ومن أوائل العلوم التي طرق العرب بابها وأبدعوا فيها الكيمياء وهي بلا شك وليدة مدرسة الإسكندرية وقد وجدت بدمشق أرضا خصبة فقد تعهدها رجلان ينتميان إلى أشرف البيوت خالد بن يزيد والإمام جعفر الصادق الذي أنجب تلميذا ارتبط اسمه مع الكيمياء أبد الدهر وهو جابر بن حيان الذي يعتبر بحق أول رائد لهذا العلم يشهد بذلك أبوبكر الرازي الذي كان يقول: قال أستاذنا أبو موسى جابر بن حيان (27) وهو أول من بشر بالمنهج التجريبي إذ أن التجربة تصدرت منهجه العلمي فقد أورد في كتاب الخواص الكبير "والله قد عملته بيدي وبعقلي من قبل وبحثت عنه حتى صح وامتحنته فما كذب" هذا وقد عرف جابر كثيرا من العمليات الكيمياوية ووصفها وصفا دقيقا كالتبخير والتقطير والتكليس والصهر والتبلور والتصعيد ويعود الفضل له في تحضير كثير من المواد الكيمياوية والحموض كما ينسب إليه تحضير مركبات كيمياوية ككربونات الصوديوم والكالسيوم والصودا الكاوية (28).
لقد اعتبر جابر بن حيان أحد كبار علماء القرون الوسطى الذين مهدوا بأعمالهم الطريق أمام ظهور العلوم الحديثة واعتبرت منزلته من تاريخ الكيمياء كمنزلة أبقراط من تاريخ الطب (29) وأن إدخال التجربة في دراسة الكيمياء على يد جابر بن حيان كانت أبرز إبداع حققه العرب في فجر نهضتهم العلمية فقد أضفوا على هذا العلم أصالة البحث العلمي وخلصوا دراساته من السرية والغموض والرمزية التي أحاطت به عند أسلافهم من علماء الإسكندرية بوجه خاص واصطنعوا له منهجا استقرائيا سليما يعتمد على الملاحظة الحسية والتجربة العلمية (30).
ومن العلوم التي شغل فيها العرب مركز الريادة علم الحساب إذ أن ترجمة كتب كبار العلماء اليونان كإقيلدس وبطليموس وهيرون وغيرهم أثار في نفوس العرب الرغبة في استكشاف مجاهل العلوم الدقيقة، ففي نهاية القرن العاشر أصبح العرب على علم تام بحساب براهماكوبتا الهندي وبالجبر واستعملوا الصفر والنظام العشري الذي أحدث ثورة في عالم الرياضيات ولا أدل على أصالة جهدهم وسبقهم الأمم الأخرى في هذا الميدان من أن كلمات الجبر والكيمياء واللوغاريتم والصفر كلها ذات أصول عربية صريحة. فقد وضع العرب أسس الهندسة التحليلية والمثلثات المسطحة والكروية التي لم تكن معروفة من قبل الرياضيين الإغريق (31) . إذ نشر الخوارزمي منذ عام 825م أعماله الهامة المتعلقة بالجبر وسماها "كتاب حساب الجبر والمقابلة" وأهداه إلى الخليفة المأمون وأشار في مقدمته إلى أنه يسهل حساب الميراث والوصايا والقسمة والمحاسبة التجارية ومسح الأراضي ومخططات حفر الترع وغيرها من الأعمال الهندسية (32) هذا وإن رسالته المشهورة في الحساب والتي تقوم على التدوين العشري وعلى نظام عددي جديد نقله جيرار دوكريمون إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر وكان له أكبر تأثير على الرياضيات في أوربا. وبوساطة هذه الرسالة دخلت الأرقام العربية والصفر والكسور العشرية الحساب الغربي. كما نفحت جدواله الرياضية من قبل المجريطي وترجمت إلى اللاتينية بيد أديللار دوبات عام 1126م (33) . وليس بوسعنا أن نأتي على ذكر جميع الأعلام الذين ساهموا في تطوير العلوم الرياضية في بحث محدود الأغراض كبحثنا فهنالك علماء كثيرون أدلوا بدلوهم في هذا المجال يجدر بمن يريد الإحاطة بالموضوع أن يستعرض أعمالهم كالبيروني والبتاني والبوزجاني وغيرهم .
أما في الفيزياء فلم يكتف العرب بإعادة النظر بنظريات الإغريق وتوضيحها بل إنهم أضافوا إليها الكثير من مكتشافتهم فابن الهيثم المولود في البصرة عام 965م كان بلا شك أكبر فيزيائي عربي فقد عارض في كتابه "البصريات" إقليدس وبطليموس في تصورهما الخاطئ بأن الشعاع البصري يخرج من داخل العين إلى الأشياء الخارجية وبذلك قلب النظرية اليونانية بالنسبة لوظيفة "الحجرة المظلمة" كما درس انكسار الضوء وفي علم الحيل " الميكانيك " عرف مبدأ العطالة التي صاغها فيما بعد إسحاق نيوتن في قانونه المتعلق بالحركة. لقد أصبح كتاب المناظير لابن الهيثم أساس جميع البصريات في القرون الوسطى خصوصا أعمال روجيه بيكون في القرن الثالث عشر. أما في عصر النهضة فقد تأثر به ليوناردو دافنتشي ويوهان كيبلر (35).
لقد وجد العرب لدى الهنود ثروة ضخمة من المعارف الفلكية في كتاب السند هند سرعان ما أمر الخليفة المنصور بنقلة إلى اللغة العربية فقام بذلك محمد بن إبراهيم الفزاري الذي جمع أيضا الجداول الفلكية الساسانية "الزيج" وكان أول عربي يبني إسطرلابا على الطريقة اليونانية.
ونظرا لافتقار العرب لتفهم مبادئ العلوم الرياضية وهي وثيقة الصلة بعلم الفلك فقد أمر الخليفة هارون الرشيد في وقت لاحق بترجمة المجسطي لبطليموس الكتاب الذي يضم المبادئ الأساسية للمعلومات الفلكية كما قام محمد بن موسى الخوارزمي في زمن الخليفة المأمون باختصار كتاب السند هند وعمل منه زيجا اشتهر في كافة البلاد الإسلامية. كما بنى الخليفة مراصد فلكية في كل من دمشق وبغداد كانت بداية انتشار بناء المراصد وتقدم العلوم الفلكية إذا قام الفاطميون بإنشاء مراصد في مصر أشهرها مرصد المقطم. كما أنشأ نصر الدين الطوسي مرصد مراغة في آذربيجان الذي أصبح معهدا للبحوث الفلكية وزوده بآلات رصد متقدمة ونقل إلى مكتبته 400 ألف مخطوط (36) من الكتب التي أنقذت من مكتبات بغداد وسورية في زمن هولاكو . هذا وقد قامت مراصد أخرى في الأندلس والشام وإيران وسمرقند اشتهر من علمائها الطوسي والفرغاني والبتاني وابن يونس والبوزجاني والمجريطي و البيروني وغيرهم.
ومن بين العلوم التي برز فيها العلماء العرب وأنتجوا وأفاضوا على غيرهم مما أبدعوا من معارف علم الجغرافيا فقد ظهر من بينهم منذ بداية القرن التاسع رحالة وجغرافيون طافوا العالم المعروف في زمانهم كالخوارزمي وسليمان تاجر صيراف اللذين بلغا الهند والصين ولحق بهما ابن جبير في القرن الثاني عشر وابن بطوطة في القرن الرابع عشر. وبين الخوارزمي وابن بطوطة ظهرت أعداد من الرحالة والجغرافيين والخرائطيين ومؤلفي المعاجم الجغرافية جمعت أعمالهم في موسوعة من ثمانية مجلدات تحت اسم المكتبة الجغرافية العربية قام بهذا العمل الجليل M.J. GOEJE في ليدن بهولندا في عام 1870 (37).
هذا وتعد أعمال الشريف الإدريسي المولود في سبتة بالمغرب الأقصى أهم ما أنتجه العرب في حقل الجغرافيا لأنها بقيت حتى عصر النهضة، المراجع التي اعتمد عليها الأوربيون في إغناء معلوماتهم الجغرافية.
وبعد زمن الإدريسي بقليل قام الرحالة ابن جبير برحلته إلى مشرق العالم العربي دون خلالها الكثير من المعلومات التي تعتبر وثائق من الدرجة الأولى لأنه حسن الملاحظة وصريح العبارة (38).
كما ظهرت في القرن الثالث عشرة معاجم جغرافية جمع فيها ياقوت والقزويني كثيرا من المعلومات الجغرافية رتبوها على الحروف الهجائية.
لقد ساهمت المنجزات العربية في دفع حركة التجارة بين آسيا وأوربا وبما نجم عن ذلك من تقدم في التجارة الدولية وبالعلاقات بين مختلف الأمم غيرت مجرى التاريخ.
توقيع محب الله ورسوله |
قال تعالى
الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)
|