اعرض مشاركة منفردة
   
Share
  رقم المشاركة :1  (رابط المشاركة)
قديم 08.05.2014, 22:50
صور الشهاب الثاقب الرمزية

الشهاب الثاقب

مشرف عام

______________

الشهاب الثاقب غير موجود

الملف الشخصي
التسجيـــــل: 14.09.2011
الجــــنـــــس: ذكر
الــديــــانــة: الإسلام
المشاركات: 991  [ عرض ]
آخــــر نــشــاط
28.03.2024 (20:56)
تم شكره 689 مرة في 467 مشاركة
افتراضي الرد على الزعم أن إيمان المسلمين بالقضاء والقدر يجعلهم مسلوبي الإرادة


بسم الله الرحمن الرحيم
و به نستعين


الزعم أن إيمان المسلمين بالقضاء والقدر يجعلهم مسلوبي الإرادة
(*)
مضمون الشبهة:
يزعم بعض المغرضين أن إيمان المسلم بالقضاء والقدر يفقده القدرة على الاختيار، ويجعله مسلوب الإرادة، ويدفعه إلى السلبية والكسل والتواكل وترك العمل، ويدعون أن هذه العقيدة أدت إلى تأخر المسلمين، ويتساءلون: إذا كان الإنسان يصيب ويخطئ بقدر الله ومشيئته، فكيف يحاسبه الله على فعل هو مسير فيه؟ ألا يتعارض هذا مع العدل الإلهي؟!
وجوه إبطال الشبهة:
الإيمان بالقضاء والقدر لا يرفع مسئولية الاختيار عن العبد إذ الإيمان به شيء، ومسئولية العبد عن عمله شيء آخر لا يناقضه.
لقد وقع التاركون للعمل اتكالا على القدر في ضلالات عدة؛ فقد تركوا العمل واحتجوا بالقدر على ما يقع من أعمال مخالفة للشرع، وبذلك لم يفرقوا بين الكفر والإيمان والهدى والضلال، ولا يستقيم أن نلصق جريرة سوء الفهم لهذا الأصل الإيماني بالإسلام.
الفهم الصحيح للإيمان بالقضاء والقدر وتطبيقه هو ما دفع المسلمين إلى العمل والاجتهاد وعدم التواكل حتى حققوا الريادة المنشودة في قيادة الأمم، ومن أراد أن يحكم فليحكم على حال المسلمين الأوائل من الصحابة ليعرف الفرق، والفتوحات الإسلامية خير شاهد على ذلك.
إن لعقيدة الإيمان بالقدر مفهومها وحدودها في الإسلام.

ليس ثمة أدنى تعارض بين الإيمان بالقضاء والقدر والعدل الإلهي.
التفصيل:
أولا. الإيمان بالقضاء والقدر لا يرفع مسئولية الاختيار عن العبد:
الإيمان بالقضاء- والقدر هو الركن الخامس من أركان الإيمان، كما دل على ذلك حديث جبريل - عليه السلام - عندما سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان فقال: «أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وباليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره»[1].
إن الله خلق الخلق وجعل فيهم القدرة على الإيمان والكفر، قال سبحانه وتعالى: )إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا (3)( (الإنسان)، فالإنسان وإن كان مكلفا شرعا إلا أن له حرية الاختيار كونا وقدرا، وهذا الأمر واقع مشاهد، فما من إنسان إلا وهو يشعر بهذه الحرية في الاختيار، وبناء على هذه الحرية جاء التكليف الشرعي بوجوب الإيمان وحرمة الكفر، فعندما لا يؤمن الإنسان يكون هو الذي لا يريد الإيمان، وعندما يكفر يكون هو من أراد الكفر ونضرب مثالا لهذا:
الإنسان مختار في عمله وكسبه، غير مجبر، وهو مفطور على حركة الاختيار، يمثل هذه الحركة ويطبقها في حياته اليومية ويقرر بعمله وسلوكه الاختيار وينكر الجبر، فمثلا لا يعاقب الجماد، ولا يغضب على الحجر، والخشب، والماء، والنار، والريح، مهما لحقه الأذى والضرر والعنت من هذه الأشياء؛ لأنه يعلم أنها غير مخيرة، أما إذا تعرض إنسان لإهانتك أو هتك عرضك أو ثرت عليه ثورانا عجيبا وعاقبته عقابا شديدا، أفلا يدل ذلك على أن الإنسان يميز بين المجبر والمختار، وأنه صاحب اختيار وإرادة؟!
ولو كان الاحتجاج بالجبر والقدر صحيحا لاحتج به أهل النار عندما سئلوا: )ما سلككم في سقر (42)( (المدثر)، فأجابوا: )قالوا لم نك من المصلين (43) ولم نك نطعم المسكين (44)( (المدثر)، فلو كان الاحتجاج بالقدر صحيحا لقال أهل النار: أجبرنا على فعل الكفر، ثم عوقبنا عليه. وفي رسالة الحسن البصري في رده على مثل هؤلاء الطاعنين إلى هؤلاء فقال: "لو أجبر الله الخلق على الطاعة، لأسقط عنهم الثواب، ولو أجبرهم على المعاصي لأسقط عنهم العقاب، ولو أهملهم لكان عجزا في القدرة"[2].
وقال ابن القيم: فالله سبحانه وتعالى إذا أراد فعل العبد خلق القدرة، والداعي إلى فعله، ويضاف الفعل إلى قدرة العبد إضافة المسبب إلى سببه، ويضاف إلى قدرة الرب إضافة المخلوق إلى الخالق. ولو قام العبد بالأكل والشرب والزنا، والسرقة عادت أحكام هذه الأفعال إليه وامتنع عود أحكامها إلى الرب، ولكن من أين يمنع أن تكون معلومة للرب سبحانه: )ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير (14)( (الملك).
وإن العقلاء ليتفقون - بداهة - على أن أفعال الإنسان تنقسم إلى أفعال اضطرارية، وأخرى اختيارية، وهذا ما يحسه ويشعر به كل إنسان في أنه في أفعاله الاختيارية يستطيع أن يفعل الشيء، أو يتركه، فالقدرة على الفعل والترك دليل الاختيار، وحرية الإرادة.
والقرآن والسنة يقرران حرية الإنسان في كل أفعاله وخصوصا التي تمس الدين، ويكون عليها الجزاء مثوبة، أو عقوبة فقال سبحانه وتعالى: )لا تكلف نفس إلا وسعها( (البقرة: 286). وقال سبحانه وتعالى: )وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر( (الكهف: 29). وقال: )من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد (46)( (فصلت)، وقال صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى...»[3] [4].
ثانيا. ضلالات التاركين للعمل اتكالا على القدر:
سلك الناس في باب القدر كل واد وأخذوا في كل طريق وتكلمت فيه الأمم قديما وحديثا وقد ضل فريق البحث، وعن هذا الضلال يتحدث د. عمر الأشقر فيقول: ضل فريق في باب القدر، فقالوا: إذا كان الله عالما بكل شيء نفعله، وعالما بمصيرنا إلى الجنة أو النار، وكان هو الخالق لأفعالنا، فلماذا نعمل وننصب؟ ولماذا لا نترك الأقدار تجري في أعنتها، وسيأتينا ما قدر لنا شئنا أم أبينا.
وقد تعمقت هذه الضلالة عند بعض طوائف المسلمين، وكان ولا يزال هذا القول على ألسنة كثير من جهال المسلمين وأهل الزيغ والزندقة، وهذا الفريق يؤمن بالقدر، وأن الله عالم بكل شيء، وخالق لكل شيء، ومريد لجميع الكائنات، ولكنهم زعموا أن كل ما خلقه الله وشاءه فقد رضيه وأحبه، وقد قال سبحانه وتعالى: )فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر( (الزمر)، وزعموا أنه لا حاجة بالعباد إلى العمل، والأخذ بالأسباب، فما قدر لهم سيأتيهم، وزعموا أن العباد مجبورون على أفعالهم، فالإنسان عندهم ليس له قدرة تؤثر في الفعل، بل هو مع القدر كالريشة في مهب الريح، وكالساقط من قمة جبل شامخ إلى واد بعيد غوره، سحيق قعره، لا يملك وهو يتردى فيه من أمره شيئا.
لقد ترك هؤلاء العمل احتجاجا بالقدر قبل وقوعه، واحتجوا بالقدر على ما يقع منهم من أعمال مخالفة للشرع، ووصل بهم الحال إلى عدم التفريق بين الكفر والإيمان، وأهل الهدى والضلال؛ لأن جميع ذلك خلق الله.
إن هذه العقيدة المنحرفة أضلت عقولا كثيرة، وانحرف مسارها عن جادة الحق والصواب، فاضطربت عندها موازين العدل والحق، وعطلت هذه العقيدة المنحرفة طاقات هائلة في العالم الإسلامي، وأقعدتها عن العمل.
لقد كان من آثار هذه العقيدة الزعم أن الله أحب الكفر، والشرك، والقتل، والزنا، والسرقة، وعقوق الوالدين، وغير ذلك من الذنوب والمعاصي؛ لأنهم يزعمون أن كل شيء خلقه الله، وأوجده فهو يحبه ويرضاه، ومن آثارها أن أصحابها تركوا الأعمال الصالحة الخيرة التي توصلهم إلى الجنة وتنجيهم من النار، وارتكبوا كثيرا من الموبقات بدعوى أن القدر آت آت، وكل ما قدر للعبد سيصيبه، فلماذا العمل والتعب والنصب؟ لقد ترك هؤلاء الأخذ بالأسباب؛ فتركوا الصلاة والصيام، كما تركوا الدعاء والاستعانة بالله والتوكل عليه؛ لأنه لا فائدة منها، فالذي يريده الله ماض قادم لا ينفع معه دعاء ولا عمل.
ورضى كثير من هؤلاء بظلم الظالمين، وإفساد المفسدين؛ لأن ما يفعلونه قدر الله وإرادته، وتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولم يهتموا بإقامة الحدود والقصاص؛ لأن ما وقع من المفاسد والجرائم قدر لا بد منه.
ويمكن الرد على هؤلاء من وجوه:
خطؤهم في إطلاق اسم الجبر على ما يؤديه الإنسان من أفعال:
استعمل هؤلاء لفظا لم يرد به الكتاب والسنة، والواجب على العباد أن يستخدموا الألفاظ التي جاءت بها النصوص، روى اللالكائي بإسناده: سألت الأوزاعي والزبيدي عن الجبر، فقال الزبيدي: أمر الله أعظم وقدرته أعظم من أن يجبر ويقهر، ولكن يقضي ويقدر ويخلق ويجبل عبده على ما أحب.
وإطلاق هذا على الله - عز وجل - خطأ بين؛ فإن الله أعلى وأجل من أن يجبر أحدا، وإنما يجبر غيره العاجز عن أن يجعله للفعل مختارا له محبا، راضيا به، والله سبحانه قادر على ذلك، فهو الذي جعل المريد للفعل المحب له الراضي به مريدا له محبا إياه راضيا به، فكيف يقال أجبره وأكرهه، كما يجبر المخلوق المخلوق.
إنكار الاختيار في أفعال العباد نقص في العقل:
الذين يزعمون أن الإنسان ليس له إرادة ألغوا عقولهم، فضلوا وأضلوا، وإلا فإننا نعلم من أنفسنا أن حركتنا ليست كحركة الجماد، الذي لا يملك شيئا لذاته في تحركه وسكونه، بل إننا نفرق بين الحركات غير الإرادية التي تجري في أجسادنا وبين الحركات الإرادية، فحركة القلب، وحركة الرئتين، وجريان الدم في دورته في عروق الإنسان، وآلاف العمليات المعقدة التي تجري في أجسادنا - من غير أن نعرفها ونعلم بها - ليس لنا فيها خيار، بل هي حركات اضطرارية ليس للإنسان إرادة في إيجادها وتحقيقها، ومثل ذلك حركة المرعوش الذي لا يملك إيقاف اهتزاز يده.
أما أكل الإنسان وشربه وركوبه، وبيعه وشراؤه، وقعوده وقيامه، وزواجه وطلاقه، ونحو ذلك، فهو يتم بإرادة وقدرة ومشيئة، والذين يسلبون الإنسان هذه القدرة ضلت عقولهم، واختلت عندهم الموازين، والقرآن الكريم مليء بإسناد الأفعال إلى من قاموا بها كقوله سبحانه وتعالى: )وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى( (يس: 20)، )فلما أسلما وتله للجبين (103)( (الصافات)، )فوكزه موسى فقضى عليه( (القصص: 15)، )فخرج على قومه في زينته( (القصص: 79)، والنصوص في هذا كثيرة يصعب إحصاؤها، وهي تسند الأفعال إلى من قاموا بها.
زعمهم أن كل شيء قدره الله وخلقه فقد رضيه وأحبه:
وهذا زعم باطل، فالله شاء وجود الكفر، والشرك، والذنوب، والمعاصي من الزنا، والسرقة، وعقوق الوالدين، والكذب، وقول الزور، وأكل مال الناس بالباطل، ولكن كرهها وأبغضها ونهى عباده عنها. قال ابن القيم: "أخبرني شيخ الإسلام - قدس الله روحه - أنه لام بعض هذه الطائفة على محبة ما يبغض الله ورسوله. فقال له الملوم: المحبة نار تحرق من القلب ما سوى مراد المحبوب، وجميع ما في الكون مراده، فأي شيء أبغض منه؟ فقال له الشيخ: إذا كان الله قد سخط على أقوام ولعنهم وغضب عليهم وذمهم، فواليتهم أنت وأحببت أفعالهم ورضيتها، تكون مواليا له أو معاديا له؟ قال: "فبهت الجبري ولم ينطق بكلمة، قال سبحانه وتعالى: )إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر( (الزمر: 7).
زعمهم أن الإيمان بالقدر يقضي بترك الأعمال وإهمال الأسباب:
لقد أخطأ هذا الفريق في دعواه أن الإيمان بالقدر لا يحتاج العبد معه إلى العمل، وذهل هؤلاء عن حقيقة القدر؛ فالله قدر النتائج وأسبابها، ولم يقدر المسببات من غير أسباب، فمن زعم أن الله قدر النتائج والمسببات من غير مقدماتها وأسبابها فقد أعظم الفرية؛ فالله إذا قدر أن يرزق فلانا رزقا، فقد جعل لذلك الرزق أسبابا ينال بها، فمن ادعى أنه لا حاجة به إلى السعي في طلب الرزق، وأن ما قدر له من رزق سوف يأتيه سعى أو لم يسع لم يفقه قدر الله في عباده.
ونصوص الكتاب والسنة حافلة بالأمر باتخاذ الأسباب المشروعة في مختلف شئون الحياة، فقد أمرت بالعمل، والسعي في طلب الرزق، واتخاذ العدة لمواجهة الأعداء، والتزود للأسفار.
قال سبحانه وتعالى: )فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله( (الجمعة:10)، وقال: )فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور (15)( (الملك)، وقال: )وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم( (الأنفال:60)، وأمر المسافرين للحج بالتزود: )وتزودوا فإن خير الزاد التقوى( (البقرة: 197)، وأمر بالدعاء والاستعانة: )وقال ربكم ادعوني أستجب لكم( (غافر:60)، )قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا( (الأعراف: 128).
احتجاجهم بالقدر على مقارفة الذنوب باطل:
الحق أن الإيمان بالقدر لا يستلزم الرضا بالمعاصي، ولقد ضل أقوام وسلموا للمفاسد التي وقعت بحجة فاسدة، وهي قولهم: هذه إرادة الله ومشيئته وليس لنا حيلة في ذلك، وقد أدى هذا بهم إلى ترك الباطل يستشري في ديار الإسلام، وترى هذا الصنف من البشر خاضعين للظلمة، بل إن بعضا منهم يصبح أعوانا للظلمة، وتراهم يخاطبون الناس قائلين: ليس لكم إلا أن تصبروا على مشيئة الله وقدره فيكم.
وترى بعض هؤلاء يفعلون الموبقات، ويرتكبون المنكرات من الزنا، والفسوق، والعصيان، ويحتجون لأفعالهم بالقدر. وهؤلاء إن اعتقدوا أن كل شيء واقع فهي حجة أضحكوا العقلاء منها، وأوقعوا أنفسهم في مأزق لا يجدون منه خلاصا، ولقد ذكر ابن القيم وقائع من هؤلاء تزري بأصحاب العقول، وتجعل أصحابها في مرتبة أقل من البهائم، يذكر عن واحد من هؤلاء أنه رأى غلامه يفجر بجاريته، فلما أراد معاقبتهما، وكان غلامه يعرف مذهبه في القدر، فقال له: إن القضاء والقدر لم يدعانا حتى فعلنا ذلك. فقال ذلك الجاهل: لعلمك بالقضاء والقدر أحب إلي من كل شيء، أنت حر لوجه الله. ورأى آخر يفجر بزوجته، فأقبل يضربها وهي تقول: القضاء والقدر فقال: يا عدوة الله أتزنين وتعتذرين بمثل هذا؟ فقالت: أوه تركت السنة، وأخذت بمذهب ابن عباس، فتنبه ورمى بالسوط من يده واعتذر إليها، وقال: لولا أنت لضللت. ورأى آخر رجلا يفجر بامرأته، فقال: ما هذا؟ فقالت: هذا قضاء وقدر، فقال: الخيرة فيما قضى الله، فلقب بالخيرة فيما قضى الله. ولو كان الاحتجاج بالقدر صحيحا، لأمكن لكل واحد أن يقتل ويفسد، ويأخذ الأموال، ويظلم العباد، فإذا سئل عن أفعاله احتج بالقدر، وكل العقلاء يعلمون أن هذه الحجة مرفوضة غير مرضية، وإلا فإن الحياة تفسد.
وكثير من الذين يحتجون بالقدر لظلمهم وفسقهم وضلالهم يثورون إذا ما وقع عليهم الظلم، ولا يرضون من غيرهم أن يحتج على ظلمه لهم بالقدر.
إن المنهج الذي فقهه علماؤنا عن ربنا ونبينا أنه يجب علينا أن نؤمن بالقدر، ولكن لا يجوز لنا أن نحتج به على ارتكاب منكر العمل وفاسده، كما لا يجوز لنا أن نحتج به على مخالفتنا للشرع، وإنما يحتج بالقدر على المصائب، دون المعايب، يقول شيخ الإسلام: "العبد له في المقدور حالان: حال قبل القدر، وحال بعده، فعليه قبل المقدور أن يستعين بالله، ويتوكل عليه، ويدعوه، فإذا قدر المقدرو بغير فعله، فعليه أن يصبر عليه أو يرضى به، وإن كان بفعله وهو نعمة حمد الله على ذلك، وإن كان ذنبا استغفر إليه من ذلك، وله في الأمور حالان:
حال قبل الفعل: وهو العزم على الامتثال والاستعانة بالله على ذلك.
حال بعد الفعل: وهو الاستغفار من التقصير وشكر الله على ما أنعم به من الخير. قال سبحانه وتعالى: )فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك( (غافر: 55)، أمره أن يصبر على المصائب المقدورة، ويستغفر من الذنب، وقال سبحانه وتعالى: )وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور (186)( (آل عمران)، وقال سبحانه وتعالى:)إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين (90)( (يوسف)، فذكر الصبر على المصائب، والتقوى بترك المعائب، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان»[5].
إن الإيمان بالقدر والاحتجاج به يأتي لمعالجة المشكل النفسي الذي يذهب الطاقة الإنسانية ويبددها في حال الفشل والإخفاق، ولا يكون مانعا من العمل والإبداع، في مقبل الزمان[6].
يلزم من قولهم التسوية بين المختلفين:
لقد أدى هذا المذهب بأصحابه إلى التسوية بين الأخيار والفجار، والأبرار والأشرار، وأهل الجنة وأهل النار، وقد فرق بينهم الله عز وجل فقال: )أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار (28)( (ص)، )أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم( (الجاثية: 21). وقال: أفنجعل المسلمين كالمجرمين (35) ما لكم كيف تحكمون (36)( (القلم).
أسباب الضلال في القدر:
الحكم على الشيء فرع عن تصوره، هذا التصور لا يكون صحيحا إلا إذا اتسم بالشمولية، ومن تحدثوا في القدر وضلوا من النفاة والجبرية رأوا جزءا من الحقيقة وتركوا الباقي،ومن ثم جاء حكمهم باطلا، وعن أسباب هذا البطلان يتحدث د. عمر الأشقر فيقول: إن السبب في ضلال كل من القدرية النفاة والقدرية المجبرة في هذا الباب أن كل واحد من الفريقين رأى جزءا من الحقيقة وعمي عن جزء منها، فكان مثله مثل الأعور الذي يرى أحد جانب الشيء، ولا يرى الجانب الآخر، فالقدرية النفاة الذين نفوا القدر قالوا: إن الله لا يريد الكفر، والذنوب والمعاصي، ولا يحبها ولا يرضاها، فكيف نقول إنه خلق أفعال العباد وفيها الكفر والذنوب والمعاصي، والقدرية المجبرة آمنوا بأن الله خالق كل شيء، وزعموا أن كل شيء خلقه وأوجده فقد أحبه ورضيه.
وأهل السنة والجماعة أبصروا الحقيقة كلها، فآمنوا بالحق الذي عند كل واحد من الفريقين، ونفوا الباطل الذي تلبس به كل واحد منها، فهم يقولون: "إن الله وإن كان يريد المعاصي قدرا، فهو لا يحبها، ولا يرضاها ولا يأمر بها، بل يبغضها وينهى عنها". وهذا قول السلف قاطبة، فيقولون: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ولهذا اتفق الفقهاء على أن الحالف لو قال: والله لأفعلن كذا إن شاء الله لم يحنث إذا لم يفعله، وإن كان واجبا أو مستحبا.
ولو قال: إن أحب الله، حنث إن كان واجبا أو مستحبا.
والمحققون من أهل السنة يقولون: الإرادة في كتاب الله نوعان: إرادة قدرية خلقية، وإرادة دينية شرعية.
فالإرادة الشرعية هي المتضمنة المحبة والرضا، والكونية القدرية هي المشيئة الشاملة لجميع الموجودات، فالإرادة الشرعية كقوله سبحانه وتعالى: )يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر( (البقرة: 185)، وقوله: )ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم( (المائدة: 6)، )يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم (26) والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما (27) يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا (28)( (النساء)، )إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا (33)( (الأحزاب).
فهذا النوع من الإرادة لا تستلزم وقوع المراد، إلا إذا تعلق به النوع الثاني من الإرادة، وهذه الإرادة تدل دلالة واضحة على أنه لا يحب الذنوب، والمعاصي، والضلال، والكفر، ولا يأمر بها ولا يرضاها، وإن كان شاءها خلقا وإيجادا، وأنه يحب ما يتعلق بالأمور الدينية، ويرضاها ويثيب عليها أصحابها، ويدخلهم الجنة، وينصرهم في الحياة الدنيا، وفي الآخرة، وينصر بها العباد من أوليائه المتقين وحزبه المفلحين وعباده الصالحين.
وهذه الإرادة تتناول جميع الطاعات حدثت أو لم تحدث.
والإرادة الكونية القدرية هي الإرادة الشاملة لجميع الموجودات، التي يقال فيها: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وهذه الإرادة مثل قوله سبحانه وتعالى: )فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا( (الأنعام: 125)، وقوله: )ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم( (هود: 34)، وقوله: )ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد (253)( (البقرة)، وقوله: )ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله( (الكهف: 39).
وهذه الإرادة إرادة شاملة لا يخرج عنها أحد من الكائنات، فكل الحوادث الكونية داخلة في مراد الله ومشيئته هذه، وهذه يشترك فيها المؤمن والكافر، والبار والفاجر، وأهل الجنة، وأهل النار، وأولياء الله وأعداؤه، وأهل طاعته الذين يحبهم ويحبونه، ويصلي عليهم هو وملائكته، وأهل معصيته الذين يبغضهم ويمقتهم ويلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون وهذه الإرادة تتناول ما حدث من الطاعات والمعاصي، دون ما لم يحدث منها.
والمخلوقات مع كل من الإرادتين أربعة أقسام:
الأول: ما تعلقت به الإرادتان، وهو ما وقع في الوجود من الأعمال الصالحة، فإن الله أراده إرادة دين وشرع، فأمر به وأحبه ورضيه، وأراده إرادة كون فوقع، ولولا ذلك ما كان.
والثاني: ما تعلقت به الإرادة الدينية فقط، وهو ما أمر الله به من الأعمال الصالحة، فعصى ذلك الكفار والفجار، فتلك كلها إرادة دين، وهو يحبها ويرضاها وقعت أو لم تقع.
والثالث: ما تعلقت به الإرادة الكونية فقط، وهو ما قدره الله وشاءه من الحوادث التي لم يأمر بها كالمعاصي، فإنه لم يأمر بها، ولم يرضها، ولم يحبها، إذ هو لا يأمر بالفحشاء، ولا يرضى لعباده الكفر، ولولا مشيئته وقدرته وخلقه لها لما كانت، ولما وجدت، فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
والرابع: ما لم تتعلق به هذه الإرادة، ولا هذه فهذا ما لم يقع ولم يوجد من أنواع المباحات والمعاصي. والسعيد من عباد الله من أراد الله منه تقديرا ما أراد به تشريعا، والعبد الشقي من أراد به تقديرا ما لم يرد به تشريعا، وأهل السنة والجماعة الذين فقهوا دين الله حق الفقه، ولم يضربوا كتاب الله بعضه ببعض، علموا أن أحكام الله في خلقه تجري على وفق هاتين الإرادتين، فمن نظر إلى الأعمال الصادرة عن العباد بهاتين العينين كان بصيرا، ومن نظر إلى الشرع دون القدر، أو نظر إلى القدر دون الشرع كان أعور، مثل قريش الذين قالوا: )لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء( (الأنعام:148)، قال الله سبحانه وتعالى: )كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون (148)( (الأنعام)[7].
ثالثا. الفهم الصحيح للإيمان بالقضاء والقدر دفع المسلمين إلى العمل والاجتهاد وعدم التواكل:
لو أن المسلمين في خير القرون ساروا على هذا الفهم الخاطئ للإيمان بالقدر، ما انتصر لهم دين، ولا قامت لهم دولة ولا تأسست لهم حضارة، ولا مكن لهم في الأرض، ولا قادوا العالم إلى الحضارة والتقدم والرقي، فإن هذا التوجه السلبي غريب على العقل الإسلامي، والروح الإسلامية، والنهج الإسلامي الذي يعمل على تكوين الفرد الصالح، والأسرة الصالحة، والمجتمع الصالح والأمة الصالحة، والدولة الصالحة، لذا أنكره فقهاء الأمة المتبعون وأئمتها المعتبرون، فهذا الإمام سفيان بن سعيد الثوري وهو إمام في الفقه والحديث يقول: "العالم إذا لم تكن له معيشة صار وكيلا للظلمة، والعابد إذا لم تكن له معيشة أكل بدينه، والجاهل إذا لم تكن له معيشة، صار وكيلا للفساق".
ويقول الطبري: لقد ظاهر - صلى الله عليه وسلم - في الحرب بين درعين، ولبس على رأسه المغفر[8]، وأقعد الرماة على فم الشعب، وخندق حول المدينة، وأذن في الهجرة إلى الحبشة، وإلى المدينة، وهاجر هو، وقال للذي سأله: أعقلها وأتوكل أو أطلقها وأتوكل؟ قال: «اعقلها وتوكل»[9]، فأشار إلى أن الاحتراز لا يدفع التوكل، وقال سبحانه وتعالى: )وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم( (الأنفال: 60).
ولقد طبق الأنبياء جميعهم مبدأ التوكل على الله عز وجل، وأخذوا بالأسباب؛ فقد كان آدم حراثا، ونوح وزكريا نجارين، وإدريس خياطا، وإبراهيم ولوط مزارعين، وصالح تاجرا، وسليمان يعمل الخوص، وداود يصنع الدروع، وكان موسى وشعيب ومحمد - صلى الله عليهم جميعا - رعاة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «ما بعث الله نبيا إلا رعي الغنم، فقال أصحابه: وأنت؟ فقال: نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة»[10]. ولقد طبق هذا المبدأ كذلك الصحابة الكرام رضي الله عنه، إذن فالإسلام يدعو إلى العمل والاجتهاد، وعدم الكسل والتواكل، وهذه النماذج خير شاهد على ذلك[11].
الفتوحات الإسلامية دليل واضح على أخذ المسلمين بالأسباب:
يزعم أعداء الإسلام أن الإيمان بالقدر هو سر تخلف المسلمين وقعودهم عن اللحاق بركب الحضارة المادية، مستدلين على ذلك بواقع المسلمين اليوم؛ إذ انتشر فيهم التخلف والفقر والجهل، زاعمين أن الإيمان بالقدر يدعو إلى الكسل، وترك العمل تحت دعوى أن هذا مقدر فسيكون.
وجوابا على هذا الزعم نقول: إن الأسباب وراء تخلف المسلمين في هذه الأيام كثيرة منها أسباب داخلية، وخارجية، وإن جعل الإيمان بالقدر من بين تلك الأسباب، مرده إلى الفهم الخاطئ لهذا الركن العظيم من أركان الدين، ونقول لهم أيضا: إنه من غير الممكن أن يكون حال المسلمين حاكما على الإسلام نفسه، وإذا أراد هؤلاء أن يحاكموا الإسلام بالنظر إلى حال معتنقيه فليحاكموه بحال معتنقيه الأوائل من الصحابة الكرام، وكيف أنهم في فترة وجيزة فتحوا جزيرة العرب، وخضعت لهم مملكتا فارس والروم، وشمال إفريقيا، فلو كان الإيمان بالقدر سر تخلف المسلمين لما وصلوا في العهد الأول - وكانوا مؤمنين بالقدر - إلى ما وصلوا إليه من تقدم وازدهار؛ فبعدما كانوا رعاة للغنم صاروا قادة للأمم، ولو قعد بهم عن العمل ما وجدنا هذه الثمار العظيمة لعقيدة الإيمان بالقدر، ومن هذه الثمار على سبيل المثال لا الحصر:
جعل قلب المؤمن معلقا بالله الذي يدفع عنه كل سوء ويوفقه لكل خير.
معالجة أمراض المجتمع الناشئة عن عدم الرضا بقضاء الله وقدره، كالحسد، والحقد، فإذا علم العبد بأن الله هو المعطي وهو المانع، وهو الرازق فسيقنع بما رزقه، ولو علم أن ما كتب له سيأتيه شعر بالاطمئنان والسكينة والرضا.
بعث الشجاعة والإقدام والثبات في النفوس في ساحات القتال.
تحرر العبد من الخوف إلا من الله - عز وجل - فلا يرهبه ظلم ظالم ولا تجبر جبار.
كان هذا الاعتقاد إذن مبعث حضارة وتقدم وازدهار وقيادة للعالم في كل الميادين.
للمزيد من مواضيعي

 








توقيع الشهاب الثاقب

هل الله يُعذب نفسه لنفسههل الله يفتدى بنفسه لنفسههل الله هو الوالد وفى نفس الوقت المولوديعنى ولد نفسه سُبحان الله تعالى عما يقولون ويصفون
راجع الموضوع التالي
طريق الحياة و أدلة ساطعه على عدم الفداء



آخر تعديل بواسطة الشهاب الثاقب بتاريخ 27.05.2015 الساعة 20:59 .
رد باقتباس
الأعضاء الذين شكروا الشهاب الثاقب على المشاركة :