بسم الله الرحمن الرحيم
نواصل على بركة الله تعالى
الدافع الثالث
( تجاوب القرآن مع الفطرة السليمة والعقل الراشد )
ولقد كان من بين الدوافع التى دفعت بالمسلمين أن يضحوا بكل غال ونفيس من أجل حفظ وصيانة القرآن على النحو المذكور آنفا : تجاوب القرآن مع الفطرة السليمة والعقل الراشد ، إذ الفطرة السليمة والعقل الراشد يدعوان المرء إلى إشباع كل غرائزه الطينية من التملك ، والأكل والشرب ، والجنس، ونحوها ، ولكن بضوابط تعطى الآخرين حقهم في إشباع هذه الغرائز ، والقرآن لم يخالف ولم يجاف إشباع هذه الغرائز بضوابطها المعروفة ، قال تعالى { وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ }[ الأعراف : 31 ] . { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ {87} وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ } [ المائدة : 87 – 88 ] .

وفي المرء حب للعزلة والتفرد ، وميل إلى حب الجماعة ومعايشتها والأنس بها ، والقرآن لم يمنع الانخراط في الجماعة ، والانتفاع بها ، ولكنه أكد على المسئولية الشخصية أو الفردية ، قال تعالى : { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } [ المائدة : 2 ] ، { وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ } [ آل عمران : 103 ] { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}
[ المدثر : 38 ] . { لاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى }[ فاطر : 18 ] .
وفي المرء خوف ورجاء : والقرآن لم يعارض ذلك ولم يدع إلى إشباع واحد على حساب الآخر ، بل دعا إلى إعمالهما جميعا ، كل في مجاله وفي وقته . قال تعالى : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ } [ الرعد : 6 ] ،{ غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ } [ غافر : 3 ] . { مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ } [ فصلت : 43 ] .
وهكذا يتجاوب القرآن مع الفطرة السليمة والعقل الراشد ، كما قال إبراهيم عليه السلام { الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ }[ الشعراء : 78 ] { إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ } [ الزخرف : 27 ] .
يقول المرحوم سيد قطب تعليقا على آية الشعراء : ( الذي أنشأني من حيث يعلم ، ولا أعلم ، فهو أعلم بماهيتي وتكويني ووظائفي ومشاعري وحالي ومآلي ، فهو يهدين إليه ، وإلى طريقي الذى أسلكه وإلى نهجي الذى أسير عليه ، وكأنما يحس إبراهيم – عليه السلام – أنه عجينة طيعة في يد الصانع المبدع يصوغها كيف يشاء ، على صورة أراد ، إنه الاستسلام المطلق في طمأنينة وراحة ، وثقة ويقين ) (1) .
ويقول تعليقا على آية الزخرف : ( ويبدو من حديث إبراهيم – عليه السلام – وتبرئه مما يعبدون إلا الذي فطره أنهم لم يكونوا يكفرون ، ويجحدون الله أصلا ، إنما كانوا يشركون به ويعبدون معه سواه ، فتبرأ من كل ما يعبدون، واستثني الله ووصفه بصفته التي تستحق العبادة ابتداء وهو أنه فطره وأنشأه ، فهو الحقيق بالعبادة بحكم أنه الموجد ، وقرر يقينه بهداية ربه له ، بحكم أنه هو الذي فطره ، فقد فطره ليهديه وهو أعلم كيف يهديه ) (2) . ويقود هذا التجاوب أصحاب الفطر السليمة ، والعقول الراشدة إلى محبة هذا القرآن والعمل على حفظه وصيانته من عبث العابثين وكيد الكائدين .
(1) انظر : في ظلال القرآن 6/219 .
(2) انظر : في ظلال القرآن 7/326 .
يتبع باذن الله تعالى
