نواصل على بركة الله تعالى
الدافع الثامن
( سلامة القرآن من الاختلاف والتناقض )
والدافع الثامن الذي حمل المسلمين على العناية بالقرآن حفظا ، وفقها ودفاعا عنه :
سلامة القرآن من الاختلاف والتناقض ،
ذلك أن القرآن لم ينزل – كما هو معلوم – جملة واحدة ، وإنما نزل منجما حسب الحوادث والوقائع ومراعاة لظروف الجماعة الناشئة التي خاطبها أول مرة ، بل الناس جميعا ، إلى قيام الساعة من التدرج والمرحلية لزحزحة , وإزاحة الجاهلية من طريق الناس .
ومعروف لدى الكتاب والباحثين أن من ينشئ بحثا أو يكتب مقالا ، أو يصنف مؤلفا لاسيما على فترات متباعدة يتباين في بحثه الأسلوب ويقع فيه التكرار ، و في التكرار - ربما التناقض والاختلاف -، وليس القرآن كذلك ، لا من حيث اللفظ ولا من حيث الأسلوب ولا من حيث الموضوع والمعني .
وقد حاول نفر من الحاقدين والجاحدين قديما وحديثا : الطعن في هذا القرآن من هذا الباب من أمثال : ابن النغريلة اليهودي قديما – وكان معاصرا للعلامة بان حزم الأندلسي – وجولد زيهر المستشرق المعروف في العصر الحاضر،
وعلى سبيل المثال لا الحصر قالوا : إن من مظاهر الاختلاف والتناقض في القرآن وضعه للعجل الذي قدمه إبراهيم لضيوفه أنه ( سمين ) أي : كثير اللحم والشحم (1) والثانية : ( حنيذ ) وهو المشوي الذي سال دهنه (2) ، فزال الإشكال وغير هذا كثير .
وقد باء كل ذلك بالفشل ، ورد الله سهام هؤلاء إلى نحورهم . وصدق الله الذي يقول : {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيراً} [ النساء : 82 ] ...
يقول العلامة الألوسى رحمه الله ( وأصل التدبر : التأمل في أدبار الأمور وعواقبها ، ثم استعمل في كل تأمل سواء كان نظرا في حقيقة الشيء وأجزائه، أو سوابقه وأسبابه ، أو لواحقه وأعقابه ، والفاء للعطف على مقدر ، أي : أيشكون في أن ما ذكر شهادة الله تعالى ،
أفلا يتدبرون القرآن الذي جاء به هذا النبي – صلى الله عليه وسلم – المشهود له - ليعلموا كونه من عند الله فيكون حجة رأي حجة ، وأي المقصود)(1)
وهكذا كانت سلامة القرآن من الاختلاف والتناقض عاملا مهما من عوامل العناية به وصيانته .
الدافع التاسع
( توقف الدخول في علم أو علوم أخرى على القرآن )
والدافع التاسع الذي أدى إلى العناية بالقرآن حفظا وفقها على النحو الذي ذكر أنفا :
توقف الدخول في علم أو علوم أخرى على القرآن :
ذلك أن تاريخنا نحن المسلمين حافل : أنه ما كان يقبل دخول الطالب في أي علم من العلوم – لاسيما علم الحديث رواية ودراية – إلا إذا كان حافظا للقرآن والكريم ، بل عالما بحروفه وقراءته ويجري له امتحان عملي للتأكد من ذلك :
( عن الوليد بن مسلم : كنا إذا جالسنا الأوزاعى ، فرأي حدثا قال: يا غلام ، قرأت القرآن ؟ فإن قال نعم ، قال : { يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْن ....} وإن قال : لا ، قال اذهب فتعلم القرآن قبل أن تطلب العلم)(1)
( وكان يحيي بن يمان إذا جاءه غلام أمرد استقرأه رأس سبعين من الأعراف، ورأس سبعين من يوسف وأول الحديد فإن حدثه ، وإلا لم يحدثه ) (2)
واستمرت الحال كذلك حتى عصرنا هذا ، إذ تشترط بعض البلدان المسلمة للالتحاق بالمدارس قضاء فترة زمنية بالكتاتيب يحفظ الطالب فيها جزءا من القرآن على الأقل ،
بل لقد شاهدنا في مصر إبان الاحتلال الإنجليزي لها : أن حفظه القرآن يعفون من التنجيد الإجباري ، الأمر الذي حمل كثيرين جهلا منهم ، وعدم تقدير للجهاد والجندية أن يحفظوا القرآن لئلا يصيبهم التجنيد الإلزامي ! وكانت تجري امتحانات ، وامتحانات صعبة لتمييز الحافظ من غيره .
بل أتت على الأزهر فترة ما كان يقبل طالبا يلتحق به إلا إذا كان حافظا للقرآن متقنا متينا ، ويدخل مسابقة رسمية يعقد له فيها امتحان على يد لجنة مؤلفة من اثنين من فطاحل العلماء إن لم تزد على ذلك ،ويعرف بهذا الامتحان قيمة ومقدار حفظه ، وهكذا كان الشرط لدخول وظيفة أو مدرسة أو معهد شرعي ، أو الخروج من التجنيد دافعا قويا للمسلمين على العناية بالقرآن الكريم.
الدافع العاشر
( الحرب الضروس المعلنة من الأعداء على القرآن الكريم وأهله )
والدافع العاشر الذي حمل المسلمين على العناية بالقرآن الكريم حفظا وتدبرا وفقها :
الحرب الضروس المعلنة من الأعداء على القرآن الكريم وأهله ،

ذلك أنه منذ بدء نزول القرآن الكريم ، وحتى يومنا هذا ، والحرب الضروس من الأعداء على هذا القرآن وأهله لم تتوقف لحظة واحدة . مرة بإثارة الشبه والافتراءات حول القرآن الكريم ،
كما قال الله عز وجل{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ }
[ الفرقان : 4 ] . { وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا } [ الفرقان : 5 ] . { بَلْ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ } [ الأنبياء : 5 ] .
ومرة بتعذيب المؤمنين بهذا القرآن الداعين إليه ، على نحو ما وقع لبلال ، وخباب ، وابن مسعود ، وآل ياسر وسائر المستضعفين في مكة ،
وعلى نحو ما وقع ويقع للمسلمين على مر العصور في الأندلس وفي أريتريا ، والفلبين ، وتايوان ، وتايلاند ، والهند والصين ،وكشمير وفلسطين ، والمغرب العربي أو الشمال الأفريقي ، وغير ذلك من بلاد العرب والعجم ،
بهدف قطع هؤلاء عن القرآن وصرفهم إلى المبادئ الهدامة التي ينشرونها في الناس ويحمونها بالحديد والنار .
ومرة بالإغراء في صورة من صور الإغراء : مالاً أو وظيفة أو جاها أو نحو ذلك على نحو ما صنع عتبة بن ربيعة مع النبي صلى الله عليه وسلم .
ومرة بالدخول في حظيرة هذا القرآن اليوم والخروج عليه غدا ، محدثين زلزالا في نفوس الضعفاء من المؤمنين : أنه لو كان في هذا القرآن خير ما تركوه ،
كما قال – الله عز وجل – { وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [ آل عمران : 72 ] .
وقابل المسلمون – لاسيما علماؤهم – كل كيد بما يناسبه ، مرة بتفنيد الشبهات ورد الافتراءات ، ومرة بالصبر والتحمل ، ومرة بالاستعلاء على شهوات الأرض وزخارف الحياة الدنيا ، ومرة ،
وهذا الأمر الذي حمل آخرين من غير المسلمين أن يقبلوا على القرآن يتدبرونه ، ويشرح الله صدورهم فيسلمون ، ويصبحون من حملة هذا القرآن ، العاملين به ، الداعين إليه ، المجاهدين في سبيله . وصدق الله { وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ }[ البقرة : 21 ] .
(1) انظر : المعجم الوسيط 1 / 451 .
(2) انظر : المعجم الوسيط : 1/202
(1) انظر : روح المعاني 5/92 ن2
(1) انظر : الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب : 1/160 .
(2) انظر : الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع : 1/160 .
يتبع باذن الله تعالى