فإذا أصيب المخ بتلف .. يصاب النطق بالتلف و لا تصاب الذاكرة لأن الذاكرة حكمها حكم الروح و لا يجري عليها ما يجري على الجسد .
التوازي مفقود بين الاثنين مما يدل على أننا أمام مستويين (جسد و روح ) لا مستوى واحد اسمه المادة .
و في حوادث النسيان المرحلي .. الذي تنسى فيه مرحلة زمنية بعينها (و هو الموضوع المحبب عن مؤلفي السينما المصريين ) .. ينسى المصاب فترة زمنية بعينها فتمحى تماماً من وعيه و تكشط من ذاكرته .
و كان يتحتم تبعاً للنظرية المادية أن نعثر على تلف مخي جزئي مقابل و مناظر للفترة المنسية .
لكن من الملاحظ أن أغلب تلك الحالات هي حالات صدمة نفسية عامة و ليست تلفاً جزئياً محدداً .
مرة أخرى نجد أن التوازي مفقود بين حجم الحادث و بين حجم التلف المادي .
و في حالات التلف المادي الشديد للمخ نتيجة الكسور أو الالتهابات أو النمو السرطاني , حينما يبدأ النسيان الكامل يلاحظ دائماً أن هذا النسيان يتخذ نظاماً خاصّاً فتنسى في البداية أسماء الأعلام و آخر ما ينسى هي الكلمات الدالة على الأفعال .
و هذا التسلسل المنتظم في النسيان في مقابل إصابة غير منتظمة و في مقابل تلف مشوش أصاب المخ كيفما اتفق , هو مرة أخرى عدم توازٍ له معنى .. فهنا إصابة في الذاكرة لا علاقة لها من حيث المدى و الكم و النظام بالإصابة المادية للمخ .
و هكذا تتحطم النظرية المادية للذاكرة على حائط مسدود .
و نجد أنفسنا أمام ظاهرة متعالية على الجسد و على خلايا المخ .
و سوف تموت و تتعفن الخلايا المخية و تظل الذاكرة شاخصة حية بتفصيلاتها و دقائقها تذكرنا في حياتنا الروحية الثانية بكل ما فعلناه .
و لم يكن الجسد إلا جهازاً تنفيذيّاً للفعل و للإفصاح عن النوايا في عالم الدنيا المادي .. كان مجرد أداة للروح و مطية لها .
لم يكن المخ غلا سنترالاً .. و كابلات توصيل .
و كل دوره هو أن يعطي التوصيلة من عالم الروح إلى عالم المادة أو كما يقول برجسون DONNER LA COMMUNICATION ....... يعطي الخط .
كابلات الأعصاب تنقل مكنون الروح و تحوله إلى نبض إلكتروني لتنطق به عضلات اللسان على الطرف الآخر .. كما يفعل الراديو بالموجة اللاسلكية و هكذا نتبادل الكلام كأجساد في عالم مادي .. فإذا ماتت أجسادنا عدنا أرواحاً .. لنتذاكر ما فعلناه في دنيانا لحظة بلحظة حيث كل حرف و كل فعل مسجل .
بل إن هناك نظريات علمية تمضي لأكثر من هذا فترى أن التحصيل هو في ذاته عملية تذكر لعلم قديم مكنوز و مسطور في الروح .. و ليس تعلماً من السبورة .. فنحن لا نكتشف أن 2 × 2 = 4 من عدم , و إنما نولد بها .. و كل ما نفعله أننا نتذكرها .. و كذلك بداهات الرياضة و الهندسة و المنطق .. كلها بداهات نولد بها مكنوزة فينا .. و كل ما يحدث أننا نتذكرها تذكرنا بها الخبرة الدنيوية كل لحظة .
و بالمثل شخصيتنا .. نولد بها مسطورة في روحنا .. و كل ما يحدث أن الواقع الدنيوي يقدم المناسبات و الملابسات و القالب المادي لتفصح هذه الشخصية عن خيرها و شرها .. فيسجل عليها فعلها .
و التسجيل هو الأمر الجديد الذي يتم في الدنيا .
الانتقال من حالة النية إلى حالة التلبس .
و هذا ما تعبر عنه الأديان بأن يحق القول على المذنب بعد الابتلاء و الاختبار في الدنيا .. فتحق عليه الضلالة و تلزمه رتبته .
و هو أمر قد سبق إليه علم الله .. علم الحصر لا علم الإلزام .. فالله لا يلزم أحداً بخطيئة و لا يقهره على شر .. و إنما كل واحد يتصرف على وفاق طبيعته الداخلية فعله هو ذاته .. و ليس في ذلك أي معنى من معاني الجبر .. لأن هذه الطبيعة الداخلية هي التي نسميها أحياناً الضمير و أحياناً السريرة و أحياناً الفؤاد و يسميها الله (( السر )) .
(( يعلم السر و أخفى )) .
و نقول عنها في تعبيراتنا الشعبية عن الموت (( طلع السر الإلهي )) أي صعدت الروح إلى بارئها ..
هذا السر المطلسم هو ابتداء حر و مبادرة أعتقها الله من كل القيود ليكون فعلها هو ذاتها و ليكون هواها دالاً عليها .
و من هنا لا يصح القول بالحتميات في المجال الإنساني أمثال حتمية الصراع الطبقي و الجبرية التاريخية لأن الإنسان مجال حر و ليس مسماراً أو ترساً في ماكينة .
و كما لا يمكن التنبؤ بما يأتي به الغد في حياة فرد فإنه يستحيل القول بالحتم أو الجبر في مجال المجتمعات و التاريخ .. و كل ما يمكن القول به هو الترجيح و الاحتمال بناء على مقدمات إحصائية .. و هو ترجيح يخطئ و يصيب و يحدث فيه تفاوت في طرفيه .. فمعدل عمر الإنسان في انجلترا مثلاً هو ستون سنة .. و هذا المعدل معدل إحصائي مأخوذ من متوسطات أرقام .. و هو غير ملزم بالنسبة للفرد , فقد يعيش فرد مثل برناردشو في انجلترا أكثر من تسعين سنة و يتجاوز المعدل . و قد يموت في سن العشرين في حادثة . و قد يموت و هو طفل بمرضٍ معدٍ .. ثم إن المعدل ذاته قابل للتذبذب من طرفيه صعوداً و هبوطاً من سنة لأخرى .. فلا يصح القول بالحتمية و الجبر في هذا الموضوع .. و لا يجوز إخضاع المجال الإنساني سواء كان فرداً أو مجتمعاً أو تاريخاً لقالب نظري أو معادلة أو حسبة إحصائية أو فرض فلسفي .