اعرض مشاركة منفردة
   
Share
  رقم المشاركة :3  (رابط المشاركة)
قديم 30.01.2016, 14:19
صور الشهاب الثاقب الرمزية

الشهاب الثاقب

مشرف عام

______________

الشهاب الثاقب غير موجود

الملف الشخصي
التسجيـــــل: 14.09.2011
الجــــنـــــس: ذكر
الــديــــانــة: الإسلام
المشاركات: 999  [ عرض ]
آخــــر نــشــاط
18.05.2025 (22:20)
تم شكره 696 مرة في 474 مشاركة
افتراضي





الضوابط بعد انتهاء القتال:
تكريم الإنسانية مع ما في الحرب من استباحة الأنفس وإراقة الدماء:
وإنه من الغرابة أن تكون الإنسانية مكرمة في الحروب، وقد استبيحت فيها الأنفس وأريقت الدماء، ولكن لا غرابة فإنه قتال النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي كان لدفع الاعتداء، والمعاملة بالمثل مع التمسك المطلق بالفضيلة، لا يحيد عنها قيد أنملة؛ ولذا كان حريصا فيه على احترام الكرامة الإنسانية، ونهى عن التمثيل بالقتلى فلا تشوه أجسامهم بعد القتل، ولا تقطع رؤوسهم وتحفظ في دور الملوك على أنها تحف إنسانية تدل على الوحشية الآدمية ممن يفعلون؛ ولذا «نهى - صلى الله عليه وسلم - عن النهبة والمثلة».[23] وقد كان المجاهدون من أصحاب النبي أتباعا لهديه لا يمثلون بالقتلى، ولو كان الأعداء يمثلون كما أشرنا، ولم يجاروهم فيما يفعلون؛ لأن الفاضل لا يعد فاضلا إذا جارى الأرذلين فيما يفعلون.
وكان ينهى عن القتل بالجوع والعطش، فإن ذلك ليس من تكريم الإنسانية، ولو فعل العدو ذلك لا يجاريه؛ لأن المجاراة لا تكون في أحط الرذائل، ونهى عن تعذيب الجرحى، بل كان يقول صلى الله عليه وسلم: «إذا قتلتم فأحسنوا القتلة»[24].
وإنه في سبيل احترام الكرامة الإنسانية والفضيلة كان ينهى عن سلب أموال غير المقاتلين، فإن الكرامة وصف للمقاتل في ميدان القتال، كما هي وصف له في أزمان السلم، وإذا كان السلب والنهب غير لائق من الإنسان الكريم دائما، فإنه لا يصح أن يسلب في الحرب؛ ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا جلب، ولا جنب، ولا شغار في الإسلام، ومن انتهب نهبة فليس منا»[25].
وإنه - والحرب قائمة عنيفة - نهي عن ضرب الوجوه وتشويهها؛ ذلك لأنه ليس من حسن القتلة، وليس من المروءة، وهو اعتداء على الكرامة الإنسانية؛ إذ الوجه هو مجمع المحاسن الإنسانية، وإنه في سبيل المحافظة على الكرامة الإنسانية لا تترك جثث القتلى تنهشها السباع، بل إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بوضع جثث قتلى بدر في القليب، حتى لا تنهشها الذئاب، أو سباع الأرض أو الطير؛ وذلك لأنه إذا كان قد نهى عن المثلة بأيدي المحاربين أهل العدل، يجب حماية أجسامهم من أن يمثل بها حيوان مفترس، أو تنقض عليها سباع الطرق تمزقها.
ولقد نهى - صلى الله عليه وسلم - احتراما لمعنى الإنسانية - عن تعذيب الجرحى؛ لأن ذلك ليس من حسن القتال في شيء كما ذكرنا، وإن قعدت قوة المجروح عن المقاومة لا يسوغ قتله، بل يبقى ليؤسر، أو يفدى أو يمن عليه، وذلك لاحترام الإنسانية؛ ولأن القتال ليس القصد منه إلا كسر شوكة العدو فلا يعتدي، هذا، وإن احترام الكرامة الإنسانية ليبدو على أكمله في معاملة الأسرى.
الوصية بالأسرى خيرا والرفق بهم:
ولأن الإسلام يحافظ على الكرامة الإنسانية في الحروب، ولأنه لا يريد بالحرب إلا رد الاعتداء - دعا إلى الرفق بالأسرى، ولم يعرف التاريخ محاربا رفيقا بالأسرى مثل المسلمين الأولين الذين اتبعوا أوامر دينهم، فالوصايا التي دعت إلى الرفق بالأسرى في النصوص الدينية كثيرة؛ وذلك لأن الأسرى يقبض عليهم ونيران الحرب ملتهبة في الميدان ومشبوبة في قلوب المقاتلين، والغيظ قد يتحكم فيندفعون إلى الأذى يلحقونه بأولئك الذين عنت رقابهم، ويشفون غيظهم فيهم؛ ولذا حرض - صلى الله عليه وسلم - على الرفق بالأسرى، فقال: «استوصوا بالأسارى خيرا»[26].
وقد أوصى النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه يوم بدر أن يكرموا الأسرى، فكانوا يقدمونهم على أنفسهم عند الطعام، وكأن أولئك الأسرى لم يؤخذوا بالنواصي والأقدام في ميدان الحرب، وكأنهم لم يلقوا السلاح حتى شدوا بالوثاق، ولكنها سماحة الإسلام، واحترامه لكرامة الإنسان ودمه، لا يستبيح كرامة الإنسان، ولا يستبيح دمه إلا لرد الاعتداء.
ولقد تعلم المجاهدون المسلمون بهذا نوعين من الجهاد:
أولهما: جهاد في ميدان القتال، وذلك بأن يبيعوا أنفسهم لله وللحق الخالص.
وثانيهما: جهاد النفس فلا تسترسل في الغضب، بل تقاتل من يقاتلها بالرفق لا بقانون الغابة، وهم في ذلك آخذون بقوله - عز وجل - في ساعة النصرة: )خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين (199)( (الأعراف).
إعطاء الأمان لرعايا الأعداء وأموالهم:
قلنا: إن الباعث على القتال في الإسلام هو رد الاعتداء، وأنه مقصور على الميدان؛ ولذلك كانت الحروب الإسلامية ليست حروبا مع الشعوب، إنما هي حروب مع المتغلبين المسيطرين عليها الذين اتخذوا من القوة المسلحة أداة للاعتداء على الحق وإرهاق رعاياهم.
ولذلك لا تنقطع العلاقة بين المسلمين والرعايا إذا كان الاتصال بها في دائرة الإمكان، فلا يكون من المسلمين ما يقع الآن من غيرهم في الحروب، فإنه بمجرد أن تقوم الحرب الآن بين الدول - فأول ما تعمله الدولة المحاربة هو أن تعتقل رعايا الدولة التي تحاربها إذا كانوا في أرضها تجارا قد منحوا حق الإقامة مدة طالت أو قصرت؛ وقد أقرت قوانين هذا الزمان ذلك، كما أقرت مصادرة أموالهم واحتجازها.
أما الإسلام فإنه لا يرتضي ذلك ولم يصنعه، بل إنه يقرر أن العلاقة التجارية بين الشعوب لا تقطعها الحرب؛ ولذلك يقرر أن الذين يدخلون الديار الإسلامية من التجار مستأمنين، وقد أعطوا عقد الأمان، يستمر أمانهم وإن كانوا منتمين لدولة معادية، بل لدولة نشبت بينها وبين المسلمين الحرب، فيزاولون تجارتهم وأعمالهم، وتكون أموالهم مصونة محترمة لا تمس، ما داموا قائمين بحق الأمان الذي أعطي لهم، والعهد الذي تعاهدوا عليه، فلا يقيدون بقيد إلا الشروط التي أخذت عليهم، ولقد قال السرخسي في (المبسوط) في أموالهم بعد نشوب الحرب: "أموالهم صارت مصونة بحكم الأمان، فلا يمكن أخذها بحكم الإباحة".
بل إن الإسلام لحرصه على أموال التجار الذين دخلوا بعقد أمان يقرر أن مال التاجر المستأمن يستمر على ملكه، ولو عاد إلى دار الحرب وحمل السلاح محاربا المسلمين، واقرأ ما كتبه ابن قدامة في المغني، فقد قال: "إذا دخل حربي دار الإسلام بأمان، فأودع ماله مسلما أو ذميا، أو أقرضهما إياه، ثم عاد إلى دار الحرب نظرنا.. فإن دخلها تاجرا أو رسولا أو متنزها أو لحاجة يقضيها ثم يعود إلى دار الإسلام، فهو على أمانه في نفسه وماله؛ لأنه لم يخرج عن نية الإقامة بدار الإسلام، فأشبه الذمي إذا دخل لذلك، وإن دخل مستوطنا بطل الأمان في نفسه وبقي في ماله؛ لأنه بدخوله دار الإسلام بأمان ثبت الأمان لماله، فإذا بطل في نفسه بقي في ماله، لاختصاص المبطل بنفسه، فيختص البطلان به.
وبهذه الأحكام وأشباهها تثبت تلك الحقيقة المقررة الثابتة، وهي أن الإسلام لا يستبيح الدماء إلا في ميدان القتال، ولا يستبيح الأموال أيضا إلا في ميدان القتال؛ لأن القتل لرد الاعتداء، فلا تتجاوز الإباحة فيه إلى غير موضع الاعتداء، وفي غير ميدان القتال، فالحرمات كلها محترمة مصونة لا يضيع حق، ولا يذهب مال، ولا يؤكل بالباطل ما دام المال لم يؤخذ في ميدان القتال.
والأمن ثابت للذين لا يقاتلون، فلا يزعجون في أنفسهم ولا في أموالهم، والمتاجر تسير في طريقها فلا تجويع، ولا منع للقوت عن الشعوب التي لا رأي لها في القتال، وليس لها فيها ناقة ولا جمل.
فالإسلام ما كان يحارب الرعايا، إنما كان يحارب الملوك الذين كانوا يرهقون الشعوب، ويفرضون إراداتهم الظالمة على تلك الشعوب بقوة الجند الذين كانوا ضد هذه الشعوب.
تنتهي الحرب مع الدولة المحاربة كليا بعد معاهدة يتفق الطرفان فيها على إنهاء القتال؛ وذلك لأن القصد من القتال قد تحقق، وهو منع الاعتداء، وقد أمن الاعتداء بأخذ العهد، فلا قتال من بعده، وقد أمرنا بالوفاء بالعهد، فقد قال عز وجل: )وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا (34)( (الإسراء)، وقال عز وجل: )وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون (91)( (النحل).
وإنه تجب العدالة عند كتابة العهد؛ ذلك لأن الإسلام يقصد في العهد إلى أمرين:
الأول: حقن دماء الفريقين، ووقف المجزرة البشرية، فذلك مقصد من مقاصد الإسلام.
الثاني: منع الفساد في الأرض ودفع الشر، والقتال كان على قدر هذه الضرورة، فإذا زالت، زال ما أوجب الحرب ولم يبق إلا المعاملة بالعدل، وقد أمر الإسلام بالعدل مع الأعداء كالعدل مع الأولياء، فقد قال عز وجل: )ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى( (المائدة:2).
ولذلك يلاحظ عند كتابة المعاهدات في الإسلام أنها ليست بين غالب ومغلوب، تفرض فيها الغرامات الحربية التي ترهق الشعوب، وتضيق في القوت، وتفرض فيها الشروط المذلة، بل يكون الأمر فيها على قدم المساواة؛ وذلك لأن فرض الشروط المذلة نوع من الاعتداء، وقد نهى الإسلام عن الاعتداء نهيا مطلقا، فقال عز وجل: )ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين (190)( (البقرة)؛ ولأن المعاهدة عقد، وكل عقد في الإسلام يبنى على أساس التساوي بين الحقوق والواجبات، فيكون كل حق يوجبه العقد في مقابلة واجب يلتزمه صاحب الحق، وذلك ثابت في المعاهدات مثل سائر العقود.
بل إن المعروف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في معاهدة الحديبية أنه قبل التزامات في معاهدته لم يلتزمها المشركون مع أنه كان الغالب صاحب القوة، وكان معه من الجند والعتاد ما يستطيع أن يفرض به شروطا يلزم بها المشركين، وتكون في مصلحة المسلمين، ولكنه قبل أن يكون العهد فيه غبن عليه في نظير حقن الدماء ووقف القتال، فقد اشترطوا في هذه المعاهدة أن من خرج من مكة مسلما رد إليهم، ومن خرج من المدينة مشركا لا يرد إلى المسلمين، وقبل - صلى الله عليه وسلم - هذا الشرط، حتى إنه ليشق على المسلمين قبوله، ويقف عمر بن الخطاب غاضبا متعجبا قائلا: لماذا نقبل الدنية؟! ويتشرطون عليه في سبيل الصلح أن يعود وجيشه إلى المدينة ولا يدخلوا مكة لأداء الحج أو العمرة في هذا العام، وقد لبسوا ملابس الإحرام، فيقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك، ويشق هذا على المسلمين، فيأمرهم بالتحلل من الإحرام، وذبح ما ساقوه من هدي، فيمتنعون، فيغضب النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، فتشير عليه زوجه أم سلمة بأن يبدأ فينحر هديه، وإنهم ليتبعونه بعد ذلك، ويفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ما تشير به أم المؤمنين، فينقادون.
ولما جاء محمد - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك إلى مكة - وقد دانت له كثرة القبائل العربية؛ وبرها ومدرها - صاح أحد قواده: «اليوم يوم الملحمة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة». [27] وعزل ذلك القائد عن قيادته، ولما أحيط بأهل مكة، ووجدوا جندا لا قبل لهم به، وصار الأمر فيها بيد النبي صلى الله عليه وسلم، وذهب إليه أبو سفيان، فأشار علي بن أبي طالب عليه بوسيلة يترضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: «ائته من قبل وجهه فقل له: ما قال إخوة يوسف ليوسف عليه السلام: )قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين (91)( (يوسف)، فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن منه جوابا، ففعل ذلك أبو سفيان، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: )قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين (92)( (يوسف)»[28].
تلك هي حرب النبوة، وتلك معاهداتها، ولكن يجب أن نشير هنا إلى أمر يقع في الحرب الإسلامية قد حث عليه الإسلام، وهو إعطاء الأمان لأي مقاتل في الميدان، فإنه إذا طلب أي محارب من جند الأعداء الأمان من أي مسلم وأعطاه المسلم الأمان وحقن دمه، وصار لا يجوز لأي جندي أن يقتله وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «المسلمون تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم، يسعى بذمتهم أدناهم»[29].
وكانت إجازة هذا الأمان في ميدان القتال لمنع استمرار القتال جزئيا، كما يسعى الإسلام لمنعه كليا، وهذا الأمان يجوز لآحاد الجنود من الأعداء، كما يجوز للجماعات الكثيرة منهم، فيصح أن يعطى الأمان لجماعة، ولو كانوا في حصن قد اعتصموا به، ولهم أمانهم ما لم يعتدوا على المسلمين، ولم يخلوا بعهدهم فينقضوا بذلك حقهم في الأمان الذي أعطوه.
وإن هذا ينبئ بلا ريب عن رغبة الإسلام في منع القتال ما أمكن المنع، فهو لا يقاتل إلا من يحمل السيف مقاتلا مهاجما، وهو قتال للضرورة كما قلنا، فإن ألقى سيفه وطلب الأمان أعطيه وكان ذلك عهدا له، ولا يعد بهذا الأمان أسير حرب، بل يعد ذميا إن استمر في الديار الإسلامية، له ذمة المسلمين، فله ما لهم وعليه ما عليهم.
وإن إعطاء الأمان يتم ولو بالإشارة، بل اعتبروا من إعطاء الأمان كلمة: "لا تخف"، ولقد بلغ عمر بن الخطاب أن بعض المجاهدين يقول للمقاتل من الأعداء: لا تخف، ثم يقتله، فكتب إلى قائد الجيش: "إنه بلغني أن رجالا منكم يطلبون العلج،[30] حتى إذا اشتد في الجبل وامتنع، فيقول له الرجل لا تخف، فإذا أدركه قتله، وإني والذي نفسي بيده لا يبلغني أن أحدا فعل ذلك إلا ضربت عنقه".
وإن توسيع دائرة الأمان دليل على رغبة الإسلام في الحد من دائرة القتال ما أمكن، وقد توسعوا في دائرة الأمان في نواح عدة، منها:
لم يجعلوا الأمان بيد قائد الجيش وحده، ولا قائد سرية من الجيش، أو كتيبة من كتائبه، بل جعلوه بيد أي مسلم، فأي مسلم أعطى مقاتلا الأمان فهو أمان المسلمين، وليس لأحد أن ينكث بعهد ذلك المسلم إلا أن يخون ذلك ما عاهد عليه، وقد ذكرنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «المسلمون تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم، يسعى بذمتهم أدناهم». [31] أي أن المسلمين متساوون، ويستطيع أقل واحد فيهم مقاما في الحرب أن يعقد عقد أمان".
وإنه قد بلغ من التوسعة في الأمان أن العبد المسلم له أن يؤمن جيشا، ولا يكون رجال ذلك الجيش أسرى بعد هذا الأمان، ولقد حدث أن عبدا مسلما من عبيد المسلمين أعطى أمانا لأهل حصن تحصنوا به، فأرسل أمير الجيش إلى عمر يستفتيه، فكتب عمر إليهم: "إن عبد المسلمين من المسلمين، ذمته ذمتهم"، وبذلك أجاز عمر العادل الرفيق الشفيق بالناس - أمان العبد.
وإنهم ليتوسعون في عبارات الأمان والإشارات التي تدل عليه، حتى إنهم ليعتبرون الإشارة إلى السماء لخائف أمانا، فإن عمر بن الخطاب يقول: "أيما رجل دعا رجلا من المشركين، وأشار إلى السماء فقد أمنه، وإنما نزل بعهد الله وميثاقه".
هذه توسعة في الأمان لمنع القتل أو لمنع الإكثار منه، ونكرر هنا أن الأمان لا يوجب الاستسلام بأن يكون المؤمن أسير حرب، بل إن مقتضى الأمان أن يحقن دمه، وتحفظ رقبته من الرق، وأن يخرج بهذا الأمان من صفوف المقاتلين إلى صفوف الآمنين الذي يكونون مع المسلمين في دارهم على شروط تشترط عليهم وشروط تشترط لهم.
وهذا بلا شك يشير بمرماه ومغزاه إلى أن القتال في الإسلام شرع لدفع الاعتداء، وأن القتل فيه ألجأت إليه الضرورة، فتكون هذه الضرورة في أضيق الحدود، ويفتح الباب لحماية الأنفس ما أمكن، والله ولي الصابرين[32].
خامسا. التاريخ والمنصفون من غير المسلمين خير شاهد على عدالة الفتح الإسلامي سماحته مع أهل البلاد المفتوحة:
شهادة غير المسلمين على السماحة الإسلامية:
أشار "جوستاف لوبون" إلى معاملة "أبي عبيدة بن الجراح" لأهل حمص، فقد رد عليهم ما جباه منهم باسم الجزية عندما بلغته حشود الروم في اليرموك قائلا: "سكتنا عن نصرتكم والدفع عنكم، فأنتم على أمركم"، وغادر مدينتهم منسحبا بجيشه، مما دعا أهل حمص للقول: لولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والضيم، ولندفعن جند هرقل عن المدينة - حمص - مع عاملكم.
وقارن "جوستاف لوبون" بين تصرف المسلمين هذا في عدلهم ورحمتهم وسماحتهم، وبين تصرف بريطانيا واستعمارها، قال: "إن اللورد مليورن "ـ رئيس وزراء بريطانيا في عهد الملكة "فكتوريا" القريب من عصرنا هذا، سنة 1840م - خاض مع الصين "حرب الأفيون" المشهورة، فأدار عليهم المدافع من سفنه الحربية ومن النقاط التي ارتكز عليها في السواحل، فصب عليهم شواظا من النيران بلا رحمة ولا هوادة، فأحرقت المدن والمنازل والسكان بما فيها من الشيوخ والنساء والأطفال،حتى أكرههم على قبول هذه التجارة المحرمة في بلادهم.
وقال جوستاف لوبون: الحق أن الأمم لم تعرف فاتحين راحمين متسامحين مثل العرب. إن الإسلام هو الذي أعطى المسلمين هذه الرحمة وهذا التسامح، ونحن رأينا صورا مختلفة مثل حرب الأفيون، وأقسى منها حروب الاستعمار الحديث،وأشد منها ظلم الصهيونية وقسوتها، وحبها للدماء والعدوان والإبادة".
ويقول "سير توماس أرنولد" عن الإسلام: "إنه الدين الذي يسمو فيه نشر الحق وهداية الكفار إلى واجب مقدس، على يد مؤسس الدين أو خلفائه من بعده.. إنها روح الحق في قلوب المؤمنين التي تستقر حتى تتجلى في الفكر والقول والعمل، ولا تقنع حتى تؤدي رسالتها إلى كل نفس إنسانية، وتعترف أفراد الجماعة الإنسانية بما تعتقد أنه الحق.
وإن الذي دفع المسلمين إلى أن يحملوا رسالة الإسلام معهم إلى شعوب البلاد التي دخلوها، وجعلهم ينشدون لدينهم بحق مكانا بين الأديان، لهي حماسة من ذلك النوع، من أجل صدق عقيدتهم[33].
وفي ظل فتوحات الإسلام وسماع الناس به، لم يكن غريبا أن نجد كثيرا من البدو والمسيحيين وغيرهم ينجرفون في التيار الدافع لهذه الحركة الضخمة، وأن نجد كثيرا من القبائل العربية التي دانت بالمسيحية قرونا نبذتها في ذلك الوقت لتدين بالإسلام، ويمكننا أن نحكم من الصلات الودية التي قامت بين المسيحيين والمسلمين من العرب بأن القوة لم تكن عاملا حاسما في تحويل الناس إلى الإسلام؛فمحمد - صلى الله عليه وسلم - قد عقد حلفا مع بعض القبائل المسيحية، وأخذ على عاتقه حمايتهم، ومنحهم الحرية في إقامة شعائرهم الدينية، كما أتاح لرجال الكنيسة أن ينعموا بحقوقهم ونفوذهم القديم في أمن وطمأنينة، وقد وجد حلف مثل هذا بين أتباع النبي ومواطنيهم الذين كانوا يدينون بالوثنية دينهم القديم، والذين تقدم كثير منهم عن طواعية لمؤازرة المسلمين في حملاتهم الحربية، وأظهروا للحكومة الجديدة نفس روح الولاء التي جعلتهم يقفون بمنأى عن الردة التي رفعت لواء العصيان في كافة أرجاء بلاد العرب إثر وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد زعم بعض الباحثين أن العرب المسيحيين الذين كانوا يخفرون حدود الإمبراطورية البيزنطية الواقعة على أطراف الصحراء، ألقوا بجموعهم مع جيش الفتح الإسلامي حين رفض هرقل دفع الجزية التي تعود إعطاؤهم إياها مقابل خدماتهم الحربية التي كانوا يؤدونها باعتبارهم حراسا للحدود.
وبالنسبة إلى السواد الأعظم من المسيحيين، فإنهم انتهوا إلى الامتزاج بالمجتمع الإسلامي الذي كان يحيط بهم عن طريق ما يسمونه (الاندماج السلمي) الذي تم بطريقة لم يحسها أحد منهم، ولو أن المسلمين حاولوا إدخالهم في الإسلام بالقوة عندما انضموا بادئ الأمر تحت لواء الحكم الإسلامي؛ لما كان من الممكن أن يعيش المسيحيون بين ظهرانيهم حتى عصر الخلفاء العباسيين.
ومن هذه الأمثلة التي قدمناها آنفا عن السماحة التي بسطها المسلمون الظافرون إلى العرب المسيحيين في القرن الأول من الهجرة، واستمر في الأجيال المتعاقبة، نستطيع أن نستخلص بحق أن هذه القبائل المسيحية التي اعتنقت الإسلام إنما فعلت ذلك عن اختيار وإرادة حرة، وإن العرب المسيحيين الذين يعيشون في وقتنا هذا بين جماعات مسلمة لشاهد على هذه السماحة.
"وإذا نظرنا إلى السماحة التي امتدت على هذا النحو إلى رعايا المسلمين من المسيحيين في صدر الحكم الإسلامي، ظهر أن الفكرة التي شاعت بأن السيف كان العامل في تحويل الناس إلى الإسلام بعيدة التصديق، ومن ثم لم يكن بد من أن نلتمس بواعث أخرى غير الباعث الذي أوحى بالاضطهاد، وإنما الذي كان يدفع الناس إلى الإسلام بقوة ويجذبهم إليه إنما هي تلك العقيدة، وكذلك بمقدار ما كان يشتد العبء على كاهل الشعوب المغلوبة على أمرها كانت تشتد رغبتهم في تخليص أنفسهم من الشقاء، فيقولون: لا إله إلا الله، محمد رسول الله[34].
شهادة التاريخ تدل على السماحة الإسلامية مع غير المسلمين:
كثيرا ما توضع شروح حسنة، وأحكام عادلة، ومبادئ قيمة، ولكنها تظل حبرا على ورق، فلا توضع موضع التنفيذ، ولا يبالي بها الذين في أيديهم سلطة الأمر والنهي، والإبرام والنقض، ولكن ميزة المبادئ والأحكام الإسلامية أنها مبادئ ربانية الأصول، دينية الصبغة، ولهذا وجدت من القبول والاستجابة ما لم تجده أي شريعة أخرى أو قانون مما يضع البشر بعضهم لبعض، وقد حفل الواقع التاريخي للأمة الإسلامية في مختلف عصورها وشتى أفكارها بأروع مظاهر التسامح، الذي لا يزال الناس يتطلعون إليه إلى اليوم في معظم بقاع الأرض فلا يجدونه.
فعن العصر الأموي: يقول ول ديورانت في كتابه "قصة الحضارة": "لقد كان أهل الذمة المسيحيون والزرادشتيون واليهود والصابئون - يتمتعون في عهد الخلافة الأموية بدرجة من التسامح لا نجد لها نظيرا في البلاد المسيحية في هذه الأيام، فلقد كانوا أحرارا في ممارسة شعائرهم، واحتفظوا بكنائسهم ومعابدهم، ولم يفرض عليهم أكثر من ارتداء زي ذي لون خاص، وأداء ضريبة عن كل شخص تختلف باختلاف دخله، وتتراوح بين دينار وأربعة دنانير، ولم تكن هذه الضريبة تفرض إلا على غير المسلمين القادرين على حمل السلاح، ويعفى منها الرهبان والنساء والذكور الذين هم دون البلوغ، والأرقاء والشيوخ والعجزة، وذوي العمى الشديد والفقر، وكان الذميون يعفون في نظير ذلك من الخدمة العسكرية، أو إن شئت فقل لا يقبلون فيها، ولا تفرض عليهم الزكاة البالغ قدرها 2.5% من الدخل السنوي، وكان لهم على الحكومة أن تحميهم، ولم تكن تقبل شهادتهم في المحاكم الإسلامية، ولكنهم كانوا يتمتعون بحكم ذاتي يخضعون فيه لزعمائهم وقضاتهم وقوانيهم.
أما عن العصر العباسي: عصر ازدهار الحضارة الإسلامية ومكانة أهل الذمة فيه، فيكفينا فيه فقرات من كتاب "الإسلام وأهل الذمة" للدكتور الخربوطلي؛ لأنه يعتمد فيما يقرره على المراجع التاريخية الأساسية أو على كتابات المستشرقين أنفسهم، يقول: "اشتهر من بين أهل الذمة في العصر العباسي كثير من العظماء، مثل "جرجيس بن يختيشوع" طبيب الخليفة العباسي "أبي جعفر المنصور" وقد وثق الخليفة فيه وأكرمه، ومن هؤلاء "جبرائيل بن يختيشوع" طيبب هارون الرشيد، الذي قال الرشيد عنه: كل من كانت له حاجة إلى فليخاطب بها جبريل؛ لأني أفعل كل ما يسألني فيه ويطلبه مني، وكان مرتب الطبيب عشرة آلاف درهم شهريا، ومن هؤلاء أيضا "ماسويه" الذي كان الرشيد يجري عليه ألف درهم شهريا، ويصله كل سنة بعشرين ألفا.
وأشاد "ترتون" بسماحة المسلمين، فقال: والكتاب المسلمون كريمون في تقدير فضائل هؤلاء ممن على غير ملتهم، حتى ليسمون "حنين بن إسحاق" برأس أطباء عصره، "وهبة الله بن تلميذ" بأبي قراط عصره وجالينوس دهره، وكان "بختيشوع بن جبرائيل" ينعم بعطف الخليفة المتوكل حتى إنه كاد يضاهيه في ملابسه، وفي حسن الحال وكثرة المال وكمال المروءة ومباراته في الطيب والجواري والعبيد.
وتحدث جوستاف لوبون عن عدل الفتح الإسلامي، فقال: "إن العرب وهم أعقل من الكثيرين من أقطاب السياسة في الزمن الحديث، كانوا يعلمون جيدا أن النظم الواحدة لا تلائم شعوب الأرض قاطبة، وكان من سياستهم أن يتركوا الأمم حرة في المحافظة على قوانينها وعاداتها ومعتقداتها.
كان من الممكن أن تعمى فتوح العرب الأوائل أبصارهم فيقترفوا من المظالم ما يقترفه الفاتحون عادة، وليسيئوا معاملة المغلوبين ويكرهوهم على اعتناق دينهم ونشره في أنحاء العالم، ولكن الخلفاء السابقين الذين كان عندهم من العبقرية ما ندر وجوده في دعاة الديانات الأخرى - أدركوا أن النظم والأديان ليست مما يفرض قسرا، فعاملوا كثيرا من الشعوب ومن كل قطر استولوا عليه بلطف عظيم، تاركين لهم قوانينهم ونظمهم ومعتقداتهم، غير فارضين عليهم سوى جزية زهيدة في مقابل حمايتهم لهم، وحفظ الأمن بينهم، فالحق أن الأمم لم تعرف فاتحين راحمين متسامحين مثل العرب، ورحمة العرب الفاتحين وتسامحهم كانا من أسباب اتساع فتوحهم واعتناق كثير من الأمم لدينهم ونظمهم، ولغتهم التي رسخت وقاومت جميع الغارات وبقيت قائمة.







توقيع الشهاب الثاقب

هل الله يُعذب نفسه لنفسههل الله يفتدى بنفسه لنفسههل الله هو الوالد وفى نفس الوقت المولوديعنى ولد نفسه سُبحان الله تعالى عما يقولون ويصفون
راجع الموضوع التالي
طريق الحياة و أدلة ساطعه على عدم الفداء


رد باقتباس