السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أدلة وجود الله عز وجل
الحلقة الثالثة
ب - دلالة الآيات الكونية :
إن في خلق السماوات والأرض ، وما بث فيهما من دابة لآيات بينات على وجود الله عز وجل تحرق كل شبهة ، وتخرس كل كفور ، وترغم كل مكابر ومعاند لما تتضمنه من الشهادة لله بالربوبية والألوهيـة على الخلق أجمعين ، فهي بعددها أدلة على ثبوت خالقها جل وعلا .
وإن المتأمل في هذا الكون بما فيه ومن فيه يجد فيه أربعة أدلة رئيسية تهديه إلى الإيمان بالله ، وهي أدلة الخلق ، والتسوية ، والتقدير ، والهداية ، وقد أشارت إليهـا مجتمعة سورة الأعلى في قول الله عـز جـل ( سبح اسم ربك الأعلى ، الذي خلق فسوى ، والذي قدر فهدى ) ( الأعلى : 1-3 ) ،
وأشارت إلى بعضها آيات كثيرة في أماكن شتى من القرآن الكريم كقوله تعالى على لسان كليمه موسى وهو في مقـام التعريف بربه : ( ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ) ( طه : 50 ) وقوله تعـالى على لسان خليـله إبرهيم : ( الذي خلقني فهو يهدين ) ( الشعراء : 78 ) ، وسوف تناول كل دليل من هذه الأدلة بكلمة مناسبة فيمـا يلي :
دليل الخلق من أبين الأدلة وأظهرها على وجود الرب جل وعلا ، وقد صاغه القرآن الكـريم أوجز صياغتة وأبلغها في قوله تعالى : ( أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون ) ( الطور : 35-36 ) .
وقد روى البخاري في صحيحه عن محمد بن جبير عن مطعم عن أبيه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قام يقرأ في المغرب بالطور فلما بلغ هذه الآية ( أم خُلقوا من غير شيء أم هم الخالقون ) كـاد قلبي أن يطير ، وإنما كان انزعاجه عند سماع هذه الآية كما يقول الخطابي لحسن تلقيه معنى الآية ، ومعرفته بما تضمنته من بليغ الحجة فاستدركها بلطيف طبعه ، واستشف معناها بزكي فهمه !
والخطاب القرآني في هاتين الآيتين يواجه الملحدين والمنكرين بهذه الحجة التي لا تملك العقول لها دفعاً ، يقول لهم إنكم لا تمارون في حقيقة خلقكم ولا في حقيقة خلق السماوات والأرض ، كما لا تُمارون في أن المخلوق لا بد له من سبب لوجوده . وإذا تقرر ذلك فلا مناص لكم من الإقرار بوجود الخالق جل في عُلاه .
ولقد صاغ لهم هذه الحجة في الأسئلة الإنكارية : هل خُلقوا من غير شيء فوجدوا بلا خالق ؟ وذلك في الفساد ظاهر ، لأن تعلق الخلق بالخالق من ضرورة الأمر فلا بد له من خالق ، فإذا أنكروا الإله الخالق ، ولم يجز أن يوجدوا بغير خالق أفهم الخالقون لأنفسهم ؟ وذلك في الفساد أظهر ، لأن ما لا وجود له كيف يخلق ؟ وكيف يجوز أن يكون موصوفاً بالقدرة ؟ وإذا بطل الوجهان معاً قامت الحجة عليهم بأن لهم خالقاً فليؤمنوا به
ولقد أدرك هذه الحقيقة البدوي البسيط الذي عاش يرعى إبله في مجاهل الصحراء فكان يقول : البعرة تدل على البعير ، والأثر يدل على المسير ، سماء ذات أبراج ، وأرض ذات فجاج ؟! ألا تدل أنهـا صنعت بتدبير العزيز العليم ؟! كما أقر بها قادة العلوم التجريبية وأساطينها في واقعنا المعاصر ، وعبروا عنها بقانون السببية ، وخلاصته أنه ليس لشيء من المُمكنات أن يحدث بنفسه من غير شيء ولا أن يستقـل بإحداث شيء ، لأنه لا يستطيع أن يمنح غيره شيئاً لا يملكه
ولم يزل علماء المسلمين يواجهون عُتاة المُلحدين بهذا الدليل البدهي فيُبهتون ويذعنون ، فلقد رُوي أن أبا حنـيفة رحمه الله عرض له بعض الزنادقة المنكرين للخالق فقال لهم : ما تقولون في رجل يقول لكـم : رأيت سفينة مشحونة بالأحمال ، مملوءة من الأثقال ، قد احتوشتهـا في لجة البحر أمواج متلاطمة ورياح مختلفة ، وهي من بينها تجري مستوية ، ليس لها ملاّح يُجريها ولا مُتعهد يدفعها ، هل يجوز في العقـل ؟! قالوا : هذا شيء لا يقبله العقل ! فقال أبو حنيفة : يا سبحان الله ! إذا لم يجز في العقل سفينة تجـري في البحر مستوية من غير متعهد ولا مُجر فكيف يجوز قيام هذه الدنيا على اختلاف أحوالها ، وتغير أعمالها ، وسعة أطرافها وتباين أكنافها من غير صانع ولا حافظ ؟! فبكوا جميعاً وقالوا : صدقت ، وتابوا .
وكلما اكتشف العلم جديداً من سنن الخلق كلما قاد هذا العلم المنصفين من رواده إلى الإقرار بوجود الله ، وقد يسوق كثيراً منهم إلى الانخلاع من الكفر والإجابة إلى الإيمان .
ولقد دعا القرآن الكـريم إلى السير في الأرض والتدبر في الخلق ليستيقن الله المرتابون ، ويزداد الذين آمنوا إيماناً ، فقال تعـالى : ( قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخَلق ثمّ الله يُنشئ النشأة الآخـرة ) ( العنكبوت : 30 ) ، وقال تعـالى : ( وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسِكُم أفلا تُبصرون ) ( الذاريات : 21 ) .
ولقد وعد الله عز وجل أن يري الناس من آياته في الآفاق وفي أنفسهم ما تقوم به عليهم الحجة ، وما يتبينون معه أن هذا الدين حق ، فقال تعالى : ( سنُرِيهم آياتِنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يَكف بربك أنه على كل شيء شهد ) ( فصلت : 53 ) .
وحسبنا في هذه الدراسة أن نلقي الضوء على آية أو أكثر من هذه الآيات المبـثوثة في الأنفـس وفي الآفاق ، ثم نُحيل فيما وراء ذلك إلى كتاب الكون المفتوح والذي يتضمن من الأدلة على وجود الله بعدد مما فيه من مخلوقات الله ..
وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد
يتبع بإذن الله