، ورفع روحه المعنوية، وتحميسُه على المقاومة.. كانت هذه المهمة من أصعب المهام التي واجهت قطز رحمه الله.. فالجيش غير المؤيد بشعبه جيش لا يقوى أبداً على الصمود..
لابد من السند الشعبي للقائد والجيش، وإلا فالنصر مستحيل..


كان لزاماً على قطز رحمه الله أن يوجه اهتماماً خاصاً لتربية شعبه على معاني الجهاد والتضحية والبذل والعطاء، والفداء للدين والحمية للإسلام..
وإن كانت هذه المهمة شاقة، فقد حفظ الله عز وجل لشعب مصر في ذلك الوقت قيمتين عظيمتين سَهّلتا نسبياً من مهمة قطز رحمه الله..
أما القيمة الأولى التي حُفظت في مصر في ذلك الوقت فهي قيمة العلوم الشرعية وعلماء الدين؛ فطوال أيام الأيوبيين في مصر، ومنذ أن رسّخ صلاح الدين الأيوبي رحمه الله المذهب السني في مصر بعد قضائه على الدولة الفاطمية الفاسدة..

وقيمة العلماء مرتفعة في أعين الناس والحكام على السواء.. حتى إنه لما صعدت شجرة الدرّ إلى كرسي الحكم، وقام العلماء بإنكار ذلك وكتابة الرسائل المعادية للملكة، وتحفيز الناس على رفض هذا الأمر، ما استطاعت شجرة الدرّ ولا أحد من أعوانها أن يوقفوا هذه الحركة الجريئة من العلماء، وما قُيدت حرية عالم أبداً، ولا غُيّب في ظلمات السجون، ولا مُنع من إعطاء الدروس والخطب!!.. ثم كان من جراء أسلوب الأيوبيين في تربية المماليك على الدين أساساً، ثم على الفروسية والقتال، أن احتاج الحكام إلى العلماء باستمرار.. كما أثرت هذه التربية الدينية في المماليك أنفسهم، فأصبحوا يعظمون العلم والعلماء، وإذا قام الرجل ليقول: قال الله عز وجل، وقال رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم استمع له الناس والحكام على السواء وأنصتوا..

وشتان بين شعب ابتعد عن الدين ولكنه ما زال يقدره ويقدر العلماء، وشعب آخر تربى على اعتبار الدين من التقاليد القديمة التي قد تُعظم تعظيماً رمزياً كأي أثر تاريخي!!..
لقد كان من المستحيل في مصر أيام الأيوبيين والمماليك أن يهزأ أحد بعالم دين، أو بشيخ في مسجد، أو بمأذون شرعي، أو بأي رجل حمل صبغة إسلامية.. كما كان من المستحيل على هذا الشعب أن يرفض أي مبدأ إسلامي أو قانون شرعي.. نعم قد يخالف الشعب أحياناً لضعف في الإرادة، أو لهوى في النفس، ولكنه يخالف وهو يعلم أنه يخالف، ولم يأت له أبداً من يقول له: إن المحرمات كالربا والخمور والرقص والملاهي والإباحية والولاء للنصارى... لم يأت له من يقول إن هذه المحرمات أصبحت حلالاً..

ولم يأت من يحرم عليه أمراً حلالاً كذلك، لا في شكل ولا في مضمون.. ولم توقف الحلقات في المساجد، ولم يمنع العلماء من صعود المنابر، ولم تُصادَر الكلمة، ولم تُقتَل النصيحة..
لقد كان الشعب معظماً للدين.. وكان الشعب محباً للإسلام..
ولهذه القيمة العالية للعلم والعلماء في مصر كانت مصر ملاذاً للعلماء الذين لا يجدون في بلادهم فرصة لتعليم الناس، أو يجدون مقاومة من حكامهم لسبب من الأسباب، ولهذا فزيادة على علماء مصر وعلماء الأزهر الشريف ـ والذي أصبح سنياً تماماً بعد ذهاب الدولة الفاطمية ـ جاء إلى مصر علماء أفاضل من بلاد إسلامية أخرى، ولا شك أن هؤلاء العلماء أضافوا إضافات جليلة لحركة العلم في مصر..

وعلى رأس هؤلاء العلماء الشيخ البار، والعالم الفذ، والإمام الجليل: "العز بن عبد السلام" رحمه الله، والملقب "بسلطان العلماء"..
وهنا لابد لنا من وقفة مع هذا العالم الجليل..





رد باقتباس
   
  رقم المشاركة :80  (رابط المشاركة)
قديم 07.12.2010, 20:01
صور أمــة الله الرمزية

أمــة الله

مديرة المنتدى

______________

أمــة الله غير موجود

الملف الشخصي
التسجيـــــل: 24.04.2009
الجــــنـــــس: أنثى
الــديــــانــة: الإسلام
المشاركات: 3.944  [ عرض ]
آخــــر نــشــاط
29.08.2013 (18:25)
تم شكره 30 مرة في 26 مشاركة
افتراضي


سلطان العلماء!

"العزّ بن عبد السلام" رحمه الله من أعظم علماء المسلمين على الإطلاق، وهو من مواليد دمشق سنة 577 هجرية، أي إنه عند ولاية قطز كان قد تجاوز الثمانين من عمره، والعزّ بن عبد السلام من العلماء الذين لا يخافون في الله لومة لائم، وكان كثيراً ما يواجه السلاطين بأخطائهم، وينصحهم في الله دون خوف ولا وجل، ولذلك لقبه تلميذه الأول وعالم الإسلام المشهور "ابن دقيق العيد" رحمه الله بلقب "سلطان العلماء"، فقد جمع العزّ بن عبد السلام رحمه الله بين العلم والعمل، وبين الاتباع الشديد للسنة والاجتهاد الصحيح عند الحاجة، وبين الفتوى في الأمور العبادية والعقائدية والفتوى في الأمور السياسية والاجتماعية.. فكان بحق سلطاناً للعلماء، وقدوة للدعاة، وأسوة للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر..

وقد عاش حياته رحمه الله في دمشق إلى أن تولّى "الصالح إسماعيل الأيوبي" أمر دمشق وهو أخو الصالح أيوب الذي كان حاكماً لمصر، والذي تحدثنا كثيراً عنه وعن صلاحه وتقواه، لكن الصالح إسماعيل حاكم دمشق كان على شاكلة أخرى، فقد كان خائناً لدينه وشعبه، فتحالف مع الصليبيين لحرب أخيه نجم الدين أيوب في مصر، وكان من شروط تحالفه مع الصليبيين أن يعطي لهم مدينتي صيدا والشقيف، وأن يسمح لهم بشراء السلاح من دمشق، وأن يخرج معهم في جيش واحد لغزو مصر، وبالطبع ثار العالم الجليل العز بن عبد السلام، ووقف يخطب على المنابر ينكر ذلك بشدة على الصالح إسماعيل، ويعلن في صراحة ووضوح أن الصالح إسماعيل لا يملك المدن الإسلامية ملكاً شخصياً حتى يتنازل عنها للصليبيين، كما أنه لا يجوز بيع السلاح للصليبيين، وخاصة أن المسلمين على يقين أن الصليبيين لا يشترون السلاح إلا لضرب إخوانهم المسلمين.. وهكذا قال سلطان العلماء كلمة الحق عند السلطان الجائر الصالح إسماعيل..

فما كان من الصالح إسماعيل إلا أن عزله عن منصبه في القضاء، ومنعه من الخطابة، ثم أمر باعتقاله وحبسه، وبقي العالم الجليل مدة في السجن، ثم أُخرج من سجنه ولكنه مُنع من الكلام والتدريس والخطابة، فرحل الإمام الجليل من دمشق إلى بيت المقدس ليجد فرصة ليعلم الناس هناك بدلاً من السكوت في دمشق، وأقام بها مدة، ولكنه فوجئ بالصالح إسماعيل يأتي إلى بيت المقدس ومعه ملوك الصليبيين وجيوشهم وهم يقصدون مصر لاحتلالها، وأرسل الصالح إسماعيل أحد أتباعه إلى الشيخ العز بن عبد السلام رحمه الله، وكان متلطفاً له غاية التلطف، بل ووعده بالعودة إلى كل مناصبه بشرط أن يترضى الصالح إسماعيل، ويعتذر له، وبشرط ألا يتكلم في أمور السياسة، وإلا اعتقله..

وذهب رسول الصالح إسماعيل إلى العز بن عبد السلام رحمه الله وقال له: "بينك وبين أن تعود إلى مناصبك وما كنت عليه، وزيادة، أن تنكسر للسلطان، وتُقبل يده لا غير!"..
فرد عليه العز بن عبد السلام رحمه الله في كبرياء وعزة فقال:
"والله يا مسكين، ما أرضاه أن يُقبل يدي، فضلاً أن أقبل يده، يا قوم: أنتم في واد، وأنا في واد، والحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به"..
الله أكبر!!.. هؤلاء هم العلماء بحق!

وكان رد الصالح إسماعيل متوقعاً، فقد أمر باعتقال الشيخ الكبير في بيت المقدس، ووضعه في خيمة مجاورة لخيمته، وكان الشيخ عزّ الدين رحمه الله يقرأ القرآن في خيمته، والسلطان الصالح إسماعيل يسمعه، وفي ذات يوم كان الصالح إسماعيل يتحدث مع ملوك الصليبيين في خيمته والشيخ يقرأ القرآن، فقال الصالح إسماعيل لملوك الصليبيين وهو يحاول استرضاءهم: "تسمعون هذا الشيخ الذي يقرأ القرآن؟ قالوا: نعم، قال: هذا أكبر علماء المسلمين، وقد حبسته لإنكاره عليّ تسليمي حصون المسلمين، وعزلته عن الخطابة بدمشق، وعن مناصبه، ثم أخرجته فجاء إلى القدس، وقد جددت حبسه واعتقاله لأجلكم"..

يقول الصالح إسماعيل هذا الكلام ليسترضي ملوك النصارى، فقال له ملوك النصارى وقد سقط تماماً من أعينهم: "لو كان هذا قسيسنا لغسلنا رجليه، وشربنا مرقتها!"..
وحُبس الشيخ العز بن عبد السلام في بيت المقدس إلى أن جاء الملك الصالح نجم الدين أيوب، وخلص بيت المقدس من الصليبيين سنة 643 هجرية، وهنا أخرج الشيخ العز بن عبد السلام من السجن وجاء إلى مصر، حيث استُقبل أحسن استقبال، وقرب جداً من السلطان الصالح أيوب رحمه الله، وأعطاه الخطابة في مسجد عمرو بن العاص، وولاه القضاء..

ومن مواقفه الشهيرة والتي اصطدم فيها مع الصالح أيوب نفسه، أنه لما عاش في مصر اكتشف أن الولايات العامة والإمارة والمناصب الكبرى كلها للمماليك الذين اشتراهم نجم الدين أيوب قبل ذلك، ولذلك فهم في حكم الرقيق والعبيد، ولا يجوز لهم الولاية على الأحرار، فأصدر مباشرة فتواه بعدم جواز ولايتهم لأنهم من العبيد، واشتعلت مصر بغضب الأمراء الذين يتحكمون في كل المناصب الرفيعة، حتى كان نائب السلطان مباشرة من المماليك، وجاءوا إلى الشيخ العز بن عبد السلام، وحاولوا إقناعه بالتخلي عن هذه الفتوى، ثم حاولوا تهديده، ولكنه رفض كل هذا مع إنه قد جاء مصر بعد اضطهاد شديد في دمشق، ولكنه لا يجد في حياته بديلاً عن كلمة الحق، فرفع الأمر إلى الصالح أيوب، فاستغرب من كلام الشيخ، ورفضه، وقال إن هذا الأمر ليس من الشئون المسموح بالكلام فيها، فهنا وجد الشيخ العز بن عبد السلام أن كلامه لا يسمع، فخلع نفسه من منصبه في القضاء، فهو لا يرضى أن يكون صورة مُفتٍ، وهو يعلم أن الله عز وجل سائله عن سكوته كما سيسأله عن كلامه، ومن هنا قرر العالم الورع أن يعزل نفسه من المنصب الرفيع، ومضحياً بالوضع الإجتماعي وبالمال وبالأمان بل وبكل الدنيا..
وركب الشيخ العز بن عبد السلام حماره، وأخذ أهله على حمار آخر، وببساطة قرر الخروج من القاهرة بالكلية، والاتجاه إلى إحدى القرى لينعزل فيها إذا كان لا يُسمع لفتواه، ولكن شعب مصر المقدّر لقيمة العلماء رفض ذلك الأمر، فماذا حدث؟

لقد خرج خلف الشيخ العالم الآلاف من علماء مصر ومن صالحيها وتجارها ورجالها، بل خرج النساء والصبيان خلف الشيخ تأييداً له، وإنكاراً على مخالفيه..
ووصلت الأخبار إلى الملك الصالح نجم الدين أيوب فأسرع بنفسه خلف الشيخ العز بن عبد السلام واسترضاه، فما قبل إلا أن تنفذ فتواه، وقال له إن أردت أن يتولى هؤلاء الأمراء مناصبهم فلابد أن يباعوا أولاً، ثم يعتقهم الذي يشتريهم، ولما كان ثمن هؤلاء الأمراء قد دفع قبل ذلك من بيت مال المسلمين فلابد أن يرد الثمن إلى بيت مال المسلمين، ووافق الملك الصالح أيوب، وتولى الشيخ العزّ بن عبد السلام بنفسه عملية بيع الأمراء حتى لا يحدث نوع من التلاعب، وبدأ يعرض الأمراء واحداً بعد الآخر في مزاد، ويغالي في ثمنهم، ودخل الشعب في المزاد، حتى إذا ارتفع السعر جداً، دفعه الملك الصالح نجم الدين أيوب من ماله الخاص واشترى الأمير، ثم يعتقه بعد ذلك، ووضع المال في بيت مال المسلمين، وهكذا بيع كل الأمراء الذين يتولون أمور الوزارة والإمارة والجيش وغيرها، ومن يومها والشيخ العز بن عبد السلام يعرف "ببائع الأمراء!"..

يتبدى لنا من هذه القصة، وفي سيرة الشيخ العز بن عبد السلام رحمه الله بصفة عامة، قيمة العلم والعلماء في مصر في ذلك الوقت، واحترام الناس لكلمة الشرع، وكل هذا كان له أثر بالغ في تكوين الشعب المصري، وفي استجابته لنصائح العلماء..
إذن من حديثنا السابق عن العلماء وعن الشيخ العز بن عبد السلام كمثال لهم، يتبين أن قيمة العلم والعلماء كانت عالية جداً، ومحفوظة تماماً في الشعب المصري أيام الأيوبيين والمماليك، وهذا ولا شك سيكون عوناً هاماً لقطز رحمه الله في بث معاني الجهاد والتضحية في الشعب بعد ذلك..





رد باقتباس
رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية
البتار, السرجاني, راغب, ظهور


الذين يشاهدون هذا الموضوع الآن : 1 ( 0من الأعضاء 1 من الزوار )
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة موضوعات جديدة
لا تستطيع إضافة رد
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

رمز BB تمكين
رمز[IMG]تمكين
رمز HTML تعطيل

الانتقال السريع

الموضوعات المتماثلة
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى ردود آخر مشاركة
قصة الفتنة د.راغب السرجاني noha التاريخ والبلدان 3 08.11.2010 18:41
أهمية الفتوح الإسلامية .. الدكتور راغب السرجانى كلمة سواء التاريخ والبلدان 2 17.10.2010 08:15
ظهور الشيطان ام ظهور العذراء بالادله والبراهين ابو يونس كشف أكاذيب المنصرين و المواقع التنصيرية 3 05.07.2010 01:40
الدكتور, راغب السرجانى, يكتب"رسالة, الى أستاذى أردوغان" أم جهاد قسم الحوار العام 0 22.06.2010 17:05
المسلمون والكشوف الجغرافية بقلم د. راغب السرجاني أمــة الله التاريخ والبلدان 4 31.05.2010 15:35



لوّن صفحتك :