الإسلام دين الرحمة:
الرحمة هى إرادة إيصال الخير، وهى اللطف والإحسان " أى التخلص من كل آفةأو نزعة تدفع الإنسان إلى الشر فمساعدة الضعيف رحمة ومد يد العون إلى المحتاج رحمة وتخفيف آلام الناس رحمة (31) وقد ذكرت كلمة الرحمة تسعا وسبعين مرة فى القرآن الكريم (32) وقد توزعت مفردات الرحمة على العناوين الآتية:
(1) الرسول رحمة:
:kaal:: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) (33)
وليس هناك أبلغ من جعل الصفة علما للرسول بحيث يصبح الموصوف والصفة واحدا.
(ب) الرسالة رحمة:
فالقرآن الكريم رحمة أيضا، يقول تعالى: (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شىءوهدى ورحمة وبشرى للمسلمين ) (34)
فالتشريع الإسلامى تشريع رحيم.
(ب) الله سبحانه هو الرحمن الرحيم :
والرحمن والرحيم صفتان من صفات الله أو اسمان من أسمائه الحسنى، وكلمة الرحمن والرحيم تذكران فى بداية كل سورة من سور القرآن الكريم بواقع 113 مرة عند البسملة، حيث إن عدد سور القرآن الكريم (114) سورة تبدأ كل واحدة منها ببسم الله الرحمن الرحيم باستثناء سورة (التوبة)، والمسلم يسمى باسم الله الرحمن الرحيم عندما يأكل وعندما يشرب، وعندما يقوم بأى عمل من أعمال الحياة اليومية" لتظل الرحمة جزءا من سلوكه ومن وعيه.
(د) الرحمة فى العلاقة بين الزوجين:
فقد جعل القرآن الكريم العلاقة القائمة بين قطبى الأسرة: الرجل والمرأة قائمة على الرحمة، لا على أى شىء آخر، قال تعالى: ( ومن آياته أن خلق لكما من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ) (35).
(هـ ) الرحمة فى العبادات: الرحمة هى وصية عباد الله- سبحانه- بعضهم لبعض ؛ حيث مدحهم الله بقوله: (وتواصوا بالصبروتواصوا بالمرحمة) (36) وقد خفف الله- سبحانه- على الناس فى عباداتهم، كل حسب طاقته، قال تعالى: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) (37)، فالمريض له ألا يصوم ويباح له أن يصلى جالسا حسب مقدرته، والمسافر يقصر الصلاة وهكذا، والإمام فى المسجد عليه أن يحسب حساب الكبيروالضعيف.
فعن قتادة بن الحارث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إنى لأقوم إلى الصلاة وأريد أن أطيل فيها فأسمع بكاء الصبى فأتجوز (أتخفف) فى صلاتى كراهية أن أشق على أمه " 0 (38)، وقد روى الإمام أحمد بسنده إلى عبدالرحمن بن جبير عن عمرو بن العاص أنه قال لما بعثه النبىصلى الله عليه وسلم عام ذات السلاسل قال: "احتلمت فى ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت ثم صليت بأصحابى صلاة الصبح، قال: فلما قدمنا على الرسول صلى الله عليه وسلم ذكرت ذلك له. قال: يا عمرو، صليت بأصحابك وأنت جنب !؟ قلت: يا رسول الله إنى احتلمت فى ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فذكرت قول الله تعالى: (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما ) ، فتيممت ثم صليت بأصحابى. فضحك الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئا"، (39)، وقد شكا رجل للرسول معاذ بن جبل وقال: إنه يطيل فى الصلاة، فقال النبى لمعاذ: "يا معاذ أفتان أنت؟ (أو أفاتن أنت؟) ثلاث مرات... فإنه يصلى وراءك الكبير والضعيف وذو الحاجة" (40).
(و) الرحمة بالمشرك:
الرحمة عامة لا خاصة، فهى ليست مقصورة على المسلمين بل تتعداهم إلى غير المسلمين، وفى هذا يقول الله سبحانه: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ) (41) فإجارة المشرك من باب الرحمة، وإبلاغه مأمنه من أبواب الإحسان، وهى قضية تستوقف الإنسان طويلا، إذ لا يكفى أن تجير المشرك، بل عليك أن تساعده حتى يصل إلى مكان آمن، فأية رحمة أوسع من هذه؟ وقد روت أسماء بنت أبى بكر (رضى الله عنهما) قالت: قدمت أمى (وهى مشركة) فى عهد قريش إذ عاهدوا، فأتيت الرسول صلى الله عليه وسلم فقلت: "يا رسول الله، إن أمى قد قدمت وهى راغبة، أفأصلها؟ قال: نعم صلى أمك، (43) فالإسلام الذى اعتبر الانتساب إليه هو النسب الصحيح، لهـا يلغ حق الوالدين فى الصلة حتى ولو كانا على الشرك.
( ز) الرحمة بالحيوان:
إن رحمة الإسلام شاملة تنساح على الكون كله بحيث تشمل البر والجو والبحر، فكل من تعذى على هذه المخلوقات كان من المفسدين المخربين، فقد خلق الله- سبحانه- هذا الكون متوازنا، ودعانا إلى إعماره لا إلى تخريبه، فعن ابن عباس- رضى الله عنهما- قال: " إن رجلا أضجع شاة وهو يحذ شفرته، فقال له النبى صلى الله عليه وسلم : أتريد أن تميتها مرتين؟! هلا أحددت شفرتك قبل أن تضجعها" (43)؟ (فقد احتج الرسول على فعله الرجل؛ لأنه آذى الشاة بإضجاعها وحد شفرته (مع أنها حيوان لا يعتل، ومع أن ذبحها حلال،، ولكنه الإسلام الذى لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا عالجها.
وعن ابن مسعود قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق لحاجته، فرأينا حمرة معهافرخان فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمرة تعرش، فجاء النبى صلى الله عليه وسلم فقال: من فجع هذه بولديها؟! ردوا إليها ولديها... ورأى قرية نمل قد حرقناها فقال: من حرق هذه؟ قلنا: نحن، قال: إنه لا ينبغى أن يعذب بالنار إلا رب النار" (44).
وما يقال عن الحيوان يقال عن النبات وكل ما ينتفع الإنسان به، فعن يحيى
ابن سعيد أن أبا بكر لمجت بعث جيوشا إلى الشام فخرج يمشى مع يزيد بن أبى سفيان، فقال له يوصيه:، (إنى موصيك بعشر خلال، لا تقتل امرأة ولا صبيا ولا كبيرا هرما، ولا تقطع شجرا مثمرا، ولا تخرب عامرا، ولا تعقرن شاة ولا بعيرا إلا لمأكله، ولا تعقرن نخلا ولا تحرقه، ولا تغلل (تسوق) ولا تأخذ غيرحقك "(45).
من هنا يمكن الاطمئنان إلى القول، بأن الذين يلوثون البحار، ويقطعون الأشجار. ويلوثون الجو، ولتسببون فى كل ما يلحق كوكبنا الأرضى من خراب ، إنما هم مفسدون مخربون آثمون، وأن الإسلام يقف ضد هذا التخريب المبرمج الذى لايأتى من ورائه إلا الدمار لكل الجنس البشرى الذى كرمه الله، وجعل كل هذه المخلوقات من أجله.
(حـ ) الرحمة بالرعية:
من استرعاه الله رعية وجب عليه أن يكون لها كالأبوين فى الأسرة يقدمان للأبناء كل ما يحتاجون ، من عطف وحنان وتربية،وكلما ارتفعت مرتبة الراعى كلما زادت مسئولياته، فالحاكم هو أعلى الناس وأكثرهم حملا فى الوقت نفسه، وقد عرفنا من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ومن سيرة سلفه الصالح أنهم كانوا دائمى البحث عن الفقراء وذوى الحاجات، وأنهم كانوا رحماء بالرعية رحمتهم بأطفالهم وأبناء أسرهم، لأن رابطة الإسلام فوق كل الروابط، فعن عائشة أم المؤمنين- رضى الله عنها- عن الرسول عبيد أنه قال:
" اللهم من ولى من أمرأمتى شيئا فشق عليهم، فشق عليه، ومن ولى من أمرأمتى شيئا فرفق بهم فارفق به" (46) فالله سبحانه وتعالى، رفيق يحب الرفق ويعطى على الرفق ها لا يعطى على العنف، وما لا يعطى على سوا 5، (47) كما ورد فى الحديث الذى رواه مسلم عن عائشة.
ومن رحمة الراعى بالرعية أن يعدل، ولو كان بجن ذى قرابة وخصم، ومن رحمة الراعى بالرعية ألا يميز بين عربى وعجمى، فالناس جميعهم أبناء أب واحد وأم واحدة، ولهذا يقف الإسلام منذ أربعة عشر قرنا ونيف ضد التمييز العنصرى الذى ما زال متبعا حتى الآن وبخاصة فى فلسطين والولايات المتحدة وكثير من بلدان العالم الفقيرة، ول! شك أن الصهيونية واليهودية تقف على رأس مؤسسى العنصرية بزعمهم أن الله تدخل لأجلهم دون غيرهم من البشر، ليكونوا شعب الله المختار، أما الآخرون الذين يختلفون عنهم فى الدم واللغة، فهم مرفوضون من الله عز وجل. (48) وقد تناول الغرب هذه الفكرة وحورها إلى ما عرف بالدم النقى أو الجنس الأبيض المتفوق، الذى تحدث عنه (فريزر) وعزاه إلى التفوق التكنولوجى، وعصر الاختراع المتزامن مع عصر الاكتشافات والاستعمار الأوروبى لأمريكا وآسيا وأفريقيا، حيث شعروا بأن تفوقهم التكنولوجى يفترض فيه أن يكون نتاجا لتفوقهم الفكرى. (49)..
وإننا لا نعجب حين نجد زعيم الولايات المتحدة الأمريكية البارز (أبراهام لنكولن) الموصوف بأنه محرر العبيد يقول فى سبتمبر عام 1958 فى شارلستون بإلينوى ما نصه: إننى لا أدعم، ولم أكن أدعم يومأ إحداث مساواة اجتماعية وسياسية بين الجنسين؟ الأبيض والأسود، كما إننى لا أدعم ولن أدعم فكرة وجود ناخبين أو قضاة من السود، ولا أدعم التزاوج بين السود والبيض. وسأقول إضافة إلى هذا، إنه يوجدفرق طبيعى Physical بين الجنسين الأبيض والأسود، ولن تنجح ( كما اعتقد) فكرة عيش الجنسين معا على أساس المساواة الاجتماعية والسياسية، وبما أنهما لا يستطيعان العيش فى ظروف المساواة (مع أنهما يلتقيان معا) فلابد من وجود الأعلى والأدنى، وإنى كأى إنسان آخر، أقف مع اعتبارات تقلق الجنس الأبيض "(50)
فقد اعتبر لنكولن البشر جنسين:
أبيض وأسود، مع أنهما يعيشان فى مجتمع أمريكى واحد. فى الوقت الذى قال القرآن فيه قبل أربعة عشر قرنا: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكروأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) (51) فاعتبر البشرية كلها جنسا واحدا يتفاضلون بالتقوى.
وفى مقابل هذا المثال الغربى يذكر (ابن سويد، أنه دخل مع جماعة من أصحابه على أبى ذر الغفارى رضى الله عنه فى الربذة، فإذا عليه برد وعلى خادمه مثله، فقيل له: يا أبا ذر، لو أخذت برد غلامك إلى بردك كانت حلة، وكسوته ثوبا غيره؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم ، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليكسه مما يكتسى، ولا يكلفه ما يغلبه، فإن كلفه ما يغلبه فليعنه "(52). فأين هذا الكلام من كلام لنكولن؟ وأين هو مما نشاهد اليوم من ابتعاد الشقة بين الولاة وشعوبهم؟ وأين هو الخطاب الرسمى الحكومى الذى يرد عن الإسلام التهم والأباطيل، ويقدمه للناس كما خرج من منابعه الأصلية؟ مطلوب من الخطاب الرسمى العربى والإسلامى أن يرقى وأن يصل على الأقل إلى مستوى من الإعداد والعناية اللذين تقوم بهما هذه الدول فى إعداد السياسيين والدبلوماسيين من اختيار الصفوة من المفكرين أصحاب الرأى حتى نكون جديرين بقول الله: (كنتم خيرأمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكروتؤمنون بالله ) (53) صدق الله العظيم
المراجع
(1) 1. د. عبدالصبور مرزوق. الإسلام، موسوعة المفاهيم الإسلامية القاهرة... 2000ص53،52.
(2) سورة آل عمران، الآية85.
(3) سورة ا لحشر، الآية22.
(4) سورة يونس، الآية 25.
(5) سورة ا لبقرة، الآية 208.
(6) متفق عليه، رياض الصالحين، ص: 256.
(7) رواه الترمذى، وقال: حديث حسن صحيح. رياض الصالحين، ص: 256.
(8) صفوة صحيح البخارى جـ 4، ص: 196.
(9)رياض الصالحين، ص: 256.
(10) سورة النور آية 61.
(11) رياض الصالحين، ص 36.
(12) رواه الطبرانى، الترغيب والترهيب، جـ 2، ص 176.
(13) سورة الأحزاب، الآية 44.
(14) تفسيرابن كثير، جـ1 ، ص532،531.
(15) رواه مالك فى الموطأ، رياض الصالحين ص:257.
(16) سورة النساء آية 86.
(17) سورة النساء آية 94.
(18) انظر: د. عبدالرحمن عباد، اللا عنف فى الإسلام، القدس (1996).
(19) سورة العلق الآيات1-5.
(20) سورة النحل الآية125 .
(21) السيرة النبوية لابن هشامجـ 2دار الجيل. بيروت، ص: 48.
(22) سيرة ابن هشام جـ2، ص : 106- 108
(23) د. خلفى خنفر، تاريخ الدعوة فى حياة الرسول ط : 11985 ص 210،279
(24) أ. د. إبراهيم أحمد العدوى، فتح مكة، موسوعة المفاهيم الإسلامية العامة القاهرة 2000، ص422،421.
(25) خالد محمد خالد، رجال حولالرسول ص:219،218.
(26) السيرة لابن هشام جـ 4 ص:.780.
(27) د. عبدالرؤوف شلبى، الإسلام وخرافة السيف، مؤسسة الخليج العربى القاهرة ط:1990،2 ص: 130.
(28)غوستاف لوبون، حضارة العرب، ص: 229.
(29) سورة التوبة، الآية 26.
(30) الإمام المبارك محمد بن الأثير الجرزى، جامع الأصول فى أحاديث الرسول، جـ 9 مكتبة الحلوانى، القاهرة 1972ص 313.
(31) لسان العرب لابن منظور مادة (رحه).
(32) انظر المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، وضع محمد فؤاد عبدالباقى مادة (رحم).
(33) سورة الأنبياء آية 107.
(34) سورة النحل آية 89.
(35) سورة الروم آية 21.
(36) سورة البلد آية 17.
(37) سورة البقرة الآية 286.
(38) رياض الصالحين ص 123.
(39) تفسير ابن كثير جـ1 ص: 480.
(40) الكرمانى على البخارى جـ 5 ص: 84.
(41) سورة التوبة الآية 6.
(42) تفسير ابن كثير جـ 4، ص 349.
(43) الترغيب والترهيب جـ2 ، ص 487.
(44) المصدر السابق ص: 488.
(5 4) نيل الأوطار للشوكانى جـ 7 ص: 263.
(46) رياض الصالحين ص 291.
(47) المصدر نفسه ص 283.
(48) د. دياب عبوش، مشكلات التمييز العنصرى، المؤتمر السادس للتراث العربى، القدس، آب 988 1 ص 26 1.
(49) المصدر السابق، ص 129.
(0 5)A.B lapsly (Ed) The Writing of Abraham linclin Vol 4 PP I.3 .A.P. Plaustein And. L.Zangran.do (ED)civil rights.
(51) سورة الحجرات آية 13.
(52) الترغيب والترهيب جـ 2 ص 496.
(53) سورة آل عمران آية 104.