وأيضاً فإن معنى الفارقليط إن كان هو الحامد أو الحماد أو المحمود أو الحمد، فهذا الوصف ظاهر في محمد-صلى الله عليه وسلم-، فإنه وأمته الحمادون الذين يحمدون الله على كل حال، وهو صاحب لواء الحمد، والحمد مفتاح خطبته ومفتاح صلاته، ولما كان حماداً سمى بمثل وصفه فهو محمد على وزن: مكرم ومعظم ومقدس، وهو الذي يحمد أكثر مما يحمد غيره ويستحق ذلك، فلما كان حماداً لله كان محمداً، وفي شعر حسان :-
أغــر عليه للنبـوةخـاتم من الله ميمون يلوح ويشهــد
وضمالإله إسم النبي إلى إسمه إذا قال في الخمس المؤذن أشهد
وشـق له من إسمـه ليجـله فذو العرشمحمود وهذا محمـد
وأما أحمد فهو أفعل التفضيل، أي هو أحمد من غيره أي أحق بأن يكون محموداً أكثر من غيره، يقال: هذا أحمد من هذا، أي هذا أحق بأن يحمده من هذا، فيكون تفضيل على غيره في كونه محموداً.
فلفظ محمد يقتضي زيادة في الكمية، ولفظ أحمد يقتضي زيادة في الكيفية.
ومن الناس من يقول: معناه أنه أكثر حمداً لله من غيره وعلى هذا فيكون بمعنى الحامد والحماد، وعلى الأول بمعنى المحمود.
وأن كان الفارقليط بمعنى الحمد فهو تسمية بالمصدر مبالغة في كثرة الحمد، كما يقال: رجل عدل ورضى ونظائر ذلك، وبهذا يظهر سر ما أخبر به القرآن عن المسيح من قوله: (ومبشراً برسول يأتي من بعدي إسمه أحمد) فإن هذا هو معنى الفارقليط كما تقدم
وقالت طائفة أخرى: بل هي صريح إسم (محمد)، قالوا ويدل عليه أن ألفاظ العبرانية قريبة من ألفاظ العربية فهي أقرب اللغات إلى العربية، فإنهم يقولون لإسماعيل شماعيل وسمعتك شمعتين، وإياه أوثو، وقدسك قد شيخا، وأنت أنا وإسرائيل، فتأمل قوله في التوراة قدس لي خل بخور خل ريخم بني سرائيل باذام ويبيمالي، معناه: قدس لي كل بكر كل أول مولود رحم في بني إسرائيل من إنسان إلى بهيمة لي .
وتأمل قوله: نابي أقيم لاهيم تقارب أخيهم كانوا أخا ايلاؤه شماعون فإن معناه: نبياً أقيم لهم من وسط إخوتهم مثلك به يؤمنون وكذلك قوله: أنتم عابر تم بعيولي اجيخيم بنوا عيصاه ، معناه : أنتم عابرون في تخم اخوتكم بني العيص.
ونظائر ذلك أكثر من أن تذكر ، فإذا أخذت لفظة بماد ماد وجدتها أقرب شئ إلى لفظة محمد ، وإذا أردت تحقيق ذلك فطابق بين ألفاظ العبرية ، وكذلك يقولون : اصبوع أو لوهم هوم ، أي أصبع الله كتب له بها التوراة، ويدل على ذلك أداة الباء في قوله : بماد ماد ، ولا يقال أعظمه بجداً جداً بخلاف أعظمه بمحمد .
وكذلك فإن عظم به وازداد شرفاً إلى شرفه ، بل تعظيمه ، بمحمد ابنه صلى الله عليه وسلم فوق تعظيم كل والد بولده العظيم القدر ، فالله سبحانه كبره بمحمد صلى الله عليه وسلم.
وعلى التقديرين فالنص من أظهر البشارات به ، أما على هذا التفسير فظاهر جداً ، وأما على التفسير الأول فإنما كبر اسماعيل وعظم على اسحاق جداً جداً بابنه محمد صلى الله عليه وسلم .
فإذا طابقت بين معنى الفار قليط ومعنى بمود مود - التي تكتب بماد ماد - معنى محمد ، وأحمد ونظرت إلى خصال الحمد التي فيه تسمية أمته بالحمادين وافتتاح كتابه بالحمد وافتتاح الصلاة بالحمد ، وكثرة خصال الحمد التي فيه وفي أمته وفي دينه وفي كتابه ، وعرفت ما خلص به العالم من أنواع الشرك والكفر والخطايا والبدع ، والقول على الله بلا علم ، وما أعز الله به الحق وأهله ، وقمع به الباطل وحزبه ، تيقنت أنه الفار قليط بالاعتبارات كلها.
فمن هذا الذي هو روح الحق الذي لا يتكلم إلا بما يوحى إليه ؟! ومن هو العاقب للمسيح ، والشاهد لما جاء به والمصدق له بمجيئه ؟! ومن ذا الذي أخبرنا بالحوادث في الأزمنة المستقبلة كخروج وظهور الدابة ، وطلوع الشمس من مغربها ، وخروج يأجوج ومأجوج ونزول المسيح بن مرييم ، وظهور النار التي تحشر الناس وأضعاف أضعاف ذلك من الغيوب التي قبل يوم القيامة ، والغيوب الواقعة من الصراط والميزان والحساب وأخذ الكتب بالأيمان والشائل ، وتفاصيل ما في الجنة والنار ما لم يذكر في التوراة و الإنجيل غير محمد صلى الله عليه وسلم؟!.