ثانيا أراء الفقهاء حول الحديث :
ذكر ابن القيم رحمه الله : "وقد أجرى الله العادة بأن التوالد لا يكون إلا بين أصلين يتولد من بينهما ثالث ومني الرجل وحده لا يتولد منه الولد ما لم يمازجه مادة أخرى من الأنثى وقد اعترف أرباب القول الآخر بذلك وقالوا لابد من وجود مادة بيضاء لزجة للمرأة تصير مادة لبدن الجنين ولكن نازعوا هل فيها قوة عاقدة كما في مني الرجل أم لا وقد أدخل النبي :sallah: هذه المسألة في الحديث الذى رواه مسلم في صحيحه من حديث ثوبان مولاه حيث سأله اليهود عن الولد فقال "ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل مني المرأة أذكر بإذن الله وإذا علا مني المرأة مني الرجل أنث بإذن الله" نعم لمني الرجل خاصة الغلظ والبياض والخروج بدفق ودفع فإن أراد من مني المرأة انتفاء ذلك عنها أصاب ومني المرأة خاصته الرقة والصفرة والسيلان بغير دفع فإن نفي ذلك عنها أخطأ وفي كل من الماءين قوة فإذا انضم أحدهما إلى الآخر اكتسبا قوة ثالثة وهي من أسباب تكوين الجنين.
و قال أيضا رحمه الله : والسبب الموجب مشيئة الله فقد يسبب بضد السبب وقد يرتب عليه ضد مقتضاه ولا يكون في ذلك مخالفة لحكمته كما لا يكون تعجيزا لقدرته وقد أشار في الحديث إلى هذا بقوله "أذكر وأنثى بإذن الله"وقد قال تعالى{لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)} [الشورى : 49 - 50]
فأخبر سبحانه أن ذلك عائد إلى مشيئته وأنه قد يهب الذكور فقط والإناث فقط وقد يجمع للوالدين بين النوعين معا وقد يخليهما عنهما معا وأن ذلك كما هو راجع إلى مشيئته فهو متعلق بعلمه وقدرته"(6) وقال ابن حجر رحمه الله : " والذى يظهر ما قلته وهو تأويل العلو فى حديث عائشة وأما حديث ثوبان فيبقى العلو فيه على ظاهره فيكون السبق علامة التذكير والتأنيث والعلو علامة الشبه فيرتفع الإشكال، وكأن المراد بالعلو الذي يكون سبب الشبه بحسب الكثرة بحيث يصير الآخر مغمورا فيه فبذلك يحصل الشبه، وينقسم ذلك ستة أقسام:
الأول أن يسبق ماء الرجل ويكون أكثر فيحصل له الذكورة والشبه، والثاني عكسه، والثالث أن يسبق ماء الرجل ويكون ماء المرأة أكثر فتحصل الذكورة والشبه للمرأة، والرابع عكسه، والخامس أن يسبق ماء الرجل ويستويان فيذكر ولا يختص بشبه، والسادس عكسه" (٧) ، وقال النووي رحمه الله : "عند قول "النبي صلى الله عليه وسلم" " إن ماء الرجل غليظ أبيض وماء المرأة رقيق أصفر " : هذا أصل عظيم في بيان صفة المني وهذه صفته في حال السلامة وفي الغالب ، قال العلماء : مني الرجل في حال الصحة أبيض ثخين يتدفق في خروجه دفقه بعد دفقه ويخرج بشهوة و يتلذذ بخروجه وإذا خرج استعقب خروجه فتور ورائحة كرائحة طْلع النخل ورائحة الطلع قريبة من رائحة العجين ، .. ( وقد يتغير لون المني بأسباب منها ) .. أن يمرض فيصير منيه رقيقا أصفر أو يسترخي وعاء المني فيسيل من غير التذاذ وشهوة أو يستكثر من الجماع فيحمر ويصير كماء اللحم وربما يخرج دما عبيطا ، ثم إن خواص المني التي عليها الاعتماد في كونه منيا ثلاث : أحدها الخروج بشهوة مع الفتور عقِبه . والثانية : الرائحة التي شبه رائحة الطَّلع كما سبق . الثالث : الخروج بدْفق ودْفعات ، وكل واحدة من هذه الثلاث كافية في إثبات كونه منيا ولا يشترط اجتماعها فيه ، وإذا لم يوجد شيء منها لم يحكم بكونه منيا وغلب على الظن كونه ليس منيا هذا كله في مني الرجل ، وأما مني المرأة فهو أصفر رقيق وقد يبييض لَفضل ُقوتها ، وله خاصيتان يعرف بواحدة منهما أحدهما أن رائحته كرائحة مني الرجل والثانية التلذذ بخروجه وفتور قوتها عقب خروجه . وقال أيضا رحمه الله : " العلو والسبق بمعني واحد فتكون اللفظتان معناهما واحد ، قال العلماء : يجوز أن يكون المراد بالعلو هنا السبق، ويجوز أن يكون المراد الكثرة والقوة أي بحسب كثرة الشهوة فإن كانت للرجل أذكر "بإذن الله" وإن كانت المرأة أكثر شهوة أنث "بإذن الله" ( ٨) ، وقال القرطبي رحمه الله : " ...والذي يتعين تأويله الذي في حديث ثوبان ، فيقال : إن العلو معناه سبق الماء إلى الرحم، ووجهه: أن العلو معناه الغلبة ، ويؤيد هذا التأويل قوله في الحديث: " إذا سبق ماء الرجل ماء المرأة أذكرا، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل أنثا "( ٩) ، كما ذكر الزرقاني مثل ذلك : " إن العلو الوارد في الأحاديث معناه سبق الماء إلى الرحم، ووجهه: أن العلو لما كان معناه الغلبة والسابق غالب في ابتدائه في الخروج قيل غلبه وعلاه، ويؤيده أنه ورد في رواية مسلم " إذا سبق ماء الرجل ماء المرأة أذكرا، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل أنثا "( ١٠)
=*=*=*=*=*=*=
٦. ابن القيم ، أبو عبد الله محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي ، التبيان في أقسام القرآن .
٧. ابن حجر ، أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني ، فتح الباري .
٨. النووي ، محيي الدين أبو زكريا يحيي بن شرف بن موري بن حسن بن حزم ، شرح النووي علي صحيح مسلم .
٩. القرطبي ، أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري ، الجامع لأحكام القرآن.
١٠ . الزرقاني ، محمد بن عبد الباقى بن يوسف ، شرح الزرقاني علي موطأ مالك ، دار الكتب العلمية، بيروت .
يتبع ...