ب - دلالة الآيات الكونية :
إن في خلق السماوات والأرض ، وما بث فيهما من دابة لآيات بينات على وجود الله عز وجل تحرق كل شبهة ، وتخرس كل كفور ، وترغم كل مكابر ومعاند لما تتضمنه من الشهادة لله بالربوبية والألوهيـة على الخلق أجمعين ، فهي بعددها أدلة على ثبوت خالقها جل وعلا .
وإن المتأمل في هذا الكون بما فيه ومن فيه يجد فيه أربعة أدلة رئيسية تهديه إلى الإيمان بالله ، وهي أدلة الخلق ، والتسوية ، والتقدير ، والهداية ، وقد أشارت إليهـا مجتمعة سورة الأعلى في قول الله عـز جـل ( سبح اسم ربك الأعلى ، الذي خلق فسوى ، والذي قدر فهدى ) ( الأعلى : 1-3 ) ، وأشارت إلى بعضها آيات كثيرة في أماكن شتى من القرآن الكريم كقوله تعالى على لسان كليمه موسى وهو في مقـام التعريف بربه : ( ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ) ( طه : 50 ) وقوله تعـالى على لسان خليـله إبرهيم : ( الذي خلقني فهو يهدين ) ( الشعراء : 78 ) ، وسوف تناول كل دليل من هذه الأدلة بكلمة مناسبة فيمـا يلي :
دليل الخلق :
دليل الخلق من أبين الأدلة وأظهرها على وجود الرب جل وعلا ، وقد صاغه القرآن الكـريم أوجز صياغتة وأبلغها في قوله تعالى : ( أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون ) ( الطور : 35-36 ) .
وقد روى البخاري في صحيحه عن محمد بن جبير عن مطعم عن أبيه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قام يقرأ في المغرب بالطور فلما بلغ هذه الآية ( أم خُلقوا من غير شيء أم هم الخالقون ) كـاد قلبي أن يطير ، وإنما كان انزعاجه عند سماع هذه الآية كما يقول الخطابي لحسن تلقيه معنى الآية ، ومعرفته بما تضمنته من بليغ الحجة فاستدركها بلطيف طبعه ، واستشف معناها بزكي فهمه !
والخطاب القرآني في هاتين الآيتين يواجه الملحدين والمنكرين بهذه الحجة التي لا تملك العقول لها دفعاً ، يقول لهم إنكم لا تمارون في حقيقة خلقكم ولا في حقيقة خلق السماوات والأرض ، كما لا تُمارون في أن المخلوق لا بد له من سبب لوجوده . وإذا تقرر ذلك فلا مناص لكم من الإقرار بوجود الخالق جل في عُلاه .
ولقد صاغ لهم هذه الحجة في الأسئلة الإنكارية : هل خُلقوا من غير شيء فوجدوا بلا خالق ؟ وذلك في الفساد ظاهر ، لأن تعلق الخلق بالخالق من ضرورة الأمر فلا بد له من خالق ، فإذا أنكروا الإله الخالق ، ولم يجز أن يوجدوا بغير خالق أفهم الخالقون لأنفسهم ؟ وذلك في الفساد أظهر ، لأن ما لا وجود له كيف يخلق ؟ وكيف يجوز أن يكون موصوفاً بالقدرة ؟ وإذا بطل الوجهان معاً قامت الحجة عليهم بأن لهم خالقاً فليؤمنوا به .
ولقد أدرك هذه الحقيقة البدوي البسيط الذي عاش يرعى إبله في مجاهل الصحراء فكان يقول : البعرة تدل على البعير ، والأثر يدل على المسير ، سماء ذات أبراج ، وأرض ذات فجاج ؟! ألا تدل أنهـا صنعت بتدبير العزيز العليم ؟! كما أقر بها قادة العلوم التجريبية وأساطينها في واقعنا المعاصر ، وعبروا عنها بقانون السببية ، وخلاصته أنه ليس لشيء من المُمكنات أن يحدث بنفسه من غير شيء ولا أن يستقـل بإحداث شيء ، لأنه لا يستطيع أن يمنح غيره شيئاً لا يملكه .
ولم يزل علماء المسلمين يواجهون عُتاة المُلحدين بهذا الدليل البدهي فيُبهتون ويذعنون ، فلقد رُوي أن أبا حنـيفة رحمه الله عرض له بعض الزنادقة المنكرين للخالق فقال لهم : ما تقولون في رجل يقول لكـم : رأيت سفينة مشحونة بالأحمال ، مملوءة من الأثقال ، قد احتوشتهـا في لجة البحر أمواج متلاطمة ورياح مختلفة ، وهي من بينها تجري مستوية ، ليس لها ملاّح يُجريها ولا مُتعهد يدفعها ، هل يجوز في العقـل ؟! قالوا : هذا شيء لا يقبله العقل ! فقال أبو حنيفة : يا سبحان الله ! إذا لم يجز في العقل سفينة تجـري في البحر مستوية من غير متعهد ولا مُجر فكيف يجوز قيام هذه الدنيا على اختلاف أحوالها ، وتغير أعمالها ، وسعة أطرافها وتباين أكنافها من غير صانع ولا حافظ ؟! فبكوا جميعاً وقالوا : صدقت ، وتابوا .
وكلما اكتشف العلم جديداً من سنن الخلق كلما قاد هذا العلم المنصفين من رواده إلى الإقرار بوجود الله ، وقد يسوق كثيراً منهم إلى الانخلاع من الكفر والإجابة إلى الإيمان .
ولقد دعا القرآن الكـريم إلى السير في الأرض والتدبر في الخلق ليستيقن الله المرتابون ، ويزداد الذين آمنوا إيماناً ، فقال تعـالى : ( قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخَلق ثمّ الله يُنشئ النشأة الآخـرة ) ( العنكبوت : 30 ) ، وقال تعـالى : ( وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسِكُم أفلا تُبصرون ) ( الذاريات : 21 ) .
ولقد وعد الله عز وجل أن يري الناس من آياته في الآفاق وفي أنفسهم ما تقوم به عليهم الحجة ، وما يتبينون معه أن هذا الدين حق ، فقال تعالى : ( سنُرِيهم آياتِنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يَكف بربك أنه على كل شيء شهد ) ( فصلت : 53 ) .
وحسبنا في هذه الدراسة أن نلقي الضوء على آية أو أكثر من هذه الآيات المبـثوثة في الأنفـس وفي الآفاق ، ثم نُحيل فيما وراء ذلك إلى كتاب الكون المفتوح والذي يتضمن من الأدلة على وجود الله بعدد مما فيه من مخلوقات الله ..