صفوة البشر، وكانت أخلاقهم من السمو والرفعة بحيث تتلاءم مع
المهمة الجليلة التى انتدبهم الله لها من بين سائر البشر. ومع هذا
فهناك مثلا، فى مسند ابن حنبل، حديث عن النبى عليه السلام
رواه أبو هريرة يقول فيه: "ما من مولود يُولَد إلا نخسه
الشيطان فيستهلّ صارخا من نخسة الشيطان إلا ابن مريم
وأمه. ثم قال أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم: وإنى أُعِيذُها بك
وذريتها من الشيطان الرجيم". وفى "سنن الدارمى" عن ابن
عباس أنه قال: "ليس من مولود إلا يستهلّ، واستهلاله يعصر
الشيطان بطنه، فيصيح إلا عيسى ابن مريم". وليس فيه، كما هو
واضح، أية إشارة إلى مسحه عليه السلام من الأوزار والخطايا،
بل الكلام فيه عن نخسة الشيطان التى يبكى الطفل بسببها عند
الولادة أول ما يستقبل الحياة والتى يقول الأطباء إن سببها هو
استنشاقه لأول مرة الهواء استنشاقا مباشرا، فهو رد فعل
بيولوجى لا مَعْدَى عنه لأى طفل. لكنْ لأن ولادة عيسى كانت ولادة
غير طبيعية فلربما كان ذلك هو السبب فى أنه لم يصرخ عند
نزوله من بطن أمه كما يصنع سائر الأطفال.
وأغلب الظن أن النبى عليه الصلاة والسلام قد أراد، بذلك الحديث،
أن يدفع عن أخيه الصغير عيسى وأمه من طَرْفٍ خَفِىٍّ قالةَ السوء
والشُّنْع التى بهتهما بها اليهود الأرجاس. إذن فليس فى القرآن
ولا فى الحديث أن سيدنا عيسى عليه السلام كان ممسوحا من
الأوزار والخطايا وحده دون النبيين والمرسلين أجمعين، وإن لم
يَعْنِ هذا أنه كان ذا أوزار وخطايا، إذ الأنبياء والرسل كلهم هم من
ذؤابة البشر خُلُقًا وفضلاً وسلوكًا لا عيسى وحده. ومع ذلك فقد
قرأنا فى حديث الشفاعة العظمى كلام الرسول الأعظم عن غفران
الله له هو كل ذنوبه: ما تقدم منها وما تأخر، وهو ما استحق به
وبغيره تلك المرتبة العالية، وإن لم يعن هذا أيضا أنه، صلى الله
عليه وسلم، كانت له ذنوب تُذْكَر، وإلا ما قال الله فيه: "وإنك لعلى
خُلُقٍ عظيمٍ" أو "لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيزٌ عليه ما
عَنِتّم، حريصٌ عليكم، بالمؤمنين رؤوف رحيم" أو "إن الله
وملائكته يصلّون على النبى. يا أيها الذين آمنوا، صَلُّوا عليه
وسلِّموا تسليما". وقد أورد الرازى الذى يستشهد به مأفونُنا
الحديثَ التالى: "ما منكم أحد إلا وله شيطان. قيل : ولا أنت يا
رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن الله تعالى أعانني عليه فأَسْلَم".
وأظن أن هذا الحديث يضع حدا للجدال السخيف
والآن إلى ما قاله الرازى فى هذا الموضوع: "ذكر المفسرون في
تفسير ذلك القبول الحسن (يقصد القبول المذكور فى سورة "آل
عمران" حين ابتهلت أم مريم إلى الله أن يعيذ ابنتها وذريتها من
الشيطان الرجيم) وجوهًا: الوجه الأول: أنه تعالى عصمها وعصم
ولدها عيسى عليه السلام من مس الشيطان. روى أبو هريرة أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مولود يُولَد إلا والشيطان
يمسه حين يولد فيستهلّ صارخًا من مس الشيطان إلا مريم
وابنها"، ثم قال أبو هريرة: اقرؤا إن شئتم: وِإِنّى أُعِيذُهَا بِكَ
وَذُرّيَّتَهَا مِنَ ٱلشَّيْطَـٰنِ الرَّجِيمِ". طعن القاضي في هذا الخبر وقال:
"إنه خَبَرُ واحدٍ على خلاف الدليل، فوجَب ردُّه، وإنما قلنا إنه على
خلاف الدليل لوجوهٍ أحدُها: أن الشيطان إنما يدعو إلى الشر من
يعرف الخير والشر، والصبي ليس كذلك. والثاني: أن الشيطان لو
تمكن من هذا النخس لفعل أكثر من ذلك من إهلاك الصالحين
وإفساد أحوالهم. والثالث: لمِ َخُصَّ بهذا الاستثناء مريمُ وعيسى
عليهما السلام دون سائر الأنبياء عليهم السلام؟ الرابع: أن ذلك
النخس لو وُجِد بَقِيَ أثره، ولو بقي أثره لدام الصراخ والبكاء،
فلما لم يكن كذلك علمنا بطلانه". واعلم أن هذه الوجوه محتملة،
وبأمثالها لا يجوز دفع الخبر، والله أعلم". ومن هذا يتبين لنا
بأجلى بيان أن الكذاب لم يقطع عادته فى الكذب والتدليس، إذ لم
يقل الرازى إن عيسى عليه السلام قد مُسِح من الأوزار والخطايا،
بل ساق كلام المفسرين القائلين بذلك، لكن بإيجاز شديد، أما من
نَفَوْا هذا فقد فصَّل كلامهم تفصيلا. ثم اكتفى بالقول بأن وجوه
الاعتراض التى اعترض بها هؤلاء ليست قاطعة فى النفى، وإن
كان من الممكن رغم ذلك أن تكون صحيحة. أى أنه لم يَنْفِ ولم
يُثْبِتْ، بل اكتفى بإيراد الرأيين. وأقصى ما يمكن نسبته له من
الرأى فى هذه القضية أن الأدلة التى احتج بها القاضى (عبد
الجبار المعتزلى) لا تحسم الأمر. وهذا كل ما هنالك،
والله اعلي واعلم