في أحد أكثر الأيام إثارة، وبينما أنا و زوجي نكد ونسعى في كل اتجاه،
صدر عن طفلي "رامي" ذي الأربع سنوات والنصف سوء سلوك،
فقمنا بتوبيخه ثم تكرر منه خطؤه، وبعد عدة محاولات منا لردعه عن تصرفاته السيئة،
قام والده بمعاقبته بأن فرض عليه ملازمة أحد أركان المنزل وعدم التحرك منه،
وأذعن الطفل للعقاب وظل هادئا إلا أنه لم تبد عليه السعادة، بطبيعة الحال.
لكنه،في النهاية، وبعد بضع دقائق قال :"سأهرب من المنزل".
في البداية اندهشت، وشعرت بالغضب لما قاله، ودون تفكير قلت له:"أحقا؟"
ولكن عندما استدرت لأنظر إليه بدا ملاكا، غاية في الصغر والبراءة و على وجهه مسحة حزن.
وعندما لمست فيه أمارات الحزن،تذكرت لحظة مرت علي في طفولتي تفوهت فيها بنفس الكلمات نتيجة إحساسي بالوحدة و كراهية من حولي.
لقد كان لسان حاله ينطق بما هو أكثر مما تنبئ به ألفاظه.لقد صرخ من أعماقه:حذار من أن تتجاهلوني.
استشعروا وجودي أرجوكم !فكما تشعرون بأهميتكم أنا الآخر لي أهمية.
أرجوكم، أشعروني بأني مرغوب في، دعوني أشعر بحبكم و باحتياجكم لي".
فهمست إليه في حنو وقد بدأت في حزم أمتعتي:"حسنا يا رامي، يمكنك الهرب من المنزل"..
حسنا سنحتاج إلى ملابسك المنزلية، ومعطفك، و.." فقال:"ماما، ماذا تفعلين؟"
"سأحتاج أنا الأخرى إلى معطفي، وثياب النوم" ثم حزمت تلك الأشياء في حقيبة ووضعتها قبالة الباب الأمامي.
"حسنا يا رامي، أمتأكد أنت من أنك تريد الهروب من المنزل؟".
"أجل، لكن، وأنت، إلى أين ستذهبين؟".
" حسنا، إذا ما كنت تنوي حقا الهروب من البيت، فان ماما ستهرب معك،
لأنني لا أود أبدا أن أتركك وحدك؛ فأنا أحبك بشدة يا "رامي".
ثم سألني وقد تمسك كل منا بالآخر:"لماذا تودين المجيء معي؟".
فنظرت إلى عينيه وقلت:"لأني أحبك يا رامي، فبدونك لن تصبح حياتي حياة".
لذا فاني أريد أن أطمئن عليك،وإذا مضيت سأمضي معك".
" وهل من الممكن أن يأتي والدي معنا؟".
"كلا، فعلى والدك أن يمكث في المنزل مع إخوتك سلمى و إياد.
بالإضافة إلى أن والدك لديه عمله، وعليه أن يرعى المنزل في غيابنا".
"وماذا عن سن سن (قطة أليفة) هل ستأتي معنا؟"
"كلا، فينبغي أن تظل سن سن هي الأخرى بالمنزل".
صمت الطفل برهة ليفكر قبل أن يقول:
"أمي هل يمكننا البقاء في البيت؟".
"أجل يا رامي، يمكننا البقاء بالبيت".
"أمي"
"نعم يا رامي؟"
"أحبك يا أمي".
" وأنا أيضا أحبك، يا حبيبي.ما رأيك أن تساعدني في إعداد الفيشار؟".
"حسنا".
أدركت في هذه اللحظة معنى النعمة العظيمة التي حباني الله بها، نعمة الأمومة،
فليست المسؤوليات، التي تحملها الأم على عاتقها في سبيل إنماء إحساس طفلها بالأمان والاعتداد بالذات،
بالأمر الهين الذي يمكن تجاهله،
وأدركت كذلك أنني أحمل بين ذراعي عطية أخرى غالية،ألا وهي نعمة الطفولة.
نعمة أن يكون لك طفل مثل قطعة جميلة من الصلصال.
طفل يرغب ويريد أن تحضنيه أيتها الأم ، طفل تشكلينه بيديك في أروع صورة ليصبح فتى بهي الطلعة واثقا من نفسه.
لقد تعلمت أنني كأم ينبغي علي ألا أهرب وأفوت على نفسي فرصة
أن أظهر لأطفالي مدى احتياجي إليهم ورغبتي فيهم و أهميتهم لدي، وكم أحبهم،
وأجعلهم يدركون أنهم أغلى نعمة ينعم الله بها على الآباء.