الحجُّ , تلبية لنداء الرَّحمن !
الحجُّ فريضةٌ على كلِّ مسلم بالِغ , مرَّةً واحدةً في العُمُر , عندما يكون قادرًا على ذلك بدنيًّا وماليًّا . يقول اللَّه تعالى : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ 96 فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ 97 } (3- آل عمران 96-97) .
ويدخُل وقتُ الحجِّ كلَّ سنة مع بداية شهر شوَّال , مباشرةً بعد انتهاء شهر الصِّيام . ولكنْ جَرَت العادةُ اليوم أن تبدأ وُفُودُ الحجَّاج في القُدوم إلى مكَّة أفواجًا أفواجًا من كلِّ بقاع الأرض , خلال شهر ذي القعدة الذي يَلي شوَّال . ومع دخول شهر ذي الحجَّة الذي يلي ذي القعدة , يكون آخر فوج قد وصل إليها . فيُؤدُّون جميعًا مناسك الحجِّ , وعند منتصف ذي الحجَّة يبدأون في أخذ طريق العودة إلى بلدانهم .
وبما أنَّ أشهر الحجِّ قمريَّة , فإنَّ موسم الحجِّ يدور على مَرِّ السِّنين على كلِّ أشهر السَّنة الشَّمسيَّة , وبالتَّالي على كلِّ الفصول , مثل رمضان .
أمَّا مناسكُ الحجّ , فهي عديدة ومفصَّلَة في كُتُب الفقه . ومِن بين المحطَّات الهامَّة للحاجِّ , هناك الإحرام , وهو نيَّة الدُّخول في أعمال الحجِّ . فيبدأ الحاجُّ عادةً بإزالة شعر الإبطين والعانة وتقليم الأظافر , ثمَّ يغتسل ويلبس ثياب الإحرام , وهي بالنِّسبة للرَّجل : منْشَفَتَان نَظِيفَتَان لَونُهما أبيض , واحدة يُغطِّي بها ما بين السُّرَّة إلى الرُّكبة , وواحدة لتغطية الظَّهر والصَّدر . أمَّا المرأة فتلبسُ ثيابها العاديَّة الشَّرعيَّة التي تستُر كلَّ بدنها ورأسها .
ثمَّ يبدأ الحاجُّ في ترديد التَّلبية , وهي : لبَّيْكَ اللَّهُمَّ لبَّيْك , لبَّيْكَ لا شريكَ لكَ لبَّيْك , إنَّ الحمْدَ والنِّعْمة لكَ والملْك , لا شريكَ لك . وبدايةً مِن تلك اللَّحظة وحتَّى نهاية المناسك , يَمتنعُ الحاجُّ عن عدّة أشياء , منها الجماع والخصام . يقول اللَّه تعالى : { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ 197 } (2- البقرة 197) .
ومِن بين أعمال الحجِّ : الطَّواف بالكعبة سبع مرَّات . ومنها أيضًا : السَّعْي بين الصَّفا والمرْوَة , مثلما فعلَت السَّيِّدة هاجر زوجة النَّبيِّ إبراهيم عليه السَّلام , عندما كانت تبحثُ عن الماء لطفلها الرَّضيع إسماعيل , ففجَّر اللَّهُ تعالى لهما بئر زمزم التي يشرب منها الحجَّاجُ اليوم .
وفي اليوم التَّاسع من ذي الحِجَّة , يقفُ كلُّ الحجَّاج بمكانٍ يُسمَّى عَرَفَة , حيثُ يَدعُون اللَّهَ بما يشاءُون . وهو موقفٌ مَهيبٌ يُذَكِّر بوقُوف النَّاس في مكان واحد يوم القيامة , ينتظرُون أن يُعرَضُوا على العزيز الجبَّار ليُحاسِبَهم على أفعالهم في الدُّنيا .
وفي اليوم العاشر من ذي الحِجَّة , وهو عيد الأضحَى لكلِّ المسلمين , يَذبحُ الحجَّاج , ويذبحُ مَن له القُدرة من المسلمين , خروفًا أو غير ذلك , إحياءً لذكرى الفِداء , عندما أراد اللَّهُ تعالى امتحانَ نبيِّه إبراهيم عليه السَّلام , فأمَره بذَبْح ابنه الوحيد إسماعيل . فلمَّا استجابَ الاثنان لأمْر اللَّه , وفي اللَّحظة التي مَرَّرَ فيها إبراهيمُ السِّكِّينَ على رَقبة إسماعيل , تَدخَّلَت العِنَايةُ الإلهيَّة لإيقاف هذا العَمَل , ونزلَ جبريلُ عليه السَّلام بكَبْش عظيم , فذبحهُ إبراهيمُ عِوَضًا عن ابنه .
والغريبُ أنَّ بعضَ النَّاس مِن غير المسلمين يعتبرون ذبْحَ ملايين الخِرْفان بالسِّكِّين وفي وقت واحد : مجزرة فظيعة في حقِّ الحيوان !
سُبحان اللَّه ! ماذا إذًا عن ملايين الخرفان الأخرى وملايين البَقر التي تُذبحُ كلَّ يوم بطُرُق مُختلِفة في المسالِخ في كلِّ بقاع الأرض ؟! هل هذه أيضًا مجزرة في حَقِّها ؟! وماذا عن ملايين الأسماك التي تُصادُ كلَّ يوم بالشِِّباك ؟! وماذا عن بائعي اللُّحوم والأسماك وآكِليها , هل هم شُركاء في الجريمة ؟!
نعم , هكذا تختلطُ الأمور على بعض النَّاس , فلا يَدْرُون ما يقولُون ! ثمَّ لِيَعلمْ هؤلاء أنَّ كلَّ مسلم , مباشرة بعد أن يذبح أضحيَته , يُرسلُ بجزء منها صدقةً للفقير , وجزء آخر هديَّة لجاره . أليس هذا وجهٌ آخر من التَّكافل الاجتماعي في الإسلام , وطريقة أخرى لِنَشْر التَّحابُب بين النَّاس ؟!
وليَعْلَمُوا أيضًا أنَّ الإسلام يحثُّ بشدّة على الرِّفق بالحيوان , ويُحرِّمُ تعذيبه . فقد روى الإمام مسلم في صحيحه عن شداد بن أَوْس رضي اللَّه عنه , قال : ثِنْتان حَفظْتُهما عن رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , قال : إنَّ اللَّهَ كتبَ الإحسانَ على كلِّ شيء , فإذا قتَلْتُم فأحْسِنُوا القتْلَة , وإذا ذبحْتُم فأحْسِنُوا الذَّبْح , وليَحُدَّ أحدُكُم شفْرَتَه فلْيُرِحْ ذَبيحَتَه . (صحيح مسلم – الجزء 3 – ص 1548 – رقم الحديث 1955) .
وروى الإمام مسلم أيضًا في صحيحه عن عبد اللَّه (بن عمر) رضي اللَّه عنه , أنَّ رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم قال : عُذِّبَت امرأةٌ في هرَّة سجَنَتْها حتَّى ماتتْ , فدخلتْ فيها النَّار , لا هي أطْعَمتْها وسَقَتْها إذْ هي حَبَسَتْها , ولا هي تركَتْها تأكلُ من خشاش الأرض . (صحيح مسلم – الجزء 4 – ص 2022 – رقم الحديث 2242) .
وروى الإمام البخاري في صحيحه عن أبي هُرَيرة رضي اللَّه عنه , أنَّ النَّيَّ محمَّدًا صلَّى اللَّه عليه وسلَّم قال : بينما رجلٌ بطريقٍ اشتدَّ عليه العطش , فَوَجدَ بئرًا فنزلَ فيها فشَرب . ثمَّ خرجَ , فإذا كلبٌ يَلْهث , يأكلُ الثَّرَى من العطَش . فقالَ الرَّجُل : لقد بلغَ هذا الكلبُ من العطش مثل الذي كان بَلَغ منِّي . فنزلَ البئر , فملأ خُفَّه ماءً , فسقَى الكلْبَ , فشكَرَ اللَّهَ له , فغَفَر له .
قالُوا : يا رسولَ اللَّه , وإنَّ لنا في البهائم لأجرًا ؟!
فقال : في كلِّ ذاتِ كَبِدٍ رَطْبَة أجْرٌ . (الجامع الصّحيح المختصر – الجزء 2 – ص 870 – رقم الحديث 2334) .
نعود لفريضة الحجِّ , ماذا يجني المسلمُ من أدائه لها ؟
أوَّل هذه الفوائد وأعظمها , ما رواه الإمام البخاري في صحيحه عن أبي هُرَيْرة رضي اللَّه عنه , قال : قال رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم : مَنْ حَجَّ هذا البيْتَ فلَمْ يَرْفُثْ ولم يَفْسُقْ , رجعَ كيَوْم وَلَدَتْهُ أُمُّه . (الجامع الصّحيح المختصر – الجزء 2 – ص 645 – رقم الحديث 1723) . وفي رواية للإمام أحمد : خرجَ من ذُنُوبه كَيَوْم وَلَدَتْهُ أُمُّه . (مسند الإمام أحمد بن حنبل – الجزء 2 – ص 484 – رقم الحديث 10279) .
وأمَّا الفوائد الأخرى : فمنها تمتُّع الحاجِّ برؤية الكعبة الشَّريفة , والصَّلاة في المسجد الحرام بمكَّة , والصَّلاة في المسجد النَّبويِّ بالمدينة , وزيارة قبر النَّبيِّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , والشُّرب من ماء زمزم المبارَك .
ومنها : تعرُّفه على مسلمين من مختلف البُلدان .
ومنها : شعوره بعد الحجِّ بأنَّه يجبُ أن يكون أكثر حرصًا على فعل الخيرات واجْتِنَاب المحرَّمات , بعد أن غفر له اللَّه ذنوبَه الماضية .
هذه إذًا بإيجاز فريضة الحجّ , الرُّكن الخامس من أركان الإسلام .
---------------------------------
التالي بإذن الله تعالى : اجتنبوا الخمر والميسر , ولا تقربوا الزِّنا !
|