طبيعة الخلاف،وكون أصله ممدوحًا أو مذمومًا ، وما هي أسباب هذا الخلاف :
قال الله جل وعلا : " وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ " (هود : 118-119)
قال ابن كثير – رحمه الله - : " قال الحسن رحمه الله : الناس مختلفون على أديان شتى إلا من رحم ربك ، فمن رحم ربك غير مختلف . فقيل له لذلك خلقهم ؟ قال : خلق هؤلاء لجنته ، وخلق هؤلاء لناره ، وخلق هؤلاء لرحمته ، وخلق هؤلاء لعذابه . وكذا قال عطاء والأعمش . اهـ
إن الخلاف من ضرورات التعايش، فقد جعل الله البشر متفاوتين في الخِلقة والخُلُق والعقل وميز بعضهم على بعض، وهذا التنوع الذي جعلهم الله عليه مقتضٍ لئلا يتفقوا في بعض المسائل، وعدم اتفاقهم فيه إثراءٌ وفائدة للبشر وفائدة لأهل الأرض، فليس أصل الخلاف إلا ممكنًا في كل أمر نظرًا للتنوع ، ولذلك يقول الحكماء : " ما من أحدٍ إلا وهو راضٍ عن الله في عقلِهِ، وأقلهم عقلاً أرضاهم به "، فأقلُّ الناس عقلاً يظن أنه أعقل الناس، ومِن هنا مَن تفاوتت عقولهم بالإمكان أن تتفاوت اتجاهاتهم، وألا تتحدد رُآهم، وألا تتحد مواقفهم، فكل ذلك ممكن
أول عنصرٍ أبدأ به إذن لهذه الظاهرة التي عرفنا إمكان وجودها في البشر، ما جاء من النصوص بالتحذير من الفُرقة والخلاف، فأقول: إن الله سبحانه وتعالى قد حذر من الفُرقة والخِلاف في كثير من الآيات في القرآن، فقد قال سبحانه وتعالى : ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُون * وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ([ الأنفال : 45 ، 46]، وجعل الخلافة نوع من أنواع العذاب فقال: ) قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ( [ الأنعام:65 ] ، فجعل العذاب ثلاثة أقسام عذابًا منزلا من الأعلى، وعذابًا خارجًا من الأسفل، وعذابًا في الوسط وهو الخلاف، وجعله كذلك مظهرًا من مظاهر الشرك فقال: ) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ([الروم30 : 32] ، ومن هنا بيانيةٌ أن المشركين هم الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا، وجعله منافيًا للرحمة فقال : ) وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ( [ هود: 118 ، 119 ]، وبيّن براءة النبي من المختلفين فقال: ) إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ([ الأنعام : 159 ]، وحضَّ كذلك على اجتماع الكلمة وعلى التعاون فقال تعالى: ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ اللَّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ([ المائدة :2 ]، وقال تعالى: ) وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ([ آل عمران 103 : 105 ]، و قد حذر رسول الله –صلى الله عليه وسلم - من الفُرقة والخلاف وجعل ذلك عامل هدم في الأمم، فقد صح عنه أنه قال للناس في خطبته: « لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقابَ بعض » وقـال : « سباب المسلم فُسوق وقتاله كُفر » وحذّر من كل ما يؤدى إلى النزاع والخلاف ، دلت الآية على أن الاجتماع يكون على حبل الله المنزل من السماء إلى الأرض، وهذا هو الاجتماع المأمور به شرعًا .
وهذا يوضح لنا المنهج الصحيح فيما يكون عليه الاجتماع ، ليس كما يظن البعض أن نجتمع على أي شيء وأن أصل الأصول أن تجتمع القلوب ، فهذا وهم كبير أن تجتمع القلوب على غير حبل الله المتين وعلى غير البينات ، فلن يتحقق هذا الاجتماع الموهوم ، ولو فرضنا تحققه لكان غير مشروع ؛ لأن الله لم يأمرنا بأي اجتماع وإنما أمرنا باجتماع معين.
وقال تعالى : ]وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ[[ آل عمران 105 ]
دلت الآية على أنه ليس أي افتراق منهيًا عنه ، وإلا فأهل الإسلام يفارقون أهل الكتاب وأهل الملل الباطلة ؛ فهل هذا الافتراق مذموم ؟ . هم المذمومون عليه ؛ ذلك أنهم خالفوا البينات .
وقال النبي – صلى الله عليه وسلم - ناهيًا عن الاختلاف : " إنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم " رواه مسلم
وقال – صلى الله عليه وسلم - : " لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم " ( صحيح الجامع : 5070) ، ورواه مسلم بلفظ : " بين وجوهكم ". وفي هذا الحديث دليل صريح على أن الاختلاف في الظاهر يؤدي إلى الاختلاف في الباطن .
وكذلك من أوضح الأدلة على ذلك ما رواه أبو داود عن أبي ثعلبة الخشني قال : كان الناس إذا نزلوا منزلا تفرقوا في الشعاب والأودية ، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : " إن تفرقكم في هذه الشعاب والأودية إنما ذلكم من الشيطان " فلم ينزلوا بعد ذلك منزلاً إلا انضمّ بعضهم إلى بعض حتى يقال لو بسط عليهم ثوب لعمهم . (صحيح الترغيب : 3127)
توقيع أبو السائب أكرم المصري |
|