فكر جنكيزخان في أن أفضل طريقة لإسقاط الخلافة العباسية في العراق هي التمركز أولاً في منطقة أفغانستان وأوزبكستان؛ لذا فكَّر جنكيزخان في خوض حروب متتالية مع هذه المنطقة الشرقية من الدولة الإسلامية، التي تُعرف في ذلك الوقت بالدولة الخوارزمية، وكانت تضم بين طياتها عدة أقاليم إسلامية مهمَّة مثل: أفغانستان، وأوزبكستان، والتركمنستان، وكازاخستان، وطاجكستان، وباكستان، وأجزاء من إيران، وكانت عاصمة هذه الدولة الشاسعة هي مدينة أورجندة (في تركمنستان حاليًّا).
وكان جنكيزخان في شبه اتفاق مع ملك خوارزم (محمد بن خوارزم شاه) على حسن الجوار، ومع ذلك فلم يكن جنكيزخان من أولئك الذين يحترمون اتفاقياتهم؛ لذا لا مانع من نقض العهد، وتمزيق الاتفاقيات السابقة، وهي سُنَّة في أهل الباطل.. {
وَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}
[البقرة: 100].
وبدأ الإعصار التتري الرهيب على بلاد المسلمين!!
بدأت بالهجمة التترية الأولى على دولة خوارزم شاه؛ جاء جنكيزخان بجيشه الكبير لغزو خوارزم شاه، وخرج له (محمد بن خوارزم شاه) بجيشه أيضًا، والتقى الفريقان في موقعة شنيعة استمرت أربعة أيام متصلة، وذلك شرق نهر سيحون (وهو يعرف الآن بنهر سرداريا، ويقع في دولة كازاخستان المسلمة)، وقُتِل من الفريقين خلق كثير، لقد استُشهد من المسلمين في هذه الموقعة عشرون ألفًا، ومات من التتار أضعاف ذلك، ثم تحاجز الفريقان، وانسحب (محمد بن خوارزم شاه) بجيشه؛ لأنه وجد أن أعداد التتار هائلة، وذهب ليحصِّن مدنه الكبرى في مملكته الواسعة، وخاصةً العاصمة أورجندة. كان هذا اللقاء الدامي في عام 616هـ/ 1219م.
انشغل (محمد بن خوارزم شاه) في تحضير الجيوش من أطراف دولته، ولكن كان هناك خطأٌ واضحٌ في إعداده، وهو أنه مع اهتمامه بتحصين العاصمة أورجندة إلا أنه ترك كل المساحات الشرقية من دولته دون حماية كافية! فلقد اهتم محمد بن خوارزم بتأمين نفسه وأسرته ومقربيه، وتهاون في تأمين شعبه، وحافظ جدًّا على كنوزه وكنوز آبائه، ولكنه أهمل الحفاظ على مقدرات وأملاك شعبه.
جهَّز جنكيزخان جيشه من جديد، وأسرع في اختراق كل إقليم كازاخستان الكبير، ووصل في تقدُّمه إلى مدينة بُخارَى المسلمة (في دولة أوزبكستان الآن)، وحاصر جنكيزخان البلدة المسلمة في سنة 616هـ/ 1219م، ثم طلب أهلها الأمان من جنكيزخان قبل التسليم؛ فأعطاهم إياه.
وفتحت المدينة المسلمة أبوابها للتتار، ودخل جنكيزخان إلى المدينة الكبيرة، وأعطى أهلها الأمان فعلاً في أول دخوله خديعةً لهم؛ وذلك حتى يتمكن من السيطرة على المجاهدين بالقلعة.
وفعلاً بدأ جنكيزخان بحصار القلعة، بل أمر أهل المدينة من المسلمين أن يساعدوه في ردم الخنادق حول القلعة ليسهل اقتحامها، فأطاعوه وفعلوا ذلك!! وحاصر القلعة عشرة أيام، ثم فتحها قسرًا، ولما دخل إليها قاتل من فيها حتى قتلهم جميعًا!! ولم يبق بمدينة بخارى مجاهدون
[5].
وهنا بدأ جنكيزخان في خيانة عهده، يقول
ابن كثير: "فقتلوا من أهلها خلقًا لا يعلمهم إلا الله
U، وأسروا الذرية والنساء، وفعلوا معهنَّ الفواحش بحضرة أهليهن"
[6]. وهكذا هلكت بُخارَى في سنة 616هـ/ 1219م!!
ولكن كانت هذه أولى صفحات القصة، كانت بداية الطوفان وبداية الإعصار، فقد دخلت سنة 617هـ/ 1220م، وفيها ارتكب التتار من الفظائع ما تعجز الأقلام عن وصفه؛ فقد كرروا ما فعلوه في بخارى في عدة مدن إسلامية عظيمة أخرى مثل سمرقند، وقد استقر فيها السفاح جنكيزخان بعدما أعجبته، وقرَّر أن يقضي على محمد بن خوارزم شاه ليتفرَّغ لتحقيق مخططه في احتلال بلاد الخلافة الإسلامية كافة؛ فأرسل كتيبة مكوَّنة من عشرين ألف جندي -وهي قوة صغيرة بالنسبة لجيوش التتار- تطارده في كل مكان، وأخذ خوارزم شاه يفرُّ من وجهها في كل مكان يصلون إليه فيه
[7].
وصل الزعيم محمد بن خوارزم في فراره إلى جزيرة في وسط بحر قزوين، وهناك رضي بالبقاء فيها في
قلعة في فقرٍ شديد وحياة صعبة، وهو الملك الذي ملك بلادًا شاسعة، وأموالاً لا تُعَدُّ، ولكن رضي
بذلك لكي يفرَّ من الموت!
وما هي إلا أيام، حتى مات محمد بن خوارزم شاه في هذه الجزيرة في داخل القلعة
[8] وحيدًا طريدًا شريدًا فقيرًا، حتى إنهم لم يجدوا ما يكفنوه به، فكفنوه في فراش كان ينام عليه!! {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ}
[النساء: 78].
كانت المسافة بين الفرقة التترية الصغيرة وبين القوة الرئيسية لجنكيزخان في (سمرقند) تزيد على ستمائة وخمسين كيلو مترًا، كلها أراضٍ إسلامية تُكِنُّ العداء الشديد للتتار، ومع ذلك انطلقت تلك الفرقة وسط جموع المسلمين في تلك البلاد الذين يبلغون الملايين، انطلقوا يقتلون ويأسرون، ويستولون على البلاد والمدن الإسلامية؛ فدخلوا مازندران (في إيران)، ثم الرَّيِّ (مدينة إيرانية كبيرة كذلك). وفي الطريق من مازندران إلى الري وجد التتار في طريقهم والدته ونساءه ومعهم الأموال الغزيرة والذخائر النفيسة التي لم يُسمع بمثلها، فأخذوا كل ذلك سبيًا وغنيمة، وأرسلوه من فورهم إلى جنكيزخان المتمركز في (سمرقند) آنذاك، ثم انطلقوا يكررون تلك الأفاعيل في المدن المحيطة
[9].
بعد إتمام هذا الهجوم الكاسح اتجهت قوات التتار إلى اجتياح أذربيجان المسلمة، ثم إلى أرمينيا وجورجيا لمواجهة قبائل الكرج (وهي قبائل وثنية ونصرانية)، وتم احتلال أرمينيا وجورجيا، وقُتِل من الكرج أعداد لا تُحْصى
[10].
لقد كان هجومًا كاسحًا يدل على وحشية التتار، وضعف مَن يواجهونهم في هذا الوقت. بعد أن اطمأن جنكيزخان إلى هروب محمد بن خوارزم شاه زعيم البلاد في اتجاه الغرب، وانتقاله من مدينة إلى أخرى هربًا من الفرقة التترية المطاردة له، بدأ جنكيزخان يبسط سيطرته على المناطق المحيطة بسمرقند، وعلى الأقاليم الإسلامية الضخمة الواقعة في جنوب سمرقند وشمالها.
وجد جنكيزخان أن أعظم الأقاليم وأقواها في هذه المناطق: إقليم خوارزم وإقليم خراسان، أما إقليم خراسان فإقليم شاسع به مدن عظيمة كثيرة مثل: بلخ، ومرو، ونيسابور، وهراة، وغزنة، وغيرها (وهو الآن في شرق إيران وشمال أفغانستان).
وأما إقليم خوارزم فهو الإقليم الذي كان نواةً للدولة الخوارزمية، واشتهر بالقلاع الحصينة والثروة العددية والمهارة القتالية، وهو يقع إلى الشمال الغربي من سمرقند، ويمر به نهر جيحون (وهو الآن في دولتي أوزبكستان وتركمنستان)، ولكن جنكيزخان أراد القيام بحرب معنوية تؤثر في نفسيات المسلمين قبل اجتياح هذه الأقاليم العملاقة، فقرر البدء بعمليات إبادة وتدمير تبث الرعب في قلوب المسلمين في الإقليمين الكبيرين خوارزم وخراسان، فأخرج جنكيزخان من جيشه ثلاث فرق:
فرقة لتدمير إقليم فرغانة (في أوزبكستان الآن)، وهو على بُعد حوالي خمسمائة كيلو متر إلى الشرق من سمرقند.
وفرقة لتدمير مدينة ترمذ (في تركمنستان الآن)، وهي مدينة الإمام (الترمذي) صاحب السنن رحمه الله، على بُعد حوالي مائة كيلو متر جنوب سمرقند.
وفرقة لتدمير قلعة كلابة، وهي من أحصن قلاع المسلمين على نهر جيحون.
وقد قامت الفرق الثلاث بدورها التدميري كما أراد جنكيزخان، فاستولت على كل هذه المناطق،
وأعملت فيها القتل والأسر والسبي والنهب والتخريب والحرق، مثلما اعتاد التتار أن يفعلوا في
الأماكن الأخرى. ولما عادت هذه الجيوش من مهمتها القبيحة بدأ جنكيزخان يُعِدُّ للمهمة الأقبح، بدأ يُعِدّ لاجتياح إقليمي خراسان وخوارزم
[11].
ولأجل احتلال هذين الإقليمين بدأ التتار بغزو بلخ؛ فطلب أهلها الأمان فأعطاهم جنكيزخان الأمان
على غير عادته، وذلك مقابل أن يعاونوه في غزو مدينة (مرو)؛ فاستجاب أهل بلخ المهزومون نفسيًّا، وعاونوه فيما أراد.
قتل التتار في مرو سبعمائة ألف مسلم ومسلمة، هم كل سكان المدينة من الرجال والنساء والأطفال، وسلبوا كل الأموال حتى إنهم نبشوا قبر السلطان (سنجر) بحثًا عن أموال أو حُلِيٍّ تكون مدفونة معه
[12].
وبعد ذلك توجّه التتار إلى نيسابور (وهي تقع الآن في الشمال الشرقي لدولة إيران)، ثم هراة، فخوارزم.
جلال الدين والعدة لقتال التتار
وبتدمير إقليمي خراسان وخوارزم يكون التتار قد سيطروا على المناطق الشمالية ومناطق الوسط من دولة خوارزم الكبرى، ووصلوا في تقدمهم إلى الغرب إلى قريب من نهاية هذه الدولة (على حدود العراق)، ولكنهم لم يقتربوا بعدُ من جنوب دولة خوارزم. وجنوب دولة خوارزم كانت تحت سيطرة جلال الدين بن محمد بن خوارزم شاه، وهو ابن محمد بن خوارزم الذي فرَّ منذ شهور قليلة أمام التتار، وهرب إلى جزيرة ببحر قزوين حيث مات هناك.
بدأ جلال الدين يُعِدُّ العدة لقتال التتار، وجمع جيشًا كبيرًا من بلاده، وانضم إليه أحد ملوك الأتراك المسلمين اسمه (سيف الدين بغراق)، وكان شجاعًا مقدامًا، وكان معه ثلاثون ألف مقاتل، ثم انضم إليه أيضًا ستون ألفًا من الجنود الخوارزمية الذين فروا من المدن المختلفة في وسط وشمال دولة خوارزم بعد سقوطها. كما انضم إليه أيضًا (ملك خان) أمير مدينة هراة بفرقة من جيشه، وذلك بعد أن أسقط جنكيزخان مدينته، وبذلك بلغ جيش جلال الدين عددًا كبيرًا، ثم خرج جلال الدين بجيشه إلى منطقة بجوار مدينة غزنة تدعى (بلق)، وهي منطقة وعرة وسط الجبال العظيمة، وانتظر جيش التتار في هذا المكان الحصين، ثم جاء جيش التتار!
دارت بين قوات جلال الدين المتحدة وقوات التتار معركة من أشرس المواقع في هذه المنطقة، وقاتل المسلمون قتال المستميت؛ فهذه أطراف المملكة الخوارزمية، ولو حدثت هزيمة فليس بعدها أملاك لها. وكان لحميَّة المسلمين وصعوبة الطبيعة الصخرية والجبلية للمنطقة، وكثرة أعداد المسلمين، وشجاعة الفرقة التركية بقيادة سيف الدين بغراق، والقيادة الميدانية لجلال الدين، كان لكل ذلك أثر واضح في ثبات المسلمين أمام جحافل التتار.
واستمرت الموقعة الرهيبة ثلاثة أيام، ثم أنزل الله
U نصره على المسلمين، وانهزم التتار للمرة الأولى في بلاد المسلمين!! وكثر فيهم القتل، وفرَّ الباقون منهم إلى ملكهم جنكيزخان، الذي كان يتمركز في (الطالقان) في شمال شرق أفغانستان
[13].
وارتفعت معنويات المسلمين إلى السماء؛ فقد وقر في قلوب الكثيرين قبل هذه الموقعة أن التتار لا يُهزمون، ولكن ها هو اتحاد الجيوش الإسلامية في (غزنة) يؤتي ثماره؛ لقد اتحدت في هذه الموقعة جيوش جلال الدين مع بقايا جيوش أبيه محمد بن خوارزم شاه، مع الفرقة التركية بقيادة سيف الدين بغراق، مع ملك خان أمير هراة، واختار المسلمون مكانًا مناسبًا، وأخذوا بالأسباب المتاحة، فكان النصر.
واطمأن جلال الدين إلى جيشه، فأرسل إلى جنكيزخان في الطالقان يدعوه إلى قتال جديد، وشعر
جنكيزخان بالقلق لأول مرة، فجهَّز جيشًا أكبر، وأرسله مع أحد أبنائه لقتال المسلمين، وتجهز الجيش المسلم، والتقى الجيشان في مدينة (كابول) الأفغانية
[14]. ومدينة كابول مدينة إسلامية حصينة تحاط من كل جهاتها تقريبًا بالجبال؛ فشمالها جبال هندوكوش الشاهقة، وغربها جبال باروبا ميزوس، وجنوبها وشرقها جبال سليمان.
ودارت موقعة كابول الكبيرة، وكان القتال عنيفًا جدًّا، أشد ضراوة من موقعة غزنة، وثبت المسلمون، وحققوا نصرًا غاليًا على التتار، بل وأنقذوا عشرات الآلاف من الأسرى المسلمين من يد التتار.
وفوق ارتفاع المعنويات، وقتل عدد كبير من جنود التتار، وإنقاذ الأسرى المسلمين، فقد أخذ المسلمون غنائم كثيرة نفيسة من جيش التتار.
كانت هذه الغنائم وبالاً على الجيش المسلم؛ روى البخارى ومسلم عن عمرو بن عوف
t قال: قال رسول الله
r: "
فَوَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنِّي أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ"
[15].