وماذا لو سألنا القرآن عن قضيَّة الصَّلب ؟!
إذا كان القرآن قد تحدَّث عن حقائق علميَّة دقيقة لم يتمَّ اكتشافها إلاَّ بعد حوالي 1400 سنة من نزوله , فلماذا لا نبحثُ فيه عن مسألة صلْب المسيح عليه السَّلام , هل هي حقيقة أم لا ؟!
يقول اللَّه تعالى متحدِّثًا عن اليهود : { وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا 156 وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا 157 بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا 158 } (4- النّساء 156-158) .
ففي هذه الآيات يُعلنُ اللَّهُ تعالى بوُضوح تامٍّ , لا يدعُ مجالاً للشَّكِّ أو الاختلاف , أنَّ المسيح عليه السَّلام لم يُقْتَل ولم يُصْلَب , كما ادَّعى اليهود وكما يَدَّعي النَّصارى اليوم , بل رَفَعه اللَّهُ إليه .
أمَّا تفصيل الحادثة , فيَرْويها لنا العالِمُ الثّقة إسماعيل ابن كثير في تفسيره للقرآن الكريم , يقول ما مُلَخَّصُه : لَمَّا ولَدَتْ مريمُ عيسَى عليه السَّلام , اتَّهَمَها اليهودُ في ذلك الزَّمان بالزِّنَا .
حاشَى لَها وكلاَّ , وهي الصِّدِّيقة الطَّاهرة , أن تكون كما قالُوا ! ويكفي مريَمَ فخرًا أن شهد اللَّهُ تعالى لها بالعفَّة , شهادةً تُتْلَى على مسامع كلِّ النَّاس إلى يوم القيامة , فقال : { وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ 12 } (66- التّحريم 12) . بل إنَّ اللَّه أنزل سورة كاملة سمَّاها سورة مريم , تكريمًا لها !
قال ابن كثير : ولَمَّا شرَّفَ اللَّهُ عيسَى عليه السَّلام بالنُّبُوَّة , كفَر به اليهودُ ولم يُؤمنُوا برسالته , وحسَدُوه على ما أجْرَى اللَّهُ على يَدَيْه من معجزات , مثل إبْراء الأكْمَه والأبْرَص وإحياء الموْتَى بإذن اللَّه . فحاولُوا إيذاءه بكلِّ ما أمكنَهم , ثمَّ سعَوْا إلى مَلِك دِمَشْق (بسُوريا) في ذلك الزَّمان , وكان مُشركًا من عُبَّاد الكواكب , وقالُوا له إنَّ في بيت المقدس رجلاً يَفْتِنُ النَّاسَ ويُضِلُّهم ويُفسد على الملِكِ رعاياه . فغضبَ , وكتب إلى وَاليه ببَيْت المقدس أن يقبضَ على عيسى عليه السَّلام ويَصْلِبَه , ويضَع الشَّوك على رأسه , ويكُفَّ أذاه عن النَّاس .
فلمَّا وصَلَهُ الكتاب , امتثَلَ الوالي لِأمْر الملِك , وذهبَ هو وطائفة من اليهود إلى البيت الذي كان فيه عيسى عليه السَّلام , فحاصَرُوه هناك . وكان عيسى في جماعة من أصحابه , قيل كانُوا اثْنَيْ عَشَر نَفَرًا , وقيل أكثر . فلَمَّا أحَسَّ بِمَنْ حول البيت , وأنَّه لا مَفَرَّ من دخُولهم عليه أو خروجه إليهم , قال لأصحابه : أيُّكُم يُلْقَى عليه شَبَهي , فيُقْتَلُ مكاني , وهو رفيقي في الجنَّة ؟
فقام شابٌّ مِن أحْدَثِهم سِنًّا , فكأنَّ عيسى اسْتَصْغَره . فأعاد الطَّلبَ ثانية وثالثة , وفي كلِّ مرَّة يقوم ذلك الشَّابّ . فقال له : أنتَ هو . وألْقَى اللَّهُ عليه شَبَهَ عيسى عليه السَّلام , حتَّى كأنَّه هو ! ثمَّ فُتِحَتْ كُوَّةٌ في سقف البيت , وأخذَتْ عيسى عليه السَّلام سِنَةٌ من النَّوم , فَرُفِع إلى السَّماء على هذه الحال , وكان عُمُره حينئذ ثلاثًا وثلاثين سنة .
وخرجَ أصحابُ عيسى عليه السَّلام من البيت , فلمَّا رأى اليهودُ ذلك الشَّابَّ ظَنُّوه عيسَى , فأخذُوه وقتَلُوه وصَلَبُوه , ووَضَعُوا الشَّوكَ على رأسه زيادةً في إهانته . ثمَّ تبجَّح اليهود بأنَّهم قَتلُوا عيسى عليه السَّلام وصلَبُوه , وصدَّقهم النَّصارى في ذلك , وهذا الأمرُ مذكورٌ في أناجيلهم .
وتَمُرُّ حوالي ستَّة قُرون على هذه الحادثة , ويَنزلُ القرآن من عند اللَّه ليُعلِنَ لكلِّ النَّاس أنَّ عيسى عليه السَّلام لم يُقْتَلْ ولم يُصْلَب , ولكن شُبِّه ذلك لِمَن كان حاضرًا في ذلك الزَّمان , وأنَّه رُفِعَ إلى السَّماء بقُدْرة اللَّه الذي يقولُ للشَّيء كُنْ فَيَكُون .
وسيعود عيسى عليه السَّلام إلى الأرض في آخر الزَّمان ! نعم , هكذا أخبرنا النَّبيُّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم في عدَّة أحاديث , منها ما رواه الإمام أحمد في مُسْنَده عن أبي هُرَيْرة رضي اللَّه عنه , أنَّ النَّبيَّ محمَّدًا صلَّى اللَّه عليه وسلَّم قال : الأنبياءُ أخْوَةٌ لِعِلاَّت (أي غير أشقّاء) , أمَّهاتُهم شَتَّى ودينُهم واحِد (وهذا تأكيدٌ لِمَا ذكره القرآن من أنَّ كلَّ الأنبياء كانُوا على دين واحد , وهو الإسلام) . وأنا أوْلَى النَّاسِ بعِيسَى بن مَرْيَم لِأنَّه لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وبَيْنَه نَبِيٌّ . وإنَّه نازلٌ , فإذَا رأيْتُموه فاعْرِفُوه : رجُلاً مَرْبُوعًا (أي متوسّط القامة) إلى الحُمْرة والبَيَاض , علَيْه ثَوْبان ممصران (أي فيهما صفرة خفيفة) , كأنَّ رأسَهُ يَقْطُرُ وإن لَم يُصِبْهُ بَلَل . فيَدُقُّ الصَّليبَ (أي يَكْسِره) , ويَقْتُلُ الخنزير , ويَضَعُ الجِزْيَة , ويَدْعُو النَّاسَ إلى الإسلام . فيُهْلِكُ اللَّهُ في زمانه المِلَلَ كلَّها إلاَّ الإسلام , ويُهلِكُ اللَّهُ في زمانه المسيحَ الدَّجَّال . وتقعُ الأمنَةُ على الأرض , حتَّى تَرْتَعَ الأسُودُ مع الإبل , والنِّمار مع البَقَر , والذِّئاب مع الغَنَم , ويَلْعَبُ الصّبْيانُ بالحَيَّات لا تَضُرُّهم . فيَمكُثُ أربعينَ سنة , ثمَّ يُتَوفَّى ويُصلِّي عليه المسلمون . (مسند الإمام أحمد بن حنبل – الجزء 2 – ص 406 – رقم الحديث 9256) .
والمُلفِتُ للانتباه حقًّا في هذا الحديث أنَّه يَذكرُ أنَّ الذي سيعودُ في آخر الزَّمان هو عيسى عليه السَّلام , وليس محمَّدًا ! أفلا يدلُّ هذا مرّة أخرى على أنَّ محمَّدًا صلَّى اللَّه عليه وسلَّم صادقٌ في نُبُوَّته , لأنَّه لو لَم يكُن كذلك لَادَّعَى أنَّه هو الذي سيَعُود في آخر الزَّمان لِيَقُود العالَم من جديد بالإسلام , ولَمَا تركَ هذا الشَّرف لعِيسَى !
واللَّهِ الذي لا إله غيرُه , إنَّ محمَّدًا صلَّى اللَّه عليه وسلَّم رسولٌ كريمٌ من عند اللَّه , وكلُّ الأنبياء أخوَةٌ ليس بينهم أيّ عِداء , ودينُهم واحد وهو الإسلام .
وعندما يعود عيسى عليه السَّلام إلى الأرض في آخر الزَّمان ولا يقبلُ غير الإسلام دينًا , سوف يُسلِمُ كلُّ النَّصارى لأنَّهم لَنْ تَبْقَ لهم أيّة حُجَّة في البقاء على عقيدتهم الباطلة ! يقول اللَّه تعالى متحدِّثًا عن عيسى : { بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا 158 وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا 159 } (4- النّساء 158-159) . يقول عُلَماء التَّفسير : أي عندما ينزلُ عيسى عليه السَّلام في آخر الزَّمان ولا يقبلُ غير الإسلام دينًا , سوف يؤمنُ به جميعُ النَّصارى أو أغلبُهم قبل موته , ويَدخلون في هذا الدِّين .
|