وهكذا كان محمَّد مُربِّيًا
روى الإمام مُسلِم في صحيحه عن أنَس بن مالك رضي اللَّه عنه , قال : بينما نحن (جلوسٌ) في المسجد مع رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , إذ جاء (أي دخلَ) أعرابي , فقام يبول في المسجد (أي في ناحيةٍ منه) . فقال أصحابُ رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم : مه , مه ! فقالَ رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم : لا تزرمُوه (أي لا تقطعوه عن البول) , دَعُوه ! فتَركُوه حتَّى بالَ (أي أكمل بولَه) .
ثمَّ إنَّ رسولَ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم دَعَاه , فقال له : إنَّ هذه المساجد لا تصلُح لِشَيْءٍ من هذا البَوْل ولا القَذر (أي القاذورات) , إنَّما هي لذِكْر اللَّه عزَّ وجلَّ والصَّلاة وقراءة القرآن . ثمَّ أمر رجلاً من القَوم , فجاء بِدَلْو من ماء , فشَنَّه (أي صَبَّه) عليه . (صحيح مسلم – الجزء 1 – ص 236 – رقم الحديث 285) .
نعم , هذا هو محمَّد الدَّاعية والمربِّي : رأى أعرابيًَّا يبول في مسجده , فلم يغضب منه , بل وخاف عليه أن يُصاب بأذى إذا هو لم يُكمل بولَه , فأمر أصحابه أن يتركُوه . فلمَّا فرغَ , أجلسه بجانبه لِيُشعِره بالأمان , ثمَّ أخبره بكلِّ هدوء أنَّ هذا المكان لا يصلح لِلبول !
وفي قصَّة أخرى , روى الطَّبراني في مسند الشَّاميِّين عن أبي أمامة رضي اللَّه عنه , قال : أتَى رسولَ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم غلامٌ شابٌّ , فقال : يا رسولَ اللَّه , ائْذَنْ لي في الزِّنَا ! فصاح به النَّاس , وقالُوا : مه ! فقالَ النَّبيُّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم : ذَرُوه , ادْنُ . فدَنا (أي الغلام) حتَّى جلس بين يَدَيْ رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , فقال (له) : أتُحِبُّه لأمِّك ؟ قال : لا ! قال : فكذلكَ النَّاسُ لا يُحبُّونه لأمَّهاتهم , أتُحِبُّه لابنَتك ؟ قال : لا ! قال : وكذلكَ النَّاسُ لا يُحبُّونه لِبَناتهم , أتُحِبُّه لأُختك ؟ قال : لا ! قال : فكذلكَ النَّاسُ لا يُحبُّونه لِأخواتهم , أتُحِبُّه لِعَمَّتك ؟ قال : لا ! قال : فكذلكَ النَّاسُ لا يُحبُّونه لِعمَّاتهم , أتُحِبُّه لخالَتك ؟ قال : لا ! قال : وكذلكَ النَّاسُ لا يُحبُّونه لِخالاتهم , فاكْرَه لهم ما تكرهُ لنَفْسِك , وأحِبَّ لهم ما تُحبّ لنَفسِك . فقال : يا رسولَ اللَّه , ادعُ اللَّهَ أن يُطهِّر قَلْبي . فوَضعَ النَّبيُّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم يَده على صدْره , وقالَ : اللَّهمَّ اغْفِرْ ذَنْبَه , وطهِّرْ قلْبَه , وحصِّنْ فَرْجَه .
فلم يكُن (أي لم يعُد الغلامُ) بعد ذلك يلْتفتُ إلى شيء (من هذا الأمر) . (مسند الشّاميّين – الجزء 2 – ص 139 – رقم الحديث 1066) .
وفي قصَّة أخرى , روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هُرَيْرة رضي اللَّه عنه , أنَّ أعرابيًّا أتَى رسولَ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم فقال : يا رسولَ اللَّه , إنَّ امرأتي ولَدتْ غلامًا أسْوَدًا , وإنِّي أنكَرْتُه (لأنَّ الأب لم يَكُن أسْوَدًا , ولا الأمّ) . فقال له النَّبيُّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم : هلْ لَكَ مِن إبِل ؟ قال : نعم , قال : ما ألوانُها ؟ قال : حُمر (أي مائلة إلى الحُمرة) , قال : هل فيها من أَوْرق (أي رمادي) ؟ قال : نعم , قال : فأنَّى هو ( أي مِن أين أتاها هذا اللَّون المختلف عن الإبل الأخرى) ؟ قال : لعلَّه يا رسول اللَّه يكون نَزَعَهُ عِرْق له (أي لعلَّ في أصوله أو عائلته مَن كان بهذا اللَّون , فاجتذبه إليه فجاء على لونه) , فقال النَّبيُّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم : وهذا (أي الولد) , لعلَّه يكونُ نَزَعَهُ عِرْقٌ له (أي لعلَّ مِن أجداده أو عائلته مَن كان أسْوَد اللَّون , فجاء الولَد على لَونه) . (صحيح مسلم – الجزء 2 – ص 1137 – رقم الحديث 1500) .
هكذا إذًا حافَظ النَّبيُّ على أسرةٍ كانت على وشك التَّفكُّك بسبب شكُوك . وهذا الحديث يُعتَبر من معجزات النَّبيِّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , لأنَّ علْمَ الوراثة هو من العلوم التي اكتُشِفتْ حديثًا ولم تكُن معروفة من قبل .
وفي قصَّة أخرى , روى النّسائي في سُننه عن عبد اللَّه بن شداد عن أبيه رضي اللَّه عنهما , قال : خرج علينا رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم في إحدى صلاتي العشيّ (الظُّهر أو العصر) وهو حاملٌ الحسن أو الحسين (حفيداه , ابنا فاطمة) . فتقدَّم ووضعه (بجانبه) , ثمَّ كبَّر للصَّلاة , فصلَّى ثمَّ سجدَ بين ظَهْرانَيْ صلاته سجدةً أطالها .
قال أبي : فرفعتُ رأسي , وإذا الصَّبيُّ على ظَهْر رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , وهو (أي النَّبيُّ) ساجد ! فرجعتُ إلى سجودي . فلمَّا قضَى رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم الصَّلاة , قال (له) النَّاس : يا رسولَ اللَّه , إنَّك سجدتَ بين ظهرانَيْ صلاتكَ سجدةً أطَلْتَها حتَّى ظَنَنَّا أنَّه قد حدثَ أمْرٌ أو أنَّه يُوحَى إليك . قالَ : كلّ ذلك لَمْ يكُنْ , ولكنَّ ابْنِي ارتَحَلَني , فكرهْتُ أن أعْجله حتَّى يَقْضي حاجَتَه ! (المجتبى من السّنن – الجزء 2 – ص 229 – رقم الحديث 1141) .
هذا إذًا محمَّدٌ النَّبيُّ الأمِّيُّ الذي عاش في القرن السَّابع الميلادي , وهذه طريقته في الدَّعوة والتَّربية !
|