{وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)} سورة يوسف

" وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُف " أَيْ أَعْرَض عَنْ بَنِيهِ وَذَلِكَ أَنَّ يَعْقُوب لَمَّا بَلَغَهُ خَبَر بِنْيَامِين تَتَامَّ حُزْنه , وَبَلَغَ جُهْده , وَجَدَّدَ اللَّه مُصِيبَته لَهُ فِي يُوسُف وَقَالَ مُتَذَكِّرًا حُزْن يُوسُف الْأَوَّل " يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُف " جَدَّدَ لَهُ حُزْن الِابْنَيْنِ الْحُزْن الدَّفِين قَالَ عَبْد الرَّزَّاق أَنَا الثَّوْرِيّ عَنْ سُفْيَان الْعُصْفُرِيّ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر أَنَّهُ قَالَ لَمْ يُعْطَ أَحَد غَيْر هَذِهِ الْأُمَّة الِاسْتِرْجَاع أَلَا تَسْمَعُونَ إِلَى قَوْل يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام " يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُف وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنْ الْحُزْن فَهُوَ كَظِيم " أَيْ سَاكِت لَا يَشْكُو أَمْره إِلَى مَخْلُوق قَالَهُ قَتَادَة وَغَيْره وَقَالَ الضَّحَّاك فَهُوَ كَظِيم كَئِيب حَزِين وَنَسِيَ اِبْنه بِنْيَامِين فَلَمْ يَذْكُرهُ ; عَنْ اِبْن عَبَّاس . وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : لَمْ يَكُنْ عِنْد يَعْقُوب مَا فِي كِتَابنَا مِنْ الِاسْتِرْجَاع , وَلَوْ كَانَ عِنْده لَمَا قَالَ : " يَا أَسَفَا عَلَى يُوسُف " قَالَ قَتَادَة وَالْحَسَن : وَالْمَعْنَى يَا حُزْنَاهُ ! وَقَالَ مُجَاهِد وَالضَّحَّاك : يَا جَزَعَاه ! ; قَالَ كَثِير : فَيَا أَسَفَا لِلْقَلْبِ كَيْف اِنْصِرَافه وَلِلنَّفْسِ لَمَّا سُلِّيَتْ فَتَسَلَّتْ وَالْأَسَف شِدَّة الْحُزْن عَلَى مَا فَاتَ . وَالنِّدَاء عَلَى مَعْنَى : تَعَالَ يَا أَسَف فَإِنَّهُ مِنْ أَوْقَاته .
"وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيم" قِيلَ : لَمْ يُبْصِر بِهِمَا سِتّ سِنِينَ , وَأَنَّهُ عَمِيَ ; قَالَهُ مُقَاتِل . وَقِيلَ : قَدْ تَبْيَضّ الْعَيْن وَيَبْقَى شَيْء مِنْ الرُّؤْيَة , وَاَللَّه أَعْلَم بِحَالِ يَعْقُوب ; وَإِنَّمَا اِبْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنْ الْبُكَاء , وَلَكِنَّ سَبَب الْبُكَاء الْحُزْن , فَلِهَذَا قَالَ : " مِنْ الْحُزْن " . قَالَ النَّحَّاس : فَإِنْ سَأَلَ قَوْم عَنْ مَعْنَى شِدَّة حُزْن يَعْقُوب - صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى نَبِيّنَا - فَلِلْعُلَمَاءِ فِي هَذَا ثَلَاثَة أَجْوِبَة : مِنْهَا - أَنَّ يَعْقُوب صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا عَلِمَ أَنَّ يُوسُف صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيّ خَافَ عَلَى دِينه , فَاشْتَدَّ حُزْنه لِذَلِكَ . وَقِيلَ : إِنَّمَا حَزِنَ لِأَنَّهُ سَلَّمَهُ إِلَيْهِمْ صَغِيرًا , فَنَدِمَ عَلَى ذَلِكَ . وَالْجَوَاب الثَّالِث : وَهُوَ أَبْيَنهَا - هُوَ أَنَّ الْحُزْن لَيْسَ بِمَحْظُورٍ , وَإِنَّمَا الْمَحْظُور الْوَلْوَلَة وَشَقّ الثِّيَاب , وَالْكَلَام بِمَا لَا يَنْبَغِي وَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( تَدْمَع الْعَيْن وَيَحْزَن الْقَلْب وَلَا نَقُول مَا يُسْخِط الرَّبّ ) . وَقَدْ بَيَّنَ اللَّه جَلَّ وَعَزَّ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : " فَهُوَ كَظِيم " أَيْ مَكْظُوم مَمْلُوء مِنْ الْحُزْن مُمْسِك عَلَيْهِ لَا يَبُثّهُ ; وَمِنْهُ كَظْم الْغَيْظ وَهُوَ إِخْفَاؤُهُ ; فَالْمَكْظُوم الْمَسْدُود عَلَيْهِ طَرِيق حُزْنه ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : " إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُوم " [ الْقَلَم : 48 ] أَيْ مَمْلُوء كَرْبًا . وَيَجُوز أَنْ يَكُون الْمَكْظُوم بِمَعْنَى الْكَاظِم ; وَهُوَ الْمُشْتَمِل عَلَى حُزْنه . وَعَنْ اِبْن عَبَّاس : كَظِيم مَغْمُوم ; قَالَ الشَّاعِر : فَإِنْ أَكُ كَاظِمًا لِمُصَابِ شَاس فَإِنِّي الْيَوْم مُنْطَلِق لِسَانِي وَقَالَ اِبْن جُرَيْج عَنْ مُجَاهِد عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : ذَهَبَتْ عَيْنَاهُ مِنْ الْحُزْن " فَهُوَ كَظِيم " قَالَ : فَهُوَ مَكْرُوب . وَقَالَ مُقَاتِل بْن سُلَيْمَان عَنْ عَطَاء عَنْ اِبْن عَبَّاس فِي قَوْله : " فَهُوَ كَظِيم " قَالَ : فَهُوَ كَمِد ; يَقُول : يَعْلَم أَنَّ يُوسُف حَيّ , وَأَنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ هُوَ ; فَهُوَ كَمِد مِنْ ذَلِكَ . قَالَ الْجَوْهَرِيّ : الْكَمَد الْحُزْن الْمَكْتُوم ; تَقُول مِنْهُ كَمِدَ الرَّجُل فَهُوَ كَمِد وَكَمِيد . النَّحَّاس . يُقَال فُلَان كَظِيم وَكَاظِم ; أَيْ حَزِين لَا يَشْكُو حُزْنه ; قَالَ الشَّاعِر : فَحَضَضْت قَوْمِي وَاحْتَسَبْت قِتَالهمْ وَالْقَوْم مِنْ خَوْف الْمَنَايَا كُظَّم.
المصادر:
تفسير القرطبي.
تفسير ابن كثير.