هكذا يتعامل الإسلام مع الغرائز
لقد أخطأ دُعاةُ الحرِّيَّة الجنسيَّة خطأ جسيمًا عندما أشاعُوا أنَّ إطلاق العنان للغرائز يَقي صاحبَها من الكبت والحرمان والعُقَد النَّفسيَّة . وما نراه اليوم من مشاكل لا حصر لها في المجتمعات التي تحرَّرت من المبادئ والقِيَم الأخلاقيَّة , لَهُو خير شاهد على فداحة خطئهم , حتَّى أنَّ أحد الصّحفيِّين الأمريكيِّين أطلق صفَّارة الإنذار منذ أكثر من ثلاثين سنة قائلا : إنَّ خطر الطَّاقة الجنسيَّة قد يكون في نهاية الأمر أكبر من خطر الطَّاقة الذّرِّيَّة !
ولو تأمَّلنا حالَ دُعاة الحرِّيَّة الجنسيَّة , لَوَجدناهم أكثر النَّاس شذوذًا , وأكثرهم تفكيرًا في الجنس ! بل إنَّهم لا يَشبعُون منه أبدًا , فتراهم يلهثُون وراء كلّ فتاة كالذِّئاب الجائعة ! وقد كان يُظَنُّ أنَّ العُقَد النَّفسيَّة لا تنشأ إلاَّ عن الحرمان , فإذا بِنَا نراها اليوم تُصيبُ أُناسًا أطلَقُوا العنان لِغَرائزهم الجنسيَّة , فحوَّلَتْهم إلى وحوش آدميَّة , يَغتصِبُون بناتهم , وأطفال أقاربهم وزوجات جيرانهم , إرضاءً لِنَزواتهم ! وصدق اللَّه العظيم حين يقول : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ 179 } (7- الأعراف 179) .
وأخطأ النَّصارى , في الطَّرف المقابل , عندما ابتدعُوا الرَّهبانيَّة (وهي تحريم الزَّواج على مَن ينقطعُ للتَّعبُّد في الكنيسة , ولَم يُشَرِّعْها لهم نبيُّهم عيسى عليه السَّلام) , لأنَّ فيها فعلاً كبتٌ حقيقي للغرائز الفطريَّة لَدَى الرَّجُل والمرأة . فكانت النَّتيجة ما نَسْمعُه من حين لآخر من وسائل الإعلام الغربيَّة , عن فضائح أخلاقيَّة تحدثُ داخل الكنائس , خاصَّة منها الاعتداءات الجنسيَّة على الأطفال , وهو أمرٌ لَم يَعُدْ يَخْفَى على أحد ! وأكبر هذه الفضائح ظهرت في أمريكا منذ بضع سنوات , وتورَّط فيها مئات القساوسة .
والغريب أنَّ بعض رجال الكنيسة اليوم , في أمريكا وغيرها , أصبحُوا لا يتحرَّجون من التَّصريح بأنَّ لهم مُيولات جنسيَّة للرِّجال ! بل وأَدْهَى من ذلك , صرَّحُوا أيضًا أنَّ الشَّاذِّين جنسيًّا لهم الحقُّ في الزَّواج في الكنيسة , الأمر الذي سَبَّب إحراجًا كبيرًا للبابا في الفاتيكان ! بل ووصل الأمر في ولاية نيو هامبشاير بأمريكا إلى انتخاب أسقف في الكنيسة البروتستانتيَّة شاذٍّ جنسيًّا , اسمه جين روبنسون , يتعاطى اللّواط !
لكن لو نظرنَا في تشريعات الإسلام , لوجدنا أنّها لَمْ تأتِ لِكَبْت غرائز الإنسان الفطريَّة ولا لإطلاقها , وإنَّما لِتَوجيهها التَّوجيه الصَّحيح , لِتُصَرَّف في الحدود التي وضَعها لها الخالِق , بحيثُ لا تَضُرُّ بصاحبها ولا بِمَنْ حولَه .
فلو أخذنا مثلاً غريزة الأكل والشُّرب : المعروفُ أنَّ الإنسان إذا كَبَتَها وامتنعَ عن إشباعها فإنَّه يموتُ لا محالة , وإذا أطلق لها العنان فإنَّه يُصابُ بالتُّخمة أو السِّمنة أو غير ذلك . لهذا , نظَّم الإسلامُ هذه الغريزة حسب القاعدة التَّالية : يقول اللَّه تعالى : { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ 31 } (7- الأعراف 31) . وروى التّرمذي في سُنَنه عن المقدام بن معدي كرب رضي اللَّه عنه , أنَّ رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم قال : ما مَلَأ آدَمِيٌّ وِعاءً شَرًّا من بَطْن . بِحَسبِ ابن آدمَ أُكلاتٍ يُقِمْنَ صُلْبَه . فإن كان لا مَحالَة , فَثُلُثٌ لِطَعامه , وثُلُثٌ لِشَرابه , وثُلُثٌ لِنَفَسِه . (الجامع الصّحيح سنن التّرمذي – الجزء 4 – ص 590 – رقم الحديث 2380) .
ولو أخذنا غريزة الجِنْس : نجدُ أنّ الإسلامَ نظَّمها بحَيْثُ لا تُصَرَّف إلاَّ في إطار الزَّواج بعَقْدٍ شَرْعي بين رجُلٍ وامرأة . وكُلُّ تَصْريفٍ لهذه الغريزة خارج إطار الزَّواج , سواءً بالقيام بالعمليَّة الجنسيَّة أو بالنَّظر إلى عورات النَّاس أو إلى الصُّوَر والأفلام الخليعة , يُعْتَبَرُ زِنَا , وهو حرامٌ كمَا ذَكَرْنا سابقًا . وقد ذكَرْنا أيضًا المضارَّ الكبيرة المنجَرَّة عن الزِّنا , سواء على الفرد أو على المجتمع .
وحتَّى في إطار الزَّواج , نظَّم الإسلامُ هذه الغريزة بحيثُ لا تَضرُّ بالزَّوجين ولا بالمجتمع . فحرَّم من ناحية على الزَّوج جِماع زوجته في دُبُرها أو في فترة حيضها , لِمَا في ذلك من ضَرر عليهما كما ذكَرْنا , وحرَّم من ناحية أخرى على الزَّوجين أن يَتعرَّيَا أو يَقُوما بالعمليَّة الجنسيَّة أمام أيّ إنسان آخر , ولو كان طفلهُما الصَّغير ! وفي هذا تقديسٌ للرَّابطة الزَّوجيَّة , وحفاظ على المجتمع من الانحلال .
وخالفَ الإسلامُ النَّصارى في رهبانيَّتهم , فنهى عن الامتناع عن الزَّواج بدعوى التَّقرُّب إلى اللَّه ! فقد روى الإمام البخاري في صحيحه عن أنَس بن مالك رضي اللَّه عنه , قال : جاء ثلاثة رَهطٍ إلى بُيوت أزواج النَّبيّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم يَسْألُون عن عبادة النَّبيِّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم . فلَمَّا أُخْبِرُوا , كأنَّهم تَقالُّوها , فقالُوا : وأينَ نحنُ مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , قد غَفَر اللَّهُ له ما تقدَّم من ذَنْبِه وما تأخَّر (أي إذا كانت هذه عبادةُ النَّبيّ , وهو الذي غَفر له اللَّهُ ما تقدَّم من ذَنْبِه وما تأخَّر , فيجبُ علينا نحنُ أن نتعبَّد أكثر من ذلك) .
فقال أحدُهم : أمَّا أنا , فأُصَلِّي اللَّيْلَ أبَدًا (أي أقومُ اللَّيلَ كلَّه أصلِّي , وأستمرُّ على هذه الحال طول حياتي) , وقالَ آخَر : وأنا أصومُ الدَّهرَ ولا أُفْطِر (أي أصوم كلَّ يوم) , وقال آخَر : وأنا أعْتَزلُ النِّساءَ فلا أتَزَوَّجُ أبَدًا .
فجاء رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , فقال : أنْتُم الذينَ قُلْتُم كَذَا وكَذَا ؟ أمَا وَاللَّهِ إنِّي لَأَخْشَاكُم لِلَّه وأتْقَاكُم له , لَكِنِّي أصُومُ وأفْطر , وأصَلِّي وأرْقُد , وأتَزوَّجُ النِّسَاء , فَمَنْ رَغِبَ عن سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنّي . (الجامع الصّحيح المختصر – الجزء 5 – ص 1949 – رقم الحديث 4776) .
قد تقول يا ابني الكريم : ولكنَّ الشَّابَّ المسلم والفتاة المسلمة يظَلاَّن إذًا في حالة كَبْت جِنْسيّ طوال فترة عُزُوبَتهما ؟!
أقول : إنَّ الكَبْت الحقيقي هو في عدم الزَّواج مُطْلَقًا , أو في التَّفكير الدَّائم في الجنس دون القُدرة على مُمارسته . والشَّابُّ المسلم والفتاة المسلمة لَيْسَا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء . فهما لا يَشعران بالكَبت والحرمان , طالَما يَعلَمان أنَّهما سيَتمتَّعان بالجنس بعد الزَّواج . وفي انتظار ذلك , فهما يَصْرفَان عن ذِهْنهما الأفكار الجنسيَّة إرضاءً لِلَّه تعالى وطَمَعًا في ثوابه , وهذا كافٍ وحده لكي يُمِدّهما بقوَّة إيمانيَّة غريبة للصَّبر على الشَّهوات .
وبصفة عامَّة , فإنَّ المسلمَ يَتَرَبَّى منذ الصِّغَر على أن يُحِبَّ اللَّهَ تعالى أكثر من كلِّ شيء , فتُصبح بذلك تصرُّفاتُه وأفكاره , وحتَّى مشاعره وأحلامه وغرائزه , تعملُ راضيةً في الحدود التي رسَمَها اللَّه . ونحنُ نعلَمُ أنَّ الإنسان يستطيعُ أن يتحمَّل أيَّ شيء في سبيل إرضاء مَن يُحبّ , فما بالُك إذا كان هذا الحبيبُ هو .. اللَّهُ جلَّ جلالُه !
ثمَّ إنَّ التَّجارب الواقعيَّة أثبتتْ أنَّ عدم التَّفكير في الجنس يُخفِّف من حدَّة هذه الغريزة , بينما التَّفكير الدَّائم فيه لا يزيدُها إلاَّ اشتعالاً . وقد رأينا أنَّ دُعاة الحرِّيَّة الجنسيَّة هم فعلاً أكثر النَّاس جَرْيًا وراء الجنس , كأنَّهم يعيشون في كَبْت دائم ! حالُهم مثل حال مَن هو دائم التَّفكير في المال أو المنصب أو الشُّهرة , تجدُه يَلْهثُ طول حياته وراء هذه الشَّهوات , وكلَّما ازداد مالاً أو شُهرة كلَّما أراد المزيد .
وعلى كلِّ حال , فقد عملَ الإسلامُ من جانب آخر على التَّيسير على الشَّباب , فَحَثَّ الأولياءَ على تسهيل أسباب الزَّواج لأبنائهم وعدم تأخيره , إذا تَوفَّرت لهم القُدرة على ذلك . أمَّا إذا لَم تَتوفَّر الأسباب , فيَنصحُ الإسلامُ الشَّبابَ بالصَّوم للتَّخفيف من حِدَّة الغريزة الجنسيَّة . فقد روى الإمام مسلم في صحيحه عن عبد اللَّه (بن مسعود) رضي اللَّه عنه , أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم قال : يا مَعْشَر الشَّباب , مَن اسْتَطاع منْكُم الباءَة فلْيَتَزَوَّجْ , فإنَّه أغَضُّ لِلْبَصَر وأحْصَنُ لِلْفَرْج , ومَن لَم يَسْتَطِعْ فَعَلَيْه بالصَّوم , فإنَّه له وجَاء (أي وقاية) . (صحيح مسلم – الجزء 2 – ص 1019 – رقم الحديث 1400) .
هذه إذًا طريقة الإسلام في تهذيب الغرائز البَشريَّة . وإذا كان الكثير من النَّاس يأكلُون ويَشربون وينامون ويُمارسون الجنس كالبهائم , فإنَّ المسلم يفعل كلَّ هذه الأشياء , ولكن وهو يذكرُ اللَّه , وفي الحدود التي رسمها له اللَّه ! فلا تدخلُ لُقمةُ طعام أو شربة ماء إلى جوفه إلاَّ بعد أن يُسمِّي عليها اسمَ اللَّه , ولا ينامُ حتَّى يذكر اللَّه ويَتَعوَّذ من الشَّيطان , ولا يُجامع زوجته إلاَّ بعد أن يَدعُو بالدُّعاء الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه عن ابن عبَّاس رضي اللَّه عنه , أنَّ رسولَ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم قال : لَو أنَّ أحَدَهُم إذا أرادَ أن يأتي أهْلَه (أي يُجامع زوجَتَه) قال : باسْمِ اللَّه , اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطانَ وجَنِّب الشَّيْطانَ ما رزَقْتَنَا , فإنَّه إن يقدر بَيْنَهُما وَلَدٌ في ذلكَ لَمْ يَضُرَّهُ شيطانٌ أبدًا . (صحيح مسلم – الجزء 2 – ص 1058 – رقم الحديث 1434) .
فهل هناك أسمى وأشرف من هذه الطَّريقة ؟! أم أنَّ الأفضل أن نأكل ونشرب ونمارس الجنس كالبهائم ؟! يقول اللَّه تعالى : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ 12 } (47 - محمّد 12) .
|