2- ليس جزءا من تيار , بل التيار الجديد جزء منه :
الامر المعجز الثانى فى شخصية محمد صلى الله عليه و اله و سلم انه لم يكن جزءا من تيار , فاى تغيير اجتماعى شامل إذا كان وليد الظروف والمؤثّرات المحسوسة فلا يمكن أن يكون مرتجلا ومفاجئاً ومنقطع الصلة عن مراحل تمهّد له، وعن تيار يسبقه ويظلّ ينمو ويمتدّ فكرياً وروحياً حتى تنضج في داخله القيادة الكفوءة لتزعّمه، وللعمل من أجل تطوير المجتمع على أساسه.
وخلافاً لذلك نجد أنّ ابا الزهراء في تاريخ الرسالة الجديدة لم يكن حلقةً من سلسلة، ولم يكن يمثّل جزءً من تيار
و الحنفاء الذين وجدوا قبله كانوا افرادا معدودين مشتتين
و لم يكونوا يمثلون تيارا اصلا
اى لم يكونوا يمثلون تيارا حركيا و فكريا منظما كالذى جرت العادة فى التغيير الاجتماعى على تحققه
فقد كانوا مجرد افراد معدودين مشتتين
و لم يكن عندهم الا موقف سلبى من العقيدة الوثنية دون ان يكون لديهم اى بديل فكرى ناضج فكانوا يتوقون الى ديانة اكثر منطقا الا انه لم يكن لديهم تصور عن كنهها و كان من بينهم زيد بن عمرو بن نفيل الذى تميز كما روى باستقلاله الفذ و كان يقر بشجاعة بجهله بالطريقة التى يمكنه بها عبادة الخالق
و هذا على فرض صحة ما نسب اليهم من اشعار و خطب و الا فما اثبته المحققون من وقوع الوضع فى حالة مهمة كحالة امية بن ابى الصلت يجعل الباحث يشك فى صحة اغلب ما نسب اليهم
و ليقارن الباحث بين شخصية محمد و بين هؤلاء الحنفاء ليرى الفرق الهائل بينه ةو بينهم فى الانتاج و الانجاز و التاثير مع انهم من بيئة واحدة
فالذين يقارنون بين محمد و بين الحنفاء يغالطون مغالطة واضحة فلا يوجد اى مقارنة و الفرق هائل بين محمد و بينهم و هذا واضح لمن تامل تاثير و انتاج هؤلاء الحنفاء و تامل انتاج و تاثير محمد صلى الله عليه و اله و سلم
وأمّا التيار الذي تكوّن من صفوة المسلمين الأوائل على يد النبي فقد كان من صنع الرسالة والقائد، ولم يكن هو المناخ المسبق الذي ولدت فيه الرسالة وتكوّن القائد.
اى كان التيار الجديد مجرد جزء من محمد و لولاه لما وجد هذا التيار ,و هذه ظاهرة خارقة للعادة تماما فى عمليات التغيير الاجتماعى , فلا يوجد اى عملية تغيير اجتماعى تشبه هذا الذى حققه محمد صلى الله عليه و اله و سلم و ليس خرق العادة الا هذا .
و كما يقول الشهيد محمد باقر الصدر :"ومن أجل ذلك نجد أنّ الفارق بين عطاء النبى وعطاء أيّ واحد من هؤلاء لم يكن فارق درجة كالفوارق التي تبدو بين بذرة واُخرى من البذور التي تكوّن التيار الجديد، بل كان فارقاً أساسياً لا حدّ له
وهذا يبرهن على أنّ محمدا: لم يكن جزءً من تيار، بل كان التيّار الجديد جزءً منه."
اضف الى تامل ما سبق تامل ما اجتمع فى شخصية محمد من كمالات لا تجتمع فى انسان فضلا ان يكون هذا الانسان ابن بيئة وثنية جاهلة متخلفة كالبيئة المكية
يقول الاستاذ عباس العقاد فى كتابه القيم " عبقرية محمد ":
"كان محمد مستكملا للصفات التى لا غنى عنها فى انجاح كل رسالة عظيمة من رسالات التاريخ
كانت له فصاحة اللسان و اللغة
و كانت له القدرة على تاليف القلوب و جمع الثقة
و كانت له قوة الايمان بدعوته و غيرته البالغة على نجاحها
و هذه صفات للرسول غير احوال الرسول , و لكنها هى التى عليها المدار فى تبليغ الرسالة "
و هذه اضواء على القمم التى بلغها محمد صلى الله عليه و اله و سلم
القمة فى الفصاحة :
لا يشك من تامل ما روى عن محمد صلى الله عليه و اله و سلم انه بلغ القمة فى الفصاحة , و الروايات تفيد تواترا معنويا بذلك بلا شك , و لا يتسع المقام لبيان ذلك لكن نحيل الباحث على كتب الحديث ليتاملها ان كان لديه ريب فى ذلك و سيجد اى منصف ان محمدا بلغ بالفعل قمة الفصاحة و ان ما يقال عن انه اوتى جوامع الكلم ليس مجرد كلام انشائى يمدحه المسلمون به بل هى حقيقة مؤكدة تفيدها مجموع الروايات المتواترة عنه
و من الكتب المفيدة فى ذلك " المجازات النبوية " للشريف الرضى رحمه الله .
القمة فى القيادة العسكرية :
المتواتر عن الرسول صلى الله عليه و اله و سلم انه كان من اعظم القادة العسكريين ,و لن تجد فى زمانه و بيئته مثله فى ذلك
و هو ما اقر به خصومه
يقول القس يوسف درة الحداد و هو من اعتى خصوم الاسلام :
"كان محمد عبقرية عسكرية و من اعظم قواد العالم العسكريين فى التصميم و التنفيذ ..
و هو يقود الغزوات و الحملات بذاته يعرف كيف يهيىء الحملة و كيف يقودها و كيف يعود منها غالبا و كيف ينقلب مغلوبا , و التصرف فى حال الهزيمة ابرع من نشوة الظفر , يتوسع بالجهاد كلما ازداد قوة , و لا يعلن عن اهدافه الا متى حان وقتها . يعرف كيف يستشير و كيف ياخذ براى صائب , و كيف يفرض رايه فى الظرف الحاسم و لو خالف راى زعماء الصحابة كما حدث فى اسرى بدر و صلح الحديبية و غزو تبوك
و يكون هو بذاته الاسوة الحسنة فى المعركة
فلولا موقفه البطولى فى هزيمة احد , و حصار المدينة لقضى على الاسلام , و لولا موقفه الجرىء فى معركة حنين لخسر فتح مكة و نصر الاسلام"
و يقول الاستاذ العقاد :" لم يكن النبى رجلا مقاتلا يطلب الحرب للحرب او يطلبها و له مندوحة عنها , و لكنه مع هذا كان نعم القائد البصير اذا وجبت الحرب و دعته اليها المصلحة اللازمة , يعلم من فنونها بالالهام ما لم يعلمه غيره بالدرس و المرانة , و يصيب فى اختيار وقته و تسيير جيشه و ترسيم خططه اصابة التوفيق و اصابة الحساب و اصابة الاستشارة , و قد كانت غزوة بدر هى التجربة الاولى للنبى عليه السلام فى ادارة المعارك , فلم يانف ان يستمع فيها الى مشورة الحباب بن المنذر حين اقترح عليه الانتقال الى غير المكان الذى نزل فيه , ثم وعى من تجربة واحدة ما قل ان يعيه القادة المنقطعون للحرب من تجارب شتى , فلو تتبع حروبه عليه السلام ناقد عسكرى من اساطين فن الحرب فى العصر الحديث ليقترح وراء خططه مقترحا او ينبه الى خطا , لاعياه التعديل "
ثم عقد الاستاذ العقاد مقارنة بين محمد صلى الله عليه و اله و سلم و بين نابليون , لانه كما يقول يبين لنا السبق فى خطط النبى العسكرية , بالمضاهاة بينها و بين خطط هذا القائد العظيم
1- فنابليون كان يوجه همه الاول الى القضاء على قوة العدو العسكرية باسرع ما يستطيع , فلم يكن يعنيه ضرب المدن و لا اقتحام المواقع , و انما كانت عنايته الكبرى منصرفة الى مبادرة الجيش الذى يعتمد عليه العدو بهجمة سريعة يفاجئه بها اكثر الاحيان ,و هو على يقين ان الفوز فى هذه الهجمة يغنيه عن المحاولات التى يلجا اليها جلة القواد
و عنده انه يستفيد بخطته تلك ثلاث امور : ان يختار الموقع الملائم , و ان يختار الفرصة , و ان يعاجل العدو قبل تمام استعداده
و كان النبى عليه السلام سابقا الى تلك الخطط فى جميع تفصيلاتها
فكان لا يبدا احدا بالعدوان , و لكنه اذا علم بعزم الاعداء على قتاله لم يمهلهم حتى يهاجموه جهد ما تواتيه الاحوال , بل ربما وصل اليه الخبر كما حدث فى غزوة تبوك و الناس مجدبون و القيظ ملتهب و الشدة بالغة , فلا يثنيه ذلك عن الخطة التى تعودها , و لا يكف عن التاهب السريع و عن حض المسلمين على جمع الاموال و جمع الرجال , و لا يبالى ما ارجف به المافقون الذين توقعوا الهزيمة للجيش المحمدى فلم يحدث ما توقعوه
و كان يعند الى القوة العسكرية حيث اصابها , فيقضى على عزائم اعدائه بالقضاء عليها , و لا يضيع الوقت فى انتظار ما يختاره اولئك الاعداء , و اضعاف انصاره بتركه زمام الحركة فى ايدى الهاجمين , الا ان يكون الهجوم وبالا على المقدمين عليه , كما حدث فى غزوة الخندق
2- و كان نابليون يقول ان نسبة القوة المعنوية الى الكثرة العددية كنسبة 3 الى 1
و النبى كان عظيم الاعتماد على القوة هذه القوة المعنوية التى هى فى الحقيقة قوة الايمان ,و ربما بلغت نسبة هذه القوة الى الكثرة العددية كنسبة 5 الى 1 فى بعض المعارك , مع رجحان الفئة الكثيرة فى السلاح و الركاب الى جانب رجحانهم فى عدد الجنود , و معجزة الايمان هنا اعظم جدا من اكبر مزية بلغها نابليون بفضل ما اودع نفوس رجاله من صبر و عزيمة
فالنبى كان يحارب عربا بعرب . و قرشيين بقرشيين , و قبائل من السلالة العربية بقبائل من صميم تلك السلالة , فلا يقال هنا ان الفضل لقوم على قوم فى المزايا الجسدية او المزايا النفسية كما يمكن ان يقال هذا فى جيوش نابليون , و كل فضل هنا فهو فضل العقيدة و الايمان
2- و قد كان نابليون مع اهتمامه بالقضاء على القوة العسكرية لا يغفل القضاء على القوة المالية و التجارية التى يتناولها اقتداره , فكان يحارب الانجليز بمنع تجارتهم و سفنهم ان تصل الى القارة الاوروبية , و تحويل المعاملات عن طريق انجلترا الى فرنسا
و هكذا كان النبى عليه السلام يحارب قريشا فى تجارتها , و يبعث السريا فى اثر القوافل كلما سمع بقافلة منها
و انكر بعض المتعصبين من كتاب اوروبا هذه السرايا و سموها قطاع طريق , و هى سنة المصادرة بعينها التى اقرها القانون الدولى و عمل بها قادة الجيوش فى جميع العصور ..
3- و قد اسلفنا ان نابليون كان يوجه همه الى الجيش و لا يقتحم المدن او يشغل باله بمحاصرتها لغير ضرورة عاجلة
و نرجع الى غزوات النبى عليه السلام فلا نرى انه حاصر محلة الا ان يكون الحصار هو الوسيلة الوحيدة العاجلة لمبادرة القوة التى عسى ان تخرج منها قبل استعدادها , او قبل نجاحها فى الغدر و الوقيعة , كما حدث فى حصار بنى قريظة و بنى قينقاع , فكان الحصار هنا كمبادرة الجيش بالهجوم فى الميدان المختار بغير كبير اختلاف
5- و كان نابليون معتدا برايه فى الفنون العسكرية و لا سيما الخطط الحربية , و لكنه كان مع هذا الاعتداد الشديد لا يستغنى عن مشاورة اصحابه فى مجلس الحرب الاعلى قبل ابتداء الزحف او قبل العزم على القتال
و محمد عليه السلام كان على رجاحة رايه يستشير صحبه فى خطط القتال و حيل الدفاع و يقبل مشورتهم احسن قبول , و من ذلك ما صنعه ببدر و المعنا اله انفا .. و قيل فى روايات كثيرة انه عمل بمشورة سلمان الفارسى فى حفر الخندق .. فحفر الخندق و عمل النبى بيديه الكريمتين فى حفره ..
و لكن المشاورة هنا هى المقصود بالمضاهاة بين ما سبق اليه النبى و ما نبغ فيه نابليون , فهذه خصلة معهودة فى كبار القواد لا تقدح فيما عرفوا به من قدرة على وضع الخطط و ابتكار الاساليب
6- و لم يعرف عن قائد حديث انه كان يعنى بالاستطلاع و الاستدلال عناية نابليون
و كانت فراسة النبى فى ذلك مضرب الامثال .. و كان صلوات الله عليه انما يعول فى استطلاع اخبار كل مكان على اهله و اقرب الناس الى العلم بفجاجه و دروبه , و يعقد ما يسمى اليوم مجلس الحرب قبل ان يبدا القتال فيسمع من كل فيما هو خبير به من فنون حرب او دلائل استطلاع ..
القمة فى السياسة:
لا يرتاب عاقل فى ان محمد صلى الله عليه و اله و سلم كان فى القمة فى مجال السياسة , كيف لا و هو الذى اسس امة من لا شىء ؟, و قد اقر بذلك خصومه , يقول القس الحداد :
"كان محمد عبقرية سياسية يعرف كيف يجمع المؤيدين و الانصار و يداور المنافقين و الاشرار و يعرف كيف يساوم و يقاوم و كيف يماطل و يقاتل و كيف ينكسر و ينتصر.., و تلك الهجرة البارعة الباهرة من عاصمة الشرك العربى و بلد الاضطهاد الى المدينة ليحتل منها و بها البلد الذى يحاول اغتياله .. و هكذا توج سياسته الدينية الفذة بحجة الوداع التى جمع بها العرب جميعا حول شخصه
و كان محمد عبقرية دبلوماسية , و قد تجلت بعهد الاخاء بين المهاجرين و الانصار , و عهد الموادعة بين المسلمين و اليهود , و عهد المودة بين المسلمين و المسيحيين , و برعت فى مهادنة المنافقين حتى النهاية , و فى المعاهدات و الاحلاف مع الاعراب بعد الغزوات الناجحة , و فى العفو العام عن بنى قومه و الد خصومه اهل مكة بعد الفتح , و فى تاليف قلوب زعماء مكة بعد فتحها بتوزيع غنائم اخصامهم قبائل هوازن عليهم ,و فازت فى تفكيك التضامن بين اليهود و الاحزاب فى حملة الخندق الحاسمة .. و تفضيل معاهدة عدم اعتداء مع قريش فى الحديبية على قتال غير مكفول و فتح غير مامون , و انتصرت فى تحقيق فتح سهل , بعد فشل طارىء كاجلاء بنى النضير بعد هزيمة احد ,و القضاء على قريظة بعد حصار المدينة المخيف يوم الخندق , و غزو خيبر و قرى الشمال اليهودية بعد صلح الحديبية الذى اعتبره عمر و جماعته مشينا , و الحملة الجبارة على مشارف الشام بعد حصار الطائف الفاشل , و توج دبلوماسيته الظافرة بمبايعة وفود العرب العامة"
و كما يقول الاستاذ العقاد : " تجلت عبقرية محمد فى سياسة الامور كما تجلت فى قيادة الجيوش"
القمة فى الادارة :
المتواتر عن محمد صلى الله عليه و اله و سلم انه كان فى القمة فى امور الادارة , و لن تجد فى زمانه و بيئته مثله
يقول القس الحداد :" كان محمد عبقرية ادارية فى تنظيم شئون الحياة الدينية و الاجتماعية و السياسية و الحربية"
و يقول الاستاذ العقاد :" كان يوصى بالرياسة حيثما وجد العمل الاجتماعى او العمل المجتمع الذى يحتاج الى تدبير , و من حديثه الماثور " اذا خرج ثلاثة فى سفر فليؤمروا احدهم " و من اعماله الماثورة انه كان يرسل الجيش و عليه امير و خليفة للامير و خليفة للخليفة اذا اصيب من تقدمه بما اقعده عن القيادة , و كان قوام الرئاسة و الامامة عنده شرطان هما جماع الشروط فى كل رئاسة , و هما الكفاءة و الحب :" ايما رجل استعمل رجلا على عشرة انفس علم ان فى العشرة افضل ممن استعمل فقد غش الله و غش رسوله و غش جماعة المسلمين"
" و ايما رجل ام قوما و هم له كارهون لم تجز صلاته اذنيه "
و كان الى عنايته باسناد الامر الى المدير القادر عليه حريصا على تقرير التبعات فى الشئون ما كبر منها و ما صغر , على النهج الذى اوضحه صلوات الله عليه حيث قال :" كلكم راع و كلكم مسئول عن رعيته "..
و قد كانت اوامر الاسلام و نواهيه معروفة لطائفة كبيرة من المسلمين انصارا كانوا او مهاجرين و لكنه عليه السلام لم يترك احدا يدعى لنفسه حقا فى اقامة الحدود , و اكراه الناس على طاعة الاوامر و اجتناب النواهى غير من لهم ولاية الامر و سياسة الناس ..
و ما اكثر ما سمعنا فى ايامنا الاخيرة عن الامن و النظام و توطيد اركان الشريعة و القانون , و لكننا لا نعرف فى كل ما قيل كلاما هو اجمل لوجوه الصواب فى هذه المسالة من قول النبى :" السمع و الطاعة حق ما لم يؤمر بمعصية فلا سمع و لا طاعة " ..
نظام و فوق النظام سلطان , و فوق السلطان برهان من الشرع و العقل لا شك فيه , و جميع اولئك على سماحة لا تتعسف النزاع و لا تتعسف الريبة و لا تلتمس الغلواء..
على ان الادارة العليا انما تتجلى فى تدبير الشئون العامة حين تصطدم بالاهواء و تنذر بالفتنة و النزاع . فليست الادارة كلها نصوصا و قواعد يجرى الحاكم فى تنفيذها مجرى الالات و الموازين التى تصرف الشئون على نسق واحد , و لكنها فى كثير من الاحيان علاج نفوس و قيادة اخطار لا امان فيها من الانحراف القليل هنا او الانحراف القليل هناك
و ذلك هو المجال الذى تمت فيه عبقرية محمد فى حلول التوفيق و اتقاء الشرور احسن تمام . فما عرض له تدبير امر من معضلات الشقاق بعد الرسالة و لا قبلها الا و اشار فيه باعدل الاراء و ادناها الى السلم و الارضاء ..
صنع ذلك يوم هاجر من مكة الى المدينة فاستقبلته الوفود تتنافس على ضيافته و نزوله , و هو يشفق ان يقدح فى نفوسها شرر الغيرة بتمييز اناس منهم على اناس او اختيار محلة دون محلة , فترك لناقته خطامها تسير و يفسح الناس لها طريقها حتى بركت حيث طاب لها ان تبرك . و فصلت فيما لو فصل فيه انسان كبير او صغير لما مضى فصله بغير جريرة لا تؤمن عقباها بعد ساعتها , و لو امنت فى تلك الساعة على دخل و سوء طوية ..
و صنع ذلك يوم فضل بالغنائم اناسا من اهل مكة الضعيف ايمانهم على اناس من الانصار الذين صدقوا الاسلام و ثبتوا على الجهاد , فلما غضب المفضولون لم يكن اسرع منه الى ارضائهم بالحجة التى لا تغلب من يدين بها بل تريه انه هو الغالب الكاسب و انها تصيب منه المقنع و الاقناع فى وقت واحد .. كلام مدير فيه الادارة و الساسة هبة من هبات الخلق و التكوين ..
القمة فى الحكمة :
المتواتر ايضا عن محمد صلى الله عليه و اله و سلم انه كان فى القمة فى الحكمة , و قد اوتى حقا جوامع الكلام
و يكفى بيانا لذلك ان يطالع الباحث المنصف كتب الشيخ محمد الغزالى رحمه الله :
1- جدد حياتك : و هو كتاب عقد فيه الغزالى رحمه الله مقارنة بين الهدى المحمدى و بين افضل ما توصلت اليه عقول و خبرات الغربيين فى مجال تنمية الانسان و ارشاده الى السعادة كما فى كتاب " دع القلق و ابدا الحياة " ل ديل كارنيجى و هو من اكثر الكتب مبيعا فى العالم , و يتضح للقارىء ان محمد صلى الله عليه و اله و سلم قد سبق كارنيجى و امثاله الى افضل و اروع ما قرروه , و المفارقة ان كارنيجى هذا مات منتحرا كما قيل فتامل !
2- كتاب " خلق المسلم " و فيه يبين الغزالى رحمه الله روعة الهدى المحمدى فى الخلق و سياسة النفس
و يبين كيف تفوق الهدى المحمدى على كل ما قدمه الحكماء فى هذا الميدان
و الاحاديث التى استند اليها الغزالى رحمه الله تفيد بمجموعها تواتر معنويا لا ريب فيه فى بلوغ محمد صلى الله عليه و اله و سلم قمة الحكمة , و على الاقل لا شك فى انه تفوق تماما على زمانه و بيئته فى ذلك و فى غيره تفوقا لا يخفى على بصير
القمة فى الربانية
المتواتر ايضا عن محمد صلى الله عليه و اله و سلم انه بلغ القمة فى الربانية و العبادة و الذكر للخالق و الدعاء و تعليم الناس ان يعبدوا خالقهم و يذكروه , و هذا مما لا يرتاب فيه مطلع منصف , بل لا يوجد انسان مشى على الارض قاد الناس الى عبادة الله و معرفته و ذكره و كافح فى سبيل ذلك مثل محمد صلى الله عليه و اله و سلم
و مع ذلك يرتاب بعض من عميت بصائرهم فى انه كان يفترى على الله !!!
يقول الشيخ محمد الغزالى رحمه الله :" وسط اولئك الصالحين المصلحين تلمح – فى خشوع و توقير – محمد بن عبد الله صاحب الرسالة الخاتمة , و ملتقى العقائد و الفضائل التى ناط القدر بها صلاح الاولين و الاخرين ..
و لن يعرف محمدا ابدا من سفه نفسه , و حقر عقله و قلبه ..
لا يعرف محمدا صلى الله عليه و اله و سلم من احتبس فى سجن الدنايا , او قعد عن نصرة الحق و الخير ..
و العالم من ازله الى ابده لا يعرف انسانا استغرق فى التامل العالى , و مشى على الارض و قلبه فى السماء , كما يعرف فى سيرة محمد بن عبد الله صلى الله عليه و اله و سلم
انه خير من حقق فى نفسه – و فى الذين من حوله – حياة الانسان الكامل
الانسان الربانى المستخلف فى ملكوت الله , لينقل اليه اطرافا من حقيقة هذه الخلافة الكبيرة
و فى المواريث العقلية و العاطفية التى تركها هذا النبى الكريم , ترى كل العناصر التى يستطيع بها اى انسان ان يقوم بوظيفته الصحيحة فى الحياة "
و حتى يقف الباحث على شىء من ذلك فليطالع كتاب " الجانب العاطفى من الاسلام " للشيخ الغزالى رحمه الله و ليتامل مجموع ما ذكره الغزالى من احاديث ابى الزهراء ليقطع بانه كان فى قمة الربانية ,و انه لا يشك فى صدقه الا مريض العقل او الاحساس
و من لم يطلع على تراث المسلمين و انتاجهم فى ميدان العاطفة و السلوك و العرفان فهو لم يعرف الاسلام اصلا
فالاسلام ليس مجرد عقائد نظرية او فغقه و تشريعات بل هو مع ذلك عاطفة و نور يغمر القلوب و يحييها و يعرج بها
و من اروع ما يقرا فى ذلك احياء علوم الدين لابى حامد الغزالى و مدارج السالكين لابن القيم و كتاب " الجانب العاطفى من الاسلام " للشيخ محمد الغزالى
و الكتب فى ذلك كثيرة جدا عند مختلف الفرق الاسلامية
بل من لم يطلع على هذا الجانب من الاسلام فهو لا يعرف الاسلام
|