الموضوع
:
ملاحظات حول ترجمة معاني القرآن للمستشرق الفرنسي جاك بيرك - دكتور حسن عزوزي
اعرض مشاركة منفردة
Tweet
Share
رقم المشاركة :
6
(رابط المشاركة)
27.11.2011, 03:30
د/مسلمة
مديرة المنتدى
______________
الملف الشخصي
التسجيـــــل:
04.01.2010
الجــــنـــــس:
أنثى
الــديــــانــة:
الإسلام
المشاركات:
5.627
[
عرض
]
آخــــر نــشــاط
15.01.2020 (11:34)
تم شكره 1.168 مرة في 800 مشاركة
ثانيا: التحريف المعجمي
المقصود بالتحريف المعجمي إطلاق معان غريبة وبعيدة عن المدلولات القرآنية المعروفة، ومهما حاول جاك بيرك تسويغ تلك المعاني المستهدفة فإن المتخصص في التفسير القرآني لا يمكن أن يستسيغها في مجال الترجمة لأن روح المعاني القرآنية المنشودة تفتقد أثناء الترجمة وبالتالي يختل المعنى وينعدم المطلوب والمقصود من نقل كلام الله تعالى إلى لغة أجنبية.
1- لفظة الأمي
مما لاشك فيه أن جل المستشرقين لا يؤمنون بأمية نبينا عليه الصلاة والسلام، وهم يرون أنه لم يكن جاهلا بالقراءة والكتابة محاولين تدعيم رأيهم بأدلة واهية، وذلك من أجل الخلوص إلى نتيجة مفادها أنه صلى الله عليه وسلم قد استفاد من التوراة والإنجيل اللذين كانا نِعم العون له في نسج تعاليم القرآن الكريم.
ولا غرابة في ذلك، فمسألة كتابة الرسول صلى الله عليه وسلم وقراءته تعد نقطة جوهرية في الإيمان بالإسلام، إذ لو أن مستشرقا قال بأمية الرسول عليه السلام ونفى القراءة والكتابة عنه وأنه كما وصفه القرآن لاستوجب ذلك منه منطقيا الإيمان بالإسلام لأنه عندئذ يكون القرآن من مصدر إلهي غير بشري.
وإذا كانت خلفيات معظم المستشرقين الدينية لا تسمح لهم بالإقرار بأمية الرسول عليه الصلاة والسلام مما يحاولون تأكيده كلما أرخوا للسيرة النبوية أو تحدثوا عن مصدر القرآن الكريم، فإن الأمانة العلمية تفرض عليهم وعلى غيرهم أن يترجموا لفظة " الأمي" الواردة في القرآن كما يدل عليه المعنى المراد والذي يعونه جيدا بطبيعة الحال.
ولنقف عند ترجمة جاك بيرك للفظة "الأمي" من قوله تعالى:
"الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ"
( الأعراف 157 ) حيث ترجمها بقوله : " Le prophète maternel qu il trouvent chez eux inscrit.. "
والترجمة نفسها نجدها في الآية التالية :
"فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ"
( الأعراف:158 ) .
وعند مراجعتنا لمختلف الترجمات القرآنية التي وضعها المستشرقون والمسلمون على السواء وجدناها تترجم اللفظة إما بلفظة : illetré :أي الذي لا يقرأ ولا يكتب وهي الترجمة الصحيحة وقد اهتدى إليها حمزة بوبكر وغيره، أو gentil كما عند حميد الله وريجيس بلاشير نسبة إلى الأميين الوثنيين الذين لم يصدقوا رسولا أرسله الله ولا كتابا أنزله الله،
وقـد أورد ابن جرير الطبري هذا الوجه في تفسيره عند تفسيره لقوله تعالى:
"وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ"
( البقرة:78 ) ، لكنه قبـل ذلك أكد معنى الجهل بالقراءة والكتابة عندما قال: قال أبو جعفر: يعني الذين لا يكتبون ولا يقرؤون ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم:
"إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب"
.
أما ما ذهب إليه جاك بيرك من ترجمته للفظة "أمي" بـ maternel نسبة إلى الأم mère فهي ترجمة واهية لا تحقق المراد من نقل المعنى الأصلي للفظة، بل إنها تثير الالتباس والاضطراب لدى القارئ،
إذ ما الذي يمكن استيعابه وفهمه من جملة le prophéte maternel ، ومهما ذكر بعض المفسرين من أنه إنما قيل للأمي أمي نسبة له بأنه لا يكتب إلى أمه لأن الكتاب كان في الرجال دون النساء، فنسب من لا يكتب ولا يخط من الرجال إلى أمه في جهله بالكتابة دون أبيه".
فإن ذلك لا يعدو أن يكون وجها تفسيريا للفظة يعود بها إلى أصل وضعها، لكنها وفق ذلك المعنى لا يمكنها أن تؤدي المعنى المراد في السياق القرآني، وبالتالي فإنه لا يجوز أن تترجم على ذلك النحو.
وما لنا نذهب بعيدا وهذا كتاب الله تعالى بعد أن وصف محمدا عليه السلام بأنه أمي في سورة الأعراف فسَّر معنى هذا الوصف في سورة العنكبوت التي هي مكية أيضا فقال:
"وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ"
( العنكبوت:48 ) .
وهذه السورة نزلت بعد الأعراف بوقت طويل وهي من آخر السور المكية نزولا بل إنه لم ينـزل بعدها بمكة إلا سورة واحدة.
ويذكرنا صنيع جاك بيرك هذا بما ترجم به المستشرق الفرنسي أندريه شوراكي لفظة الرحمن الرحيم بـ: le matriciant , le matriciel نسبة إلى لفظة:matrice التي تعني رحم المرأة، وقد أخذ ذلك من إحدى اشتقاقات لفظة الرحمة التي ذكرها المفسرون والتي لا يمكن أن يضعهـا مقابلا للرحمن الرحيم. إلا من استهدف تحريف القرآن والتشويش على قرائه باللغة الفرنسية.
إن ترجمة بيرك للأمي بـ: maternel يلائم هدف المترجم المتمثل في إضفاء معنى مثير للحرج بالنسبة إليه وهو النصراني، ولكن بالنسبة إلينا نحن المسلمين فإن اللفظة تمثل حقيقة دينية بالغة الأهمية في سياق العقيدة الإسلامية الصحيحة، إنها من آيات ودلائل نبوته عليه الصلاة والسلام، فهو أمي أتى بكتاب يعجز الإنس والجن مجتمعين أن يأتوا بسورة من مثله.
وإذا كان بيرك قد سعى جاهدا إلى إخفاء معنى الأمية من آيتي الأعراف، فإن المثير للغرابة أنه عندما ترجم قوله تعالى:
"وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ"
( البقرة:78 ) ترجم لفظة " أميون" بـ:incultes التي تعني " غير المثقفين" من لفظة الثقافة Culture ، وهذا المعنى يعد أقرب إلى الجهل بالقراءة والكتابة لكن المترجم الذي استعمل هذا المعنى في سياق الحديث عن اليهود الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني أبى في سياق الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمي إلا أن يمعن في الإغراب ويستعمل في الترجمة مرادفا بعيدا كل البعد عن المعنى المراد، وهو يعلم جيدا أن " الأميين" في سورة البقرة هي جمع للأمي في سورة الأعراف.
ونود بهذا الصدد الإشادة بعملية التصحيح التي قام بها الشيخ صبحي الصالح -رحمه الله- لترجمة المستشرقة الفرنسية دنيس ماصون للقرآن الكريم حيث يلاحظ المطالع لهذه الترجمة أن لفظة الأمي في آيتي الأعراف قد مُحِيتـا وكُتِب محلها بخط مطبعي مغاير Le prophéte qui ne sait ni lire ni écrire ( النبي الذي لا يقرأ ولا يكتب ) ،وهي أفضل ترجمة تؤدي المعنى المنشود، وهو ما سوف يتحقق من مختلف الترجمات التي يسعى مجمـع الملك فهـد لطباعـة المصحف الشريف إلى إنضاجها على أساس نقل "التفسير الميسر" الذي أصدره عام 1419هـ إلى مختلف اللغات العالمية، وهو التفسير الذي جاء فيه عند الآية ( 157 ) من الأعراف :
"ويتبعون الرسول النبي الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب وهو محمد صلى الله عليه وسلم الذي يجدون صفته وأمره مكتوبين عندهم في التوراة والإنجيل"
.
2- لفظة "الجهل" ومشتقاتها
تأتي لفظة "جهل" ضمن مشتقات كثيرة في القرآن الكريم منها ( تجهلون ) ( يجهلون ) ( الجاهل ) ( الجاهلين ) ( جهولا ) وغيرها.
وقد ترجمها جاك بيرك في جميعها بلفظة: paien التي تعني وثني أو عابد الأصنام وقد يترجمها أحيانا بما يعني عـدم المعرفة وهي الترجمة الأقرب إلى الصواب، غير أن المثير للانتباه هو أن المترجم يكاد يعمم المعنى الأول في جميع الآيات، فتنحرف بذلك معاني الآيات من معنى الجهل الدال على قلة المعرفة وعدم العلم إلى معنى الوثنية.
-
"إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ"
( الأعراف:138): "Décidément vous êtes un peuple de paiens
- "إنكم قوم من الوثنيين-
-
"وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا"
( الفرقان:63 ) : Si des païens les interpellent ils disent "salut" -وإذا خاطبهم الوثنيون قالوا سلاما-
ولاشك أن المتأمل اللبيب عندما يقارن بين ترجمة "الأميين" بـgentils كما فعل معظم المترجمين ومنهم جاك بيرك في آل عمران ( 20 ) وآل عمران ( 75 ) وترجمة الجاهلين بـ païens يستطيع أن يربط بين السياقين: سياق الأميين بمعنى الوثنيين gentils وسياق الجاهلين بمعنى الوثنيين.
وهذا يعد من جاك بيرك فهما غير سديد، فماذا عسى القارئ أن يفهمه من الآيات التي تتحدث عن القوم الجاهلـين الذين "يجهلون عظمة الله ولا يعلمون أن العبادة لا تنبغي إلا لله الواحد القهار" عندما تترجم بالقوم الوثنيين؟
ويظهر أن جاك بيرك قد شذ شذوذا غريبا في توظيفه للفظة "الوثنيين" مقابلا للفظة " الجاهلين"، إذ لم يسبق إلى هذا الصنيع أحد من المستشرقين المعاصرين الذين اتفقوا جميعا على ترجمة لفظة "الجهل" بـ'Ignorance L.
3- لفظة "الكفر":
أعرض جاك بيرك في ترجمته للفظة "الكفر" ومشتقاتها عن كل ما يقابلها في اللغة الفرنسية مما يفهمه عامة الناس من حقيقة اللفظة ومعناها الأصلي، وإذا كان حميد الله وماصون وحمزة بوبكر وغيرهم قد استعملوا الألفاظ التالية :
incrèduls - infidèles - mécréants مما يدل بوضوح على معنى الكافرين، فإن جاك بيرك أبى إلا أن يحرف معنى اللفظة في سياقها القرآني إلى ما يدل على الإنكار والنفي Dènègation ( الذين كفروا-الكافرون=Les dénégateurs ) .
ومن الواضح أن القارئ لهذه الترجمة كيفما كانت ثقافته لا يكاد يفهم منها سوى معنى النفي والإنكار فقوله تعالى:
"إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ"
( البقرة:6 ) جاءت في ترجمة بيرك على الشكل التالي:
إن الذين نَفَوا ( أنكروا ) سواء عليهم…Quant a ceux qui dènient .
وقوله تعالى:
"إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ"
( يوسف:87 )
ترجمها بقوله : Ne désespère de ce souffle que le peuple des dénégateurs
-إنه لا ييئس من روح الله إلا القوم النفاة ( أو المنكرون)- نفاة ماذا أو منكرو ماذا؟ هذا ما لم تستطع ترجمة جاك بيرك أن تستوعبه، وبالتالي فإن القارئ لمثل هذه الترجمة لا يستطيع أن يفهم من معنى النفي والإنكار أولئك الذين جحدوا بالرسالة وكذبوا بالرسل.
وفضلا عن كل هذا فإن استعمال فعل dénier يكون عادة في سياق الحديث عن الأشياء والأفكار وليس في حق الله تعالى، فلا يقال: dénier son seigneur نفى الرب وإنما كفر بالرب، ومهما حاول جاك بيرك أن يسوغ هذه الترجمة في التقديم الذي وضعه للترجمة ) معترفا بالمقابل بأنه جازف بتقديمه لتعبير جديد ( فإن ما ذهب إليه في هذا الشأن قد أنكره عليه بعض المستشرقين أيضا.
4- لفظة الزكاة:
من المعلوم أن من معاني الزكاة النمو والزيادة كما أنه يراد بها التطهير، لكن هذه المعاني اللغوية لا يمكن عند إطلاقها -دون بيان أو توضيح أو ربط بالمدلول الرئيس للفظة- أن تؤدي المعنى المطلوب الذي هو ذلكم الحق الذي يجب في المال، كما أنها لا يمكن أن تدل على الفريضة المعلومة والركن الرابع من أركان الإسلام، لذلك فإن ترجمة لفظة الزكاة إلى اللغات الأجنبية بأي معنى من تلك المعاني تستبعد بصورة تامة المعنى الأساس المطلوب، وهذا مـا لـم يستوعبه جاك بيرك عندما لم يجد للزكاة من مرادف سوى معنى التطهير ترجم الزكاة بلفظة "purification "في جميع الآيات التي ورد فيها الإخبار أو الأمر بإيتاء الزكاة، ويبدو أن المترجم قد أخذ معنى التطهير من قوله تعالى :
"خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا"
Prélève sur leurs biens une aumône pour les en purifier, les épurer,
لأنه عندما ترجم قوله تعالى في الآية ( 31 ) من سورة مريم
"وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا"
قال: ( IL ) m 'a recommandé la prière ,le prélévement purificateur pour tant que je vivrai
وهي ترجمة لا تؤدي المطلوب وكأنه في هذه الآية أعطى للزكاة معنى الاقتطاع المطهِّر. ولاشك أن القارئ للآيات الآمرة بإيتاء الزكاة -وقد وردت بهذا السياق ثمانيا وعشرين مرة في القرآن الكريم -لن يفهم منها معنى الزكاة فريضة مقرونة بفريضة الصلاة في كل مرة.
فإذا أخذنا الآية ( 43 ) من سورة البقرة:
"وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ"
التي ترجمها المترجم بقوله: Accomplissez la prière , acquittez la purification, inclinez vous avec ceux qui s'inclinent.
نجد أن المعنى ينقلب إلى ما يلي:
-أقيموا الصلاة وآتوا التطهير واركعوا مع الراكعين.
والتطهير كما هو واضح معنى لغوي لا يحمل حمولة فقهية وشرعية كما هو الشأن في لفظة الزكاة وبالتالي فإن ذهن القارئ -الغربي على وجه الخصوص- لن يجد في الترجمة ما يدل على الزكاة شعيرة إسلامية واجبة في مال مخصوص لطائفة مخصوصة في وقت مخصوص.
ومما يدل على تخبط المترجم في عدم الاهتداء إلى المرادف المناسب والمكافئ في لغة الفرنسيين للفظة الزكاة، أنه ترجمها مرة بكلمة pureté بدل purification التي تواترت في جميع أجزاء ترجمته، وذلك عند قوله تعالى:
"وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ"
... ( مريم:55 ) حيث ترجمها بقوله:
Il enjoignait aux siens la prière , le pureté.. ومعلوم أن لفظة pureté تدل على الصفاء والنقاء فأين معنى الزكاة من كل هذه المعاني؟.
وقبل أن ننهي الحديث عن لفظة الزكاة كما جاءت مترجمة في محاولة جاك بيرك لا بأس من الإشارة إلى خطأ وقع فيه الرجل عندما خلط بين الصدقة بمعنى الزكاة والصدقة بمعنى التطوع، وهذا أمر كان ينبغي أن يفطن إليه، وهو الذي طالما تشدق لمختلف وسائل الإعلام الغربية والعربية على السواء بكونه دائم الرجوع والاطلاع على شتى التفاسير القرآنية، وهو ما لم ينتبه له معظم الذين ترجموا القرآن من المستشرقين، لكن جاك بيرك كان أكثر قدرة على التمييز بين صدقة الفرض وصدقة التطوع بحكم رجوعه واستئناسه المتواصل بالتفاسير القرآنية كما يقول.
إلا أنه انساق-في غفلة من الأمر-مع لفظة الصدقة التي تدل في السياق القرآني على الزكاة المفروضة تارة وصدقات التطوع تارة أخرى.
وهذا ما تنبه له محمد حميد الله في ترجمته عندما ترجم لفظة الصدقات في الآية ( 271 ) من سورة البقرة
"إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ"
، بلفظة les aumones في حين ترجمها في آية التوبة ( 60 )
"إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ"
... وفي الآية ( 103 ) من السورة نفسها
"خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا"
بما يدل على الزكاة المفروضة حتى إنه قدَّم في ترجمة الآية الأخيرة مرادفا يـدل علـى الضريبة تمييزا لها عن صدقة التطوع حيث جاء في ترجمته : "Prends sur leurs biens un impot par quoi tu les purifies et les purges"
5- لفظة المسجد:
لا يجادل أحد في أن لفظة "المسجد" يقابلها في اللغة الفرنسية كلمة "Mosquee" وهي الكلمة اللاتينية التي يشترك أصلها بين كثير من اللغات الأوروبية المنحدرة عن اللاتينيـة مثـل mosque في الإنجليزيـة وMoschee في الألمانيـة و mezquita في الإسبانية إلا أن جاك بيرك آثر أن يترجم لفظة "المسجد" بكلمة Sanctuaire وقد يترجمها أحيانا بكلمة Oratoire ومن المعلوم أن كلمة Sanctuaire تعني المعبد الكنسي وقد يعني الجزء من الكنيسة حول المذبح الذي تتم فيه المراسيم الطقوسية.
أما كلمة Oratoire فتعني المصلى في كنيسة صغيرة. ولا شك أن قارئ الترجمة إذا كان مسلما فإنه لن يفهم معنى المسجد مكانا لإقامة الصلوات، من تلك الترجمات الغريبة أما إذا كان القارئ غير مسلم فإنه لن يفهم من اللفظتين الفرنسيتين سوى ما يوافق النظرة
النصرانية
إلى خلوة الرهبان في أديرتهم وكنائسهم.
وهكذا يمكن القول بأنه كان ثمة تأثير قوي لثقافة جاك بيرك الدينية
النصرانية
في ترجمته للفظة"مسجد" إلى اللغة الفرنسية.
والأدهى من ذلك ترجمة الرجل للمسجد الحرام تارة بعبارة Sanctuaire consacré وتارة بعبارة Oratoire consacré بل إنه يتردد أحيانـا في تغيير لفظـة Consacré إلى لفظة sacré :مقدس ( البيت المقدس ) . وهنا نؤكد مرة أخرى أن جاك بيرك لا يلتزم في الترجمة بالمقابل أو المكافئ الواحد للفظة القرآنية، مما يكون مدعاة للالتباس والتشويش على القارئ.
إن ما هو مؤكد أن جاك بيرك كان يعلم في قرارة نفسه أن اللفظة المناسبة في ترجمة المسجد هي mosquée لكنه أراد أن يصبغ الترجمة التي رجحها بصبغة كنسية محضة لكي يُفقِد لفظة "المسجد" -وهو المصطلح الإسلامي الذي يدل على خصوصية وتميز عن باقي أماكن العبادة في الديانات الأخرى- حمولته الدينية المتفردة
وطابعه الإسلامي المتميز،
ولعل أكبر دليل على ذلك ما أورده في ترجمة قوله تعالى:
"وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا"
( الحج 40)
حيث اضطر لترجمة " المساجد "بكلمة mosquées لكي يضعها مقابلا لكنائس
النصارى
وبيع اليهود.
فكيف أمكن للمترجم إذن أن يتفطن للفظة"mosquées التي هي المقابل الصحيح للفظة "المساجد" في هذه الآية فقط دون غيرها من الآيات وعددها سبعة وعشرون موضعا؟!
6- لفظة الأرحام:
لاشك أن مفهوم "صلة الأرحام" في الإسلام يعد خصيصة من خصائص ديننا الحنيف الذي يدعو إلى تماسك الأسرة الكبيرة والصغيرة ويهدف إلى توطيد وترسيخ أواصر القربى بين الأقارب الذين يجمع بينهم دم واحد.
وإذا كان الأمر كذلك فلا ريب أن ترجمة هذا المفهوم بما يَفي بالمراد والمقصود يعدُّ أمرا صعبا إلى حد ما، بيد أنه مهما كان هناك تفاوت واختلاف بين المترجمين في إعطـاء مقابل قريب للمعنى الأصلي، فإنه من غير المقبول أن يؤتى بلفظة matrices ( رحم المرأة ) مقابلا للفظة الأرحام، وهو ما فعله جاك بيرك عندما ترجم الآية الأولى من سورة النساء
"وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ"
بقوله: Prémunissez-vous envers Dieu , de qui vous vous rèclamez dans votre sollicitation et aussi envers les matrices .
فجاء المعنى كالتالي : اتقوا الله الذي تستندون إليه في توسلكم ، وأيضا تجاه أرحام النساء ( جمع رحم المرأة = matrice ) .
وهكذا تنقلب "صلة القرابة " إلى معنى "رحم المرأة" ويحاول المترجم تسويغ هذه المحاولة اليائسة في الترجمة قائلا:"إنها إشارة ممكنة للعبارة الشعبية القائلة:"ناشدتك الله والرحم" وتعني أناشدك باسم الله والقرابات الأمومية وتعني حرفيا "الرحم" matrice …".
وتذكرنا هذه الترجمة الخاطئة بما ذهب إليه مواطن فرنسي آخر نشر ترجمة لمعاني القرآن الكريم كانت من أخبث المحاولات التي عرفها تاريخ ترجمة معاني القرآن الكريم ، فقد ترجم أندريه شوراكي Andre chouraqui وهو يهودي متأثر بثقافته العبرية لفظتي "الرحمن الرحيم" بكلمتي Le matriciant le matriciel حيث استعمل لفظة "رحم المرأةmatrice "لكي يخرج منها صيغتين من صيغ المبالغة .
والقارئ للترجمة مهما كانت ثقافته جيدة فإنه عند اطلاعه على هاتين اللفظتين لا يستطيع بحال تبين معنييهما إلا إذا رجع إلى كتب اللغة والتفسير لكي يكتشف أن من بين الأصول الاشتقاقية للفظة " الرحمن" اسم الرَّحِم ، وهو ما جاء في الحديث القدسي :" قال الله تعالى:
أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته
".
غير أنـه إذا كـان الحديث يشير إلى الرحم بمعنى القرابة بدليل السياق الأخير ( صلة الأرحام ) فإنه من غير المعقول أن تترجم لفظة "الأرحام" في الآية الأولى من النساء بما يـدل على رحم المرأة، بل ينبغي فهم المعنى ومحاولة تقريبه إلى الآخر في لغته وثقافته، ولا شك أن المترجم كان يعلم جيدا أنه باختياره وترجيحه لهذه الترجمة الفاسدة كان يوغل في نسج الغموض والتشويش على القارئ؛ لأنه كان باستطاعته تقديم اللفظة المناسبة والملائمة، ولا سيما أنه اطلع على ترجمات زملائه السابقين الذين سعى كل منهم إلى محاولة تقريب المراد من اللفظة إلى قراء الفرنسية.
وما لنا نذهب بعيدا وهاهو ذا جاك بيرك نفسه يترجم اللفظة نفسها في آية أخرى بما هو أقرب إلى تحقيق المقصود بعيدا عن لفظة "matrice" فقد ترجم قوله تعالى:
"فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ"
(محمد22 ) بقوله: ..mettiez en pièces vos liens de parenté ? أي وتقطعـوا صلات القرابة.
ويبدو أن المترجم قد تبين له استحالة وضع matrice مقابلا للفظة الأرحام في هذه الآية؛ لأن سياق الآية فيه معنى التقطيع والتمزيق، فإذا دخل على أرحام النساء ذهب المعنى بعيدا وأضحى المدلول المترجم مستبشَعا ومستهجَنا.
أما عند قوله تعالى:
"وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ"
( الأنفال 75 ) فقد ترجمها بيرك بقوله: Quand aux parents par les femmes , ils ont priorité les uns sur les autres selon le livre de Dieu .
وهو ما يعني: "أما فيما يخص الأقارب من جهة النساء فلهم أولوية بعضهم على بعض وفقا لكتاب الله".
وتأكيده للأقارب من جهة النساء فيه تحريف واضح لمعنى الآية التي تشير إلى أولي الأرحام بصفة عامة، وقد حاول المترجم إيهامنا بأن معظم المفسرين باستثناء ابن عطية قد ذهبوا إلى أن المراد "الأقارب من جهة النساء" وهذا كذب وبهتـان، فبرجوعنا إلى كثير من التفاسير لم نجد أحدا منها يخص القرابة الرحمية في النساء فقط،
فتفسير الطبري الذي أكد بيرك أنه كان مرجعه الأساس في الترجمة لم يشر إلى ذلك التخصيص من قريب أو بعيد حيث قال عند تأويل الآية: " والمتناسبون بالأرحام بعضهم أولى ببعض في الميراث إذا كانوا ممن قسم الله لهم منه نصيبا وحظا من الحليف والولي" .
الواضح إذن أن جاك بيرك كثيرا ما كان يتعمد ترجيح المعاني المرجوحة والأصول اللغوية الغريبة، ويهمل المعاني المطلوبة والمدلولات الراجحة التي استقر عليها معظم المترجمين السابقين، إن إمعانه في الإغراب وشذوذه في تخير وإيجاد المرادفات في اللغة الفرنسية كل ذلك يجعلنا نشك في مدى نزاهته وموضوعيته في خوض غمار ترجمة معاني القرآن الكريم.
المزيد من مواضيعي
في أفريقيا الوسطى .. التنصر أو القتل
الصحفي الكندي إيريك ويلبيرج يروي قصة إسلامه
101 Clear Contradictions in the Bible
حوار وسام عبد الله مع نصراني أرثوذكسي ونصراني آشوري
من هو ولي النصرانية التي أسلمت عند زواجها؟
عصمة الأنبياء في الإسلام
على من يجب صوم رمضان؟
شخصان من الفلبينين يعلنان إسلامهما في آخر يوم من العام الهجري 1431
توقيع
د/مسلمة
اللهم اغفر لنا
د/مسلمة
اعرض الملف الشخصي
إرسال رسالة خاصة إلى د/مسلمة
إيجاد كل مشاركات د/مسلمة
إحصائيات المشاركات
عدد المواضيع
603
عدد الـــــردود
5024
المجمــــــــوع
5.627