قال تعالى
{ إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يأَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ
تَسْلِيماً }
صَلى اللهُ عَلَيهِ وَسلّمْ
وكفى صِدقًا شهادةُ الأعداء بصدقهِ صلى اللهُ عليه وسلم ..
فها هو النضرُ بن الحارث
وهو من هو في إيذاء الرسول الكريم يقول ..
لما قام خطيبًا في قريش ..
{ "يا معشر قريشٍ،
إنه والله قد نَزَلَ بكم أمرٌ ما أَتَيْتُم له بحيلة بَعْدُ، قد كان محمدٌ فيكم غلامًا حدثًا[1]،
أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثًا، وأعظمكم أمانةً، حتى إذا رأيتم في صُدْغَيْهِ الشيب وجاءكم بما جاءكم
به، قلتم: ساحر. لا والله ما هو بساحر؛ لقد رأينا السَّحَرَة ونَفْثَهُم وعقدهم، وقلتم: كاهن. لا والله ما هو
بكاهن؛ قد رأينا الكهنة وتَخَالجُهم، وسمعنا سجعهم، وقلتم: شاعر. لا والله ما هو بشاعر؛ قد رأينا
الشعر، وسمعنا أصنافه كلها؛ هزجه ورجزه، وقلتم: مجنون. لا والله ما هو بمجنون... فانظروا في
شأنكم فإنه والله لقد نزل بكم أمرٌ عظيمٌ" }[2].
وكفى صِدقًا بصدقهُ ..
شهادةُ الكارهينَ ..
أنطقَ اللهُ لسانُهم ..
بالحقِ المُبينَ ..
أنصفوهُ وأعّلوُا شَأنهُ ..
ومازالوا على البغضاءِ قائِمينَ ..
صلى اللهُ عليهِ وَ سَلَم ْ ..
وفوقَ كُلَ هذا شهادةُ اللهَ تعالى للرسول بالصدق ..
قال تعالى
{ وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } [الزمر: 33]
والذي جاء بالصدق هو نبينا محمد ، والذي شهد لما جاء به هو الله في قرآنه المنزَّل من فوق سبع سماوات،
ويقول ابن عاشور معلقًا في التحرير والتنوير على هذه الآية:
"الذي جاء بالصدق هو محمد رسول الله ، والصدق هو القرآن"[3].
وكان صلى اللهُ عليه وسلم يتحرى الصدق في كُلِ أمورهُ ..
في جدهِ وهزلهْ ..
ولا يعرف للكذبِ والإختلاقِ طريقًا ..
.. صور من الصدق في حياة الرسول ..
1 - الصدق في المُزاح والضحك ..
رأيناه صلى اللهُ عليهِ وسلم يمزح مع تلك المرأة العجوز التي جاءت تقول له
: ادع الله أن يدخلني الجنة، فقال لها:
"يا أم فلان، إن الجنة لا يدخلها عجوز"
! فبكت المرأة حيث أخذت الكلام علي ظاهره، فأفهمها: أنها حين تدخل الجنة لن تدخلها عجوزًا، بل شابة حسناء.
وتلا عليها قول الله تعالي في نساء الجنة: (إنا أنشأناهن إنشاء. فجعلناهن أبكارًا. عربًا أترابًا).
(الواقعة: 35-37)
( والحديث أخرجه الترمذي في "الشمائل"، وعبد بن حميد، وابن المنذر، والبيهقي،وغيرهم، وحسنه الألباني في "غاية المرام")
وجاء رجل يسأله أن يحمله علي بعير، فقال له عليه الصلاة والسلام: "لا أحملك إلا علي ولد الناقة" !
فقال: يا رسول الله، وماذا أصنع بولد الناقة ؟ !
-انصرف ذهنه إلي الحوار الصغير
- فقال: "وَهَلْ تَلِدُ الإِبِلَ إِلاَّ النُّوقُ؟" ؟
(رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح وأخرجه أبو داود أيضًا).
2- صدق الرسول صلى اللهُ عليهِ وسلم في الحرب ..
وكذلك كان حال رسول اللهفي وقت الحرب،
الذي أجاز فيها النبيالكذب على الأعداء اتِّقاء لشرِّهم ودفعًا لضررهم[4]،
ولكن رسول اللهلم يقل أيضًا إلاَّ صدقًا،
ولننظر إلى موقفه قُبيل غزوة بدر، التي خرجت فيها قريش لتستأصل المسلمين، فخرج رسول اللهومعه أبو بكر الصديق رضي اللهُ عنه ليتعرَّفَا أخبار قريش فوقفا على شيخٍ من العرب،
فسأله رسول الله عن قريشٍ، وعن محمدٍ وأصحابه، وما بلغه عنهم،
فقال الشيخ: لا أخبركما حتى تخبراني ممن أنتما؟
فقال رسول الله: "إذَا أَخْبَرْتنَا أَخْبَرْنَاكَ".
قال: أذاك بذاك؟ قال: "نَعَمْ".
قال الشيخ : فإنه بلغني أن محمدًا وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدق الذي أخبرني،
فهم اليوم بمكان كذا وكذا -للمكان الذي به رسول الله
- وبلغني أن قريشًا خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان الذي أخبرني صدقني فهم اليوم بمكان كذا وكذا.
للمكان الذي فيه قريشٌ. فلمَّا فرغ من خبره قال: ممن أنتما؟
فقال رسول الله: "نَحْنُ مِنْ مَاءٍ". ثم انصرف عنه، قال يقول الشيخ: ما من ماءٍ؛
وها هو الرسول الكريم يقول لوفد هوازن ويعلمهم الصدق في أولِ يومٍ لهم في الإسلام
{ أَحَبُّ الْحَدِيثِ إِلَيَّ أَصْدَقُهُ } -[ 6]-
*******
و نرى شهادةَ أحدِ المنصفين في رسول العالمين
فيقول كاريل في كتابهِ الأبطال
"... هل رأيتم قط أن رجلاً كاذبًا يستطيع أن يوجد دِينًا عجبًا؟ إنه لا يقدر أن يبني بيتًا من الطوب!
فهو إذا لم يكن عليمًا بخصائص الجير والجصِّ والتراب وما شاكل ذلك، فما ذلك الذي يبنيه ببيت؛
وإنما هو تلٌّ من الأنقاض وكثيب من أخلاط الموادِّ، وليس جديرًا أن يبقى على دعائمه اثني عشر قرنًا
يسكنه مائتا مليون من الأنفس [7]،
هذا التعداد كان أثناء إعداد كاريل لكتابه
ولكنه جدير أن تنهار أركانه فينهدم فكأنه لم يكن، وإني لأعلم أن على المرء أن يسير في جميع أموره طبق قوانين الطبيعة وإلا أبت أن تجيب طلبته. كذبٌ ما يذيعه أولئك الكفار، وإن زخرفوه حتى تخيَّلُوه حقًّا... ومحنةٌ أن ينخدع الناسُ شعوبًا وأممًا بهذه الأضاليل..." [8].
********
فإن نسبنا للرسولِ صِدقًا ..
أعلينا للصدقِ شأنهُ ..
صلى اللهُ عليهِ وسلم ..
المراجع
[1] غلامًا حدثًا: أي فَتِيُّ السِّنِّ، ورجلٌ حَدَثٌ أَي شابٌّ. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة حدث 2/131.
[2] ابن هشام: السيرة النبوية 1/299، 300، والسهيلي: الروض الأنف 3/68، وابن سيد الناس: عيون الأثر 2/427.
[3] ابن عاشور: التحرير والتنوير 24/86.
[4] مسلم عن عبد الله بن مسعود: كتاب البر والصلة والآداب، باب قبح الكذب وحسن الصدق وفضله (2607)، وأبو داود (4989)، والترمذي (1971)، وابن ماجه (3849).
[5] أحمد بن حنبل عن عبادة بن الصامت: باقي مسند الأنصار، حديث عبادة بن الصامت t (22809)، وقال شعيب الأرناءوط: حسن لغيره وهذا إسناد رجاله ثقات. وابن حبان (271)، والحاكم (8066)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال الألباني: حسن. انظر: صحيح الجامع (1018).
[6] الترمذي: كتاب صفة القيامة (2518)، وقال: هذا حديث حسن صحيح. وأحمد (1723)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح. وأبو يعلى (6762)، والحاكم (7046)، وقال الألباني: صحيح. انظر صحيح الجامع (3378).
[7] أبو داود: كتاب الأدب، باب ما جاء في المزاح (4998)، وأحمد (13844)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين... وأبو يعلى (3776)، وقال حسين سليم أسد: رجاله رجال الصحيح.
[8] ما يباح من الكذب، انظر: النووي: رياض الصالحين ص565، 566.
ابن كثير: السيرة النبوية 2/396، وابن هشام: السيرة النبوية 1/615، والسهيلي: الروض الأنف 5/73، وابن سيد الناس: عيون الأثر 1/329.
للمراجعة العامة
قصة الإسلام
د/ راغب السرجاني