كيف أُنزل القرآن الكريم ؟
أُنزلَ القرآنُ وحيًا باللُّغة العربيَّة , مِن اللَّه تعالى على النَّبيِّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , بواسطة الملَك جبريل عليه السَّلام . يقول اللَّه تعالى : { وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ 192 نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ 193 عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ 194 بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ 195 } (26- الشّعراء 192-195) .
ولم ينزل القرآنُ مرَّةً واحدة , وإنَّما نزلَ متفرِّقًا , بحسب الأحداث , على مدى 23 سنة . يقول اللَّه تعالى : { وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً 106 } (17- الإسراء 106) .
فكان النَّبيُّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم يَحفظ ما أُنزل عليه من آيات , ثمَّ يتلُوها على أصحابه , فيَحفظونها في صدورهم ويكتبوها . وكان مِن بين أصحابه مَن كان مُكلَّفًا بكتابة الوحي , مثل : زيد بن ثابت وعبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنهما , فكانَ النَّبيُّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم يُملي عليهم ما يَنزلُ عليه من الآيات , فيكْتبوها فَوْر نُزولها .
ولا يمكن أن نشكَّ في جَوْدة حفْظ النَّبيِّ للقرآن , لأنَّ اللَّه تعالى تكفَّلَ بتحفيظه له ! يقول تعالى مخاطبًا إيَّاه : { لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ 16 إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ 17 فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ 18 ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ 19 } (75- القيامة 16-19) .
ذلك أنَّ الملَكَ جبريل عليه السَّلام كان يأتي إلى النَّبيِّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم لِيُوحِي إليه آيات جديدة من القرآن , فكان النَّبيُّ يتعجَّلُ في ترديد ما يقرأه عليه الملَك حتَّى لا يَنسى أيَّ حرف منه . فطَمْأنه اللَّهُ تعالى في هذه الآيات بأنَّه تكفَّل بأن يجمع له القرآنَ في صدره فلا ينساه أبدًا , ويُبيِّن له معناه ويُوَضِّحه له . ما عليه إذًا إلاَّ أن يُنْصت إلى الملَك , ثمَّ يقرأ وراءه بكلِّ طمأنينة .
وكان للنَّبيِّ بعد ذلك موعدٌ سنوي مع جبريل عليه السَّلام , لِيَعرض عليه ما نزل حتَّى ذلك اليوم من القرآن . فقد روى الإمام أحمد في مُسْنَده عن ابن عبَّاس رضي اللَّه عنه , قال : كان رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم يعرضُ القرآن في كلِّ رمضان على جبريل , فيُصبحُ رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم مِن لَيْلَته التي يعرضُ فيها ما يعرض وهو أَجْوَد من الرِّيح المرْسَلَة , لا يُسألُ عن شيء إلاَّ أعطاه , حتَّى كان الشَّهر الذي هلكَ (أي تُوفِّيَ) بعده , عرضَ فيه عرضَتَيْن (أي مرَّتين) . (مسند الإمام أحمد بن حنبل – الجزء 1 – ص 326 – رقم الحديث 3012) .
ولَم ينزل القرآنُ بالتَّرتيب الحالي الذي نَعرفُه اليوم , وإنَّما كانت الآيات تنزلُ بِحَسَب الأحداث , فكان النَّبيُّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم يقول لِكُتَّاب الوحي : ضَعُوا الآية كذا في موضع كذا من السُّورة كذا .
فقد روى الحاكم في مُستدركه عن عثمان بن عفَّان رضي اللَّه عنه , أنَّ رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم كان يأتي عليه الزَّمان تنزلُ عليه السُّوَر ذوات عدد , فكان إذا نزلَ عليه الشَّيء يَدعُو بعضَ مَن كان يكتبُه , فيقول : ضَعُوا هذه في السُّورة التي يُذكَر فيها كذَا وكذَا , وتنزلُ عليه الآية فيقولُ : ضَعُوا هذه في السُّورة التي يُذكَر فيها كذَا وكذَا . (المستدرك على الصّحيحين – الجزء 2 – ص 241 – رقم الحديث 2875) .
ولَمَّا تُوفِّيَ النَّبيُّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , كانَ المئاتُ من الصَّحابَة يحفظون القرآن كاملاً عن ظهر قَلْب . لكن وقعت معركةٌ شديدة في عهد الخليفة الأوَّل أبي بكر الصِّدِّيق , بين المسلمين وبين بعض العرب الذين التفُّوا وراء رجُلٍ اسمه مُسَيْلمة , ادَّعَى النُّبوَّة . فاستُشهِد في هذه المعركة , وهي معركة اليمامة , عدد كبير من حُفَّاظ القرآن , مِمَّا دَفعَ بالصَّحابي عمر بن الخطَّاب أن يَطلب من أبي بكر أن يَجمع القرآنَ في مصحف واحد مكتوب .
فقد روى البَيْهقي في سُنَنه عن زيد بن ثابت رضي اللَّه عنه , قال : بعثَ إليَّ أبو بكر رضي اللَّه عنه , مَقْتَل أهل اليمامة (أي إثر معركة اليمامة) , وعندهُ عُمَر (بن الخطَّاب) رضي اللَّه عنه . فقال أبو بكر : إنَّ عُمَر أتاني فقال : إنَّ القتل قد استحر (أي اشتدَّ وكَثُر) يَومَ اليمامة بقُرَّاء القُرآن , وإنِّي أخشَى أن يستحر القتلُ بقُرَّاء القرآن في المواطن كلِّها (أي في المعارك الموالية مع الكفَّار) فيذهب قرآنٌ كثيرٌ , وإنّي أرى أن تأمرَ بِجَمع القرآن . قلتُ : كيف أفعلُ شيئًا لَمْ يفعلْهُ رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم ؟! فقال عمر : هو واللَّهِ خير . فلَمْ يَزلْ عُمَر يُراجعُني في ذلك حتَّى شرحَ اللَّهُ صدري لِلَّذي شرحَ له صدْرَ عُمَر , ورأيتُ في ذلك الذي رأى عُمَر .
قال زيد : ثمَّ قال لي أبو بكر : وإنَّك رجلٌ شابّ عاقل , لا نتَّهمُك , قد كنتَ تكتبُ الوحيَ لِرسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , فَتَتَبَّعِ القرآنَ فاجمعهُ .
فَوَاللَّهِ لَو كَلَّفَني بنَقْلَ جبل من الجبال ما كانَ بأثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا كلَّفني من جمع القرآن ! فقلتُ : كيفَ تفعلان شيئًا لَمْ يفعلْهُ رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم ؟! فقال أبو بكر : هو واللَّهِ خير . فلَمْ يَزلْ يُراجعُني في ذلك حتَّى شرحَ اللَّهُ صدري لِلَّذي شرح له صدْرَ أبي بكر وعُمر , ورأيتُ في ذلك الذي رأيَا . فتتبَّعتُ القرآنَ أجمعهُ من العسب والرِّقاع واللِّخاف وصدور الرِّجال , فوجدتُ آخر سورة التَّوبة : { لقد جاءكُم رسولٌ من أنفُسكُم ... } إلى آخر السُّورة , مع خُزيْمة وأبي خُزيمة , فألحَقْتُها في سورتها . فكانت الصُّحُف عند أبي بَكر حياتَه , ثمَّ عند عُمَر حياتَه حتَّى تَوَفَّاهُ اللَّه , ثمَّ عند حفصة بنت عُمَر . (سنن البيهقي الكبرى – الجزء 2 – ص 40 – رقم الحديث 2202) .
قال ابنُ حجر العسقلاني في كتابه فتح الباري في شرح صحيح البخاري : كان القرآنُ قد كُتِبَ كلّه في حياة النَّبيّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , ولكنَّه لَم يَكُن مجموعًا في مكان واحد .
فلَمَّا اختِيرَ زيدُ بن ثابت لِجمع القرآن , وكان أحد كتَّاب الوحي الممَيَّزين في حياة النَّبيّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , وكان يحفظُ القرآن كاملاً , استعانَ في مهمَّته الثَّقيلة هذه بثلاثة آخرين من حُفَّاظ القرآن المعروفين بأمانتهم . وبالرَّغم من أنَّهم الأربعة كانُوا يحفظون القرآن عن ظهر قلب , إلاَّ أنَّ زيدًا , زيادةً في الحيطة , كان خلال جمعه للقرآن لا يَقبلُ إلاَّ ما كُتِبَ في حياة النَّبيِّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم وشهد شاهدان ثقات بصحَّته .
تَمَّ جمعُ القرآن إذًا في مصحف واحد في عهد الخليفة الأوَّل أبي بكر الصِّدِّيق , وبقي كذلك في عهد الخليفة الثَّاني عمر بن الخطَّاب . فلمَّا تولَّى عثمانُ بن عفَّان الخلافة بعد عُمَر , كلَّف زيدَ بن ثابت بجمع القرآن مرَّة ثانية , ثمَّ بعثَ نُسَخًا منه إلى أنحاء الدّولة الإسلاميَّة . والسَّببُ في ذلك ما رواه النّسائي في سُنَنه عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه , أنَّ حُذَيْفة (بن اليَمان) قدم على عثمان (بن عفَّان) , وكان يُغازي أهل الشَّام مع أهل العراق في فتح أرمينية وأذربيجان , فأفزعَ حُذَيفةَ اختلافَهم في القرآن , فقالَ لِعُثمان : يا أمير المؤمنين , أدْرِكْ هذه الأمَّة قبل أن يختلِفُوا في الكتاب كما اختلفَت اليهودُ والنَّصارى ! فأرسلَ عُثمانُ إلى حَفصة أن أرسلِي إلينا بالصُّحُف ننسخُها في المصاحف ثمَّ نَرُدُّها إليكِ . فأرسلَتْ بها إليه , فأمَر زيدَ بن ثابت , وعبد اللَّه بن الزُّبير , وسعيد بن العاص , وعبد الرَّحمن بن الحارث بن هشام , أن يَنسخُوا الصُّحُف في المصاحف , فإن اختلفُوا وزيدَ بن ثابت (أي إن اختلف الثَّلاثة القُرَشيُّون مع زيد) في شيء من القرآن , فاكتبوهُ بلسان قُرَيْش , فإنَّ القرآنَ نزلَ بلسانهم . ففعلُوا ذلك , حتَّى إذا نَسخُوا الصُّحُف في المصاحف , رَدَّ عُثمانُ الصُّحُفَ إلى حفصة , وأرسلَ إلى كُلِّ أُفُقٍ مُصحفًا مِمَّا نسخُوا . (السّنن الكبرى – الجزء 5 – ص 6 – رقم الحديث 7988) .
والاختلاف الذي ذكَره حُذَيْفة هنا في القرآن , هو اختلاف اللَّهجات بين أهل الحجاز وأهل سوريا وأهل العراق . وكلُّ مَن يجوبُ الأقطارَ العربيَّة اليوم يُلاحظ اختلافَ العرب في نُطق بعض الحروف , مثل القاف , والجيم , وغيرهما . وهذا ما دعا الخليفةَ عثمان بن عفَّان رضي اللَّه عنه أن يجمع القرآن مرَّة ثانية . وكُلِّفَ زيدُ بن ثابت مرَّة أخرى بهذه المهمَّة الثَّقيلة مع ثلاثةٍ من الصَّحابة , وجُمِع القرآنُ مرَّة أخرى في مصحف واحد سُمِّيَ بِمُصحف عثمان . ثمَّ وقعَت كتابة بعض النُّسخ منه , أرسِلَتْ إلى الكوفة , والبصرة , وسوريا , وقيل : وأيضًا إلى اليمن , والبحرين , ومكَّة . واحتفَظَ عثمان بنسخة في المدينة , ونسخة أخرى في بيته .
ومنذ ذلك اليوم , أصبحت هذه النُّسخة من مُصحف عُثمان هي النُّسخة الوحيدة المعتَمَدة في طبع القرآن في كلِّ بقاع العالم .
هكذا إذًا أُنْزلَ القرآن , وهكذَا حفظه اللَّه تعالى من التَّحريف والزّيادة والنُّقصان , وسيبقَى محفوظًا إلى يوم القيامة .
|