لو كان المسيح بيننا لتبرَّأ من أناجيل النَّصارى !
لِماذَا ؟! لِأنَّها ببساطة ليست هي الإنجيل المذكور في القرآن , والذي أنزلَه اللَّهُ عليه . وسأعرض عليك , سيّدتي الكريمة , سيّدي الكريم , فيما يلي العديد من الأدلَّة على ذلك . لكن قبل هذا , هناك ملاحظتان : أوّلاً : استعملنا في هذا الكتاب اسم : نصارى , إشارةً إلى المسيحيّين , وذلك لأنّ القرآن الكريم سَمَّاهم بهذا الاسم .
ثانيًا : ورد اسمُ المسيح عليه السّلام في العديد من التّرجمات العربيّة على أنّه : يسوع , مِمَّا جعل بعض النّصارى يدّعون أنّه ليس هو المسيح الذي ورد في القرآن الكريم باسم : عيسَى . وللرّدّ على هؤلاء , نُحِيلُهم إلى ما جاء في موقع الإنجيل الشّريف
قولهم : " درجَتْ مُعظم التّرجمات العربيّة على استخدام إسم : يسوع , نقلاً عن اللّغة العِبْريّة حيث يأتي فيها : يشوع . استخدَمَتْ هذه التّرجمة , وبالتّحديد نَصّ العهد الجديد (الإنجيل الشّريف) , إسم : عيسَى الذي يأتي في اللّغة اليونانيّة – لغة الإنجيل الأصليّة – : إيسوس , الذي يُقابله : عيسَى بالعربيّة " .
وعلى هذا , فإنّ المسيح المذكور في الإنجيل هو نفس المسيح المذكور في القرآن باسم عيسَى .
نعود الآن للتّدليل على أنّ أناجيل النّصارى ليست هي الإنجيل الحقيقي الذي أنزله الله على المسيح عيسى بن مريم عليه السّلام :
يعترفُ النَّصارى أنَّ الأناجيل التي بين أيديهم لَم يكْتُبها عيسى عليه السَّلام ولَم يُمْلِلْها على أتباعه , وإنَّما حرَّرها مُحرِّرُون من الجيل الأوَّل والجيل الثَّاني من النّصرانيَّة , فأصبحتْ تُنسَبُ إليهم ! فهي إذًا من تأليف بَشَر , وبالتَّالي لا يُمكنُ أن تكون هي الإنجيل الذي أنزلهُ اللَّهُ على عيسى عليه السَّلام .
ويعتمدُ النَّصارى اليوم على أربعة أناجيل , هي : إنجيل متى Saint-Matthieu , وإنجيل مرقس Saint-Marc , وإنجيل لوقا Saint-Luc , وإنجيل يوحنَّا Saint-Jean . وهي , مع الرَّسائل الملحَقَة بها , تُكَوِّنُ العهد الجديد Le Nouveau Testament . أمَّا أسفار التَّوراة الخمسة , مع الأسفار المنسُوبة إلى أنبياء بني إسرائيل , فتُسَمَّى العهد القديمAncien Testament . ويُكوِّنُ العهدُ القديم مع العهد الجديد ما يُسمَّى بالكتاب المقدَّس La Bible .
وقد تتلْمذَ متى ويوحنَّا على السَّيِّد المسيح , أمَّا مرقس ولوقا فلَم يَريَاه . وتُنسَبُ الرَّسائلُ الملْحَقَة بالأناجيل إلى : بولس , وله أربعة عشر رسالة , وهو لم يَلْقَ المسيح , وإلى بطرس ويعقوب ويهوذا ويوحنَّا , وكلّهم صَحِبُوا المسيح عليه السَّلام .
ويعتقدُ النَّصارى أنَّ الأناجيلَ والرَّسائلَ هي كلمةُ اللَّه التي ألْهَمَها الرُّوحُ القدسُ إلى بعض تلاميذ المسيح وتلاميذهم , فكتَبُوها بأمانة , فأصبحتْ كتاباتُهم مُقدَّسة لهذا السَّبب . ويُوضِّحون هذا الأمر قائلين أنَّ اللَّه تعالى اختار هؤلاء التَّلاميذ , فألْهَمَهُم ما يُريد إبلاغه إلى عباده , وعَصَمَهُم من الخطأ في التَّحرير والكتابة , فكَتبُوا الإلهامَ في أناجيل ورسائل , وأصبحتْ هذه الكتابات مُقَدَّسة وتُنسب إلى اللَّه .
فهل فعلاً هذه الكتابات مُقَدَّسة وخالية من الأخطاء ؟
يقول المؤرِّخُون أنَّ أقدم المخطوطات التي نُسِخَت عنها الأناجيلُ والرَّسائلُ , تعود إلى القرن الرَّابع الميلادي . وهذه المخطوطات ليستْ بِخَطِّ كُتَّاب الأناجيل , وإنَّما بِخَطِّ كُتَّابٍ جاءوا بعدَهم بأكثر من قَرنَيْن من الزَّمان , ولا يُعرَفُ أيّ سَنَد يَصِلُهم بالكُتَّاب الأصليِّين ! أيْ أنَّ إنجيل متى مثلاً , الذي يقرأه النَّصارى اليوم , ليس منسوخًا عن المخطوطة الأصليَّة التي كتبَها متى , وإنَّما منسوخًا عن مخطوطةٍ كتَبها إنسانٌ جاء بعده بأكثر من مائتي سنة , ولا تُعرفُ أيّة علاقة بين الرَّجُلَين !!
وهذا الأمرُ يكْفي وحدهُ للتَّشكيك في صحَّة نسبة الأناجيل والرَّسائل إلى أصحابها . وحتَّى لو سلَّمْنا بأنَّها منسوبةٌ إليهم فعلاً , فلا أحد يستطيعُ أن يجْزِمَ بأنَّ المخطوطات التي تعود للقرن الرَّابع مُطابقة حرفيًّا للأناجيل التي كَتبها متى ومرقس ولوقا ويوحنَّا !
ويَردُّ النَّصارى على هذا التَّشكيك بأنَّ المخطوطات التي وُجِدتْ عن الأناجيل والرَّسائل تُعَدُّ بالآلاف , وبالتَّالي لا حاجة لِمُقارنتها بالكُتب الأصليَّة التي كَتبها تلاميذ المسيح .
هذا ما يقولونه , ولكنَّ الذي يُخفُونه أنَّ هذه الآلاف من المخطوطات , على كَثْرتِهَا , ليس بينها مخطوطتان مُتَّفقتان في كلِّ النُّصوص ! نعم , فقد تعرَّضتْ جميعُها إلى الزِّيادة والنَّقص حسبَ مزاج النُّسَّاخ !! ثمَّ تراكمَ هذا التَّبديلُ على مَرِّ القرون حتَّى أصبحت الأناجيل والرَّسائل اليوم مملوءة بالأخطاء !!
وقد قام العديد من المحقِّقين النَّصارى في القرن العشرين بالبحث في كُتب العهد الجديد , فَوصلُوا إلى حقيقة خطيرة وهي أنَّه ليس ثَمَّة أيّ دليل واقعي على صحَّة نسبة الأناجيل إلى أصحابها ! بل إنَّ أكثر الأدلَّة تؤكِّد أنَّ الأناجيلَ الأربعة لا يُمكن أن تكون من تأليف تلاميذ المسيح !!
نعم , فقد تَوصَّلوا مثلاً إلى أنَّ العديد من نصوص إنجيل متى مُقتَبَسة عن إنجيل مرقس . وهذا يستوجبُ أن يكون متى قد كتبَ إنجيلَه بعد مرقس . لكنَّ التَّاريخ يُثبت أنَّ متى قد عاصر المسيح وصحِبَه , بخلاف مرقس الذي كان عمره وقتها حوالي عشر سنوات ! فكيفَ يَنقُلُ الشَّاهدُ للأحداث عن الغائب الذي لَم يحضُرها ؟!
كذلك , جاء في إنجيل متى : وفيمَا يَسُوعُ مُجتازٌ من هناكَ رأى إنسانًا جالسًا عند مكان الجِبَايَة اسمُه مَتَّى , فقال له : اتْبَعْني , فقامَ وتَبِعَه . (إنجيل متى – الإصحاح التَّاسع 9) . وهذا يدلُّ على أنَّ متى ليس هو كاتب هذا الكلام , لأنَّه لو كان كذلك , لقال : وفيمَا يَسُوعُ مُجتازٌ من هناكَ رآني جالسًا عند مكان الجِبَايَة , فقال لي : اتْبَعْني , فقُمتُ وتَبِعْتُه !
لهذا , نجدُ اليوم العديد من الباحثين النَّصارى ينكرُون صحَّة نسبة إنجيل متى إليه , ويقولون : إنَّه ليس من تأليف الحواري متى , تلميذ المسيح عليه السَّلام , وإنَّما هو لِمُؤلِّفٍ مجهول أخفَى شخصيَّته !
وأمَّا الرَّسائل : فإنَّ أغلَبها يُنسبُ إلى بولس الذي يُعتَبر مؤسِّس النّصرانيَّة المحرَّفة ! وأجدُ من المهمِّ الوقوف قليلاً عند هذا الرَّجل . وُلِدَ بولس لِأبَوَيْن يهوديَّيْن , وكان اسمه شاول , ثمَّ سَمَّى نفسه بولس بعد أن تَنَصَّر . وسبب تنصُّره أنَّه , حسب زعمه , رأى المسيح عليه السَّلام (بعد رفعه إلى السَّماء بسنوات , ولَم يكن رآه من قبل) , فأعطاه حينئذ منصب النُّبوَّة !!
والحادثة رواها بنفسه في أعمال الرُّسل , يقول : ولَمَّا كنتُ ذاهبًا في ذلك إلى دمشق بسُلْطان ووصيَّة من رُؤساء الكَهَنة , رأيتُ في نصْف النَّهار في الطَّريق , أيُّها الملِكُ , نُورًا من السَّماء أفضَل من لَمعان الشَّمس قد أبرقَ حوْلي وحولَ الذَّاهبين معي , فلَمَّا سقَطنا جميعُنا على الأرض سمعتُ صَوتًا يُكَلِّمُني باللُّغة العبرانيَّة : شَاوُل شاوُل , لِماذَا تَضطهدُني ؟ صعبٌ عليكَ أن ترفُس مَناخس , فقلتُ أنا : من أنتَ يا سَيِّد ؟ فقال : أنا يَسُوع الذي أنت تضطَهِدُه , ولكن قُم وقِفْ على رجلَيْكَ , لأنِّي لهذا ظهرتُ لكَ لأنتَخِبَكَ خادِمًا وشاهِدًا بِمَا رأيتَ وبِمَا سأظْهرُ لكَ به , مُنقِذًا إيَّاكَ من الشَّعب ومن الأمَم الذينَ أنا الآن أرسِلُكَ إليهم , لِتَفتحَ عُيُونَهم كيْ يَرجعُوا من ظُلُماتٍ إلى نُور ومن سُلطان الشَّيطان إلى اللَّه حتَّى ينالُوا بالإيمان بي غُفرانَ الخَطايَا ونصيبًا مع المقَدَّسين . (أعمال الرّسل – الإصحاح السَّادس والعشرون 12 – 18) .
ولكنَّ اللاَّفت للانتباه أنَّ هذه الحادثة الهامَّة ذُكِرتْ في عدَّة مواضع من أعمال الرُّسل , لكن بتفاصيل متناقضة ! فقد جاء في هذه الرِّواية أنَّ نورًا أبرقَ حول بولس وحول الذَّاهبين معه , وأنَّهم سقطُوا جميعًا على الأرض , وأنَّه سمع وحده صوتًا .
ولكن جاء في رواية أخرى : وأمَّا الرِّجالُ المسافرُون معه , فوَقَفُوا صامتينَ يسمعُون الصَّوتَ ولا ينظُرونَ أحدًا . (أعمال الرّسل – الإصحاح التَّاسع 7) . فهل سمع بولس الصَّوت وحده أم سمعه الذين معه أيضًا ؟!
وذُكِر هنا أنَّ الذين معه لَم يرَوا شيئًا , ولكن جاء في رواية أخرى : والذين كانُوا معي نَظرُوا النُّور وارتَعَبُوا , ولكنَّهم لم يسمعُوا صوتَ الذي كلَّمَني . (أعمال الرّسل – الإصحاح الثَّاني والعشرون 9) . وهذا معاكسٌ تَمامًا لِمَا جاء في الرِّواية السَّابقة ! وحدثٌ بمثل هذه الأهمِّيَّة في تاريخ النّصرانيَّة لا يُقبَل أن تقع فيه مثل هذه الاختلافات !!
ثمَّ إنَّ بولس كان قبل تنصُّره شديد العداوة للنَّصارى , وألحقَ بهم ألوانَ العذاب , وهذا بشهادته هو عن نفسه , حيث يقول : فأنا ارتأيتُ في نفسي أنَّه ينبغي أن أصنعَ أمورًا كثيرةً مُضادَّة لاسم يَسُوع النَّاصري . وفعلتُ ذلكَ أيضًا في أورشَليم , فحَبَسْتُ في سُجونٍ كثيرينَ من القِدِّيسينَ آخِذًا السُّلطانَ مِنْ قِبَل رُؤَساء الكَهَنَة , ولَمَّا كانُوا يُقْتَلُون ألقَيْتُ قُرْعَة بذلك , وفي كلِّ المجامع كنتُ أعاقِبُهم مِرارًا كثيرة وأضْطَرَّهم إلى التَّجديف , وإذ أفرَطَ حَنَقي عليهم كنتُ أطرُدُهم إلى المدُن التي في الخارج . (أعمال الرّسل – الإصحاح السَّادس والعشرون 9 – 11) .
فرُبَّما يَقبلُ العقلُ أن يَدخُل بُولس في النّصرانيَّة بعد أن كان شديد العداوة لها . لكن أن يُصبح قدِّيسًا ونبيًّا , فلا ! فجميع الأنبياء عليهم السَّلام لَم يكُونوا كفَّارًا أو معادين للرِّسالات السَّماويَّة الأخرى قبل نُبُوَّتهم .
ويُشَكِّكُ المحقِّقون من ناحية أخرى في نبوَّة بولس وقدِّيسيَّته لأنَّه يستبيحُ الكذب والنِّفاق للوصول إلى غايته , وهذا باعترافه هو حيث يقول : فصرْتُ لليهود كَيَهودي لِأربحَ اليهود , وللّذينَ تحت النَّاموس كأنّي تحت النَّاموس لِأربحَ الذين تحت النَّاموس , وللَّذين بِلا نامُوس كأنّي بِلا نامُوس , مع أنّي لستُ بِلا ناموس للَّه بل تحتَ نامُوسٍ للمسيح , لِأربح الذينَ بِلا ناموس . (كورنثوس 1 – الإصحاح التَّاسع 20 – 21) .
ويأخذه الغرور في موضع آخر , فيقول : ولكنَّها أكثرُ غبطةً إن لَبثَتْ هكذا بِحَسب رأيي . وأظنُّ أنِّي أنا أيضًا عندي روحُ اللَّه . (كورنثوس 1 – الإصحاح السَّابع 40) .
ويُسيء الأدبَ مع اللَّه في موضع آخر , فيقول : لأنَّ جهالةَ اللَّه أحْكَم من النَّاس , وضعفَ اللَّه أقوَى من النَّاس . ( كورنثوس 1 – الإصحاح الأوَّل 25) .
ويستحلُّ المحرَّمات , فيقول : كلُّ الأشياء تَحِلُّ لي لكن ليسَ كُلُّ الأشياء تُوافق . كلُّ الأشياء تَحِلُّ لي لكن لا يتسلَّطُ عَلَيَّ شيء . (كورنثوس 1 – الإصحاح السَّادس 12) .
وقد تَوقَّفنا هنا عند بولس لأنَّ النَّصارى اعتمدُوا على رسائله بالكامل لِبناء عقيدة الصّلب والفداء ! فهل يُعقَل أن يبني ملايينُ البشر عقيدتهم على أقوال شخص ادَّعَى النُّبوَّة وليس له شاهدٌ ولا دليل على ذلك , ولم يتتلمذ على السَّيِّد المسيح عليه السَّلام , ولم يأخُذ منه مبادئ النّصرانيَّة الصَّحيحة , وفوق كلِّ ذلك يكذب وينافق لِيَصل إلى مراده , ويُسيء الأدب مع اللَّه ؟!!
طبعًا , غير معقول ! ومع ذلك فإنَّ النَّصارى اتَّخذُوه مُشرِّعًا لهم !
هذا إذًا ما يقوله المؤرِّخون بخصوص الأناجيل والرَّسائل . أمَّا إذا حاولْنا التَّعمُّق في النُّصوص , فسنجدُ فيها العديد من الأخطاء والتَّناقضات والأقاويل التي لا يُمكن أبدًا نسبتُها إلى اللَّه تعالى , وإلى عبده ورسوله عيسى عليه السَّلام , ولا إلى الحواريِّين الذين صَحبُوا موسى عليه السَّلام وتتلمذُوا على يديه ونَصرُوه . وهذا ما سنبيِّنُه في العنصر الموالي بعون اللَّه .
|