ولا يذهبن عنك أن الحضارة تقرر في جميع الناس هذين الأصلين العظيمين : الحرية والمساواة ، فينشأ الناشيء عليهما ويترشح لهما في الحياة ، حتى إذا شب وانتهى إلى الواقع وجد تلك الحضارة بعينها هي التي تقتلع الأصلين وترمي بهما في وجهه ، فليس في الواقع إلا أشراف ووضعاء ، وإلا علية وسفلة ، وإلا أفراد معدودون من طبقة يراغمون سائر الناس من العمال والمهّان والمساكين ونحوهم ، كأن أساطين المال والسياسة هم وحدهم أصابع الدنيا تأخذ بهم ما هي آخذة ، وبذلك ترجع عقيدة المساواة وإنها لعقيدة الظلم ، وتعود فكرة الحرية وهي فكرة الاستعباد ، فإذا سواد العالم المتحضر هو الناقم على الحضارة المستريب بها ، وهو على سخطه ونقمته مسخّر لمعيشته الضيّقة المقسومة بالجرام من أيدي أصحاب القناطير ، يعطيهم دمه بخبزه ، ويشتري موته بعيشه ، وذلك كله مما يجعله متربصاً بالفتن ، سريعاً فيها إذا وقعت ، تابعاً لكل من يدعوه إليها أو يستجيشه عندها ، متوثباً على ما يدري وما لا يدري ، كما يقع الآن في أروبا
فالكبير في هذه الحضارة ظالم هو أشبه بمظلوم ، والصغير مظلوم هو أشبه بظالم ، وكأن الحقيقة نفسها خرجت من موضعها فكل شيء حقيقة وكل شيء زور ، والروح الإنسانية متى أصبحت موتورة ساخطة متبرمة بأسباب مختلفة كأسباب هذه المدنية من سياسية واجتماعية ووطنية – لم تكن روح الحياة ولكن روح القتل وما في حكمه ، ومن ثم فلا بد في هذه الحضارة من انفجارات حربية مستمرة ، ولا بد لها أن تجد من تقتله ومن تظلمه ومن تستعبده ؛ وإذا تحاجزت الدول وتتاركت زمناً فإنما يسمن بعضها بعضاً في مراعي السلم والعيش وكلّ أمة عينها على شحم الأخرى .
ولقد كانت الحرب العظمى تنقيحاً إلهياً عنيفا لهذه الحضارة الزائفة ، فوضع الله يده عليها فمحت أكثر حسناتها ورقائقها وطرفها البديعة ، وأميتت طباع الترف لتنبعث طباع القوة ، وقرّ في الرجل معنى الرجل وفي المرأة معنى المرأة وكانا قبل ذلك وإن الرجل نصف امرأة وإن المرأة ضِعف نفسها .
فكأن الحرب كانت مصفاة للحضارة ثقوبها الخرائب والخنادق والقبور ، ومتى جمعت الأوساخ بعد زمن فالمصفاة باقية (°) ..
لست أنكر أن الحضارة زينة الحياة الدنيا وبهجتها ، ولكن آفتها أن غايتها التي تجري إليها غنماً هي المتعة واللذة وانتهاب العمر ؛ فهي بذلك تؤتي جميع لذات الحياة ، لمن أطاق واتسع ؛ كما تؤتي جميع مكارهها لمن حرم وقتر عليه ؛ وبهذين توجد ألفاً من السفلة والحشوة وسقاط الناس إذا هي أوجدت واحداً من أهل الفضل والرحمة والإنسانية ، ولا قصد فيها بل هي إسراف من طرفيها لا يألو أن يدفع الناس من حدّ إلى حد إلى غير حد علواً وسفلاً ؛ فالنزاع بيّن في المادة والنزاع في العاطفة ذاهبان إلى ملتقى واحد ؛ هو سخط الإنسان على الإنسان سخطاً شقياً مدنفاً ؛ إذ لا أشقى في الاجتماع من ساخط على من لا يرضاه ، هي حضارة على المجاز إذا توسعنا في العبارة لتعم الناس ، فإذا حققنا في صريح هذا المجاز رأينا فيها الذلة والمسكنة والتهلكة بوسائل هي العز والغنى والحياة .
..................................................
قال المحقق : (°) قلت : يتحدث المؤلف عن أثر الحرب العالمية الأولى سنة 1914-1918 ، وقد جمعت الأوساخ بعدها ولم يمض كبير زمن فكانت الحرب العالمية الثانية سنة 1939-1945 ، ولا تزال المصفاة قائمة ..
توقيع أبو عبد الله البخاري |
" هم يقولون إنهم يريدون بآرائهم الأمة ومصالحها ومراشدها ، ويقولون في ذلك بما يسعه طغيانهم واتساعهم في الكلام واقتدارهم على الثرثرة ، حتى إذا فتشت وحققت لم تجد في أقوالهم إلا ذواتهم وأغراضهم وأهواءهم يريدون أن يبتلوا بها الناس في دينهم وأخلاقهم ولغتهم ، كالمسلول يصافحك ليبلغك تحيته وسلامه ، فلا يبلغك إلا مرضه وأسباب موته " ** الرافعي متحدثاً عن العلمانيين ** |