السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أدلة وجود الله عز وجل
الحلقة الخامسة
التقدير : هو خلق كل شيء بمقدار وميزان وترتيب وحساب بحيث يتلاءم مع مكانه وزمـانه ، وبحيث يتناسق مع غيره من الموجودات القريبة منه والبعيدة عنه .
فإذا كانت التسوية إعطاء كل شيء من الخلق والتصوير ما يُؤدي به وظيفته على الوجه اللائق به ، فإن التقدير أن يكون بالقدر الذي ينفع به نفسه ولا يضر غيره ولا يصطدم بالمخلوقات الأخرى ، وذلك يتم إذا ما وضع في مكانه الملائم وزمانه المناسب ، وبالكم الذي يصلح ولا يفسد ، وعلى الكيفية التي يتحقق بهـا التناسق والتوازن بين وحدات الكون وأجزائه وينتظم بها سير الوجود .
وهذا التقدير ظاهرة عامة في كل شيء كما نبه القرآن على هذه الحقيقة إذ قال تعالى : ( وخَلقَ كل شيء فقدره تقديراً ) ( الفرقان:2) ، ( قد جعل الله لكل شيء قدراً ) ( الطلاق : 3 ) ، ( وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما نُنـزله إلا بقدر معلوم ) ( الحجر : 21 ) .
ولنتأمل معا عزيزي القارئ بعض الظواهر الكونية التي تتجلى فيها آية التقدير والتي لا يملك المنصفون معها إلا أن يخروا لله سُجداً وبُكياً .
إن شمسـنا هذه لو أعطت نصف إشعاعهـا الحالي ، لتجمدت الحياة والأحياء ، ولو أنها زادت بمقدار النصف ، لكنا رماداً منذ زمن بعيد .
ولو كان قمرنا يبعد عنا 20.000 ميلاً بدلاً من بعده الحالي - ولم لا وقمر المريخ يبعد عنه 60.000 ميلاً - لكان المدُّ يبلغ من القوة بحيث أن جميع الأرض تُغمر مرتين في اليوم بمـاء متدفق يزيح الجبـال من مواقعها !
- ولو كان الأكسجين بنسبة 50% أو أكثر من الهواء بدلاً من 21% فإن جميع المواد القابلة للاحتراق في العالم تصبح عرضه للاشتعال لدرجة أن أول شرارة في البرق تُصيب شجرة لا بد أن تُلهب الغابة كلها .
ولو كانت مياه المحيطات حلوة لتعفنت وتعـذرت الحياة على الأرض ، حيث إن الملح هو الذي يمنـع حصول التعفن والفساد .
ولو كان محـور الأرض معتدلاً بـدل هذا الميل الحـالي الذي مقداره 23 درجة مع سكون الأرض ، لتجمعت قطرات المياه المتبخرة من المحيطات والبحار ونـزلت في مكانين محدودين في الشمـال والجنوب وكونت قارات الجمد ، ولظل الصيف دائماً والشتاء إلى الأبد ، ولهلك الناس والحياة والأحياء .
ولو كانت الأرض كعطارد لا يدير إلا وجهاً واحداً منه نحو الشمس ، ولا يدور حول محوره إلا مرة واحدة في خلال الدورة الكاملة للشمس ، أو بتعبير آخر لو كان قسم من الأرض ليلاً دائماً والآخـر نهاراً دائماً لما عاش أحد حيث الليل الدائم والنهار الدائم ولما كانت حياة .
- بل لولا الموت ماذا يحدث ؟ قالوا لو أن ذبابتين تولدتا هما وأولادهما دون موت فإنه بعد خمس سنوات تتشكل طبقة من الذباب حول الكرة الأرضية ارتفاعها 5 سم . وهذا جنس واحد من المخلوقات فكيف إذا كانت المخلوقات كلها تتوالد ولا تموت ؟!
ومن الطريف أنه منذ سنوات عديدة زرع نوع من الصبار في أستراليا كسياج وقائي ولكن هذا الزرع مضى في سبيله حتى غطى مساحة تقرب من مساحة إنجلترا ، وزاحم أهل القرى وأتلف مزارعهم ، ولم يجد الأهالي وسيلة لصده عن الانتشار ، وصارت أستراليا في خطر من اكتساحها بجيش من الزرع الصـامت ، يتقدم في سبيله دون عائق .
وطاف علماء الحشرات بنواحي العالم حتى وجدوا أخيراً حشرة لا تعيش إلى على ذلك الصبـار ولا تتغذى بغيره ، وهي سريعة الانتشار ، وليس لها عدو يعرفها في أستراليا ، وما لبثت هذه الحشرة أن تغلبت على الصبار ثم تراجعت ولم يبق منها سوى بقية قليلة للوقاية تكفي لصد الصبار عن الانتشار إلى الأبد .
ومن المعلوم أن كل الكائنات الحية تمتص الأكسجين وتلفظ ثاني أكسيد الكربون ، أما النبات فهو على العكس يستعمل ثاني أكسيد الكربون ويلفظ الأكسجين ، فهناك تبادل مشترك بين الإنسان والحيوان من جانب وبين جميع النباتات والغابات من جانب آخر ، وبدونه تنتهي حياتنا في دقائق معدودة ، تُرى من ذا الذي قدر هذا التناسق وأقام هذا التوازن ، ووضع هذا النظـام المُحكم ؟! ألا يدل ذلك على وجود العليم الحكيم الذي يُدبر الأمر كله ؟ بلى ونحن على ذلك من الشاهدين .
الهداية من أظهر الأدلة الكونية على وجود الله جل وعلا ، ويقصد بها في هذا المقام أن كل خلق من مخلوقات الله قد ألهم غاية وجوده ، وهدى إلى ما خلق من أجله ، فهي الإلهام الفطري أو الغريزي الذي تتوجه به المخلوقات قاطبة إلى أداء دورها وتحقيق وظيفتها في هذه الحياة .
وهذه الهداية عامة لا تتعلق بالمكلفين فحسب ، وليست مقصورة على الكائنات التي تتحرك بالإرادة فحسب ، ولكنها هداية مبثوثة في كل شيء في هذا الوجود لتحمل في طياتها أبلغ الأدلة على وجود الرب جل وعلا وبديع صنعه وتدبيره .
تأمل في أهداب الجفن الأعلى ، للعين ستجدها تنحني وتتجه إلى أعلى بخلاف أهداب الجفن الأسفـل فإنها تنحنى وتتجه إلى أسفل ولو انعكس ذلك لتشوهت الرؤية .
تأمل في أسنان الفك الأسفل ستجدها تتجه إلى أعلى بينما تتجه أسنان الفك الأعلى إلى أسفل ،
وتأمل في الأنياب تنمو فوق الأنياب ، والأسنان فوق الأسنان ، والأضراس فوق الأضراس ، فمن ذا الذي هـدى كل شعرة في الجفون وكل سن في الأفواه بحيث تؤدي دورها الذي خلقت من أجله في سهولة ويسر ؟!
فإذا انتقلنا إلى آية الهداية في عالم الحيوان فإننا سنقف على العجب العجاب مما يذهل العقول والألباب،
يتحدث ابن القيم في شفاء العليل عن هداية النمل فيقول : إن حشرة المن التي يطـلق عليها أحياناً قمل النباتات التي نراها على أوراق بعض النبات يرعاها النمل ليستفيد منها ، ففي الربيع الباكر يرسل النمل الرسل لتجمع له بيض هذا المن ، فإذا جاءوا به وضعوه في مستعمراتهم حيث يضعون بيضهـم ويهتمون ببيض هذه الحشرات كما يهتمون ببيضهم ، فإذا فقس بيض المن وخرجت منه الصغار أطعموها وأكرموها ، وبعد فترة قصيرة يأخذ المن يدر سائلا حلواً كالعسل كما تدر البقرة اللبن ، ويتولى النمل حلب هـذا المن للحصول على هذا السائل وكأنها أبقار .
وكما يعنى النمل بالرعي على هذا النحو يعنى كذلك بالزرع وفلاحة الأرض ، فلقد لاحظ بعـض العلماء في إحدى الغابات أن قطعة من الأرض تبلغ مساحتها خمسة أقدام طولاً في ثلاثة عرضاً قد نما بهـا أرز قصير يبلغ طوله ستة سنتيمترات ، ويبدو للنـاظر أن أحداً يعتني بها ، فالطينة حول الجـذور كانت مشققه والأعشاب الغريبة كانت مستأصلة ، ولاحظ أن طوائف من النمـل تتردد على هـذه المنطقة ، فعكف على ملاحظة هذه البقعة ثم لم يلبث أن عرف أن هذا النمل هو القائم بزراعة الأرز في تلك البقعة من الأرض ، وأنه اتخذ من زراعتها مهنة له تشغل كل وقته ، فبعضه كان ينسق الأرض ويحرثها ، وبعضه كان يزيل الأعشاب الضارة فإذا بدأ موسم الحصاد شوهد صف من شغالة النمل لا ينقطع متجهـاً نحو العيدان فيتسلقها إلى أن يصل إلى حبوب الأرز ، فتنـزع كل شغالة من النمل حبة من تلك الحبـوب وتهبط بها سريعاً إلى الأرض ثم تذهب بها إلى مخازن تحت الأرض ، وساق من تفاصيل ذلك ما تذهـل له العقول !!!
والهداية في عالم النبات لا تقل عنها في عالم الحيوان ، فليس من قبيل المصادفة البحتة أن يتجه جـذر النبات نحو الأرض ليمد النبات بالماء والمواد اللازمة لنموه وأن يتجه الساق إلى أعلى نحو الهواء ، ليتمكن عن طريق الأوراق من التنفس وتكوين المواد الغذائية عن طريق الطـاقة المستمدة من الشمس ، وحسبك أن كل نوع منه يمتص ما يناسبه من عناصـر الأرض بنسب محدودة ومقـادير معلومة رغم اتحـاد التربة واختلاط العناصر فيها ، فتجد اختلاف الطعوم والألوان والثمرات ، بل ترى الشجرتين أو الشجـرات متجاورة بل متلاصقة : التراب واحد والهواء واحد والماء واحد والضوء واحد ولا تخطئ شجرة واحـدة منها يوماً فتأخذ ما ليس من مخصصاتها ، وصدق الله العظيم ( وفي الأرض قطع متجاورات وجنـات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ) ( الرعد : 4 )
ترى من ذا الذي هـدى الإنسان والحيوان والنبات وسائر المخلوقات على هذا النحو البديع المذهل ؟ !
أجيبوا يا أولي الألباب !
يتبع بإذن الله