ذهب أهل السنة والجماعة إلى أن المسيح عيسى عليه الصلاة والسلام لم يزل حياً وأن الله رفعه إلى السماء ، وأنه سينزل آخر الزمان عدلا يحكم بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ويدعو إلى ما جاء به من الحق وعلى ذلك دلت نصوص القرآن والأحاديث الصحيحة ...
أولاً:
قال الله تعالى في فرية اليهود والرد عليها : (وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا . بل رفعه الله إليه ، وكان الله عزيزا حكيما )
أنكر سبحانه على اليهود قولهم إنهم قتلوه وصلبوه وأخبر أنه رفعه إليه أي أنه سبحانه قد رفع عيسى عليه الصلاة والسلام بدناً وروحاً ..لأن القتل والصلب إنما يكون للبدن ولأن رفع الروح وحدها لا ينافي دعواهم القتل والصلب فلا يكون رفع الروح وحدها ردّاً عليهم ...
ثانياً:
قال تعالى (وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا) أخبر سبحانه بأن جميع أهل الكتاب سوف يؤمنون بعيسى قبل موته أي موت عيسى وذلك عند نزوله آخر الزمان حكما عدلاً داعياً إلى الإسلام وهذا المعنى هو المتعين فإن الكلام سبق لبيان موقف اليهود من عيسى وصنيعهم معه ولبيان سنة الله في إنجائه ورد كيد أعدائه ، فيتعين رجوع الضميرين المجرورين إلى عيسى رعاية لسياق الكلام ، وتوحيدا لمرجع الضميرين ، وثبت في الحديث الصحيح عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما مقسطا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد ) قال أبو هريرة : ( اقرءاو إن شئتم : (وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته) الآية .
وفي رواية عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( كيف أنتم إذا نزل فيكم ابن مريم وإمامكم منكم ).
وثبت في الصحيح أيضا عن جابر بن عبد الله سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول ( لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة ) قال : ( فينزل عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم فيقول أميرهم : تعالى صل لنا فيقول : لا إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله هذه الأمة )
فدلت الأحاديث على نزوله آخر الزمان ، وعلى أنه يحكم بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
ثالثاً:
تفسير التوفي بالإماتة في قوله تعالى :( إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا ) هي:
أ- مخالفة ما صح عن السلف من تفسيره بقبض الله إياه من الأرض ورفعه إليه حيا وتخليصه بذلك من الذين كفروا جمعا بين نصوص الكتاب والسنة والصحيحة على رفعه حيا وعلى نزوله آخر الزمان وإيمان أهل الكتاب جميعا وغيرهم به .
ب- ما روي عن ابن عباس عن تفسير التوفي هنا بالإماتة غير صحيح لانقطاع سنده إذ هو من رواية علي بن أبي طلحة عنه ،و علي لم يسمع منه ولم يره ، وإنما روى عنه بواسطة ، ولم يصح أيضا ما روي عن وهب بن منبه اليماني ولم يره ، وإنما روى عنه بواسطة ،ولم يصح أيضا ما روي عن وهب بن منبه اليماني من تفسير التوفي بالإماتة لأنه من رواية ابن إسحاق عمن لا يهم عن وهب ، ففيه عنعنة ابن إسحاق وهو مدلس ، وفيه مجهول ..
ج- إن هذا التفسير لا يزيد عن كونه إحتمالا في معنى التوفي ، فإنه قد فسر بأن الله قد قبضه من الأرض بدنا وروحا ورفعه إليه حيا ، وفسر بأنه أنامه ثم رفعه ، وبأنه يمييته بعد رفعه ونزوله آخر الزمان ، إذ الواو لا تقتضى الترتيب ، وإنما تقتضي جمع الأمرين له فقط .
د- إن من يقول بإماتة الله لعيسى حين كاد له اليهود إما أن يعترف بنزول عيسى عليه السلام آخر الزمان عملا بما ورد من الأحاديث الصحيحة في ذلك وإما أن ينكر نزوله ، فإن اعترف به لزمه أن يثبت لعيسى موتا ثم حياة في الدنيا ثم موتا عند الكيد والرفع ثم حياة ثم موتا بعد النزول ثم حياة عند البعث وهذا مخالف بلا دليل لقوله تعالى: ( كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون ) ولقوله تعالى: ( قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل ) وإن أنكر نزوله بعد رفعه كان رادا للأحاديث الصحيحة المتلقاة بالقبول عند علماء المسلمين الشاهدة شهادة صريحة بنزوله ودعوته إلى الحق وحكمه به وقتله الخنزير وكسره الصليب .. الخ ما ثبت من أحواله بعد نزوله ..
كلا الأمرين لا مخلص منه إلا بالقول بما قال به أهل السنة والجماعة من إنجاء الله عيسى من كيد اليهود ورفعه إليه بدنا وروحا ، وإنزاله آخر الزمان حكما عدلا .
رابعاً:
لو سُلِّم بأن المراد من الآية رفع الدرجات والمنزلة في حق إدريس عليه السلام فلا يلزم أن يكون ذلك مدلول الآيات الواردة في عيسى عليه السلام.. لأنها صريحة في رفع الجسد والروح معا، لما يأتي:
أ- أن الله تعالى قيد هذا الرفع بأنه إليه حيث قال: ( ورافعك إلي )، وقال: ( بل رفعه الله إليه )، ومن المتقرر في الكتاب والسنة وإجماع المسلمين أن الله تعالى في العلو، فيكون رفعه عليه السلام إلى السماء، بخلاف الرفع في حق إدريس عليه السلام فإنه مطلق: ( ورفعناه مكانا عليا )، ويدرك الفرق بين الأسلوبين كل من شم للغة العربية رائحة.
ب- أنه لو سُلِّم بأن الآية تحتمل معنى رفع المنزلة والمكانة فإن الأحاديث الواردة في هذا الموضوع صريحة المعنى وقاطعة الدلالة على أن الرفع كان للروح والجسد معا، وكذا النزول آخر الزمان.
ففي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير) البخاري 4/134 ومسلم 1/135 .
وفي صحيح مسلم 4/2253 أنه عليه الصلاة والسلام قال: ( ... إذ بعث الله المسيح بن مريم فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين [ أي ثوبين مصبوغين ] واضعا كفيه على أجنحة ملكين، إذا طأطأ رأسه قطر وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ، فلا يحل لكافر يجد ريح نَفَسه إلا مات، ونَفَسه ينتهي حيث ينتهي طرفه، فيطلبه [ أي يطلب الدجال ] حتى يدركه بباب لد فيقتله، ثم يأتي عيسى بن مريم قومٌ قد عصمهم الله منه فيمسح وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة ).
والأحاديث في هذا بالعشرات، فهل يُقال بعد ذلك إن هذا الرفع كان للروح فقط؟
ج- أن قوله تعالى: ( وما قتلوه وما صلبوه ولكن شُبه لهم، وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه ) دليل واضح كالشمس على ما تقرر آنفا مما يؤمن به المؤمنون قاطبة؛ فقوله تعالى: ( بل رفعه الله إليه ) يدل على أن رفعه كان للبدن والروح إذ لو أريد موته لقيل: وما قتلوه وما صلبوه بل مات، وهذا واضح تمام الوضوح لمن تأمل، وكان ذا بصيرة وحسن قصد .
خامساً:
ما المانع أن يكون حيا بجسده وروحه في السماء وسائر الأنبياء بأرواحهم؟ وهل تقاس هذه الأمور الغيبية على الأمور المشاهدة؟
إن على المؤمن الذي آمن بالله ربا وبالنبي صلى الله عليه وسلم نبيا وبالإسلام دينا أن يؤمن ويُسلِّم بكل ما جاء في الوحي الشريف دون الدخول بعقله فيما لا يدرك.
وإلا فيلزم من يقول أن النبي عيسى قد مات أن يكذب بالمعراج من أصله إذ كيف عُرج بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء وسلّم على الأنبياء وخاطبهم وهو حي وهم أموات؟ فكما يقولون في هذا فليقولوا في ذاك .
سادساً:
لأهل العلم في تفسير الآية أقوالا أخرى في تفسير معنى "التوفي" منها:
أن التوفي بمعنى القبض، وليس الوفاة المعروفة.
ومنها أن الوفاة هنا بمعنى النوم، أي رفعه الله وهو في حالة النوم، والنوم يسمى وفاة، كما قال تعالى: ( الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها )، وقال: ( وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ) .
سابعاً وأخيراً:
من زعم أن عيسى عليه الصلاة والسلام صلب أو قتل فهو فقد خالف صريح القرآن ولما ثبت من الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن قال من المسلمين أن الله تعالى أمات عيسى عليه الصلاة والسلام موتا حقيقيا ثم رفعه إليه حينما كاد له اليهود وعزموا على صلبه وقتله فقد شذ عن جماعة المسلمين وضل عن سواء السبيل ، لمخالفته ظواهر نصوص القرآن والسنة..
توقيع زهراء |
مَـا خـَابَتْ قُـلُـوْب أَوْدَعَـتْ الْـبـَارِي أَمـَانِيـْهَـا |