شخصيات من التاريخ العربي والاسلامي
بسم الله الرحمن الرحيم فيما يل نقدم عرض لا اهم الشخصيات العربية الاسلامية الذين كان لهم بصماتهم الواضحة في خدمة الاسلام والمسلمين رحمهم الله . الحسن البصري التابعى الجليل وصف بأنه من كان من سادات التابعين وكبرائهم، وجمع كل فن من علم وزهد وورع وعبادة ومن القلائل الذين أجرى الله الحكمة على ألسنتهم فكان كلامه حكمة وبلاغة إنه التابعي الجليل الحسن البصري. نسبه ونشأته هو أبو سعيد الحسن بن أبي الحسن يسار البصري، ولد الحسن في أواخر خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالمدينة، وأبوه مولى زيد بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه وأمه خيرة مولاة أم سلمة زوج النبي وكانت أمه ربما غابت في حاجة فيبكي فتعطيه أم سلمة رضي الله عنها ثديها تعلله به إلى أن تجيء أمه فدر عليه ثديها فشربه فيرون أن تلك الحكمة والفصاحة من بركة ذلك. ونشأ الحسن بوادي القرى وكان من أجمل أهل البصرة حتى سقط عن دابته فحدث بأنفه ما حدث. وحكى الأصمعي عن أبيه قال ما رأيت أعرض زندا من الحسن كان عرضه شبرا. وقال أبو عمرو بن العلاء ما رأيت أفصح من الحسن البصري ومن الحجاج ابن يوسف الثقفي فقيل له فأيهما كان أفصح قال الحسن. مواقف من حياته كان الحسن يقص (يحكى القصص) في الحج فمر به علي بن الحسين فقال له يا شيخ أترضى نفسك للموت قال لا قال فلله في أرضه معاد غير هذا البيت قال لا قال فثم دار للعمل غير هذه الدار قال لا قال فعملك للحساب قال لا قال فلم تشغل الناس عن طواف البيت قال: فما قص الحسن بعدها. *** وقيل إن رجلا أتى الحسن فقال يا أبا سعيد إني حلفت بالطلاق أن الحجاج في النار فما تقول أقيم مع امرأتي أم أعتزلها فقال له قد كان الحجاج فاجرا فاسقا وما أدري ما أقول لك إن رحمة الله وسعت كل شيء وإن الرجل أتى محمد بن سيرين فأخبره بما حلف فرد عليه شبيها بما قاله الحسن وإنه أتى عمرو بن عبيد فقال له أقم مع زوجتك فإن الله تعالى إن غفر للحجاج لم يضرك الزنا ذكر ذلك. *** وكان في جنازة وفيها نوائح ومعه رجل فهم الرجل بالرجوع فقال له الحسن يا أخي إن كنت كلما رأيت قبيحا تركت له حسنا أسرع ذلك في دينك **** وقيل له ألا ترى كثرة الوباء فقال أنفق ممسك وأقلع مذنب واتعظ جاحد. **** ونظر إلى جنازة قد ازدحم الناس عليها فقال ما لكم تزدحمون ها تلك هي ساريته في المسجد اقعدوا تحتها حتى تكونوا مثله. *** وحدث الحسن بحديث فقال له رجل يا أبا سعيد عن من فقال وما تصنع بعن من أما أنت فقد نالتك موعظته وقامت عليك حجته. *** وقال لفرقد بن يعقوب بلغني أنك لا تأكل الفالوذج فقال يا أبا سعيد أخاف ألا أؤدي شكره قال الحسن يا لكع هل تقدر تؤدي شكر الماء البارد الذي تشربه. *** وقيل للحسن إن فلانا اغتابك فبعث إليه طبق حلوى وقال بلغني أنك أهديت إلي حسناتك فكافأتك بهذا *** ولما ولي عمر بن هبيرة الفزاري العراق وأضيفت إليه خراسان وذلك في أيام يزيد بن عبد الملك استدعى الحسن البصري ومحمد بن سيرين والشعبي وذلك في سنة ثلاث ومائة فقال لهم إن يزيد خليفة الله استخلفه على عباده وأخذ عليهم الميثاق بطاعته وأخذ عهدنا بالسمع والطاعة وقد ولاني ما ترون فيكتب إلي بالأمر من أمره فأنفذ ذلك الأمر فما ترون؟! فقال ابن سيرين والشعبي قولا فيه تقية فقال ابن هبيرة ما تقول يا حسن فقال يا ابن هبيرة خف الله في يزيد ولا تخف يزيد في الله إن الله يمنعك من يزيد وإن يزيد لا يمنعك من الله وأوشك أن يبعث إليك ملكا فيزيلك عن سريرك، ويخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك ثم لا ينجيك إلا عملك يا ابن هبيرة إن تعص الله فإنما جعل الله هذا السلطان ناصرا لدين الله وعباده فلا تركبن دين الله وعباده بسلطان الله فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق فأجازهم ابن هبيرة وأضعف جائزة الحسن فقال الشعبي لابن سيرين سفسفنا له فسفسف لنا. من كلماته ما رأيت يقينا لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه إلا الموت. ورأى الحسن يوما رجلا وسيما حسن الهيئة فسأل عنه فقيل إنه يسخر للملوك ويحبونه فقال لله أبوه ما رأيت أحدا طلب الدنيا بما يشبهها إلا هذا. وفاته وتوفي بالبصرة مستهل رجب سنة عشر ومائة رضي الله عنه وكانت جنازته مشهودة قال حميد الطويل توفي الحسن عشية الخميس وأصبحنا يوم الجمعة ففرغنا من أمره وحملناه بعد صلاة الجمعة ودفناه فتبع الناس كلهم جنازته واشتغلوا به فلم تقم صلاة العصر بالجامع ولا أعلم أنها تركت منذ كان الإسلام إلا يومئذ لأنهم تبعوا كلهم الجنازة حتى لم يبق بالمسجد من يصلي العصر وأغمي على الحسن عند موته ثم أفاق فقال لقد نبهتموني من جنات وعيون ومقام كريم. وقال رجل قبل موت الحسن لابن سيرين رأيت كأن طائرا أخذ أحسن حصاة بالمسجد فقال إن صدقت رؤياك مات الحسن فلم يكن إلا قليلا حتى مات الحسن. يتبع ان شاء الله ... |
محمد بن سيرين إذا رأوه ذكروا الله اشتهر بتفسير الأحلام وكان في تأويله للرؤى يأمر بتقوى الله ويبشر الناس أن من رأي ربه في المنام دخل الجنة، إنه التابعي الجليل محمد بن سيرين الذي كان مثالا يحتذي في الورع والزهد والعبادة، مما جعل الناس في زمانه إذا رأوه كبروا، ويقول أحد معاصريه كان محمد بن سيرين قد أعطى هديا وسمتا وخشوعا فكان الناس إذا رأوه ذكروا الله. نسبه محمد بن سيرين يكنى أبا بكر، وقال ابن عائشة كان سيرين والده من أهل جرجرايا وكان يعمل قدور النحاس فجاء إلى عين التمر يعمل بها فسباه خالد بن الوليد. وكان مولى أنس بن مالك كاتبه أنس، عن عبيد الله بن أبي بكر بن أنس بن مالك قال هذه مكاتبة سيرين عندنا هذا ما كاتب عليه أنس بن مالك فتاه شيرون على كذا وكذا ألفا وعلى غلامين يعملان عليه. وعن بكار بن محمد قال حدثني أبي أن أم محمد بن سيرين صفية مولاة أبي بكر بن أبي قحافة طيبها ثلاث من أزواج رسول الله ودعوته لها وحضر إملاكها ثمانية عشر بدريا منهم أبي ابن كعب يدعو وهم يؤمنون. فضله ومناقبه كان بن سيرين من أعلام التابعين، وإماما من أئمة الزهد والورع، قال ابن عون كان محمد بن سيرين إذا حدث كأنه يتقى شيئا أو يحذر شيئا. وقال جرير بن حازم سمعت محمد بن سيرين يحدث رجلا فقال ما رأيت الرجل الأسود ثم قال أستغفر الله ما أراني إلا قد اغتبت الرجل. قال مورق العجلى: ما رأيت رجلا أفقه في ورعه ولا أورع في فقهه من محمد بن سيرين. وقال أبو قلابة اصرفوه حيث شئتم فلتجدنه أشدكم ورعا وأملككم لنفسه، وأينا يطيق ما يطيق محمد بن سيرين يركب مثل حد السنان. قال أبو عوانة رأيت محمد بن سيرين يمر في السوق فيكبر الناس. قال ابن سيرين إذا أراد الله عز وجل بعبده خيرا جعل له واعظا من قلبه يأمره وينهاه. وعن الأشعث قال كان محمد بن سيرين إذا سئل عن شيء من الفقه الحلال والحرام تغير لونه وتبدل حتى كأنه ليس بالذي كان. وأوصى أنس بن مالك أن يغسله محمد بن سيرين فقيل له في ذلك وكان محبوسا فقال أنا محبوس قالوا قد استأذن الأمير فأذن لك في ذلك قال فإن الأمير لم يحبسني إنما حبسني الذي له الحق فأذن له صاحب الحق فخرج فغسله. عن رجاء بن أبي سلمة قال سمعت يونس بن عبيد يقول أما ابن سيرين فإنه لم يعرض له أمران في دينه إلا أخذ بأوثقهما. قالت حفصة بنت سيرين كان محمد إذا دخل على أمه لم يكلمها بلسانه كله تخشعا لها. وعن ابن عون قال دخل رجل على محمد وهو عند أمه فقال ما شأن محمد يشتكى شيئا فقالوا لا ولكن هكذا يكون إذا كان عند أمه. قال ابن سيرين ظلم لأخيك أن تذكر منه أسوأ ما تعلم وتكتم خيره. وعن ابن عون قال أرسل ابن هبيرة إلى ابن سيرين فأتاه فقال له كيف تركت أهل مصرك قال تركتهم والظلم فيهم فاش. قال ابن عون كان محمد يرى أنها شهادة يسأل عنها فكره أن يكتمها. تفسيره للرؤى عرف بن سيرين بتفسير الرؤى والأحلام وله كتاب مشهور في ذلك و كان الرجل إذا سأل ابن سيرين عن الرؤيا قال اتق الله عز وجل في اليقظة ولا يضرك ما رأيت في المنام. ومن عجائب تفسيره للأحلام: 1-عن يوسف الصباغ عن ابن سيرين قال من رأى ربه تعالى في المنام دخل الجنة. 2-عن خالد بن دينار قال كنت عند ابن سيرين فأتاه رجل فقال يا أبا بكر رأيت في المنام كأني أشرب من بلبلة لها مثقبان فوجدت أحدهما عذبا والآخر ملحا قال ابن سيرين اتق الله لك امرأة وأنت تخالف إلى أختها. 3-عن أبي قلابة أن رجلا قال لابن سيرين رأيت كأني أبول دما قال تأتي امرأتك وهي حائض قال نعم قال اتق الله ولا تعد. 4-عن أبي جعفر عن ابن سيرين أن رجلا رأى في المنام كأن في حجره صبيا يصيح فقص رؤياه على ابن سيرين فقال اتق الله ولا تضرب العود. 5-عن حبيب أن امرأة رأت في المنام أنها تحلب حية فقصت على ابن سيرين فقال ابن سيرين اللبن فطرة والحية عدو وليست من الفطرة في شيء هذه امرأة يدخل عليها أهل الأهواء. 6-رأى الحجاج بن يوسف في منامه رؤيا كأن حوراوين أتتاه فأخذ إحداهما وفاتته الأخرى فكتب بذلك إلى عبد الملك فكتب إليه عبد الملك هنيئا يا أبا محمد فبلغ ذلك ابن سيرين فقال أخطأت هذه فتنتان يدرك إحداهما وتفوته الأخرى قال فأدرك الجماجم وفاتته الأخرى. 7-رأى ابن سيرين كأن الجوزاء تقدمت الثريا فأخذ في وصيته قال يموت الحسن البصري وأموت بعده هو أشرف مني. 8-قال رجل لابن سيرين إني رأيت كأني ألعق عسلا من جام من جوهر فقال اتق الله وعاود القرآن فإنك رجل قرأت القرآن ثم نسيته. 9-وقال رجل لابن سيرين رأيت كأني أحرث أرضا لا تنبت قال أنت رجل تعزل عن امرأتك. 10-قال رجل لابن سيرين رأيت في المنام كأني أغسل ثوبي وهو لا ينقى قال أنت رجل مصارم لأخيك. 11-وقال رجل لابن سيرين رأيت كأني أطير بين السماء والأرض قال أنت رجل تكثر المنى. 12-جاء رجل إلى ابن سيرين فقال إني رأيت كأني على رأسي تاجا من ذهب فقال له ابن سيرين اتق الله فإن أباك في أرض غربة وقد ذهب بصره وهو يريد أن تأتيه قال فما راده الرجل الكلام حتى أدخل يده في حجزته فأخرج كتابا من أبيه يذكر فيه ذهاب بصره وأنه في أرض غربة ويأمر بالإتيان إليه. مواقف من حياته عن ابن عون قال كانوا إذا ذكروا عند محمد رجلا بسيئة ذكره محمد بأحسن ما يعلم وقال طوق بن وهب دخلت على محمد بن سيرين وقد اشتكيت فقال كأني أراك شاكيا قلت أجل قال اذهب إلى فلان الطبيب فاستوصفه ثم قال اذهب إلى فلان فإنه أطب منه ثم قال أستغفر الله أراني قد اغتبته. و كان محمد بن سيرين إذا مشى معه رجل قام وقال ألك حاجة فإن كان له حاجة قضاها فإن عاد يمشى معه قام فقال له ألك حاجة. عن هشام عن ابن سيرين أنه اشترى بيعا فأشرف فيه على ثمانين ألفا فعرض في قلبه منه شيء فتركه قال هشام والله ما هو بربا، وعن السرى بن يحيى قال لقد ترك ابن سيرين ربح أربعين ألفا في شيء دخله، قال سرى فسمعت سليمان التيمي يقول لقد تركه في شيء ما يختلف فيه أحد من العلماء. وكان ابن سيرين إذا دعي إلى وليمة أو إلى عرس يدخل منزله فيقول اسقوني شربة سويق فيقال له يا أبا بكر أنت تذهب إلى الوليمة أو العرس تشرب سويقا فيقول إني أكره أن أحمل حد جوعي على طعام الناس. عن ابن شوذب قال كان ابن سيرين يصوم يوما ويفطر يوما وكان اليوم الذي يفطر فيه يتغذى ولا يتعشى ثم يتسحر ويصبح صائما. وروي عن موسى بن المغيرة قال رأيت محمد بن سيرين يدخل السوق نصف النهار يكبر ويسبح ويذكر الله عز وجل فقال له رجل يا أبا بكر في هذه الساعة قال إنها ساعة غفلة. وعن جعفر بن مرزوق قال بعث ابن هبيرة إلى ابن سيرين والحسن والشعبي قال فدخلوا عليه فقال لابن سيرين يا أبا بكر ماذا رأيت منذ قربت من بابنا قال رأيت ظلما فاشيا قال فغمزه ابن أخيه بمنكبه فالتفت إليه ابن سيرين فقال ابن سيرين إنك لست تُسأل إنما أُسأل أنا فأرسل إلى الحسن بأربعة آلاف وإلى ابن سيرين بثلاثة آلاف وإلى الشعبي بألفين فأما ابن سيرين فلم يأخذها وعن جعفر بن أبي الصلت قال قلت لمحمد بن سيرين ما منعك أن تقبل من ابن هبيرة قال فقال لي يا أبا عبدالله أو يا هذا إنما أعطاني على خير كان يظنه بي ولئن كنت كما ظن بي فما ينبغي لي أن أقبل وإن لم أكن كما ظن فبالحري أن لا يجوز لي أن أقبل. عبادته عن عبيد الله بن السري قال: قال ابن سيرين إني لأعرف الذنب الذي حمل به على الدين ما هو قلت لرجل منذ أربعين سنة يا مفلس فحدثت به أبا سليمان الداراني فقال قلت ذنوبهم فعرفوا من أين يؤتون وكثرت ذنوبي وذنوبك فليس ندرى من أين نؤتى. عن عاصم الأحول قال كان عامة كلام ابن سيرين سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم عن هشام بن حسان قال ربما سمعت بكاء محمد بن سيرين في جوف الليل وهو يصلى. عن أنس بن سيرين قال كان لمحمد بن سيرين سبعة أوراد يقرؤها بالليل فإذا فاته منها شيء قرأه من النهار. وعن هشام قال كان ابن سيرين يحيى الليل في رمضان. عن دهير قال كان ابن سيرين إذا ذكر الموت مات كل عضو منه على حدته. قال مهدى كنا نجلس إلى محمد فيحدثنا ونحدثه ويكثر إلينا ونكثر إليه فإذا ذكر الموت تغير لونه واصفر وأنكرناه وكأنه ليس بالذي كان. وفاته وتوفى في سنة عشر ومائة بعد الحسن بمائة يوم وهو ابن نيف وثمانين سنة المصدر: سير أعلام النبلاء، وصفة الصفوة، ووفيات الأعيان. |
عبد الملك بن مروان نظر إليه أبو هريرة -رضي الله عنه- وهو غلام، فقال: هذا يملك العرب!! في مدينة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولد (عبد الملك بن مروان) في سنة 24هـ في أول عام من خلافة (عثمان بن عفان) رضي الله عنه، حفظ القرآن الكريم، وسمع أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من عمِّه عثمان بن عفان وأبي هريرة، وأم سلمة، ومعاوية، وابن عمر -رضي الله عنهم أجمعين-. وكثيرًا ما كان عبد الملك في طفولته المبكرة يسأل أباه وعمه ومن حوله من الصحابة عن سيرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيجيبونه بما يثير دهشته، ويزيد من إعجابه بعظمة الإسلام، ولكنه وهو في العاشرة من عمره رأى مقتل خليفة المسلمين (عثمان بن عفان) فترك ذلك أثرًا حزينًا في نفسه، لكنه تعلم منه الدرس، وهو أن يتعامل مع المعتدين والمشاغبين بالقوة والحزم. ثم لازم الفقهاء والعلماء حتى صار فقيهًا، سئل ابن عمر -رضي الله عنه- ذات مرة في أمر من أمور الدين فقال: (إن لمروان ابنًا فقيهًا فسلوه) وقال الأعمش: كان فقهاء المدينة أربعة: سعيد بن المسيب وعروة وقبيصة بن ذؤيب وعبد الملك بن مروان، وكان لا يترك الصلاة في المسجد، حتى سمي حمامة المسجد لعبادته ومداومته على تلاوة القرآن. نال عبد الملك في حداثته إعجاب الجميع لتمسكه بمبادئ الإسلام، يحكي أن معاوية جلس يومًا ومعه سعيد بن العاص -رضي الله عنه- فمرَّ بهما عبد الملك، فقال معاوية: لله در هذا الفتى ما أعظم مروءته؟ فقال سعيد: يا أمير المؤمنين إن هذا الفتى أخذ بخصال أربع وترك خصالاً ثلاثًا: أخذ بحسن الحديث إذا حَدَّث، وحسن الاستماع إذا حُدِّث، وحسن البِشْر إذا لقي، وخفة المئونة إذا خولف، وترك من القول ما يعتذر منه، وترك مخالطة اللئام من الناس، وترك ممازحة من لا يوثق بعقله ولا مروءته). وخرج عبد الملك من المدينة في ربيع الآخر سنة 64هـ عند حدوث الفتنة واضطراب الأمر بالشام وظهور عبد الله بن الزبير بمكة والحجاز وإعلان نفسه خليفة للمسلمين، ولم تكد تمضِ ستة أشهر حتى تولى أبوه مروان الخلافة، لكنه لم يستمر سوي عشرة أشهر حتى توفي، فخلفه في رمضان من عام 65هـ عبد الملك بن مروان وأقبل عليه كبراء بني أمية وأمراء الجنود ورؤساء القوم وكبار رجال الدولة فبايعوه. وحين تولى عبد الملك خلفًا لأبيه لم يكن في يده غير الشام ومصر فقط، وهكذا كانت الأخطار تحيط بدولته من كل جانب في الداخل، فوجد الدولة الإسلامية منقسمة تسودها الفتن والاضطرابات، فهناك ابن الزبير في الحجاز، ودولة بني أمية في الشام، والخوارج الأزارقة بالأهواز، والخوارج (النجدات) بجزيرة العرب، والشيعة بالكوفة في العراق، وفي الخارج كانت الروم تكيد له، وتنتهز فرصة الانقسام لتغير على الحدود في الشمال والغرب، تهديدات من كل اتجاه، فأدرك (عبد الملك) أنه لابد من توحيد الجهود الإسلامية ضد الأعداء، وبدأ في تجهيز الجيوش، وأحسن معاملة قواده وحاشيته، يكرمهم، ويعطف عليهم، ويزورهم إذا مرضوا، ويحضرهم مجالسه، ويعاملهم كأصدقاء، فكان ذلك من أكبر عوامل نجاحه وانتصاره. وبحلول عام 74هـ اجتمعت كلمة الأمة بعد خلاف طويل، وانتهى النزاع حول الخلافة، حتى سمي هذا العام بعام الوحدة، وتمت البيعة لعبد الملك من الحجاز والعراق، كما تمت له من قَبْلُ في الشام ومصر، وجاءته أيضًا من خراسان، واستردت الدولة الإسلامية مكانتها وهيبتها وسيادتها على الأعداء، واتسعت حدودها بعد أن أضاف إليها عبد الملك أقاليم جديدة؛ حيث أرسل جنوده ففتحوا بعض بلاد المغرب وتوغل فيها. واتبع عبد الملك سياسة الحزم والشدة، فكان قوي الإرادة والشخصية؛ لذلك قالوا: (كان معاوية أحلم وعبد الملك أحزم) وقال أبو جعفر المنصور: كان عبد الملك أشدهم شكيمة وأمضاهم عزيمة، وكان عبد الملك حريصًا على نزاهة من يعملون في دولته.. بلغه ذات يوم أن أحد عماله قبل هدية، فأمر بإحضاره إليه، فلما حضر قال له: أقبلتَ هدية منذ وليتك؟ قال: يا أمير المؤمنين بلادك عامرة وخراجك موفورة، رعيتك على أفضل حال.. قال: أجب عما سألتك.. قال: نعم قد قبلت؛ فعزله عبد الملك. ولم يكن عبد الملك رجل سياسة فحسب، ولكنه كان أديبًا يحب الأدباء، ويعقد المجالس الأدبية، وينتقد ما يلْقَى عليه من الشعر انتقادًا يدل على ذوق أدبي رفيع، وقد أظهر عبد الملك براعة في إدارة شئون دولته وتنظيم أجهزتها مثلما أظهر براعة في إعادة الوحدة إلى الدولة الإسلامية، فاعتمد على أكثر الرجال في عصره مهارةً ومقدرةً وأعظمهم كفاءةً وخبرةً مثل الحجاج بن يوسف الثقفي وبشر بن مروان وعبد العزيز بن مروان وتفقد عبد الملك أحوال دولته بنفسه، وتابع أحوال عماله وولاته، وراقب سلوكهم، وأنجز أعمالاً إدارية ضخمة دفعت بالدولة الإسلامية أشواطًا على طريق التقدم. فهو أول من ضرب الدنانير وكتب عليها القرآن، فكتب على أحد وجهي الدنانير (قل هو الله أحد) وكتب على الوجه الآخر: محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق، ونقلت في أيامه الدواوين من الفارسية والرومية إلى العربية، وهو ما يُعرف في التاريخ بـ(حركة تعريب الدواوين). ورغم شدة وحزم عبد الملك فإنه كان رقيق المشاعر، يخشى الله ويتضرع إليه، خطب ذات مرة، فقال: (اللهم إن ذنوبي عظام، وهي صغار في جنب عفوك يا كريم فاغفرها لي) وقبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة قيل له: كيف تجدك؟ فقال: أجدني كما قال الله تعالي: {ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم} [الأنعام: 94]. ومات عبد الملك سنة 86 من الهجرة، وعمره 60 سنة، وصلى عليه ابنه الولي |
المعتصم بالله هو الخليفة أبو إسحاق محمد بن هارون الرشيد، الذي عرف بالمعتصم بالله، ولد سنة 180هـ، وكان يقال له المثمن؛ لأنه ثامن الخلفاء من بني العباس ولأنه استمر في ملكه ثماني سنين وفتح ثمانية فتوح، وأسر ثمانية ملوك. كان المعتصم شجاعًا، كتب إليه ملك الروم يهدده، فأمر أن يقرءوا له رسالته، فلما قرأها أمر برميها، وقال للكاتب اكتب: (أما بعد.. فقد قرأت كتابك، وسمعت خطابك والجواب ما ترى لا ما تسمع، وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار) وكانت له فتوحات وغزوات كثيرة في سبيل الله، قيل: إنه لما أراد غزو (عمورية) زعم المنجمون أنه لن ينتصر، وطلبوا منه ألا يخرج، ولكنه خرج وانتصر بإرادة الله. وكان المعتصم كريم الخلق، متواضعًا، يحكي عنه أنه خرج مع أصحابه في يوم ممطر، وتفرق عنه أصحابه، فبينما هو يسير إذ رأي شيخًا معه حمار عليه حمل شوك، وقد وقع الحمار وسقط الحمل، والشيخ قائم ينتظر من يمر به فيساعده، فنزل المعتصم عن دابته، وخلص الحمار عن الوحل، ورفع عليه حمله وانتظر أصحابه حتى جاءوا، وأمرهم أن يسيروا مع الشيخ ليعينوه. كما كان المعتصم سخيًّا، فلقد روى أحمد بن أبي داود: تصدق المعتصم على يدي، ووهب ما قيمته ألف ألف درهم، وفي عهده كثر العمران، وبنيت القصور وارتفع البنيان، وقد مرض المعتصم فأخذ يقول: ذهبت الحيلة، فليس حيلة، ولقي ربه في سنة 227هـ بعد حياة حافلة بالأعمال النافعة للمسلمين. |
أبو حنيفة النعمان وأبوه (ثابت) كان تاجرًا غنيًّا أسلم فحسن إسلامه، قيل: إنه التقى بالإمام على بن أبي طالب -رضي الله عنه- فدعا له الإمام ولذريته بالخير والبركة، واستجاب الله الدعاء، ورزق الله ثابتًا بطفل أسماه النعمان وكناه (أبا حنيفة النعمان بن ثابت) وكانت ولادته سنة ثمانين للهجرة بمدينة الكوفة. نشأ أبو حنيفة في مدينة الكوفة، فوجد الحلقات العلمية منتشرة في كل مكان، ورأى طلاب العلم يتعلمون ويجتهدون في الدراسة؛ فتلقى العلم على يد شيوخ وأساتذة كبار، منهم: فقيه الكوفة (حماد بن أبي سليمان) والإمام (جعفر الصادق) و(عطاء) و(الزهري) و(قتادة).. وغيرهم، وكان(حماد) من أكثر شيوخه الذين يحبهم؛ فكان أبو حنيفة يحفظ أقواله ويرددها، وأعجب حماد هو الآخر بتلميذه (أبي حنيفة) حتى قال لمن حوله: لا يجلس في صدر الحلقة بجواري غير أبي حنيفة. وبعد موت حماد تولى ابن له اسمه إسماعيل حلقة الدرس بدلا من أبيه، لكنه ترك مجلس الفقه وانتقل إلى النحو لحبه له، فجاء الناس إلى (أبي حنيفة) يطلبون منه أن يجلس إليهم ويعلمهم أمور دينهم؛ فقبل أبو حنيفة، وأخذ يدرس للناس حتى اشتهر فقهه بين البسطاء والأمراء، لكنه لم ينْسَ فضل شيخه وأستاذه (حماد) بل ظل يذكره بالخير، ويدعو له حتى قال أبو حنيفة: (ما صليتُ قط إلا ودعوتُ لشيخي (حماد) ولكل من تعلمتُ منه علمًا أو علمته). وكان أبو حنيفة يهتم بملبسه ومظهره، ويكثر التعطر، ويُرى وقورًا حليمًا، فهو الذي يقول: (اللهم من ضاق بنا صدره، فإن قلوبنا قد اتسعت له) ولقد سبه أحد الناس بقوله: يا مبتدع، يا زنديق، فردَّ عليه بقوله: غفر الله لك، الله يعلم مني خلاف ذلك، وأني ما عدلت به (أي ما أشركت به أحدًا) منذ عرفته، ولا أرجو إلا عفوه، ولا أخاف إلا عقابه. وكان أبو حنيفة كريمًا واسع الكرم، وتاجرًا أمينًا ماهرًا، ظل يعمل بالتجارة طوال حياته، وكان له دكان معروف في (الكوفة) كان أبو حنيفة -رضي الله عنه- يحب العمل حتى ينفق على نفسه، فكان يبيع الخز (وهو نسيج من الصوف). سمع أبو حنيفة رجلاً يقول لآخر: هذا أبو حنيفة لا ينام الليل؛ فقال: والله لا يتحدث عني بما لم أفعل؛ فكان يحيي الليل صلاة وتضرعًا، فكان ورعًا، ولا يحدث بالحديث الذي يحفظه، ولا يحدث بما لا يحفظ، وكان يتورع عن القسم خشية الهلاك، حتى إنه جعل على نفسه إن حلف بالله صادقًا أن يتصدق بدينار. وكان واسع الصدر هادئ الطبع في حديثه مع الناس، فلقد روي أن رجلاً قال له: اتق الله، فانتفض، وطأطأ رأسه، وأطرق.. وقال له: يا أخي جزاك الله خيرًا، ما أحوج الناس في كل وقت إلى من يذكرهم الله تعالى، وكان يخاف عاقبة الظلم؛ لذا رفض تولي القضاء للخليفة المنصور العباسي. ومات سنة 150هـ، وصلى عليه خمسون ألف رجل، ودفن في بغداد، ويقال إنه مات في نفس الليلة التي ولد فيها الإمام الشافعي. وأبو حنيفة هو مؤسس المذهب الحنفي أحد المذاهب الفقهية الأربعة، وقد انتشر مذهبه في العراق والهند وبلاد المشرق، يقول عنه الشافعي: (الناس عيال في الفقه على أبي حنيفة) وقال عنه النضر بن شميل: كان الناس نيامًا في الفقه حتى أيقظهم أبو حنيفة، وقيل: لو وزن علم الإمام أبي حنيفة بعلم أهل زمانه لرجح علمه عليهم، وقال عنه ابن المبارك: (ما رأيت في الفقه مثل أبي حنيفة) وقال عنه يزيد بن هارون: (ما رأيت أحدًا أحلم من أبي حنيفة). |
شريك بن عبد الله القضاء.. العدل.. الظلم.. حق الناس.. حق الله.. كلمات أخذ يرددها شريك بينه وبين نفسه عندما عرض عليه الخليفة أن يتولى قضاء (الكوفة) فما أعظمها من مسئولية!! في مدينة (بُخارى) بجمهورية أوزبكستان الإسلامية الآن، وُلِدَ شريك بن عبد الله النخعي سنة خمس وتسعين للهجرة، ولمَّا بلغ من العمر تسع سنوات أتم حفظ القرآن الكريم، ثم درس الفقه والحديث، وأصبح من حفاظ أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي مدينة الكوفة اشتهر بعلمه وفضله، فأخذ يعلم الناس ويفتيهم في أمور دينهم، وكان لا يبخل بعلمه على أحد، ولا يُفَرِقُ في مجلس علمه بين فقير وغني؛ فيحكى أن أحد أبناء الخليفة المهدي دخل عليه، فجلس يستمع إلى دروس العلم التي يلقيها شريك، وأراد أن يسأل سؤالاً؛ فسأله وهو مستند على الحائط، وكأنه لا يحترم مجلس العلم، فلم يلتفت إليه شريك، فأعاد الأميرُ السؤالَ مرة أخرى، لكنه لم يلتفت إليه وأعرض عنه؛ فقال له الحاضرون: كأنك تستخف بأولاد الخليفة، ولا تقدرهم حق قدرهم؟ فقال شريك: لا، ولكن العلم أزين عند أهله من أن تضيِّعوه، فما كان من ابن الخليفة إلا أن جلس على ركبتيه ثم سأله، فقال شريك: هكذا يطلب العلم. وقد عُرِضَ عليه أن يتولى القضاء لكنه امتنع وأراد أن يهرب من هذه المسئولية العظيمة، خوفًا من أن يظلم صاحب حق، فعندما دعاه الخليفة المنصور، وقال له: إني أريد أن أوليك القضاء، قال شريك: اعفني يا أمير المؤمنين، قال: لست أعفيك.. فقبل تولي القضاء، وأخذ شريك ينظر في المظالم ويحكم فيها بالعدل، ولا يخشى في الله لومة لائم، فيحكى أنه جلس ذات يوم في مجلس القضاء، وإذا بامرأة تدخل عليه وتقول له: أنا بالله ثم بك يا نصير المظلومين، فنظر إليها شريك وقال: مَنْ ظلمك؟ قالت: الأمير موسى بن عيسى ابن عم أمير المؤمنين، فقال لها: وكيف؟ قالت: كان عندي بستان على شاطئ الفرات وفيه نخل وزرع ورثته عن أبي وبنيت له حائطًا، وبالأمس بعث الأمير بخمسمائة غلام فاقتلعوا الحائط؛ فأصبحت لا أعرف حدود بستاني من بساتينه؛ فكتب القاضي إلى الأمير: "أما بعد.. أبقى الله الأمير وحفظه، وأتم نعمته عليه، فقد جاءتني امرأة فذكرت أن الأمير اغتصب بستانها أمس، فليحضر الأمير الحكم الساعة، والسلام". فلما قرأ الأمير كتاب شريك غضب غضبًا شديدًا، ونادى على صاحب الشرطة، وقال له: اذهب إلى القاضي شريك، وقل له -بلساني- : يا سبحان الله!! ما رأيت أعجب من أمرك! كيف تنصف على الأمير امرأة حمقاء لم تصح دعواها؟ فقال صاحب الشرطة: لو تفضل الأمير فأعفاني من هذه المهمة، فالقاضي كما تعلم صارم، فقال الأمير غاضبًا: اذهب وإياك أن تتردد. فخرج صاحب الشرطة من عند الأمير وهو لا يدري كيف يتصرف، ثم قال لغلمانه: اذهبوا واحملوا إلى الحبس فراشًا وطعامًا وما تدعو الحاجة إليه، ومضى صاحب الشرطة إلى شريك، فقال القاضي له: إنني طلبت من الأمير أن يحضر بنفسه، فبعثك تحمل رسالته التي لا تغني عنه شيئًا في مجلس القضاء!! ونادي على غلام المجلس وقال له: خذ بيده وضعه في الحبس، فقال صاحب الشرطة: والله لقد علمت أنك تحبسني فقدمت ما أحتاج إليه في الحبس. وبعث الأمير موسى بن عيسى إليه بعض أصدقائه ليكلموه في الأمر فأمر بحبسهم، فعلم الأمير بما حدث، ففتح باب السجن وأخرج مَنْ فيه، وفي اليوم التالي، عرف القاضي شريك بما حدث، فقال لغلامه: هات متاعي والحقني ببغداد، والله ما طلبنا هذا الأمر (أي القضاء) من بني العباس، ولكن هم الذين أكرهونا عليه، ولقد ضمنوا لنا أن نكون فيه أعزة أحرارا. فلما عرف الأمير موسى بذلك، أسرع ولحق بركب القاضي شريك، وقال له: يا أبا عبد الله أتحبس إخواني بعد أن حبست رسولي؟ فقال شريك: نعم؛ لأنهم مشوا لك في أمر ما كان لهم أن يمشوا فيه، وقبولهم هذه الوفادة تعطيل للقضاء، وعدوان على العدل، وعون على الاستهانة بحقوق الضعفاء، ولست براجع عن غايتي أو يردوا جميعًا إلى السجن، وإلاَّ مضيت إلى أمير المؤمنين فاستعفيته من القضاء، فخاف الأمير وأسرع بردِّهم إلى الحبس، وجلس القاضي في مجلس القضاء، واستدعى المرأة المتظلمة وقال: هذا خصمك قد حضر.. فقال الأمير: أما وقد حضرت فأرجو أن تأمر بإخراج المسجونين، فقال شريك: أما الآن فلك ذلك. ثم سأل الأميرَ عما تَدَّعيه المرأة، فقال الأمير: صدقت.. فقال القاضي شريك: إذن ترد ما أخذت منها، وتبني حائطها كما كان.. قال الأمير: أفعل ذلك، فسأل شريك المرأة: أبقي لك عليه شيئًا؟ قالت: بارك الله فيك وجزاك خيرًا، وقام الأمير من المجلس وهو يقول: مَنْ عَظَّمَ أمرَ اللِه أذل الله له عظماء خلقه، ومات القاضي شريك سنة 177 هـ. |
الإمام مالك إمام دار الهجرة إمام دار الهجرة يروى في فضله ومناقبه الكثير ولكن أهمها ما روي [عن أبي هريرة يبلغ به النبي (صلى الله عليه وسلم) قال ليضربن الناس أكباد الإبل في طلب العلم فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة] إنه الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة، وصاحب أحد المذاهب الفقهية الأربعة في الإسلام وهو المذهب المالكي، وصاحب كتب الصحاح في السنة النبوية وهو كتاب الموطأ. يقول الإمام الشافعي: إذا ذكر العلماء فمالك النجم. نسبه ومولده هو شيخ الإسلام حجة الأمة إمام دار الهجرة أبو عبد الله مالك ابن أنس بن مالك بن أبى عامر بن عمرو بن الحارث بن غيمان بن خثيل بن عمرو بن الحارث وهو ذو أصبح بن عوف بن مالك بن زيد بن شداد بن زرعة وهو حمير الأصغر الحميري ثم الأصبحي المدني حليف بني تيم من قريش فهم حلفاء عثمان أخي طلحة بن عبيد الله أحد العشرة المبشرين بالجنة. وأمه هي عالية بنت شريك الأزدية وأعمامه هم أبو سهل نافع وأويس والربيع والنضر أولاد أبي عامر. ولد مالك على الأصح في سنة 93هـ عام موت أنس خادم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ونشأ في صون ورفاهية وتجمل طلبه للعلم طلب الإمام مالك العلم وهو حدث لم يتجاوز بضع عشرة سنة من عمره وتأهل للفتيا وجلس للإفادة وله إحدى وعشرون سنة وقصده طلبة العلم وحدث عنه جماعة وهو بعد شاب طري. ثناء العلماء عليه عن ابن عيينة قال مالك عالم أهل الحجاز وهو حجة زمانه. وقال الشافعي: إذا ذكر العلماء فمالك النجم. وعن ابن عيينة أيضا قال كان مالك لا يبلغ من الحديث إلا صحيحا ولا يحدث إلا عن ثقة ما أرى المدينة إلا ستخرب بعد موته يعني من العلم. ـ روي عن وهيب وكان من أبصر الناس بالحديث والرجال أنه قدم المدينة قال فلم أرى أحدا إلا تعرف وتنكر إلا مالكا ويحيى بن سعيد الأنصاري. إمام دار الهجرة روي عن أبي موسى الأشعري قال [قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يخرج ناس من المشرق والمغرب في طلب العلم فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة] ويروى عن ابن عيينة قال كنت أقول هو سعيد بن المسيب حتى قلت كان في زمانه سليمان بن يسار وسالم بن عبد الله وغيرهما ثم أصبحت اليوم أقول إنه مالك لم يبق له نظير بالمدينة. قال القاضي عياض هذا هو الصحيح عن سفيان رواه عنه ابن مهدي وابن معين وذؤيب بن عمامه وابن المديني والزبير بن بكار وإسحاق بن أبي إسرائيل كلهم سمع سفيان يفسره بمالك أو يقول وأظنه أو أحسبه أو أراه أو كانوا يرونه. وذكر أبو المغيرة المخزومي أن معناه ما دام المسلمون يطلبون العلم لا يجدون أعلم من عالم بالمدينة فيكون على هذا سعيد بن المسيب ثم بعده من هو من شيوخ مالك ثم مالك ثم من قام بعده بعلمه وكان أعلم أصحابه. ولم يكن بالمدينة عالم من بعد التابعين يشبه مالكا في العلم والفقه والجلالة والحفظ فقد كان بها بعد الصحابة مثل سعيد بن المسيب والفقهاء السبعة والقاسم وسالم وعكرمة ونافع وطبقتهم ثم زيد بن أسلم وابن شهاب وأبي الزناد ويحيى بن سعيد وصفوان بن سليم وربيعة بن أبي عبد الرحمن وطبقتهم فلما تفانوا اشتهر ذكر مالك بها وابن أبي ذئب وعبد العزيز بن الماجشون وسليمان بن بلال وفليح بن سليمان وأقرانهم فكان مالك هو المقدم فيهم على الإطلاق والذي تضرب إليه آباط الإبل من الآفاق رحمه الله تعالى. قال أبو عبد الله الحاكم ما ضربت أكباد الإبل من النواحي إلى أحد من علماء المدينة دون مالك واعترفوا له وروت الأئمة عنه ممن كان أقدم منه سنا كالليث عالم أهل مصر والمغرب والأوزاعي عالم أهل الشام ومفتيهم والثوري وهو المقدم بالكوفة وشعبة عالم أهل البصرة إلى أن قال وحمل عنه قبلهم يحيى بن سعيد الأنصاري حين ولاه أبو جعفر قضاء القضاة فسأل مالكا أن يكتب له مائة حديث حين خرج إلى العراق ومن قبل كان ابن جريج حمل عنه. قصة الموطأ يروي أبو مصعب فيقول: سمعت مالكا يقول دخلت على أبي جعفر أمير المؤمنين وقد نزل على فرش له وإذا على بساطه دابتان ما تروثان ولا تبولان وجاء صبي يخرج ثم يرجع فقال لي أتدري من هذا قلت لا قال هذا ابني وإنما يفزع من هيبتك ثم ساءلني عن أشياء منها حلال ومنها حرام ثم قال لي أنت والله أعقل الناس وأعلم الناس قلت لا والله يا أمير المؤمنين قال بلى ولكنك تكتم ثم قال والله لئن بقيت لأكتبن قولك كما تكتب المصاحف ولأبعثن به إلى الآفاق فلأحملهنم عليه.فقال مالك: لا تفعل يا أمير المؤمنين، فإن أصحاب رسول تفرقوا في الأمصار وإن تفعل تكن فتنة!! مواقف من حياته روي أن مالكا كان يقول ما أجبت في الفتوى حتى سألت من هو أعلم مني هل تراني موضعا لذلك سألت ربيعة وسألت يحيى بن سعيد فأمراني بذلك فقلت فلو نهوك قال كنت أنتهي لا ينبغي للرجل أن يبذل نفسه حتى يسأل من هو أعلم منه وقال خلف: دخلت عليه فقلت ما ترى فإذا رؤيا بعثها بعض إخوانه يقول: رأيت النبي (صلى الله عليه وسلم) في المنام في مسجد قد اجتمع الناس عليه فقال لهم إني قد خبأت تحت منبري طيبا أو علما وأمرت مالكا أن يفرقه على الناس فانصرف الناس وهم يقولون إذا ينفذ مالك ما أمره به رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ثم بكى فقمت عنه. وروي أن المهدي قدم المدينة فبعث إلى مالك بألفي دينار أو قال بثلاثة آلاف دينار ثم أتاه الربيع بعد ذلك فقال إن أمير المؤمنين يحب أن تعادله إلى مدينة السلام فقال قال النبي (صلى الله عليه وسلم) المدينة خير لهم ولو كانوا يعلمون والمال عندي على حاله. وقدم المهدي المدينة مرة أخرى فبعث إلى مالك فأتاه فقال لهارون وموسى اسمعا منه فبعث إليه فلم يجبهما فأعلما المهدي فكلمة فقال يا أمير المؤمنين العلم يؤتى أهله فقال صدق مالك صيرا إليه فلما صارا إليه قال له مؤدبهما اقرأ علينا فقال إن أهل المدينة يقرؤون على العالم كما يقرأ الصبيان على المعلم فإذا أخطئوا أفتاهم فرجعوا إلى المهدي فبعث إلى مالك فكلمه فقال سمعت ابن شهاب يقول جمعنا هذا العلم في الروضة من رجال وهم يا أمير المؤمنين سعيد بن المسيب وأبو سلمة وعروة والقاسم وسالم وخارجه بن زيد وسليمان بن يسار ونافع وعبد الرحمن بن هرمز ومن بعدهم أبو الزناد وربيعه ويحيى بن سعيد وابن شهاب كل هؤلاء يقرأ عليهم ولا يقرؤون فقال في هؤلاء قدوة صيروا إليه فاقرؤوا عليه ففعلوا. يروي يحيى ابن خلف الطرسوسي وكان من ثقات المسلمين قال كنت عند مالك فدخل عليه رجل فقال يا أبا عبد الله ما تقول فيمن يقول القرآن مخلوق فقال مالك زنديق اقتلوه فقال يا أبا عبد الله إنما أحكي كلاما سمعته قال إنما سمعته منك وعظم هذا القول. وعن قتيبه قال كنا إذا دخلنا على مالك خرج إلينا مزينا مكحلا مطيبا قد لبس من أحسن ثيابه وتصدر الحلقة ودعا بالمراوح فأعطى لكل منا مروحة. وعن محمد بن عمر قال كان مالك يأتي المسجد فيشهد الصلوات والجمعة والجنائز ويعود المرضى ويجلس في المسجد فيجتمع إليه أصحابه ثم ترك الجلوس فكان يصلي وينصرف وترك شهود الجنائز ثم ترك ذلك كله والجمعة واحتمل الناس ذلك كله وكانوا أرغب ما كانوا فيه وربما كلم في ذلك فيقول ليس كل أحد يقدر أن يتكلم بعذره. وكان يجلس في منزله على ضجاع له ونمارق مطروحة في منزله يمنة ويسرة لمن يأتيه من قريش والأنصار والناس، وكان مجلسه مجلس وقار وحلم قال وكان رجلا مهيبا نبيلا ليس في مجلسه شيء من المراء واللغط ولا رفع صوت وكان الغرباء يسألونه عن الحديث فلا يجيب إلا في الحديث بعد الحديث وربما أذن لبعضهم يقرأ عليه وكان له كاتب قد نسخ كتبه يقال له حبيب يقرأ للجماعة ولا ينظر أحد في كتابه ولا يستفهم هيبة لمالك وإجلالا له وكان حبيب إذا قرأ فأخطأ فتح عليه مالك وكان ذلك قليلا قال ابن وهب سمعت مالكا يقول ما أكثر أحد قط فأفلح. وقيل لمالك لم لا تأخذ عن عمرو بن دينار قال: أتيته فوجدته يأخذون عنه قياما فأجللت حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن آخذه قائما. ويروى عن ابن وهب قال: سمعت مالكا يقول لرجل سأله عن القدر نعم قال الله تعالى {ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها}(السجدة:12) وقال جعفر بن عبد الله قال كنا عند مالك فجاءه رجل فقال يا أبا عبد الله [الرحمن على العرش استوى " كيف استوى فما وجد مالك من شيء ما وجد من مسألته فنظر إلى الأرض وجعل ينكت بعود في يده حتى علاه الرضاء ثم رفع رأسه ورمى بالعود وقال الكيف منه غير معقول والاستواء منه غير مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة وأظنك صاحب بدعة وأمر به فأخرج] وفي رواية أخرى قال: الرحمن على العرش استوى، كما وصف نفسه ولا يقال له كيف وكيف عنه مرفوع وأنت رجل سوء صاحب بدعة أخرجوه. من كلماته العلم ينقص ولا يزيد ولم يزل العلم ينقص بعد الأنبياء والكتب. والله ما دخلت على ملك من هؤلاء الملوك حتى أصل إليه إلا نزع الله هيبته من صدري. أعلم أنه فساد عظيم أن يتكلم الإنسان بكل ما يسمع. ما تعلمت العلم إلا لنفسي وما تعلمت ليحتاج الناس إلي وكذلك كان الناس. ليس هذا الجدل من الدين بشيء. لا يؤخذ العلم عن أربعة سفيه يعلن السفه وإن كان أروى الناس وصاحب بدعة يدعو إلى هواه ومن يكذب في حديث الناس وإن كنت لا أتهمه في الحديث وصالح عابد فاضل إذا كان لا يحفظ ما يحدث به. صفة الإمام مالك عن عيسى بن عمر قال ما رأيت قط بياضا ولا حمرة أحسن من وجه مالك ولا أشد بياض ثوب من مالك، ونقل غير واحد أنه كان طوالا جسيما عظيم الهامة أشقر أبيض الرأس واللحية عظيم اللحية أصلع وكان لا يحفي شاربه ويراه مثله. وقيل كان أزرق العين، محمد بن الضحاك الحزامي كان مالك نقي الثوب رقيقه يكثر اختلاف اللبوس، و قال أشهب كان مالك إذا اعتم جعل منها تحت ذقنه ويسدل طرفها بين كتفيه. |
الامام الشافعي قال له الإمام مالك: إن الله تعالى قد ألقى في قلبك نورًا فلا تطفئه بالمعصية، واتق الله فإنه سيكون لك شأن!! في غزة بأرض فلسطين سنة 150هـ، وضعت (فاطمة بنت عبد الله الأزدية) مولودها (محمد بن إدريس الشافعي) في نفس العام الذي توفي فيه الإمام (أبو حنيفة) ليموت عالم ويولد عالم، يملأ الأرض علمًا ويحيي سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويلتقي الشافعي مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الجدِّ الأعلى. فتح الشافعي عينيه على الحياة، فلم يجد والده بجانبه، حيث مات بعد ولادته بزمن قصير، فنشأ يتيمًا، لكن أمه الطاهرة عوضته بحنانها عن فقدان أبيه، وانتقلت به أمه إلى مكة وهو ابن سنتين، ففيها أهله وعشيرته وعلماء الإسلام، وظلت تربيه تربية صالحة، وترعاه، وتأمل أن يكون من العلماء الصالحين؛ الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. حفظ الشافعي القرآن الكريم وسنه سبع سنين، ثم شرع في حفظ أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمه تشجعه وتشد من أزره وتحنو عليه، ولما كان الشافعي لا يقوى على دفع أجر المحفظ أو شراء الورق الذي يسجل فيه محفوظاته؛ كان يطوف شوارع وطرقات مكة يجمع قطع الجلود وسعف النخيل وعظام الجمال ليكتب عليها!! وكما أتقن الشافعي تحصيل العلم أتقن الرمي، حتى كان يرمي عشرة سهام، فلا يخطئ في سهم واحد منها، ثم أرسلته أمه إلى قبيلة (هذيل) في البادية، وهي قبيلة معروفة بالفصاحة والبلاغة؛ فمكث بينهم سبع سنين يتعلم لغتهم، ويحفظ أشعارهم، حتى عاد إلى مكة فصيح اللسان، ينشد الأشعار، ويذكر الآداب وأخبار العرب إلى أن اتجه إلى طريق الفقه والحديث، فرحل الشافعي إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليلتقي بعالم المدينة الإمام (مالك بن أنس) إمام دار الهجرة، ولما التقي به قال له الإمام مالك: إن الله تعالى قد ألقى على قلبك نورًا، فلا تطفئه بالمعصية، واتق الله فإنه سيكون لك شأن. وأخذ الشافعي بتلك النصيحة الغالية، فما مال إلى شرٍّ، ولا جنح إلى لهو أو مجون، بل كان قانعًا بما قسم الله له، يرضى بالقليل، ويقنع باليسير، ويزداد زهدًا كلما وقف على قيمة الدنيا، ويعيش في محراب الحق مسبحًا مناجيًا، يعبد الله بلسانه وقلبه، وظل الشافعي يتتلمذ على يد الإمام (مالك) حتى انتقل عالم المدينة إلى جوار ربه، لكن الشافعي رحل من بلد إلى أخرى، يتعلم على أيدي علمائها وشيوخها، فتعلم في العراق على يد (محمد بن الحسن) تلميذ أبي حنيفة وغيره، وهناك ظهرت صلابة الشافعي وقوته وقدرته على التحمل والصبر؛ حيث إن بعض الوشاة قد اتهموه عند أمير المؤمنين (هارون الرشيد) بالتشيع ومناصرة العلويين، ولكنه استطاع بثقته في الله ورباطة جأشه أن ينفي هذه التهمة عن نفسه. ثم ترك بغداد إلى مكة حيث تعلم على يد (مسلم بن خالد الزنجي) و(سفيان بن عيينة) وفي الحرم المكي أخذ الشافعي يلقي دروسه، وحضر مجلسه أناس من جميع الأقطار والبلدان، والتقى به كبار العلماء وخاصة في مواسم الحج، ثم عاد مرة أخرى إلى بغداد سنة 195هـ، وكان له بها مجلس علم يحضره العلماء يستزيدون من علمه، ويقصده الطلاب من كل مكان. وجاء الشافعي إلى مصر في عام 198هـ، لينشر مذهبه فيها، وليبتعد عن جو الاضطرابات السياسية في العراق، وألقى دروسه بجامع (عمرو بن العاص) وأحبه المصريون وأحبهم، وبقي في (مصر) خمس سنوات قضاها كلها في التأليف والتدريس والمناظرة والرد على الخصوم ومن أشهر مؤلفاته: كتاب (الأم) في الفقه، وكتاب (الرسالة) في أصول الفقه، وهو يُعدُّ أول كتاب يُصنف في هذا العلم. وقد لقي الشافعي تقديرًا كبيرًا من فقهاء عصره ومن بعدهم، سأل عبد الله بن أحمد بن حنبل والده عن الشافعي فقال: يا بني، كان الشافعي كالشمس للدنيا والعافية للبدن. وقيل فيه : ومَنْ يَكُ عِلمُ الشافعي إمَامهَ فمرتعه في باحة العلم واسع وكان أحمد بن حنبل -أحد تلاميذه- يحرص على ألا يفوته درس الشافعي، ويقول لأحد أصحابه: (يا أبا يعقوب، اقتبس من الرجل، فإنه ما رأت عيناي مثله)وكان صلى الله عليه وسلم سفيان بن عيينة) أستاذ الشافعي يستفسر منه عن بعض الأحكام الفقهية التي لم يقف عليها. وكان الشافعي يقضي الساعات الطوال في دروس متصلة، ينتقل من علم إلى علم، يجلس في حلقته إذا صلى الفجر، فيأتيه من يريدون تعلم القرآن، فإذا طلعت الشمس قاموا وجاء طلاب الحديث فيسألونه تفسيره ومعانيه، فإذا انتهوا جاء بعدهم من يريدون تعلم العربية والعروض والنحو الشعر، ويستمر الشافعي في دروسه من بعد صلاة الفجر حتى صلاة الظهر!! وكما كان الشافعي فقيهًا ومحدثًا كبيرًا، كان أيضًا شاعرًا رقيقًا فاض شعره بالتقرب إلى الله، فها هو ذا يستغفر الله ويدعوه قائلا: ولما قَسا قَلْبي وضاقَتْ مذاهبي جعلتُ رجائي نحو عفوِك سُلَّمًا تعاظَمَني ذَنبْي فلمَّا قِرَنْتُهُ بعفْوِكَ ربِّي كان عفُوك أَعْظَما ويوصي الشافعي من خلال شعره بألا نرد على السفيه قائلاً: إذا نطق السفيه فلا تجبه فخير من إجابته السكوت فإن كلمته فرجت عنه وإن خليته كمدًا يموت ويصور عزة نفسه، وإن كانت ثيابه قديمه بالية، فتحتها نفس أبية عزيزة غالية لا مثيل لها فيقول: عليَّ ثياب لو يباع جميعها بفلس لكان الفلس منهن أكْثَرا وفيهن نفسٌ لو يُقاسُ ببعْضِها نفوسٌ الورى كانت أجلَّ وأكْبَرا ومرض الشافعي، وقربت ساعة وفاته؛ فدخل عليه أحد أصحابه وقال له: كيف أصبحت؟ فأجاب الشافعي: أصبحت من الدنيا راحلاً، ولإخواني مفارقًا، ومن كأس المنية شاربًا، ولسوء عملي ملاقيًا، وعلى الكريم سبحانه واردًا، ولا والله ما أدري روحي تصير إلى الجنة فأهنيها أو إلى النار فأعزيها. ومات الشافعي ليلة الجمعة من آخر رجب عام 204هـ، وبعد صلاة العصر خرجت الجنازة من بيت الشافعي (بمصر) مخترقة شوارع الفسطاط وأسواقها، حتى وصلت إلى درب السباع؛ حيث أمرت السيدة نفيسة -رضي الله عنها- بإدخال النعش إلى بيتها، ثم نزلت إلى فناء الدار وصلت عليه صلاة الجنازة، وقالت: رحم الله الشافعي إنه كان يحسن الوضوء. |
سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام قل لي بالله عليك.. مالك لا تخاف سطوةً ولا سلطانًا.. تهابك الملوك والسلاطين، وأنت الذي لا تحمل في يدك سوطًا ولا سيفًا؟! عفوًا يا سلطان العلماء، لا تجب، فقد تذكرت أنك كنت عبدًا طائعًا لله، تطيع أوامره، وتجتنب نواهيه، يعلو صوتك بالحق في وجه الطغاة، فمنحك الله قوة وعزة!! تمكن التتار من إسقاط الخلافة الإسلامية في بغداد عام 656هـ، وواصلوا غزوهم إلى الشام ومصر حاملين معهم الخراب والدمار، فهاجر إلى مصر والشام أعداد غفيرة من العلماء، وأصبحت هذه البلاد مركزًا للعلم حيث انتشرت فيها المساجد والمدارس، ووفد إليها طلاب العلم، من كل مكان ليدرسوا علوم القرآن والتفسير والحديث والفقه والنحو والصرف والتاريخ، إلى جانب الفلسفة والفلك والهندسة والرياضيات.. وغيرها. وسط هذا الجو الذي يشجع على التعلُّم والدراسة، ولد بدمشق عام 577هـ (عز الدين عبد العزيز بن محمد بن عبد السلام) ففتح عينيه على الحياة ليجد أسرته تعاني من الفقر وضيق العيش، ونشأ عز الدين على حب العلم، فسمع الحديث الشريف من العالم الجليل (فخر الدين ابن عساكر) الذي اشتهر بعلمه وزهده، وتعلم على يد قاضي قضاة (دمشق) الشيخ (جمال الدين بن الحرستاني) وغيرهما من الأساتذة الكبار، حتى أصبح عالمًا له مكانته المرموقة بين أساتذته. وكان منصب الخطابة في الجامع الأموي (بدمشق) منصبًا عظيمًا لا يتولاه إلا كبار العلماء، فتولاه (عز الدين بن عبد السلام) فأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وصدع بكلمة الحق، ولم يكن يخشى في الله لومة لائم، فحارب كل بدعة، وأمات كل ضلالة، وكان يقول: (طوبى لمن تولى شيئًا من أمور المسلمين، فأعان على إماتة البدع وإحياء السنن). وفي عام 635هـ ولاه السلطان الكامل الأيوبي قضاء دمشق، لكنه لم يستمر فيه طويلا، بل تركه في العام نفسه عندما تولى الحكم (الصالح إسماعيل) الذي كان على خلاف مع الشيخ عز الدين؛ لأن الملك الصالح تحالف مع الصليبيين، وأعطاهم بيت المقدس وطبرية وعسقلان، وسمح لهم بدخول دمشق، وترك لهم حرية الحركة فيها، وشراء السلاح منها، وفوق ذلك وعد الصليبيين بجزء من مصر إذا هم نصروه على أخيه نجم الدين أيوب سلطان مصر، فلم يرضَ الشيخ عز الدين بهذا الوضع المهين، فهاجم السلطان في خطبه من فوق منبر المسجد الأموي هجومًا عنيفًا، وقطع الدعاء له في خطب الجمعة، وأفتى بتحريم بيع السلاح للصليبيين أو التعاون معهم، ودعا المسلمين إلى الجهاد. غضب السلطان الصالح إسماعيل، وأمر بعزل (عز الدين) من إمامة المسجد الأموي، ومنعه من الفتوى والاتصال بالناس، ولم يكتف بذلك، بل منعه من الخروج من بيته، فقرر عز الدين الهجرة من (دمشق) إلى (مصر) فلما خرج منها عام 638هـ ثار المسلمون في (دمشق) لخروجه، فبعث إليه السلطان أحد وزرائه، فلحق به في نابلس، وطلب منه العودة إلى دمشق، فرفض، فقال له الوزير: بينك وبين أن تعود إلى مناصبك وإلى ما كنت عليه وزيادة أن تنكسر للسلطان، وتعتذر إليه وتقبل يده لا غير. فقال عز الدين: والله يا مسكين، ما أرضى أن يقبل السلطان يدي، فضلاً عن أن أقبل يده، يا قوم أنتم في وادٍ وأنا في وادٍ.. الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به، فقال له الوزير: قد أمرني السلطان بذلك، فإما أن تقبله، وإلا اعتقلتك، فقال: افعلوا ما بدا لكم!! واعتقله جنود السلطان في نابلس، وظل في محبسه، حتى جاءت جنود مصر وخلصته، وجاء الشيخ عز الدين إلى القاهرة عام 639هـ فرحب به (نجم الدين أيوب) سلطان مصر، وولاه منصب قاضي القضاة، وخطيب مسجد عمرو بن العاص، واشتهر الشيخ بالعدالة في القضاء، والجرأة في الحق، حتى أحبه الناس والتفوا حوله. وقد حدثت له حادثة أثناء توليه القضاء تدل على شجاعته وعدله: فقد أفتى العز بن عبد السلام أن أمراء المماليك حكام مصر في ذلك الوقت مازالوا عبيدًا رقيقًا، وأنه يجب بيع هؤلاء الأمراء لصالح بيت مال المسلمين وذلك لتحريرهم من عبوديتهم وعتقهم بالطريق الشرعي، حتى يجوز لهم أن يتصرفوا تصرف الأحرار، فكانت هذه الفتوى ضربة قاضية لهم، حطمت كبرياءهم، وعطلت مصالحهم بل إنهم أصبحوا مصدرًا لسخرية الناس بعد أن قوي نفوذهم، وزاد طغيانهم، وكثرت مظالمهم. غضب الأمراء المماليك غضبًا شديدًا، وقدموا شكوى إلى السلطان، وطالبوه بأن يقنع العز بن عبد السلام، بالعدول عن رأيه، فتحدث معه السلطان في ذلك، وطلب منه أن يتركهم وشأنهم، فغضب عز الدين واستقال من منصب قاضي القضاة، وعزم على مغادرة مصر، فحمل أمتعته على حمار، وحمل أهله على حمار آخر، وسار خلفهم على قدميه خارجًا من القاهرة؛ وعندما علم الناس خرجوا وراءه، فخاف السلطان من الثورة، وقال له أعوانه: متى خرج عز الدين من مصر ضاع ملكك!! فركب السلطان بنفسه ولحق بالشيخ وطيب خاطره، لكنه لم يقبل أن يعود معه إلى القاهرة إلا بعد أن وافق السلطان على بيع الأمراء المماليك في مزاد علني. رجع الشيخ وأمر بأن ينادي على الأمراء في المزاد، وكان من بين الذين سيباعون في المزاد نائب السلطنة، فغضب واشتد غيظه، ورفض أن يباع كما تباع الماشية، وصاح في كبرياء: كيف ينادي علينا هذا الشيخ ويبيعنا ونحن ملوك الأرض؟! والله لأضربنه بسيفي. ركب نائب السلطان فرسه وأخذ معه جماعة من الأمراء، وذهبوا إلى بيت الشيخ يريدون قتله، وطرقوا الباب، فخرج ابن الشيخ فلما رآهم فزع ورجع إلى أبيه خائفًا يخبره بما رأى، ابتسم الشيخ في وجهه، وقال له: يا ولدي أبوك أقل من أن يقتل في سبيل الله، ثم خرج إلى أمراء المماليك، فنظر إليهم نظرة عزة وإباء، وأطال النظر إلى نائب السلطان الذي كان شاهرًا سيفه؛ فارتعدت مفاصل نائب السلطان وسقط السيف من يده، ثم بكى وسأل الشيخ أن يعفو عنه ويدعو له، وتمَّ للشيخ ما أراد وباع الأمراء في المزاد واحدًا واحدًا، وغالى في ثمنهم، ثم صرفه في وجوه الخير. وكانت لسلطان العلماء (العز بن عبد السلام) مواقف إيمانية في ميدان الجهاد ضد التتار أعداء الإسلام والمسلمين، وكان له دور فعال في هذا الأمر، ولم يَرْضَ أن تتحمل جماهير الشعب وحدها نفقات الجهاد، وهو يعلم أن السلطان ورجاله لديهم أموال كثيرة فقال: إذا طرق العدو بلاد الإسلام وجب قتالهم، وجاز لكم أن تأخذوا من الرعية ما تستعينون به على جهادكم، بشرط ألا يبقى في بيت المال شيء، وأن يؤخذ كل ما لدى السلطان والأمراء من أموال وذهب وجواهر وحلي، ويبقى لكل الجند سلاحه، وما يركبه ليحارب عليه ويتساووا هم والعامة، وأما أخذ أموال الناس مع بقاء ما في أيدي الجند من الأموال، فلا. وقد اشترك الشيخ (عز الدين) بنفسه في الجهاد المسلح ضد العدو، وكان دائمًا يحرض السلطان (قطز) على حرب التتار حتى كتب الله له النصر في (عين جالوت) عام 658هـ(1260م)وكان صلى الله عليه وسلم العز بن عبد السلام) شجاعًا مقدامًا، فقد ذهب ذات مرة إلى السلطان في يوم عيد إلى القلعة، فشاهد الأمراء والخدم والحشم يقبلون الأرض أمام السلطان، وشاهد الجند صفوفًا أمامه، ورأى الأبهة والعظمة تحيط به من كل جانب، فتقدم الشيخ إلى السلطان، وناداه باسمه مجردًا، وقال: يا أيوب، ما حجتك عند الله إذا قال لك: ألم أبوئ لك مصر، ثم تبيح الخمور؟ فقال السلطان نجم الدين أيوب: هل جرى هذا؟ قال الشيخ: نعم تباع الخمور في الحانات وغيرها من المنكرات، وأنت تتقلب في نعمة هذه المملكة، وأخذ الشيخ يناديه بأعلى صوته والعساكر واقفون. فقال السلطان: يا سيدي هذا أنا ما عملته، هذا من زمان أبي. فقال الشيخ: أنت من الذين يقولون: إنا وجدنا آباءنا على أمة.. فأصدر السلطان أوامره بإغلاق تلك الحانات، ومنع تلك المفاسد، وشاع الخبر بين جمهور المسلمين وأهل القاهرة، فسأل أحد تلاميذ الشيخ عن السبب الذي جعله ينصح السلطان أمام خدمه وعساكره في مثل هذا اليوم الكريم؟ فقال الشيخ: يا بني، رأيتُ السلطان في تلك العظمة، فأردتُ أن أذكره لئلا تكبر عليه نفسه فتؤذيه.. قال التلميذ: أما خفته؟ قال عز الدين: والله يا بني، استحضرتُ هيبة الله تعالى فلم أخف منه. وكان صلى الله عليه وسلم العز بن عبد السلام) رغم فقره كريمًا كثير الصدقات، فيحكى أنه لما كان بدمشق، وحدثت ضائقة، وعانى الناس من قلة المال، وانخفضت أسعار البساتين فأعطته زوجته مصاغها، وقالت: اشترِ لنا بثمنه بستانا نصيِّف فيه، فأخذ المصاغ وباعه وتصدق بثمنه، فسألته زوجته: هل اشتريت لنا بستانًا؟ قال: نعم، بستانًا في الجنة، إني وجدت الناس في شدة، فتصدقتُ بثمنه، فقالت: جزاك الله خيرًا. وعاش الشيخ (عز الدين) 83 عامًا يدعو إلى الله ويجاهد في سبيله، يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر إلى أن توفي عام 660هـ، فخرج الرجال والنساء والشباب والأطفال يودعون سلطان العلماء، وصلى عليه سلطان مصر والشام -في ذلك الوقت- الظاهر (بيبرس). وقد أشاد به العلماء والمؤرخون حتى أطلق عليه تلميذه شيخ الإسلام (تقي الدين بن دقيق العيد) لقب (سلطان العلماء).. رحم الله العز بن عبد السلام رمز العزة والإباء |
الإمام أحمد بن حنبل خرجت صفية بنت ميمونة بنت عبد الملك الشيباني من مدينة (مرو) وهي تحمل في بطنها جنينًا، وما إن وصلت إلى بغداد حتى ولدت (أحمد بن حنبل) في شهر ربيع الأول سنة 164هـ. كان والده قائدًا في جيش خراسان، أما جده فكان واليًا للأمويين في بلدة تسمى (سرخس) تابعة لبلاد خراسان، وحين بلغ أحمد من العمر ثلاث سنوات توفي والده، فنشأ يتيمًا، تكفله أمه وترعاه، وتقوم على تربيته والعناية به، وعاش أحمد عيشة فقيرة، فلم يترك له والده غير منزل ضيق، مما دفعه إلى العمل وهو طفل صغير، فكان يلتقط بقايا الزروع من الحقول بعد استئذان أهلها، وينسج الثياب ويبيعها، ويضطر في بعض الأوقات أن يؤجر نفسه ليحمل أمتعة الناس في الطريق، وكان ذلك عنده أفضل من أن يمد يده إلى غيره. حفظ أحمد القرآن الكريم، ولما بلغ أربع عشرة سنة، درس اللغة العربية، وتعلم الكتابة، وكان يحب العلم كثيرًا حتى إن أمه كانت تخاف عليه من التعب والمجهود الكبير الذي يبذله في التعلم، وقد حدث ذات يوم أنه أراد أن يخرج للمكان الذي يتعلم فيه الصبية قبل طلوع الفجر، فجذبته أمه من ثوبه، وقالت له: يا أحمد انتظر حتى يستيقظ الناس. ومضت الأيام حتى بلغ أحمد الخامسة عشرة من عمره فأراد أن يتعلم أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من كبار العلماء والشيوخ، فلم يترك شيخًا في بغداد إلا وقد استفاد منه، ومن شيوخه: أبو يوسف، وهشيم بن مشير. وفكَّر أحمد أن يطوف ببلاد المسلمين ليلتقي بكبار علمائها وشيوخها لينقل عنهم الأحاديث التي حفظوها، فزار الكوفة والبصرة، ومكة، والمدينة، واليمن، والشام والعراق وفارس وغيرها من بلاد الإسلام، فكان في رحلاته إذا لم يجد دابة يركبها يمشي حتى تتشقق قدماه ليلتقي بكبار العلماء في هذه البلاد، وظل أحمد طيلة حياته ينتقل من بلد إلى آخر، ليتعلم الحديث حتى أصبح من كبار العلماء. سأله أحد أصحابه ذات يوم: إلى متى تستمر في طلب العلم، وقد أصبحت إمامًا للمسلمين وعالمًا كبيرًا؟! فقال له: (مع المحبرة إلى المقبرة) ومعنى ذلك أنه سيستمر في طلب العلم إلى أن يموت ويدخل القبر، ولم يكن في عصره أحد أحفظ منه لحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى سَمَّوْه (إمام السنة وفقيه المحدثين) وقالوا: إنه كان يحفظ ألف ألف حديث!! شملت المكرر من الحديث والآثار، وفتوى التابعين ونحو ذلك. وبعد أن تعلم الإمام أحمد بن حنبل ما تعلم، وحفظ ما حفظ من أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جلس في المسجد الجامع ببغداد سنة (24هـ) وعمره أربعون سنة، ليعلم الناس أمور دينهم؛ فأقبل الناس على درسه إقبالا عظيمًا، فكانوا يذهبون إلى المسجد في الصباح الباكر ليتخذوا لهم مكانًا يجلسون فيه. وكان أغلى شيء عند الإمام أحمد بن حنبل ما جمعه من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لذلك كان يكتبه في أوراق يحفظها في مكان أمين، وقد حدث ذات يوم أن سرق لص منزله، فأخذ ملابسه وكل ما في بيته، فلما جاء الإمام أحمد إلى البيت، لم يسأل عن شيء إلا عن الأوراق التي يكتب فيها أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولما وجدها اطمأن قلبه ولم يحزن على ما سرق منه. ولم يكن الإمام أحمد بن حنبل مجرد حافظ لأحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- بل كان يعمل بما في هذه الأحاديث، فيقول عن نفسه: ما كتبتُ حديثًا إلا وقد عملتُ به، وكان الإمام أحمد زاهدًا في الدنيا، يرضى بالقليل، فقد كان كثير العبادة والذكر لله. وقد تعرض الإمام أحمد -رضي الله عنه- للتعذيب والأذى بسبب شجاعته من مواجهة الفتن والبدع التي حدثت في زمانه، تلك الفتن التي تعرض من أجلها للضرب والسجن في عهد الخليفة المعتصم، فكان يُضرب بالسياط، حتى أغمي عليه عدة مرات، ودخل السجن وظل فيه عامين ونصف، ثم خرج منه مريضًا يشتكي من الجراح، وظل في منزله بعض الوقت؛ حتى شفي وعاد إلى درسه، ولما تولى الخليفة (الواثق) الخلافة لم يتعرض الإمام أحمد للإيذاء، لكنه منعه من الاجتماع بالناس، فظل معزولاً عنهم، حتى مات الخليفة (الواثق) وتولى (المتوكل) الخلافة الذي عامل الإمام أحمد معاملة حسنة وعرض عليه المال، فرفضه، لكنه ألح عليه أن يأخذه، فتصدق به كله على الفقراء. ورغم انشغال الإمام أحمد الشديد بالعلم وضيق وقته فإنه كان شديد الاهتمام بمظهره، فقد كان من أنظف الناس بدنًا، وأنقاهم ثوبًا، شديد الاهتمام بتهذيب شعر رأسه، وكان الإمام أحمد يميل إلى الفقراء، ويقربهم منه في مجلسه، وكان حليمًا، كثير التواضع تعلوه السكينة والوقار، وكان إذا جلس في مجلسه بعد العصر لا يتكلم حتى يُسأل، كما كان -رضي الله عنه- شديد الحياء، كريم الأخلاق، سخيًّا، وكان مع لينه شديد الغضب لله. والإمام أحمد مؤسس المذهب الحنبلي أحد المذاهب الفقهية الأربعة، وقد ترك الإمام أحمد كتبًا كثيرة منها: (المسند) وهو أكبر كتبه وأهمها بل هو أكبر دواوين السنة النبوية، إذ يحتوي على أربعين ألف حديث، وكتاب (الزهد) و(الناسخ والمنسوخ). ومرض الإمام أحمد -رضي الله عنه- واشتد عليه المرض يوم خميس، فتوضأ، فلما كانت ليلة الجمعة الثاني عشر من شهر ربيع الأول سنة 241هـ، وفي بغداد صعدت روحه إلى بارئها، فحزن عليه المسلمون حزنًا شديدًا، وصاح الناس، وعلا بكاؤهم، حتى كأن الدنيا قد ارتجت، وامتلأت السكك والشوارع، وأخرجت الجنازة بعد انصراف الناس من صلاة الجمعة، وشيعه ما يقرب من ست مائة ألف إنسان، بالإضافة إلى الذين صعدوا إلى أسطح المنازل ليلقوا نظرة الوداع الأخيرة على الإمام أحمد بن حنبل |
القائد الشهيد : عبد القادر الحسيني هو عبد القادر موسى كاظم الحسيني، ولد في استانبول في 8/4/1908م، توفيت والدته بعد مولده بعام ونصف فكفلته جدته لأمه، وما لبثت هي الأخرى أن فارقت الحياة ، فنشأ في كنف والده. والده شيخ المجاهدين في فلسطين موسى كاظم الحسيني، شغل بعض المناصب العالية في الدولة العثمانية متنقلاً في عمله بين أرجاء الدولة العثمانية، فعمل في اليمن والعراق ونجد واستانبول ذاتها بالإضافة إلى فلسطين. ونظراً لخدماته الجليلة للدولة العثمانية، أنعمت عليه الحكومة بلقب (باشا)، وعندما انهارت الدولة العثمانية إبان الحرب العالمية الأولى، ووقعت فلسطين في قبضة بريطانيا كان موسى كاظم (باشا) الحسيني يشغل منصب رئاسة بلدية القدس، كما تم انتخابه رئيساً للجنة التنفيذية للمؤتمر الوطني الفلسطيني. كان الأب موسى أول من رفع صوته في وجه الانتداب البريطاني، وأول من دعا أهل فلسطين إلى الاحتجاج والتظاهر وإعلان السخط والغضب ضد وعد بلفور، فتولى قيادة أول مظاهرة شعبية في تاريخ فلسطين عام 1920م، وبسبب ذلك عزلته سلطات الانتداب البريطاني عن رئاسة بلدية القدس، فلم يكترث واستمر في نضاله الدؤوب، واشترك في الكثير من المظاهرات، كانت آخرها المظاهرة الكبيرة في يافا في 27/10/1933، حيث أصيب فيها بضربات هراوات قاسية من قبل الجنود الإنجليز ظل بعدها طريح الفراش أياماً، حتى فارق الحياة سنة 1934م. تربى الابن عبد القادر منذ نعومة أظفاره في بيت علم وجهاد، حيث كان هذا البيت بمثابة الحضن الأول له والذي كان يجتمع فيه رجالات العرب الذين يفدون إلى القدس، لأن والده موسى الحسيني كان رئيساً لبلديتها. تعلم عبد القادر القرآن الكريم في زاوية من زوايا القدس، ثم أنهى دراسته الأولية في مدرسة (روضة المعارف الابتدائية) بالقدس، بعدها التحق بمدرسة (صهيون) الانجليزية، والتي كانت تعتبر المدرسة الوحيدة في القدس التي من الممكن أن يتناول منها العربي زاده الحقيقي من المعرفة، وأثناء فترة دراسته عكف على قراءة كتب التاريخ، وسير الأبطال والفاتحين. أتم عبد القادر دراسته الثانوية بتفوق، التحق بعدها بكلية العلوم في الجامعة الأمريكية في مصر، وهناك التقى بالعديد من الشباب العربي وتوثقت صلته بهم، وتحول بيته إلى ناد نضالي، يناقش فيه مختلف القضايا القومية والدينية، وأثناء سنوات دراسته التي قضاها في الجامعة، استطاع عبد القادر أن يكشف الدور المريب الذي تقوم به الجامعة الأمريكية في مصر، ذلك الدور المقنع بالعلم والمعرفة، والذي يحمل وراءه بعض أوبئة الاستعمار الخبيثة. بعد عودته للقدس، تلقفته السلطات البريطانية حين وصوله، ووضعت بين يديه عدة وظائف رفيعة المستوى وعليه انتقاء ما يلائمه منها ـ محاولة بذلك أن تضمه تحت جناحهاـ إلا أنه آثر العمل في مجال أكثر رحابة يستطيع به ومن خلاله أن يعبر عن آرائه، فالتحق بسلك الصحافة محرراً في جريدة (الجامعة الإسلامية)، وكان الاتجاه الوطني الذي نهجته الجريدة من أهم العوامل التي دفعته للعمل بها. انضم عبد القادر إلى (الحزب العربي الفلسطيني) بالقدس، وتولى فيما بعد منصب السكرتير في هذا الحزب، وبدأت نشاطاته تبرز في الأفق الفلسطيني، مما أثار عليه حفيظة سلطات الانتداب، فأعادت عليه عرضها لشغل وظيفة (مأمور لتسوية الأراضي) بهدف اشغاله في شؤون الأرض والزراعة، وإبعاده عن مجال السياسة. ارتضى عبد القادر هذه الوظيفة بعد أن أيقن بأهميتها، حيث استطاع تحت ستارها أن يتصل بإخوانه المواطنين في القرى الفلسطينية المختلفة، الذين يمثلون القاعدة الارتكازية للثورة، فتعرف عليهم وانتقى منهم خيرهم فاستقطبهم، وشكل منهم خلايا سرية، وبث فيهم روح الحمية والجهاد، وجمع الأموال من موسريهم، واشترى أسلحة ومعدات، وخزنها في أماكن أمينة، وتدرب بعض الشباب على استعمالها. بعد أن تمادت بريطانيا في معاداتها للعرب، واستفحل الخطر اليهودي على فلسطين، وتنادى الشعب الفلسطيني بضرورة مواجهة المخططات الاستعمارية بصورة فعلية وعلنية... استقال عبد القادر من وظيفته الحكومية، ووهب الثورة جهده وشبابه. بأمر من سماحة الحاج محمد أمين الحسيني تشكلت منظمة واحدة من معظم التنظيمات السرية الفلسطينية، أُطلق عليها (منظمة الجهاد الإسلامي) كي يتسنى للمجاهدين تنظيم شؤونهم النضالية، ومواجهة المستعمر بصورة أكثر دقة وشمولاً، واختير عبد القادر الحسيني قائداً لهذه المنظمة. قرر عبد القادر ولأسباب عديدة أن يتخذ بلدة (بير زيت) مقراً لقيادة الجهاد المقدس، كما قسم فلسطين إلى مناطق قتالية، وولى على كل منطقة منها قائداً من قادته، أما الخلايا السرية وقياداتها فظلت تابعة له مباشرة. كان عبد القادر أول من أطلق النار إيذاناً ببدء الثورة على بطش المستعمر في 6 أيار 1936، حين هاجم ثكنة بريطانية (ببيت سوريك) شمالي غربي القدس، ثم انتقل من هناك إلى منطقة القسطل، بينما تحركت خلايا الثورة في كل مكان من فلسطين... وبلغت الثورة الفلسطينية أوج قوتها في تموز عام 1936، حيث انضم إليها من بقي من رفاق الشهيد عز الدين القسام، وبلغت أنباؤها العالم العربي كله، فالتحق بها المجاهدون العرب أفواجاً، وخاض الثوار العرب معارك بطولية ضد المستعمرين البريطانيين والصهاينة، ولعل أهم هذه المعارك كانت (معركة الخضر) الشهيرة في قضاء بيت لحم، وقد استشهد في هذه المعركة المجاهد العربي السوري سعيد العاص وجرح عبد القادر جرحاً بليغاً، وتمكنت القوات البريطانية من أسره، لكنه نجح في الفرار من المستشفى العسكري في القدس، بعد مغامرة رائعة قام بها المجاهدون من رفاقه فهاجموا القوة البريطانية التي تحرس المستشفى وأنقذوه وحملوه إلى دمشق حيث أكمل علاجه.عاد عبد القادر إلى فلسطين مع بداية عام 1938، وتولى قيادة الثوار في منطقة القدس، وقاد هجومات عديدة ناجحة ضد البريطانيين والصهاينة، ونجح في القضاء على فتنة دينية كان الانتداب البريطاني يسعى إلى تحقيقها ليوقع بين مسلمي فلسطين ومسيحيها. وفي خريف عام 1938، جُرح عبد القادر ثانية في إحدى المعارك، فأسعفه رفاقه في المستشفى الإنجليزي في الخليل، ثم نقلوه خفية إلى سورية، فلبنان. ومن هناك نجح في الوصول إلى العراق بجواز سفر عراقي يحمل اسم محمد عبد اللطيف. وفي بغداد عمل عبد القادر مدرساً للرياضيات في المدرسة العسكرية في معسكر الرشيد، وفي إحدى المدارس المتوسطة، ثم التحق بدورة لضباط الاحتياط في الكلية العسكرية. أيد عبد القادر ثورة رشيد عالي الكيلاني في العراق عام 1941، وشارك مع رفاقه في قتال القوات البريطانية، لكنه بعد فشل الثورة أُلقي القبض عليه مع رفاقه من قبل السلطات العراقية، وصدر عليهم الحكم بالسجن، وتحت ضغط الرأي العام العراقي والرموز الوطنية العراقية، استُبدل السجن بالنفي عشرين شهراً إلى بلدة زاخو في أقصى شمال العراق. كما مثُلت أمام المحكمة السيدة (وجيهة الحسيني) زوجة عبد القادر بحجة مساعدتها وإيوائها للثوار، وتحريضهم على القتال، وحكم عليها بالإقامة الجبرية في بيتها ببغداد مدة عشرين شهراً. وعلى أثر اغتيال فخري النشاشيبي في شارع الرشيد ببغداد، اتُهم عبد القادر بتدبير خطة الاغتيال هذه، فبقي موقوفاً في بغداد قرابة السنة بهذه التهمة .. ثم نقل إلى معتقل العمارة، وهناك أمضى ما يقرب من سنة أخرى، حيث أفرجت الحكومة العراقية عنه في أواخر سنة 1943، بعد أن تدخل الملك عبد العزيز آل سعود ملك العربية السعودية. فتوجه إلى السعودية وأمضى فيها عامين بمرافقة أسرته. وفي مطلع عام 1944 تسلل عبد القادر من السعودية إلى ألمانيا، حيث تلقى دورة تدريب على صنع المتفجرات وتركيبها، ثم انتقل وأسرته إلى القاهرة وهناك وبسبب نشاطه السياسي وصلاته بعناصر من حزب مصر الفتاة وجماعة الإخوان المسلمين، وتجميعه الأسلحة، وتدريبه الفلسطينيين والمصريين على صنع المتفجرات، أمرت حكومة السعديين المصرية بإبعاده.. لكن الضغوط التي مارستها القوى الإسلامية المصرية حالت دون تنفيذ ذلك الإبعاد. عندما علمت الهيئة العربية العليا نية الأمم المتحدة تقسيم فلسطين، سارعت الهيئة برئاسة المفتي أمين الحسيني إلى الانعقاد، وقررت مواجهة الخطط الاستعمارية الصهيونية بالقوة المسلحة، وتقرر إنشاء جيش فلسطين لممارسة الجهاد الفعلي، واختير المفتي قائداً أعلى لهذا الجيش وأعاد تموين منظمة الجهاد المقدس، ثم حولها إلى جيش الجهاد المقدس الفلسطيني. وأسند قيادته العامة إلى عبد القادر الحسيني، بالإضافة لمهمة الدفاع عن القدس ورام الله وباب الواد. وعندما أصدرت الأمم المتحدة قرارها القاضي بتقسيم فلسطين عام 1947، تسلل عبد القادر إلى فلسطين سراً مع بعض رفاقه، وفي نفس الوقت اجتاز الحدود الفلسطينية عدد من المجاهدين القادمين من سورية ولبنان، والتقوا جميعاً بعبد القادر ، وأخذوا يرسمون خطة جديدة للبدء في المرحلة القادمة من الجهاد. فأعادوا تشكيل قوات الجهاد المقدس، واتخذت بلدة (بير زيت) مقراً رئيسياً لتلك القوات، وتألفت في حيفا والناصرة وجنين وغزة قوات أخرى تابعة لها. تعتبر هذه القوات طليعة العمل النضالي العربي التي انبثقت تنظيماتها من صميم الشعب الفلسطيني، وكانت في الحقيقة أول مظهر من مظاهر القوات الشعبية التي تحمل في جوهرها صفة الجيش الشعبي في بلد كان يرزح تحت نير الاستعمار البريطاني. قامت هذه القوات بتنفيذ جزء كبير من واجباتها، فقد تمكنت من إجبار (115) ألف يهودي على الاستسلام في مدينة القدس نتيجة حصارهم باحتلال مضيق باب الواد وإقفاله، وقاموا بعدة معارك محلية، ونصبوا مئات الكمائن للقوافل اليهودية والإنجليزية، كما قامت فرق التدمير بنسف العديد من المنشآت والمباني مثل معمل الجير، عمارة المطاحن بحيفا، وعمارة شركة سولل بونيه اليهودية. كما خاضت هذه القوات بقيادة عبد القادر أروع ملاحم البطولة والفداء مثل معركة بيت سوريك، ونسف شارع ابن يهوذا، ونسف مقر الوكالة اليهودية، ومعركة الدهيشة... وقد تكبد اليهود في هذه المعارك الخسائر الفادحة في الممتلكات، وقتل العدد الكبير منهم، وغنم المجاهدون الكثير من الأسلحة والعتاد والتي ساعدتهم على الاستمرار في نضالهم. تكللت جميع معاركهم التي خاضوها ضد العدو الصهيوني والبريطاني بالنجاح، إلى أن كانت معركة القسطل التي دامت أربعة أيام بكاملها من 4ـ8 نيسان 1948، وانتهت بأن تمكن المجاهدون من انتزاع البلدة العربية من أيدي الصهاينة، إلا أنهم لم يمكثوا فيها سوى بضع ساعات، تمكن الصهاينة بعدها في خضم ذهول المجاهدين وتضعضعهم بسبب استشهاد قائدهم عبد القادر، من شن هجوم معاكس واحتلال البلدة من جديد. استشهد عبد القادر صبيحة 8/4/1948، حيث وجدت جثته قرب بيت من بيوت القرية فنقل في اليوم التالي إلى القدس، ودفن بجانب ضريح والده في باب الحديد... وسمي بطل القسطل، وقد استشهد رحمه الله وهو في الأربعين من عمره، أي في أوج عطائه الجهادي. المراجع: ـ (موسوعة رجالات من بلاد العرب)، د. صالح زهر الدين، المركز العربي للأبحاث والتوثيق، بيروت، طبعة أولى 2001، ص (445ـ452). ـ (قضية فلسطين في سيرة بطل/ الشهيد الحي عبد القادر الحسيني) نبيل خالد الآغا، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1982. |
يتبع مع المزيد ان شاء الله ....
|
جزاكم الله خيراً اخي الفاضل جادي ما شاء الله عمل رائع بارك الله فيك ورحم هؤلاء العلماء الافذاذ متابعين ان شاء الله |
اقتباس:
|
الشيخ عز الدين القسام ولد عز الدين القسام في بلدة (جبلة) التابعة لقضاء اللاذقية في سورية عام 1882، نشأ في أسرة ريفية عرفت بالعلم والتقوى، أبوه الشيخ عبد القادر مصطفى القسام من المشتغلين بعلوم الشريعة الإسلامية، وأمه حليمة قصاب من عائلة علم ودين. كان أبوه من المهتمين بنشر العلم، حيث درّس في كُتّاب القرية القرآن الكريم والعربية والخط والحساب وبث روح الجهاد بتعليم الأناشيد الدينية والحماسية، ثم عمل لفترة مستنطقاً في المحكمة الشرعية. تعلم عز الدين في كتاب البلدة القراءة والكتابة وتلاوة القرآن الكريم، وتميز بنبوغه وتفوقه على أقرانه وامتاز بميله للتأمل وطول التفكير. بعد تفوقه في دراسته في الكتاب، التحق عز الدين للدراسة في الأزهر في مصر، فقد كان الأزهر في ذلك الوقت منارة كبرى لنشر علوم الشريعة والعربية، فحضر دروس الشيخ محمد عبده، وارتوت نفسه من علمه وفهمه. كما تتلمذ على معظم حلقات الأزهر، واعتكف في أروقة مكتباته، وكان يرافق اهتمامه بدروس العلم اهتمام آخر بحركات التحرر التي كان يغذيها رجال الأزهر، ففهم عز الدين أن الإسلام دين عز وقوة وتحرر وجهاد. تعرف القسام في مصر على الاستعمار الغربي وجهاً لوجه، حيث كانت مصر خاضعة للاحتلال البريطاني المباشر بعد ثورة عرابي عام 1882، وكان فيها تيار المقاومة الإسلامي للاحتلال قوياً، كما رأى القسام هجوم المفكرين المتغربين على الإسلام فكراً وحضارة وتاريخاً، وعايش بنفسه الصراع الدائر بين هؤلاء وبين المفكرين الإسلاميين، كما تعرف في مصر على المشروع الصهيوني بأبعاده، وأدرك خطره على الأمة الإسلامية، وأنه وليد الاستعمار الغربي، وسمع عن تطلعات الصهاينة وأطماعهم في فلسطين. وبين مدرسة الشيخ محمد عبده ومدرسة الشيخ رشيد رضا الشامي المقيم في مصر اتضح أمام عيني الشيخ عز الدين القسام الجهاد وسيلة للدفاع عن حقوق الأمة وللعودة بها إلى سابق مجدها. عاد القسام إلى جبلة عام 1906 بعد أن قضى عشر سنوات في الدراسة في الأزهر، بعدها حصل على شهادة الأهلية، ومن ثم قام برحلة إلى تركيا للإطلاع على طرق التدريس في جوامعها، وبعد عودته عكف على التدريس في زاوية والده، في جامع السلطان بن أدهم قطب الزاهدين. كما أخذ القسام دور والده في تدريس أطفال البلدة قواعد القراءة والكتابة وتحفيظ القرآن الكريم، وبعض العلوم الحديثة، وتولى خطبة الجمعة في مسجد المنصوري الذي يتوسط البلدة، وغدا بخطبه ودروسه وسلوكه موضع احترام الناس، وامتدت شهرته وسمعته الحسنة إلى المناطق المجاورة فقدم الإسلام بفهمه الواسع الطلق، وربطته بكثير من المواطنين صداقات متينة، فكثر أتباعه، وعظم شأنه، وذاع صيته. لماّ دخلت القوات الإيطالية طرابلس الغرب (ليبيا) عام 1911، قاد القسام مظاهرة طافت شوارع جبلة تأييداً للمسلمين هناك، ودعا الناس إلى التطوع لقتال الطليان، وجَمع التبرعات للأسر المنكوبة، إلا أن السلطات التركية منعته ورفاقه المتطوعين من السفر إلى ليبيا، فعادوا بعد أربعين يوماً من الانتظار، وبنوا مدرسة بمال المتبرعين لتعليم الأمّيين. وعندما دخلت القوات الفرنسية سورية عام 1920، رفع القسام راية المقاومة ضد المستعمرين الفرنسيين في الساحل الشمالي لسورية، وكان في طليعة المجاهدين الذين حملوا السلاح في الثورة (1919ـ 1920) مع المرحوم عمر البيطار، فقد ترك قريته على الساحل، وباع بيته ـ وهو كل ما يملك ـ واشترى أربعاً وعشرين بندقية، وانتقل بأسرته إلى قرية جبلية ذات موقع حصين. حاول الفرنسيون إقناع الشيخ القسام بترك الثورة والرجوع إلى بيته وإغرائه بالمناصب، إلاّ أنه رفض عرضهم، ونتيجة لإصراره على خط الجهاد حكم عليه الديوان العرفي الفرنسي في اللاذقية وعلى مجموعة من أتباعه بالإعدام، وطارده الفرنسيون فقصد دمشق ومنها إلى فلسطين. عاش القسام ورفاقه في حيفا، ونزلت عائلاتهم في بيت واحد في الحي القديم من المدينة، وهو الحي الذي يجمع فقراء الفلاحين النازحين من قراهم بعد الاستيلاء عليها وتوطين اليهود المهاجرين إلى فلسطين. أبدى القسام اهتماماً حقيقياً بتحسين أحوال معيشة هؤلاء الفلاحين، وبدأ يكافح الأمية في صفوفهم من خلال إعطاء دروس ليلية، وسرعان ما أصبح فلاحو المنطقة الشمالية وعمالها يكنون له المودة والاحترام بفضل زياراته المتكررة لهم وبما يتسم به من أصالة في الخلق والتقوى. عمل القسام مدرساً في المدرسة الإسلامية بحيفا، وكان يحرص على لفت أنظار الطلاب إلى الدور المستقبلي الذي ينتظرهم في ظل وجود الاستعمار، ثم عمل إماماً وخطيباً في جامع الاستقلال بموافقة من مفتي القدس وزعيم الحركة الوطنية الحاج محمد أمين الحسيني، واتجه القسام في أسلوبه إلى توعية الشعب الفلسطيني بالأخطار الماثلة أمامه، وكان يكثر من القول: (بأن اليهود ينتظرون الفرصة لإفناء شعب فلسطين، والسيطرة على البلد وتأسيس دولتهم) كما كان للشيخ القسام دروس في المسجد تقام عادة بين الصلوات المفروضة، وقد جعل منها وسيلة لإعداد المجاهدين وصقل نفوسهم وتهيئتها للقتال، معتمداً اختيار الكيفية دون الكمية. عمل على تأسيس جمعية الشبان المسلمين عندما استفحل الخطر البريطاني في فلسطين وانتشرت الجمعيات التبشيرية التي تدعو إلى تنصير المسلمين، وقام القسام من خلال نشاطه في الجمعية بتربية جيل من الشباب المسلم، الذين أنقذهم من دائرة الانحراف والضياع بسبب قسوة الظروف الاقتصادية والسياسية، وأدخلهم في دائرة العمل الجاد لصالح الوطن... كما أنه وثق اتصالاته بقيادات المدن الفلسطينية الأخرى، وكسب عدداً من شباب المناطق المختلفة للانضمام إلى تنظيم الجهاد. وقد واظب القسام خلال وجوده في الجمعية على إعطاء محاضرة دينية مساء كل يوم جمعة، وكان يذهب كل أسبوع بمجموعة من الأعضاء إلى القرى، ينصح ويرشد ويعود إلى مقره. وقد تمكن من إنشاء عدة فروع للجمعية في أكثر قرى اللواء الشمالي من فلسطين، وكانت الفرصة للّقاء بالقرويين وإعدادهم للدفاع عن أراضيهم. عمل القسام مأذوناً شرعياً لدى محكمة حيفا الشرعية سنة 1930، وقد كانت هذه الوظيفة للقسام وسيلة من الوسائل التي اتصل عن طريقها بمختلف فئات المواطنين من شباب وشيوخ، وعمال وفلاحين، وطلاب وموظفين، وتجار وحرفيين، وتحدث إليهم وأقام معهم علاقات قوية كان لها أثر كبير في اتساع دائرة حركته الجهادية. يعتبر القسام صاحب دعوة مستقلة وأسلوب متميز وحركة جهادية رائدة سبقت جميع الاتجاهات في ميدان الجهاد المعاصر في فلسطين. ويتلخص هذا الأسلوب في تربية جيل من المجاهدين، فكان يعقد اجتماعات سرية مكتومة في بيته وفي بيوت بعض أصدقائه، يحضرها عدد من الأشخاص المغمورين (غير البارزين أو المعروفين في ميدان الحركة الوطنية)، وكان يختارهم من الذين يحضرون دروسه ومواعظه، ويقوم بتهيئتهم وإعدادهم للجهاد، ويكوّن منهم خلايا جهادية، تقتصر عضويتها على نفر من المؤمنين الصادقين الذين لديهم الاستعداد الكامل للتضحية والفداء. وعندما تم إنشاء القوة المجاهدة بشكل متكامل، كانت مقسمة إلى وحدات مختلفة المهام، حيث لكل وحدة دور خاص بها تتولاه، وهذه الوحدات هي: الأولى: وحدة خاصة بشراء السلاح. الثانية: وحدة خاصة للاستخبارات ومراقبة تحركات العدو البريطاني واليهودي. الثالثة: وحدة خاصة بالتدريب العسكري. الرابعة: وحدة خاصة للدعاية في المساجد والمجتمعات، وأبرز أعمالها الدعوة إلى الجهاد. الخامسة: وحدة العمل الجماهيري والاتصالات السياسية. السادسة: وحدة جمع المال من الأعضاء والأنصار، ورعاية أسر المعتقلين والشهداء. ولماّ قطعت الحركة شوطاً من الإعداد تم فيه تهيئة المقاتلين للجهاد، ابتدأ رجال القسام بتنفيذ عمليات فدائية ضد المستوطنات اليهودية عن طريق إعداد كمائن والهجوم على أفراد محددين ومستوطنات معينة، بهدف دفع اليهود في الخارج إلى وقف الهجرة إلى فلسطين. ولم تكن أعمال القسام مهاجمة المستعمرات فحسب وإنما قاموا بمجموعة أعمال أخرى ذكرها الأستاذ أميل الغوري في كتابه (فلسطين عبر ستين عاماً) فقال: (أماّ الأعمال التي قام بها القساميون فكانت من أروع ما قام به المجاهد في فلسطين، وعلى الرغم من كثرتها وتعدد أشكالها ومظاهرها، فإنها ظلت محاطة بالسرية والكتمان إلى مدى كان معه أكثر الناس يجهلون مصدر هذه الأعمال، بل كانوا لا يعرفون إطلاقاً بوجود حركة القساميين، وكان من هذه الأعمال: ملاحقة وتأديب الذين يخرجون عن الشعب ومصالحه، مثل التعاون مع الحكومة ضد الحركة الوطنية، والتجسس لحساب المخابرات البريطانية، أو بيع الأراضي لليهود أو السمسرة عليها للأعداء. وكان من أعمال القساميين العديدة الواسعة النطاق، التصدي لدوريات الجيش والشرطة، وقطع طرق المواصلات والإغارة على ثكنات الجيش ومراكز الشرطة، ومهاجمة حرس المستعمرات اليهودية، وزرع الألغام والمتفجرات فيها). وفي الوقت الذي اعتبرت فيه أعمال القسام بمثابة الروح التي سرت في أوصال الأمة، فحركت الهمم وشدت العزائم، وحفزت الناس إلى العمل، كانت الحكومة البريطانية تعلن عن مكافآت ضخمة لمن يدلي بأية معلومات عن منفذي هذه الأعمال، لأنها فعلاً ألقت الرعب في قلوب اليهود الذين رأوا ولأول مرة عملاً جديداً من حديد ونار، وهذه لم يتعود عليها اليهود في فلسطين... وازدادت الحكومة البريطانية واليهود ذعراً وبثوا الأرصاد، ونشروا الجواسيس في الليل والنهار، وصار الاعتقال لمجرد الشبهة. لذا أصبحت تحركات جماعة القسام تلاقي صعوبة شديدة، إذ استطاعت الشرطة الإنجليزية الحصول على معلومات بشأن عدد أفراد الجماعة وأسمائهم وأسلحتهم، نتيجة التحقيقات المكثفة التي قامت بها، وكذلك استطاعت الحصول على معلومات تساعدهم أكثر وأكثر على تحديد مكانهم. وأخيراً وفي أحراش يعبد في منطقة جنين يوم 20 تشرين ثاني عام 1935، حددت الشرطة البريطانية مكانهم وهاجمتهم بقوات عسكرية كبيرة ودارت معركة رهيبة بين المجاهدين والشرطة، صمد فيها رجال القسام، وقاتل شيخهم قتال الأبطال، وظل يكافح حتى خر صريعاً في ميدان الجهاد شهيداً كريماً في سبيل إعلاء كلمة الله فوق أرض فلسطين، واستشهد معه بعض إخوانه المجاهدين، وجرح آخرون وتم أسرهم. نقل الشهداء إلى حيفا، وتمت الصلاة عليهم في جامع الاستقلال، وشيعت جثامينهم الطاهرة بتظاهرة وطنية كبرى نادت بسقوط الإنجليز ورفض الوطن القومي اليهودي. كان لاستشهاد القسام أعمق الأثر في شباب فلسطين في الثلاثينات والأربعينات، كما أصبح القسام رمزاً للتضحية والفداء، مما جعل بعض المؤرخين يعتبرونه بحق شيخ ثوّار فلسطين. هذه المعلومات أخذت بتصرف عن: ـ (الشيخ عزالدين القسام قائد حركة وشهيد قضية)، حسني جرّار، (دار الضياء للنشر والتوزيع، عمان، طبعة أولى، 1989) ـ (موسوعة السياسة)، د.عبد الوهاب الكيالي وآخرون، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، طبعة ثانية،1990 ج4 ص(101ـ 103). |
عبد العزيز الرنتيسي.. الطبيب الثائر الرنتيسي إلى الرفيق الأعلى شخصية منطقية ورزينة، ولكنها قادرة علي إثارة حنق الإسرائيليين. يملك القدرة على إثارة وتعبئة الشارع الفلسطيني، إلا أن الكثيرين يعتبرون مواقفه تميل إلى الدموية؛ فهو ينادي بضرب كل إسرائيلي في أي مكان وزمان. له سجل حافل بالنضال والجهاد والدعوة، لا يخلو من الاعتقالات والتعذيب والإبعاد. إنه خَلَف الشيخ ياسين في قيادة حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، الدكتور عبد العزيز الرنتيسي. وتعكس حياته ملامح العلاقة بين الاحتلال وشرائح المجتمع المختلفة، وتبين سياسة الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة تجاه الشعب الفلسطيني. البداية نشأ عبد العزيز الرنتيسي ابن يبنا القرية المهجرة (بين عسقلان ويافا) والمولود في 23-10-1947 قبيل التهجير في أسرة ملتزمة ومحافظة في مخيم خان يونس للاجئين الفلسطينيين. لم يمنعه صغر سنه من العمل لمساعدة عائلته المكونة من 11 فردا؛ حيث اشتغل وهو في عمر ست سنوات فلم يلهو مع أقرانه ولم يعش شقاوات الطفولة، كان هناك أكبر من ذلك يشغل تفكيره، وعالمه الصغير. أنهى الرنتيسي دراسته الثانوية عام 1965، وتوجه إلى مدينة الإسكندرية المصرية ليلتحق بجامعتها ويدرس الطب؛ حيث أنهى دراسته الجامعية بتفوق وتخرج عام 1972 وعاد إلى قطاع غزة. لم تقف أحلامه عند هذا الحد على الرغم من صعوبة الظروف التي عاشها وأفراد أسرته الأحد عشر. لمع نجم الرنتيسي في العديد من المجالات سواء على الصعيد العلمي أو العملي أو الدعوي وكذلك الجهادي؛ فقد حصل على درجة الماجستير في طب الأطفال من مدينة الإسكندرية، بعد أن خاض إضرابا مع زملائه في المستشفى محتجا على منعهم من النهل من معين العلم، والسفر إلى أرض الكنانة، وعمل بعد أن عاد في مستشفى ناصر في خان يونس، وذلك عام 1976. شغل الدكتور الرنتيسي العديد من المواقع في العمل العام؛ منها: عضوية هيئة إدارية في المجمع الإسلامي، والجمعية الطبية العربية بقطاع غزة، والهلال الأحمر الفلسطيني. وعمل في الجامعة الإسلامية بمدينة غزة منذ افتتاحها عام 1978 محاضرا يدرس علم الوراثة والطفيليات. الاعتقال الأول نجاة الرنتيسي من محاولة الاغتيال الأولى كان أحد قياديي حركة الإخوان المسلمين السبعة في "قطاع غزة" عندما حدثت حادثة المقطورة، تلك الحادثة التي صدمت فيها مقطورة صهيونية سيارة لعمال فلسطينيين، فقتلت وأصابت جميع من في السيارة، واعتبرت هذه الحادثة بأنها عمل متعمد بهدف القتل مما أثار الشارع الفلسطيني؛ خاصة أن الحادثة جاءت بعد سلسلة من الاستفزازات الإسرائيلية التي استهدفت كرامة الشباب الفلسطيني؛ خاصة طلاب الجامعات الذين كانوا دائما في حالة من الاستنفار والمواجهة شبه اليومية مع قوات الاحتلال. وقد خرجت على إثر حادثة السير المتعمدة هذه مسيرة عفوية غاضبة في (جباليا) أدت إلى سقوط شهيد وعدد من الجرحى، فاجتمع قادة الإخوان المسلمين في قطاع غزة وعلى رأسهم الرنتيسي على إثر ذلك، وتدارسوا الأمر، واتخذوا قرارا مهما يقضي بإشعال انتفاضة في قطاع غزة ضد الاحتلال الصهيوني. وتم اتخاذ ذلك القرار التاريخي في ليلة التاسع من ديسمبر 1987، وتقرر الإعلان عن "حركة المقاومة الإسلامية " كعنوان للعمل الانتفاضي الذي يمثل الحركة الإسلامية في فلسطين، وصدر البيان الأول موقعا بـ "ح.م.س". هذا البيان التاريخي الذي أعلن بداية الانتفاضة والذي كتب لها أن تغير وجه التاريخ، وبدأت الانتفاضة وانطلقت من المساجد، واستجاب الناس، وبدأ الشعب الفلسطيني مرحلة من أفضل مراحل جهاده. وفجأة بعد منتصف ليلة الجمعة الخامس عشر من يناير 1988 -أي بعد 37 يوما من اندلاع الانتفاضة- إذا بقوات كبيرة جدا من جنود الاحتلال تحاصر منزل الرنتيسي، وتسور بعض الجنود جدران فناء البيت، بينما قام عدد آخر منهم بتحطيم الباب الخارجي بعنف شديد محدثين أصواتا فزع بسببها أطفاله الصغار الذين كانوا ينامون كحَمَل وديع. انتهى الاقتحام باعتقال الدكتور ليكون هذا بداية مسيرة الاعتقالات، وبداية مسيرة الجهاد والإبعاد. رهين المعتقلات انتسب الرنتيسي إلى جماعة الإخوان المسلمين ليصبح أحد قادتها في قطاع غزة، ويكون أحد مؤسسي حركة المقاومة الإسلامية "حماس" في غزة عام 1987. وكان أول من اعتقل من قادة الحركة بعد أن أشعلت حركته الانتفاضةَ الفلسطينية الأولى في التاسع من ديسمبر 1987؛ ففي 15/1/1988 جرى اعتقاله لمدة 21 يومًا بعد عراك بالأيدي بينه وبين جنود الاحتلال، الذين أرادوا اقتحام غرفة نومه فاشتبك معهم لصدهم عن الغرفة، فاعتقلوه دون أن يتمكنوا من دخول الغرفة. وبعد شهر من الإفراج عنه تم اعتقاله بتاريخ 4/3/1988؛ حيث ظل محتجزًا في سجون الاحتلال لمدة عامين ونصف العام، ووجهت له تهمة المشاركة في تأسيس وقيادة (حماس)، وصياغة المنشور الأول للانتفاضة، بينما لم يعترف في التحقيق بشيء من ذلك، فحوكم على قانون "تامير"، ليطلق سراحه في 4/9/1990. ثم عاود الاحتلال اعتقاله بعد 100 يوم فقط بتاريخ 14/12/1990؛ حيث اعتقل إداريًّا لمدة عام كامل. ولم يكن فقط رهين المعتقلات الإسرائيلية بل والفلسطينية أيضا؛ فقد اعتقل أربع مرات في سجون السلطة الفلسطينية، كان آخرها لمدة 21 شهرًا بسبب مطالبته السلطة الفلسطينية بالكشف عن قتلة الشهيد محيي الدين الشريف في مارس "آذار" 1998. مرار الغربة مقاتلو حماس يحيطون بالرنتيسي وفي 17-12-1992 أُبْعد مع 400 من نشطاء وكوادر حركتي حماس والجهاد الإسلامي إلى جنوب لبنان؛ حيث برز كناطق رسمي باسم المبعدين الذين رابطوا في مخيم العودة في منطقة مرج الزهور؛ لإرغام سلطات الاحتلال على إعادتهم، وتعبيرا عن رفضهم لقرار الإبعاد. واعتقلته سلطات الاحتلال فور عودته من مرج الزهور، وأصدرت محكمة إسرائيلية عسكرية عليه حكمًا بالسجن؛ حيث ظل محتجزًا حتى أواسط عام 1997. وتمكن الرنتيسي من خلق جبهة معارضة قوية لانخراط الحركة في أي مؤسسة من مؤسسات السلطة، أو دخول الحركة في انتخابات تحت سقف اتفاق أوسلو الذي قامت بموجبه السلطة الفلسطينية. وقد أدت مواقفه هذه إلى تعرضه لعدة عمليات اعتقال، وأفرج عنه العام قبل الماضي 2002، بشرط عدم الإدلاء بأي تصريحات تعبئ الشارع الفلسطيني، إلا أن مواقف د. الرنتيسي -خصوصا بعد عرض خريطة الطريق- أثارت حنق إسرائيل؛ فقد أعلن الرنتيسي معارضته للخريطة ولأي حل سلمي أو مفاوضات مع العدو الإسرائيلي. استشهاد الرنتيسي وبعد أن اغتالت يد الغدر الإسرائيلية الشيخ القعيد القائد أحمد ياسين بايعت الحركة الدكتور الرنتيسي خليفة له في الداخل، ليسير على الدرب حاملا شعل الجهاد؛ ليضيء درب السائرين نحو الأقصى، إلى أن تمكنت منه يد العدوان، فاستشهد مع 3 من مرافقيه في غارة جوية إسرائيلية استهدفت سيارته في شارع الجلاء بمنطقة الغفري شمال مدينة غزة مساء السبت 17-4- 2004 من مقال ل هنادي دويكات بتصرف |
مسلمة بن عبد الملك.. الفاتح الكبير نحن اليوم مع قصة فاتح من أعظم فاتحي الدولة الإسلامية .. قد يكون اسمه غير معروف عند الكثير من المسلمين لكن أهل المعرفة بتاريخ فتوحات الإسلام يعرفونه حق المعرفة .. قد يكون الناس هضموا حقه لكن حقه عند الله محفوظ ولا يضره جهل الناس طالما أن الله تعالى يعرفه. إنه القائد المسلم العظيم مسلمة بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص ابن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي القرشي الأموي.. أبوه أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان، وأمه من أمهات الأولاد - ويريدون بكلمة أمهات الأولاد: الجواري والإماء اللواتي ولدن لمواليهنَّ ذكرانًا – وولادة مسلمة كانت حوالي سنة ست وستين من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم 685م. نشأ وترعرع في ظروف مهمة حتى تستكمل متطلبات شخصيته الفكرية والإدارية والسياسية والعسكرية. فمسلمة من بيت السلطة، بني أمية، وأهله أمراء وقادة وخلفاء، نشأ في دمشق عاصمة الخلافة الأموية، فتعلم القرآن الكريم، ورواية الحديث النبوي الشريف، وأتقن علوم اللغة العربية وفنون الأدب، وتدرب على ركوب الخيل والفروسية والسباحة والرمي بالنبال، والضرب بالسيف، والطعن بالسنان، وتلقى علومه وتدرب في حياة وكنف والده أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان. ووالده يعد بحق أبرز خلفاء بني أمية في بلاد الشام، فكان حصيفًا عالمًا داهية ذا مقدرة وذكاء، لذا أرسى عبد الملك أسس شخصية ابنه مسلمة وبدت ملامحها واضحة جلية في وقت مبكر من عمره، وكان مسلمة نسخة طبق الأصل من والده حتى توفي والده – رحمه الله تعالى – سنة ست وثمانين من الهجرة النبوية الشريفة 705م. غزوات مبكرة في سنة ست وثمانين من الهجرة غزا مسلمة أرض الروم، وفي سبع وثمانين غزا الروم فأثخن فيهم بناحية "المصيصة" حيث إنها مدينة على شاطئ نهر جيجان من ثغور الشام بين أنطاكية وبلاد الروم، وفتح حصونًا كثيرة منها حصن "بولق والأخرم وبولس وقمقيم". وفي سنة ثمان وثمانين من الهجرة غزا وأخوه بلاد الروم، فهزم الله الروم حتى دخلوا "طوانة". وفتح مسلمة أيضًا حرثومة. وفي تسع وثمانين غزا مسلمة والعباس بن الوليد بن عبد الملك الروم، فافتتح حصن "عمورية" ولقي من الروم جمعًا فهزمهم وافتتح "هرقلة وقمونية". وغزا مسلمة الترك حتى بلغ مدينة باب الأبواب وهي ميناء كبير على بحر الخزر ومدينة كبيرة محصنة، من ناحية أذربيجان. وفي سنة اثنتين وتسعين من الهجرة غزا مسلمة أرض الروم ففتح حصونًا ثلاثة وأجلى أهل "سوسنة" إلى بلاد الروم. وفي سنة أربع وتسعين من الهجرة غزا مسلمة أرض الروم فافتتح سندرة، وهي حصن من حصون الروم التي أقامها البيزنطيون للدفاع عن عاصمتهم "القسطنطينية". والقسطنيطينية مدينة معروفة عاصمة الإمبراطورية البيزنطية الشرقية، بناها قسطنطين سنة 330م، وهي مسورة بسور حصين، ارتفاعه ما بين أربعة عشر قدمًا وعشرين، ومحيطها أكثر من اثني عشر ميلاً من الجنوب، ومن هذا الغزو عاد مسلمة إلى الديار المقدسة فحج بالناس في هذه السنة. وفي سنة سبع وتسعين من الهجرة غزا مسلمة أرض "الوضاحية" وفيها غزا "برجمة" وحصن "ابن عوف" وافتتح حصني "الحديد وسرورا". في سنة ثمان وتسعين هجرية ولى سليمان أخاه مسلمة قائدًا عامًا للقوات الغازية القسطنطينية، فسار على رأس جيشه المؤلف في البحر، وكانت مدينة "دابق" هي القاعدة المتقدمة لحشد جيش مسلمة، وسلك طريق "مرعش" فافتتح مدينة "الصقالية". وسار مسلمة إلى القسطنطينية حتى نزل "عمورية"، وأحسن مسلمة في قيادته فبقى محاصرًا للقسطنطينية ثلاثين شهرًا، وقد قيل إنه ضاقت بهم الحال وقلت المؤن حتى أكل عسكره الميتة والعظم، فما وهن ولا توانى ولا ضعف عن النهوض بواجبه، فلقد كان حصار القسطنطينية ملحمة رائعة للمسلمين بقيادة مسلمة بن عبد الملك بن مروان. صفات قيادة وسيادة ركز أبوه عبد الملك بن مروان عليه، بخاصة في وصية أبنائه وبنيه وهو على فراش الموت، فقال: "أوصيكم بتقوى الله فإنها أزين حلية، وأحصن كهف، ليعطف الكبير منكم على الصغير، وليعرف الصغير حق الكبير، وانظروا مسلمة فاصدروا عن رأيه فإنه نابكم الذي عنه تفترون، ومجنكم "حاميكم" الذي عنه ترمون.." فهذا ثناء عاطر وتقدير بالغ بمسلمة بما يدل على مبلغ ثقته به واعتماده عليه. وحقًّا كان مسلمة من قادة الجهاد الإسلامي بالنسبة لبني أمية لا يخالفون له رأيًا ولا يعصون له رأيًا وأمرًا، ويلجأون إليه في أيام المحن والحروب. كان ذا رأي ودهاء وصفة يزيد بن المهلب بن أبي صفرة قائلاً: "... إني لقيت بني مروان فما لقيت منهم أمكر ولا أبعد غدرًا من مسلمة".. وكان إداريًا حازمًا، ورجل دولة من الطراز الأول وقائدًا متميزًا. كان مسلمة كريمًا غاية الكرم ومن أمثلة كرمه قوله يومًا لنصيب الشاعر: "سلني" قال: لا. قال: ولِمَ؟ قال: لأن كفك بالجزيل أكثر من مسألتي باللسان. فأعطاه ألف دينار. وأهدى إلى الحسن البصري رضي الله عنه خميصة – كساءً أسود أو أحمر له أعلام ، وكان الحسن يصلي فيها. وكان إذا كثر عليه أصحاب الحوائج وخاف أن يضجر قال لابنه: إيذن لجلسائي، فيأذن لهم فيفتنّ ويفتنّون في محاسن الناس، فيطرب لها ويهتاج، ويصيبه ما يصيب صاحب الشراب، فيقول لابنه: إيذن لأصحاب الحوائج، فلا يبقى أحد إلا قضيت حاجته. وكان سمحًا يفتح بابه وقلبه لكل غاد ورائح، فيقضي حاجة المحتاج ويأخذ بيد المضطر ويغيث الملهوف ويجير من استجار به. عبادة وديانة كان مسلمة رضي الله عنه يقوم من الليل فيتوضأ ويتنفل حتى يصبح. وكان رحمه الله يثق بورع عمر بن عبد العزيز وعمر يثق بورع مسلمة. فدخل مسلمة على عمر في مرضه الذي مات فيه فأوصاه عمر بن عبد العزيز أن يحضر موته، وأن يلي غسله وتكفينه، وأن يمشي معه إلى قبره، وأن يكون ممن يلي إدخاله في لحده، ومن المعلوم أن المرء لا يوصي أحدًا بأن يحضر موته ويلي غسله وتكفينه إلا إذا كان يثق بورعه وتدينه. وكان مسلمة يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويعرف واجب الحاكم تجاه المحكومين ولا يرضى للحاكم أن يغمط حقوق المحكومين، وكان يؤدي فريضة الحج ويقصد بيت الله في مكة المكرمة محرمًا، ويشد الرحال إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة النبوية كلما وجد إلى ذلك سبيلاً، وقد تولى إمارة الحج سنة أربع وتسعين من الهجرة في أيام أخيه الوليد بن عبد الملك. مسلمة والخلافة لم يكن لمسلمة رحمه الله أمل في تولي الخلافة مع أنه كان أحق بالملك من سائر إخوته، وكان ذا عقل راجح ورأي سديد يحولان بينه وبين مغامرة تشق صفوف المسلمين، وكان من أكثر الناس حرصًا على رص الصفوف والوحدة، كما أنه كان يعتبر الخلافة وسيلة من أجل خدمة الأمة لا غاية من أجل أطماع شخصية وأمجاد أنانية، وهو بحق خدم الأمة أجل الخدمات، وبذلك حقق الوسيلة واستغنى عن الغاية. مضى مسلمة من سنة ست وثمانين من الهجرة حتى تقاعد سنة أربع عشرة ومائة هجرية قائدًا دون توقف إلا سنة إحدى عشرة ومائة هجرية. وتوقفه كان لأسباب مرضية، فأمضى كل حياته قائدًا، خلقه الله تعالى ليكون غازيًا لا ليكون واليًا، فوجوده بين جنوده يرفع معنوياتهم ويزعزع من معنويات عدوه من جهة أخرى، فلقد كان القائد الأول في الدولة الأموية بعد محمد بن القاسم وقتيبة بن مسلم، وكان لا يتعالى على أحد غرورًا بانتصاراته أو مكانته الرفيعة بين الحكام والمحكومين على حد سواء. مات مسلمة رحمه الله تعالى عن عمر يناهز الرابعة والخمسين، توفي في سنة إحدى وعشرين ومائة هجرية، 738م، وكانت وفاته بالشام ودفن بموضع يقال له "الحانوت" لقد مات فتى العرب ورجل بني أمية وعلى أمثاله يبكي الناس ويحزنون لمزاياه الرفيعة خلقًا وسلوكًا وورعًا.. إضافة إلى علمه وأدبه وكرمه وجوده ومروءته. رجل قضى أربعة أخماس عمره بعد بلوغه مبلغ الرجال في ساحات الجهاد، ولم يسقط السيف من يده في السنوات الباقية من عمره إلا مضطرًا ومكرهًا.. وهو أعظم من حاصر القسطنطينية من القادة العرب المسلمين. رحمه الله تعالى رحمة واسعة، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء. مجلة صوت الأزهر - معارك وفتوحات الاسلام الكبرى - البداية والنهاية لابن كثير |
أحمد ديدات.. دعوة حتى آخر رمق لقد اختار الرجل طريقا وعرًا لا يسلكها إلا الأفذاذ من الرجال ، فاختار مقارعة أهل الكتاب في عقر دارهم وإفحامهم من خلال كتبهم وإظهار عوارها وبيان اختلافها وأن مثلها لا يصلح أن يكون كلمة الرب التي أنزلها على رسله وأن دين الحق هو دين الإسلام الخاتم .. كل ذلك من خلال المناظرة بالحكمة والموعظة الحسنة مما كان له كبير الأثر في عودة الآلاف منهم إلى الدين الحق دين الإسلام. لقد عاش ديدات حياته يناضل في هذا الجانب، ومات وهو لا يزال يؤدي رسالته من على فراش المرض، ثم ودعنا بعد حياة حافلة تحتاج أن يدرسها كل مسلم ليأخذ منها عبرا وعظات.. وهانحن نقتطف منها ملخصا لا يغني عن التمام: مولده ونشأته ولد الشيخ الفقيد أحمد حسين ديدات في مدينة سيرات بالهند عام 1918, وقد هاجر والده إلى دولة جنوب أفريقيا بعد وقت قصير من ولادته، وعندما بلغ الصغير تسع سنوات ماتت والدته فلحق بأبيه إلى جنوب أفريقيا حيث عاش هناك بقية عمره. في جنوب إفريقيا برع أحمد في دراسته وفاق أقرانه رغم اختلاف اللغة وبدت عليه علامات التفوق والنبوغ.. لكن الفقر حال دونه والعلم والقراءة الذين شغف بهما، وخرج ديدات الصغير من المرحلة المتوسطة ليبحث عن مصدر رزق يتقوت منه . مواجهات مبكرة عمل ديدات في عدة أعمال، وعندما بلغ الثامنة عشرة في حدود عام 1936، عمل في دكان يمتلكه أحد المسلمين، يقع في منطقة نائية في ساحل جنوب إقليم ناتال بجانب إرسالية مسيحية، وكان طلبة الإرسالية يأتون إلى الدكان الذي يعمل به ديدات ومعه مسلمون آخرون، ويكيلون الإهانات لهم عبر الإساءة للدين الإسلامي والطعن في النبي صلى الله عليه وسلم.. وعن هذا يقول الشيخ ديدات: "لم أكن أعلم شيئًا عما يقولون، كل ما كنت أعلمه أنني مسلم.. اسمي أحمد.. أصلي كما رأيت أبي يصلي.. وأصوم كما كان يفعل، ولا آكل لحم الخنزير ولاأشرب الخمور، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. إظهار الحق يقول الشيخ ديدات: "كانت الشهادة بالنسبة لي مثل الجملة السحرية التي أعلم أنني إن نطقت بها نجوت، ولم أكن أدرك غير ذلك، ولكن نهمي الطبيعي وحبي للقراءة وضعا يدي على بداية الطريق، فلم أكن أكتفي بالجرائد التي كنت أقرؤها بالكامل، وأظل أفتش في الأكوام بحثًا عن المزيد مثل المجلات أو الدوريات، وذات مرة وأثناء هذا البحث عثرت على كتاب كان عنوانه بحروف اللاتينية izharulhaq (إظهار الحق)، وقلبته لأجد العنوان بالإنجليزية "Truth Revealed"، جلست على الأرض لأقرأ فوجدته كتب خصيصًا للرد على اتهامات وافتراءات المنصِّرين في الهند، وكان الاحتلال هناك قد وجد في المسلمين خطورة، فكان من بين الحلول محاولات تنصيرهم لتستقر في أذهانهم عقيدة "من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر"، فلا يواجه بمقاومة أكبر من المسلمين، وبذلك تعرض المسلمون هناك لحملات منظمة للتنصير، وكان الكتاب يشرح تكنيك وأساليب وخبرات توضح طريقة البداية، وطرح السؤال، وأساليب الإجابة لدى نقاش هؤلاء المنصرين، بما جعل المسلمين في الهند ينجحون في قلب الطاولة ضدهم، وبالأخص عن طريق فكرة عقد المناظرات. عودة إلى طلاب الإرسالية لقد حملت تهكمات طلبة الإرسالية النصرانية ديدات على البحث؛ فاشترى أول نسخة من الإنجيل وبدأ يقرأ ويعي، ثم قام بشراء نسخ من الأناجيل المتنوعة، وانهمك في قراءتها ثم المقارنة بين ما جاء فيها فاكتشف تناقضات غريبة وأخذ يسأل نفسه: أي من الأناجيل هذه أصح؟ وواصل وضع يده على التناقضات وتسجيلها لطرحها أمام أولئك الذين يناقشونه بحدة كل يوم في الحانوت. وفي اللقاء الثاني بطلاب الإرسالية كان على استعداد لمناقشتهم، بل ودعوتهم للمناظرات، وحينما لم يصمدوا أمام حججه قام بشكل شخصي بدعوة أساتذتهم من الرهبان في المناطق المختلفة، وشيئًا فشيئًا تحول الاهتمام والهواية إلى مهمة وطريق واضح للدعوة بدأه الشيخ واستمر فيه، فكان له من الجولات والنجاحات الكثير، واستمر في ذلك طيلة ثلاثة عقود قدّم خلالها المئات من المحاضرات والمناظرات مع القساوسة، كما وضع عددًا من الكتب يزيد على عشرين كتابا من بينها الاختيار The Choice وهو مجلد متعدد الأجزاء، هل الإنجيل كلمة الله؟، القرآن معجزة المعجزات، المسيح في الإسلام، العرب وإسرائيل صراع أم وفاق؟، مسألة صلب المسيح… ديدات تاون؟!! لقد قيض الله لأحمد ديدات رجلين كان لهما أكبر الأثر في حياته ودعوته ووصوله إلى العالمية في الدعوة: أولهما : غلام حسن فنكا" شاب من جنوب أفريقيا حاصل على الليسانس في القانون ويعمل في تجارة الأحذية، جمعت بينه وبين ديدات: رقة المشاعر والاهتمام بقضايا الإسلام. التقى "غلام" مع ديدات في رحلة البحث والدراسة والقراءة المتعمقة في مقارنات الأديان، وساعد ديدات كثيراً في التحصيل العلمي وصقل الذات. وجابا معا مدنا وقرى صغيرة داخل جنوب أفريقيا، وفي عام 1956 قرر "غلام" التفرغ تماماً للدعوة، وأسس الرجلان "مكتب الدعوة" في شقة متواضعة بمدينة ديربان، ومنه انطلقا إلى الكنائس والمدارس المسيحية داخل جنوب أفريقيا حيث قام أحمد ديدات بمناظراته المبهرة والمفحمة. وأما الرجل الثاني: فهو "صالح محمد" وهو من كبار رجال الأعمال المسلمين، كان يعيش في مدينة كيب تاون ، التي كانت تتميز بكثافة إسلامية، وسيطرة وهيمنة نصرانية، كما أنها تتميز بمكانتها الاقتصادية والسياسية في ذات الوقت؛ ومن ثم قام "صالح محمد" بدعوة "ديدات" لزيارة المدينة، حيث رتب له أكثر من مناظرة مع القساوسة هناك، ولكثرة عددهم ورغبتهم في المناظرة أصبحت إقامة ديدات في كيب تاون شبه دائمة، وتمكن ديدات من خلال مناظراته أن يحظى بمكانة كبيرة بين سكانها جميعاً الذين تدفقوا على مناظراته حتى أصبح يطلق على "كيب تاون".. ديدات تاون!! لقد جاب ديدات البلاد بطولها وعرضها ومعه رفيقا دربه وأحدثت مناظراته اضطرابًا في الوسط الكنسي ومن ثم المجتمع كله، وهز مفاهيم ومعتقدات كانت راسخة ومقدسة واستطاع تغييرها، وأحدث ثغرة داخل الكنيسة بعد أن تحول المئات بإرادتهم إلى الإسلام إثر حضور مناظراته أو بعد زيارته في مكتبه الذي تحول إلى منتدى للزائرين والوافدين من كل مكان. الانتقال للعالمية ومن جنوب أفريقيا خرج ديدات إلى العالم في أول مناظرة عالمية عام 1977 بقاعة ألبرت هول في لندن.. وناظر ديدات كبار رجال الدين النصراني أمثال: كلارك – جيمي سواجارت – أنيس شروش، وغيرهم. وأحدثت مناظراته دويا في الغرب لاتزال أصداؤه تتردد فيه حتى يومنا هذا. فحديثه عن تناقضات الأناجيل الأربعة دفع الكنيسة ومراكز الدراسات التابعة لها والعديد من الجامعات في الغرب لتخصيص قسم خاص من مكتباتها لمناظرات ديدات وكتبه وإخضاعها للبحث والدراسة سعيا لإبطال مفعولها، وسعيا لمنعها وعدم انتشارها. جهوده ومؤلفاته ظل الشيخ ديدات يدعو للإسلام وينافح عنه ويدافع ويناظر ويؤلف وكانت له جهود كبيرة في الدعوة منها : تأسيس معهد السلام لتخريج الدعاة، والمركز الدولي للدعوة الإسلامية بمدينة [ديربان] بجنوب أفريقيا. تأليف ما يزيد عن عشرين كتابًا، كان من أشهرها كتاب "الاختيار The Choice" وهو كتاب متعدد الأجزاء، و"هل الإنجيل كلمة الله؟"، و"القرآن معجزة المعجزات"، و"المسيح في الإسلام"، و"العرب وإسرائيل صراع أم وفاق"، و"مسألة صلب المسيح". وكتب آخرى طبع الملايين منها لتوزع بالمجان بخلاف المناظرات التي طبع بعضها، وقام بإلقاء آلاف المحاضرات في جميع أنحاء العالم.. وكان يقول:" "لئن سمحت لي الموارد فسأملأ العالم بالكتيبات الإسلامية، وخاصة كتب معاني القرآن الكريم باللغة الإنجليزية". وقد مُنح الشيخ ديدات جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام عام 1986 نظرا لمجهوداته الضخمة وأعطي درجة 'أستاذ'. دعوة حتى آخر رمق وفي عام 1996 أصيب ديدات بالشلل التام ومن حينها ظل طريح الفراش، ولكنه لم يتوقف لحظة عن الدعوة فكان يعبر عما يريد عن طريق عينين لا تتوقفان عن الحركة والإشارة والتعبير، وعبرهما يتحاور الشيخ ويتواصل مع زائريه ومرافقيه بل ومحاوريه بواسطة لغة خاصة تشبه النظام الحاسوبي, فكان يحرك جفونه سريعا وفقا لجدول أبجدي يختار منه الحروف، ويكون بها الكلمات، ومن ثَم يكون الجمل ويترجم مراد الشيخ ولده يوسف الذي كان يرافقه في مرضه. والعجيب أنه كان يصل إلى الشيخ في مرضه هذا كل يوم قرابة الخمسمائة رسالة فلم يتوقف عن الدعوة حتى وافته المنية مجاهدا داعيا وصابرا محتسبا. نسأل الله تعالى أن يسكنه فسيح جناته، ويجمعنا به مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. |
عبد الرحمن الأوزاعي .. العالم المرابط قال محمد بن عجلان: "لم أرَ أحداً أنصح للمسلمين من الأوزاعي.." كان إذا وعظ الناس لم يبق أحد في مجلسه إلا بكى بعينه أو قلبه، ما رؤي ضاحكاً مقهقهاً ولا باكياً في مجلسه قط، وكان إذا خلا بكى حتى يُرحَم.. أفتى وله من العمر خمس وعشرون سنة.. ولم يزل يفتي حتى مات رحمه الله، وقد أفتى في سبعين مسألة بحدثنا وأخبرنا.. حياته ومولده هو عبد الرحمن بن عمرو بن محمد، أبو عمرو الأوزاعي، نسبة إلى محلة "الأوزاع" قرية خارج باب الفراديس من قرى دمشق. ولد بمدينة بعلبك سنة ثمان وثمانين للهجرة، ونشأ بالبقاع يتيماً في حجر أمه التي كانت تنتقل به من بلد إلى بلد. تأدّب بنفسه، فلم يكن من أبناء الملوك والخلفاء والوزراء والتجار وغيرهم أعقل منه، ولا أورع، ولا أعلم، ولا أفصح، ولا أحلم، ولا أكثر صمتاً منه. ما تكلم بكلمة إلا كان المتعين على من سمعها من جلسائه أن يكتبها عنه من حسنها، كما قال ابن كثير رحمه الله. سكن بيروت مرابطاً إلى أن مات فيها سنة سبع وخمسين ومائة للهجرة، وعمره يومذاك سبع وستون سنة.. سمع جماعات من التابعين، كعطاء بن أبي رباح، وقتادة، ونافع مولى ابن عمر، ومحمد بن المنكدر، والزهري.. وحدث عنه جماعات من سادات المسلمين، كمالك بن أنس، والثوري،والزهري، وهو من شيوخه، وأثنى عليه غير واحد من الأئمة. قال النووي رحمه الله: "وقد أجمع العلماء على إمامة الأوزاعي وجلالته وعلو قدره وكمال فضله..". وقال أبو عمرو الشامي الدمشقي: "الأوزاعي إمام أهل الشام في عصره بلا مدافعة ولا مخالفة". وقال الإمام مالك بن أنس رحمه الله: "كان الأوزاعي إماماً يقتدى به". أما سفيان بن عيينة فقال: "كان الأوزاعي إمام أهل زمانه". كان رحمه الله كثير العبادة، حسن الصلاة، حتى قال في حقه الوليد بن مسلم: "ما رأيت أحداً أشد اجتهاداً من الأوزاعي في العبادة". وكان رحمه الله يقول: "من أطال القيام في صلاة الليل هوّن الله عليه طول القيام يوم القيامة" أخذ ذلك من قوله تعالى: (ومن الليل فاسجدْ له وسبحه ليلاً طويلاً. إنّ هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوماً ثقيلاً) [الإنسان: 26-27]. كما كان، رحمه الله، إلى جانب زهده وورعه كريماً سخياً، لم يمسك شيئاً، ولم يترك يوم مات سوى سبعة دنانير كانت جهازه، وكان ينفق كل ما يأتيه في سبيل الله، وفي الفقراء والمساكين عدا عن كونه شديد التمسك بالسنة، فهو القائل: "العلم ماجاء عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وما لم يجئ عنهم فليس بعلم.. عليك بآثار السلف وإن رفضك الناس،وإياك وأقوال الرجال وإن زخرفوه وحسنوه، فإن الأمر ينجلي وأنت منه على طريق مستقيم.. اصبر على السنة، وقف حيث وقف القوم،وقل ما قالوا، وكفّ عما كفوا، وليسعك ما وسعهم..". إلى جانب كونه قائماً بالحق لا يخشى في الله لومة لائم،وقد روي عن والي بيروت عند وفاه الأوزاعي رحمه الله قوله: "رحمك الله يا أبا عمرو، فقد كنتُ أخافك أكثر ممّن ولاّني" أي: الخليفة. وهو القائل: " لا يجتمع حب عثمان وعلي رضي الله عنهما إلا في قلب مؤمن.. وإذا أراد الله بقوم شراً فتح عليهم باب الجدل وسدّ عنهم باب العلم والعمل..". مواقف خالدة "فلا تحل لك إلا بطريق شرعي".. لما دخل عبد الله بن علي، عم السفاح العباسي، دمشق بعد القضاء على الدولة الأموية، طلب الأوزاعيَ الذي يحدثنا فيقول: دخلتُ عليه وهو على سرير وفي يده خيزرانة، والمسوّدة علي يمينه وشماله، معهم السيوف مسلطة، فسلمتُ عليه، فلم يردّ، ونكت بتلك الخيرزانة التي في يده، ثم قال: يا أوزاعي، ما ترى فيما صنعنا من إزالة أيدي أولئك الظلمة عن العباد والبلاد، أجهاداً ورباطاً هو؟ فقلتُ: أيها الأمير، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرء ما نوى، فمن كانت هجرتُه إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه". فنكت بالخيزرانة أشد مما كان ينكت، ثم قال: يا أوزاعي، ما تقول في دماء بني أمية؟ فقلت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحلّ دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة". فنكت بالخيزرانة أشد من ذلك وقال: ما تقول في أموالهم؟ فقلتُ: إن كانت في أيديهم حراماً، فهي حرام عليك أيضاً، وإن كانت لهم حلالاً، فلا تحل لك إلا بطريق شرعي.. فنكتَ أشد مما كان ينكت من قبل، ثم قال: ألا نولّيك القضاء؟ فقلتُ: إن أسلافك لم يكونوا يشقون علي في ذلك، وإني أحب أن يتم ما ابتدؤوني به من الإحسان. فقال: كأنك تحب الانصراف؟ قلت: إن ورائي حرماً، وهم محتاجون إلى القيام عليهن وسترهن، وقلوبهن مشغولة بسببي... فأمرَني بالانصراف.. (ألاّ تزر وازرة وزرَ أخرى) ذكر صاحب كتاب "الأموال" أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله، وكذلك صاحب "فتوح البلدان" البلاذري وغيرهما من المؤرخين، ما أقدم عليه نفر من أهل الذمة -النصارى- في جبل لبنا أيام العباسيين من نكث للعهود وحمل للسلاح وإعلان للفتنة والتمرد، وكيف قضى على فتنتهم الوالي العباسي صالح بن علي بن عبد الله بن عباس،وكيف أقر من بقي منهم على دينهم وردّهم إلى قراهم، ثم كيف شرّد أهل القرى وأجلاهم عن قراهم رغم عدم اشتراكهم جميعاً في هذه الفتنة.. ويذكرون كيف أن إمام أهل الشام، الأوزاعي رحمه الله، لم يرضَ بما حلّ بهم، ولم يسكت عن هذا الظلم، فما كان منه إلا أن أرسل رسالة إلى الوالي يقول فيها: "... وقد كان من إجلاء أهل الذمة من أهل جبل لبنان، ممن لم يكن ممالئاً لمن خرج على خروجه، ممن قتلتَ بعضهم، ورددتَ باقيهم إلى قراهم ما قد علمتَ، فكيف تؤخذ عامة بذنوب خاصة حتى يُخرَجوا من ديارهم وأموالهم؟ وحكم الله تعالى: (ألا تزرَ وازرة وزرَ أخرى)، وهو أحق ما وقف عنده واقتدى به.. وأحق الوصايا أن تحفظ وترعى وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه قال: "من ظلم معاهداً أو كلَّفه فوقَ طاقته فأنا حجيجه" (أي: خصمه). وأصرّ على الوالي أن يبادر برفع هذا الظلم، وإزالة الحيف عن كاهل هؤلاء المظلومين مبيناً له ضرورة التزام مبادئ الإسلام مهما كانت الظروف.. ولقد استجاب الوالي وفعل ما طلبه الأوزاعي.. هذا على الرغم من أن الذين قاموا بالفتنة من هؤلاء النصارى نكثوا العهد، وكانوا على صلة بالبيزنطيين، يعملون لحسابهم، إضافة إلى ارتكابهم عمليات النهب والقتل وقطع الطريق وترويع الآمنين. يقول فيليب حتي اللبناني المتأمرك في كتابه (تاريخ سورية 2/165): ".. لجأت جماعة من نصارى الجبل إلى السلاح تفادياً لمصادرات جديدة تنزل بهم، منتهزين فرصة وجود الأسطول البيزنطي في مياه طرابلس، وانقضوا من قاعدتهم وانتهبوا عدداً من قرى البقاع، وكان يتزعمهم فتى قروي عظيم البنية، بلغ من جرأته وتهوره أن أقام نفسه ملكاً، لكن العصابة اللبنانية قيدت بعد حين إلى كمين قرب بعلبك، نصبته لهم فرقة فرسان عباسية وفتكت بهم.." ولقد أوردتُ في هذا الجانب رواية فيليب حتي لأنه غير متهم بمعاداة هؤلاء بل بموالاتهم وحبهم والحدب عليهم.. ومع ذلك لم يقبل الأوزاعي، رحمه الله، ما لجأ إليه الوالي لكسر شوكتهم، احتياطاً وتحسباً لأمر قد يحدث مستقبلاً، فشردهم من القرى في الجبل وأسكتهم غيرها... وأصر عليه بضرورة التزام حكم الله عز وجل وإنفاذ سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. "وقد بلغنا أن حكم الله عز وجل أن يؤخذ العامة بعمل الخاصة، ولكن يؤخذ الخاصة بعمل العامة، ثم يبعثهم الله على أعمالهم، فأحق الوصايا أن تحفظ وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم". موعظته للمنصور العباسي اجتمع الأوزاعي بالمنصور العباسي حين دخل الشام - وكان الاجتماع استجابة لطلب المنصور، وبعد محاولات من الأوزاعي للتهرب- فوعظه وذكّره، وكان مما قاله: "يا أمير المؤمنين، إنك تحمل أمانة هذه الأمة، وقد عرضت على السموات والأرض والجبال فأبينَ أن يحملنها وأشفقن منها.. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من راع يبيت غاشاً لرعيته إلا حرّم الله عليه رائحة الجنة". يا أمير المؤمنين، من كره الحق فقد كره الله، إن الله هو الحق المبين، فأعيذك يا أمير المؤمنين أن ترى قرابتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم تنفعك مع المخالفة لأمره، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "يا صفية عمة محمد، ويا فاطمة بنت محمد، استوهبا نفسيكما من الله، فإني لا أغني عنكما من الله شيئاً". إنك عند الناس لحقيق أن تقوم فيهم بالحق، وأن تكون بالقسط فيهم قائماً، ولعوراتهم ساتراً، لِمَ تُغلِق دونهم الأبواب،ولِمَ تقم عليك دونهم الحجاب؟ يا أمير المؤمنين، إن أشد الشدة القيام لله بحقه، وإن أكرم الكرم عند الله التقوى.. إنه من طلب العز بطاعةالله رفعه الله، ومن طلبه بمعصية الله أذله الله ووضعه.. ولما استأذن الأوزاعي بالانصراف، أمر له المنصور بمال يستعين به على خروجه، فرفض الأوزاعي المال، وقال: أنا في غنى عنه، وما كنت لأبيع نصيحتي بعرض من الدنيا.. |
فاتح إفريقية عقبة بن نافع ولما بلغ عقبة مبلغ الشباب أصبح يجيد المبارزة وكل فنون الحرب والقتال، منتظرًا اللحظة المواتية ليدافع عن دين الله، وجاءت الفرصة عندما أسند الخليفة العادل (عمر بن الخطاب) فتح بعض بلاد الشام إلى عمرو بن العاص، وجعل عمرو (عقبة بن نافع) في مقدمة الجيش وهو لم يبلغ بعد سن العشرين، وكان عقبة عند حسن ظن عمرو بن العاص، فقد أظهر مقدرة بطولية على اختراق صفوف الأعداء، ونجح نجاحًا كبيرًا في أول امتحان له في الجهاد في سبيل الله. وفي أثناء فتح عمرو بن العاص لمصر أظهر عقبة تفوقًا ملحوظًا، واستطاع بمهارته الحربية أن يساعد عمرو بن العاص في هزيمة الروم، وكان كل يوم يمر على عقبة يزداد حبًّا للجهاد في سبيل الله، وشغفًا بنشر دين الإسلام في كل بقاع الأرض؛ حتى ينعم الناس بالأمن والعدل والرخاء، وظل عقبة بن نافع جنديًّا في صفوف المجاهدين دون تميز عن بقية الجنود، على الرغم من براعته في القتال وشجاعته التي ليس لها حدود في مقاتلة أعدائه، إلى أن كلفه عمرو بن العاص ذات يوم أن يتولى قيادة مجموعة محدودة من الجنود يسير بهم لفتح فزان (مجموعة الواحات الواقعة في الصحراء الكبرى شمال إفريقيا) . وانطلق عقبة إلى (فزان) وكله أمل ورجاء في النصر على أعدائه، وعندما وصل عقبة إليها دارت معارك عنيفة بين البربر والمسلمين أظهر فيها عقبة شجاعة نادرة حتى فرَّ البربر من أمامه ورفعوا راية الاستسلام، وأراد عمرو بن العاص فتح إفريقية كلها، لكنه كان في حاجة إلى عدد كبير من الجنود، فبعث إلى الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يستأذنه في فتحها، لكن الخليفة عمر -رضي الله عنه- كان من رأيه الانتظار عدة سنوات حتى يرسخ المسلمون في مصر وتثبت إمارتهم ويزداد جيش المسلمين ويقوى عدةً وعتادًا. انتقل عقبة -رضي الله عنه- إلى برقة (منطقة في ليبيا) بأمر من عمرو بن العاص رضي الله عنه ؛ لِيُعَلِّمَ المسلمين فيها أمور دينهم، وينشر الإسلام في هذه المنطقة، ومكث -رضي الله عنه- مخلصًا في نشر نور الإسلام، وتدعيم شعائره في نفوس الذين أقبلوا على تعلم لغة القرآن .. فأسلم على يديه كثير منهم، وأحبوه حتى استطاع عقبة أن يكتسب خبرة واسعة بكل أحوال البربر. وتمر الأيام والسنون وعقبة يواصل جهاده في سبيل الله، حتى كانت سنة (40هـ) وهي السنة التي تولي فيها معاوية بن أبي سفيان الخلافة، وعاد عمرو بن العاص واليًا على مصر، وحين أراد عمرو بن العاص أن يستكمل الفتوحات الإسلامية التي كان قد بدأها في برقة رأى أن خير من يقوم بهذه الفتوحات عقبة بن نافع؛ لإقامته بين البربر لسنوات عديدة، فأصبح من أكثر الناس معرفة بحياة البربر وعاداتهم وتقاليدهم. وبدأ عقبة الجهاد في سبيل الله، ونشر الإسلام بين قبائل البربر، وكانت برقة آنذاك قد تغيرت معالمها بعد أن اعتنق أهلها الدين الإسلامي، وانتشرت المساجد في كل مكان فيها، وظل عقبة واليًا على برقة يدعو إلى الإسلام إلى أن جاءته رسالة من الخليفة يخبره فيها بأنه قد اختاره لفتح إفريقية وأن جيشًا كبيرًا في الطريق إليه، ووصل الجيش الذي أرسله الخليفة معاوية بن أبي سفيان، وكان يبلغ عدده عشرة آلاف جندي، وكان في انتظاره جيش آخر من البربر الذين أسلموا فحسن إسلامهم. انطلق عقبة بجيشه المكون من العرب والبربر يفتتح البلاد، ويقاتل القبائل التي ارتدت عن الإسلام دون أن يقتل شيخًا كبيرًا، ولا طفلاً، ولا امرأة، بل كان يعاملهم معاملة طيبة، حسب تعاليم الإسلام في الحروب، واستطاع عقبة أن يستولي على منطقة (ودان) وبعدها قام بالسيطرة على (فزان) ثم اتجه ناحية مدينة (خاوار) التي كانت تقع على قمة جبل شديد الارتفاع، فكان من الصعب على الجيش أن يتسلقه، فوصل عقبة إلى أسوار المدينة، ولكن أهلها دخلوا حصونهم فحاصرها حصارًا شديدًا. وهنا تظهر عبقرية عقبة الحربية، فحين علم أن دخول المدينة أمر صعب، تراجع بجيشه مبتعدًا عن المدينة، حتى ظن أهلها أن جيش المسلمين قد انسحب، ففتحوا أبواب مدينتهم آمنين، ولم يكن تراجع عقبة إلا حيلة من حيله الحربية، فقد علم أن هناك طريقًا آخر للوصول إلى هذه المدينة فسار عقبة فيه، ولكنه فوجيء بأن هذا الطريق لم يسلكه أحد من قبل وليس فيه عشب ولا ماء، وكاد جيش عقبة يموت عطشًا، فاتجه إلى الله يسأله ويدعوه أن يخرجه من هذا المأزق الخطير. فما كاد ينتهي من دعائه حتى رأى فرسه يضرب الأرض برجليه بحثًا عن الماء من شدة العطش، وحدث ما لم يكن في الحسبان، فقد استجاب الله دعاء عقبة وانفجر الماء من تحت أقدام الفرس، وكبَّر عقبةُ ومعه المسلمون، وأخذوا يشربون من هذا الماء العذب، ولما شرب الجيش وارتوى؛ أمر عقبة جنوده بأن يحفروا سبعين حفرة في هذا المكان علَّهم يجدون ماء عذبًا، وتحققت قدرة الله وأخذ الماء يتفجر من كل حفرة يحفرها المسلمون، ولما سمع البربر المقيمون بالقرب من هذه المنطقة بقصة الماء أقبلوا من كل جهة يشاهدون ما حدث، واعتنق عدد كبير منهم الإسلام. وانطلق عقبة ومعه جنوده إلى مدينة (خاوار) ودخلوها ليلاً، ولما عاد عقبة فكر في بناء مدينة يعسكر فيها المسلمون، فاختار مكانًا كثيف الأشجار يسمي (قمونية) جيد التربة، نقي الهواء ليبني فيه مدينته التي أسماها فيما بعد (القيروان) فقال لأصحابه: انزلوا بسم الله. وانشغل عقبة ببناء مدينة القيروان عن الفتح الإسلامي، وطلب (مسلمة بن مخلد الأنصاري) وكان واليًا على مصر والمغرب من الخليفة معاوية بن أبي سفيان عزل عقبة وتعيين (أبي المهاجر بن دينار) وبالفعل تمَّ عزله، وفي عهد الخليفة يزيد بن معاوية عاد عقبة إلى قيادة الجيش في إفريقية وأقام عقبة عدة أيام في القيروان يعيد تنظيم الجيش حتى أصبح على أتم الاستعداد للغزو والفتح، ثم انطلق إلى مدينة الزاب (وهي المدينة التي يطلق عليها الآن اسم قسطنطينة بالجزائر) يسكنها الروم والبربر، والتحم الجيشان، وأظهر عقبة في هذه المعركة شجاعة نادرة، فكان يحصد رءوس أعدائه حصدًا، أما الجنود المسلمون فقد استبسلوا في القتال حتى تم لهم النصر بإذن الله تعالى، واستراح عقبة بن نافع وجيشه أيامًا قليلة، ثم أمر الجيش بالانطلاق إلى (طنجة) في المغرب الأقصى فدخلوها دون قتال، حيث خرج ملكها (يليان) لاستقبال جيش المسلمين وأكرمهم ووافق على كل مطالبهم. وظل عقبة يجاهد في سبيل الله يتنقل من غزو إلى غزو ومن فتح إلى فتح حتى وصل إلى شاطئ المحيط الأطلنطي، فنزل بفرسه إلى الماء، وتطلع إلى السماء وقال: يا رب .. لولا هذا المحيط لمضيت في البلاد مدافعًا عن دينك، ومقاتلاً من كفر بك وعَبَدَ غيرك.. وظن القائد البطل عقبة بن نافع أن البربر مالوا إلى الاستسلام وأنهم ليس لديهم استعداد للحرب مرة أخرى، فسبقه جيشه إلى القيروان، وبقي هو مع ثلاثمائة مقاتل في مدينة طنجة ليتم فتح عدد من الحاميات الرومية، ولما علم بعض أعداء الإسلام من البربر أن عقبة ليس معه إلا عدد قليل من رجاله، وجدوا الفرصة ملائمة للهجوم عليه، وكان على رأس هؤلاء البربر (الكاهنة) ملكة جبال أوراس (سلسلة جبال بالجزائر) وفوجئ البطل عقبة بن نافع عند بلدة (تهودة) بآلاف الجنود من البربر يهجمون عليه فاندفع بفرسه متقدمًا جنوده يضرب الأعداء بسيفه، متمنيًا الشهادة في سبيل الله، حتى أحاط البربر به وجنوده من كل جانب، فاستشهدوا جميعًا، واستشهد معهم (عقبة بن نافع) فرحمه الله رحمة واسعة، جزاء ما قدم للإسلام والمسلمين. وكان استشهاد عقبة في مدينة تهودة سنة 64هـ (من أرض الزاب) بعد أن خاض كثيرًا من المعارك، وذاق حلاوة النصر، ورفع راية الإسلام، ويُعَد استشهاد عقبة هزيمة عسكرية لكنه كان نصرًا رائعًا للإيمان، وتناقلت الألسن ملحمة عقبة بن نافع الفارس المؤمن الذي حمل رسالة دينه إلى أقصى المعمورة، وأبى إلا أن يستشهد بعد أن حمل راية دينه فوق الثمانية آلاف كيلو متر. |
يتبع ان شاء الله ...
|
سعيد بن المسيب بالسلاح، وأن المؤمن لا تزيده المحن إلا عزة وإيمانًا، أما الظالم فيرجع إلى الوراء، يتخاذل ويتقهقر، يخشى سيف الحق وعزة الإسلام، فهنيئًا لك يا سيد التابعين. بعد مضي سنتين من خلافة الفاروق عمر -رضي الله عنه- ولد (سعيد بن المسيب) في المدينة المنورة؛ حيث كبار الصحابة، فرأى عمر بن الخطاب، وسمع عثمان بن عفان، وعليًّا، وزيد بن ثابت، وأبا موسى الأشعري، وأبا هريرة..وغيرهم، فنشأ نشأة مباركة، وسار على نهجهم، واقتدى بأفعالهم، وروى عنهم أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتزوج بنت الصحابي الجليل أبي هريرة، فكان أعلم الناس بحديثه. وهبه الله في نشأته الباكرة ذكاءً متوقدًا، وذاكرة قوية، حتى شهد له كبار الصحابة والتابعين بعلو المكانة في العلم، وكان رأس فقهاء المدينة في زمانه، والمقدم عليهم في الفتوى، حتى اشتهر بفقيه الفقهاء، وكان عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- وهو المقدم في الفتوى بالمدينة آنذاك- إذا سئل عن مسألة صعبة في الفقه، كان يقول: سلوا سعيدًا فقد جالس الصالحين. ويقول عنه قتادة: ما رأيت أحدًا قط أعلم بالحلال والحرام منه، ويكفي ابن المسيب فخرًا أن الخليفة العادل (عمر بن عبد العزيز) كان أحد تلاميذه، ولما تولى عمر إمارة المدينة لم يقض أمرًا إلا بعد استشارة سعيد، فقد أرسل إليه عمر رجلاً يسأله في أمر من الأمور، فدعاه، فلبي الدعوة وذهب معه، فقال عمر بن عبد العزيز له: أخطأ الرجل، إنما أرسلناه يسألك في مجلسك. وعاش سعيد طيلة حياته مرفوع الرأس، عزيز النفس، فلم يحنِ رأسه أبدًا لأي إنسان، حتى ولو ألهبوا ظهره بالسياط، أو هددوه بقطع رقبته، فها هو ذا أمير المدينة في عهد الخليفة عبد الملك بن مروان يأمره بالبيعة للوليد بن عبد الملك، فيمتنع فيهدده بضرب عنقه، فلم يتراجع عن رأيه رغم علمه بما ينتظره من العذاب، وما إن أعلن سعيد مخالفته حتى جردوه من ثيابه، وضربوه خمسين سوطًا، وطافوا به في أسواق المدينة، وهم يقولون: هذا موقف الخزي!! فيرد عليهم سعيد في ثقة وإيمان: بل من الخزي فررنا إلى ما نريد. ولما علم عبد الملك بما صنعه والى المدينة لامه وكتب إليه: سعيد..كان والله أحوج إلى أن تصل رحمه من أن تضربه، وإنا لنعلم ما عنده من خلاف، وبعد كل هذا التعذيب الذي ناله سعيد جاءه رجل يحرضه في الدعاء على بني أمية، فما كان منه إلا أن قال: اللهم أعز دينك، وأظهر أولياءك، وأخزِ أعداءك في عافية لأمة محمد صلى الله عليه وسلم. صلى (الحجاج بن يوسف الثقفي) ذات مرة، وكان يصلى بسرعة، فلم يتم ركوع الصلاة وسجودها كما يجب، فأخذ سعيد كفًا من الحصى ورماه به، فانتبه الحجاج لذلك واطمأن وتمهل في صلاته، وكان ذلك قبل أن يتولى الحجاج الإمارة، ورفض سعيد أن تكون ابنته أعظم سيدة في دولة الخلافة الإسلامية؛ وذلك حين أراد الخليفة عبد الملك بن مروان أن يخطب ابنة سعيد لولي عهده الوليد، لكن سعيدًا رفض بشدة، وزوج ابنته من طالب علم فقير. فقد كان لسعيد جليس يقال له (عبد الله بن وداعة) فأبطأ عنه أيامًا، فسأل عنه وطلبه، فأتاه واعتذر إليه، وأخبره بأن سبب تأخره هو مرض زوجته وموتها، فقال له: ألا أعلمتنا بمرضها فنعودها، أو بموتها فنشهد جنازتها، ثم قال: يا عبد الله تزوج، ولا تلق الله وأنت أعزب، فقال: يرحمك الله ومن يزوجني وأنا فقير؟ فقال سعيد: أنا أزوجك ابنتي، فسكت عبد الله استحياء، فقال سعيد: مالك سكت، أسخطًا وإعراضًا؟ فقال عبد الله: وأين أنا منها؟ فقال: قم وادع نفرًا من الأنصار، فدعا له فأشهدهم على النكاح (الزواج)، فلما صلوا العشاء توجه سعيد بابنته إلى الفقير ومعها الخادم والدراهم والطعام، والزوج لا يكاد يصدق ما هو فيه!! وحرص سعيد على حضور صلاة الجماعة، وواظب على حضورها أربعين سنة لم يتخلف عن وقت واحد، وكان سعيد تقيًّا ورعًا، يذكر الله كثيرًا، جاءه رجل وهو مريض، فسأله عن حديث وهو مضطجع فجلس فحدثه، فقال له ذلك الرجل: وددت أنك لم تتعن ولا تتعب نفسك، فقال: إني كرهت أن أحدثك عن رسول الله وأنا مضطجع، ومن احترامه وتوقيره لحرمات الله قوله: لا تقولوا مصيحف ولا مسيجد، ما كان لله فهو عظيم حسن جميل، فهو يكره أن تصغر كلمة مصحف، أو كلمة مسجد أو كل كلمة غيرهما تكون لله تعالى إجلالا لشأنها وتعظيمًا. ومرض سعيد، واشتد وجعه، فدخل عليه نافع بن جبير يزوره، فأغمى عليه، فقال نافع: وَجِّهوه، ففعلوا، فأفاق فقال: من أمركم أن تحولوا فراشي إلى القبلة..أنافع؟ قال: نعم، قال له سعيد: لئن لم أكن على القبلة والملة والله لا ينفعني توجيهكم فراشي، ولما احتضر سعيد بن المسيب ترك مالاً، فقال: اللهم إنك تعلم أني لم أتركها إلا لأصون بها ديني، ومات سعيد سنة ثلاث أو أربع وتسعين من الهجرة، فرحمه الله رحمة واسعة |
سعيد بن جبير أعلم التابعين بالتفسير كان الناس يرونه - منذ نعومة أظفاره - إما عاكفًا على كتاب يتعلم، أو قائمًا في محراب يتعبد، فهو بين طلب العلم والعبادة، إما في حالة تعلم، أو في حالة تعبد . أخذ سعيد العلم عن طائفة من كبار الصحابة، من أمثال أبي سعيد الخدري ، و أبي موسى الأشعري ، وعبد الله بن عمر ، رضي اللَّه عنهم أجمعين، لكن يبقى عبد الله بن عباس - حبر هذه الأمة - هو المعلم الأول له . لازم سعيد بن جبير عبد الله بن عباس لزوم الظل لصاحبه، فأخذ عنه القرآن وتفسيره، وتلقى عنه القراءات القرآنية الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأ بها، وتفقّه على يديه في الدين، وتعلم منه علم التأويل، حتى أصبح من المكانة ما جعل بعض معاصريه يقول فيه: مات سعيد بن جبير ، وما على ظهر الأرض أحد من أهل زمانه إلا وهو محتاج إلى علمه . وعندما كانت إقامته في الكوفة، كان هو المرجع الأول في الفتوى، وعليه المعول في علم التفسير، لدرجة أن ابن عباس رضي الله عنهما كان يحيل إليه من يستفتيه، ويقول لأهل الكوفة إذا ما أتوه ليسألوه عن شيء: أليس فيكم ابن أم الدهماء ؟ يعني سعيد بن جبير - وكان حبشي الأصل - . وعلى الرغم من مكانته العلمية التي كان يحظى بها، وخاصة معرفته الواسعة بتفسير كتاب الله، إلا أنه - رحمه الله - كان يتورع عن القول في التفسير برأيه - كما هو شأن السلف من الصحابة رضوان الله عليهم - ومما يروى عنه في هذا الشأن: أن رجلاً سأله أن يكتب له تفسيرًا للقرآن، فغضب، وقال له: لأن يسقط شِقِّي، أحب إليَّ من أن أفعل ذلك . ولأجل ملازمة سعيد ابن جبير لـ ابن عباس رضي الله عنهما، ومكانته العلمية بين التابعين، فقد كانت أقواله مرجعًا أساسًا، ومنهلاً عذبًا لأهل التفسير، يرجعون إليها، ويغترفون من معينها في تفسير كثير من آيات الذكر الحكيم . وقد وَثَّقَ علماء الجرح والتعديل سعيداً ، وروى عنه أصحاب الكتب الستة وغيرهم من أصحاب الحديث. قال ابن حبان في كتاب ( الثقات ): كان فقيهًا، عابدًا، فاضلاً، ورعًا . ومما يُروى عن سعيد وتعلقه بالقرآن، ما ذكره أبو نعيم في ( الحلية ) قال: ( كان سعيد بن جبير يختم القرآن فيما بين المغرب والعشاء في شهر رمضان ) وفي رواية ثانية: ( أنه كان يختم القرآن في كل ليلتين ) . وقد كانت له - رحمه الله - مواقف مشهورة ومآثر مشهودة مع الحجاج ، الذي قتله صبراً في شعبان سنة خمس وتسعين، وهو ابن تسع وأربعين سنة . سعيد بن جبير الأسدي الوالي مولاهم أبو محمد ويقال أبو عبد الله الكوفي المكي من أكابر أصحاب ابن عباس كان من أئمة الإسلام في التفسير والفقه وأنواع العلوم وكثرة العمل الصالح رحمه الله وقد رأى خلقا من الصحابة وروي عن جماعة منهم وعنه خلق من التابعين يقال إنه كان يقرأ القرآن في الصلاة فيما بين المغرب والعشاء ختمة تامة وكان يقعد في الكعبة لقعدة فيقرأ فيها الختمة وربما قرأها في ركعة في جوف الكعبة وروى عنه أنه ختم القرآن مرتين ونصفا في الصلاة في ليلة في الكعبة وقال سفيان الثوري عن عمرو بن ميمون عن أبيه قال لقد مات سعيد بن جبير وما على وجه الأرض أحد إلا وهو محتاج إلى علمه وكان في جملة من خرج مع ابن الأشعث على الحجاج فلما ظفر الحجاج هرب سعيد إلى أصبهان ثم كان يتردد في كل سنة إلى مكة مرتين مرة للعمرة ومرة للحج وربما دخل الكوفة في بعض الأحيان فحدث بها وكان بخراسان لا يتحدث لأنه كان لا يسأله أحد عن شيء من العلم هناك وكان يقول إن مما يهمني ما عندي من العلم وددت أن الناس أخذوه واستمر في هذا الحال مختفيا من الحجاج قريبا من ثنتى عشرة سنة ثم أرسله خالد القسري من مكة إلى الحجاج وكان من مخاطبته له ما ذكرناه قريبا مقتل سعيد بن جبير رحمه الله قال ابن جرير وفي هذه السنة قتل الحجاج بن يوسف سعيد بن جبير وكان سبب ذلك أن الحجاج كان قد جعله على نفقات الجند حين بعثه مع ابن الأشعث إلى قتال رتبيل ملك الترك فلما خلعه ابن الأشعث خلعه معه سعيد بن جبير فلما ظفر الحجاج بابن الأشعث وأصحابه هرب سعيد بن جبير إلى أصبهان فكتب الحجاج إلى نائبها أن يبعثه إليه فلما سمع بذلك سعيد هرب منها ثم كان يعتمر في كل سنة ويحج ثم إنه لجأ إلى مكة فأقام بها إلى أن وليها خالد بن عبد الله القسري فأشار من أشار على سعيد بالهرب منها فقال سعيد والله لقد استحييت من الله مما أفر ولا مفر من قدره وتولى على المدينة عثمان بن حيان بدل عمر بن عبد العزيز فجعل يبعث من بالمدينة من أصحاب ابن الأشعث من العراق إلى الحجاج في القيود فتعلم منه خالد بن الوليد القسري فعين من عنده من مكة سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح ومجاهد بن جبر وعمرو بن دينار وطلق ابن حبيب ويقال إن الحجاج أرسل إلى الوليد يخبره أن بمكة أقواما من أهل الشقاق فبعث خالد بهؤلاء إليه ثم عفا عن عطاء وعمرو بن دينار لأنهما من أهل مكة وبعث بأولئك الثلاثة فأما طلق فمات في الطريق قبل أن يصل واما مجاهد فحبس فما زال في السجن حتى مات الحجاج وأما سعيد ابن جبير فلما أوقف بين يدي الحجاج قال له يا سعيد ألم اشركك في أمانتي ألم أستعملك ألم أفعل ألم أفعل كل ذلك يقول نعم حتى ظن من عنده أنه سيخلى سبيله حتى قال له فما حملك على الخروج علي وخلعت بيعة أمير المؤمنين فقال سعيد إن ابن الأشعث أخذ مني البيعة على ذلك وعزم على فغضب عند ذلك الحجاج غضبا شديدا وانتفخ حتى سقط طرف ردائه عن منكبه وقال له ويحك ألم أقدم مكة فقتلت ابن الزبير وأخذت بيعة أهلها وأخذت بيعتك لأمير المؤمنين عبد الملك قال بلى قال ثم قدمت الكوفة واليا على العراق فجددت لأمير المؤمنين البيعة فأخذت بيعتك له ثانية قال بلى قال فتنكث بيعتين لأمير المؤمنين وتفي بواحدة للحائك ابن الحائك يا حرسى اضرب عنقه قال فضربت عنقه فبدر رأسه عليه لا طئة صغيرة بيضاء وقد ذكر الواقدي نحو هذا وقال له أما أعطيتك مائة ألف أما فعلت أما فعلت قال ابن جرير فحدثت عن أبي غسان مالك بن إسماعيل قال سمعت خلف بن خليفة يذكرعن رجل قال لما قتل الحجاج سعيد بن جبير فندر رأسه هلل ثلاثا مرة يفصح بها وفي الثنتين يقول مثل ذلك لا يفصح بها وذكر أبو بكر الباهلي قال سمعت أنس بن أبي شيخ يقول لما أتى الحجاج بسعيد بن جبير قال لعن ابن النصرانية يعني خالد القسري وكان هو الذي أرسل به من مكة أما كنت أعرف مكانه بلى والله والبيت الذي هو فيه بمكة ثم أقبل عليه فقال يا سعيد ما أخرجك على فقال أصلح الله الأمير أنا امرؤ من المسلمين يخطئ مرة ويصيب أخرى فطابت نفس الحجاج وانطلق وجهه ورجا الحجاج أن يتخلص من أمره ثم عاوده في شيء فقال سعيد إنما كانت بيعة في عنقي فغضب عند ذلك الحجاج فكان ما كان من قتله |
هارون الرشيد أتبكي يا أمير المؤمنين؟! تبكي وأنت الذي تصلى كل يوم مائة ركعة، وتتصدق من مالك الخاص بألف درهم في كل يوم؟! تبكي وأنت الذي عظَّمت حرمات الإسلام، وبالغت في احترام العلماء والوعاظ، وجاهدت في سبيل الله؟! كان كثير البكاء على نفسه، تسيل دموعه كالسيل إذا وعظ، ولم يذكر له النبي صلى الله عليه وسلم إلا قال: صلى الله على سيدي. هناك في مدينة (الري) تلك المدينة القديمة التي تقع في الجنوب الشرقي من طهران وُلِد هارون الرشيد بن المهدي بن جعفر المنصور في أواخر ذي الحجة سنة ثمان وأربعين ومائة، وكان أبوه (المهدي) في تلك الأيام أميرًا على الري وخراسان من قبل الخليفة المنصور، ثم أصبح خليفة للمسلمين بعد وفاة أبيه المنصور. نشأ هارون تحيطه رعاية والده الذي دربه منذ حياته المبكرة على الحياة العسكرية، فجعله أميرًا لحملة عسكرية كانت تسمى بالصوائف حيث كانت تخرج للجهاد في الصيف، والشواتي نسبة إلى الشتاء لتهديد العدو البيزنطي وتخويفًا له، وولاه المغرب كله، ثم عينه والده وليًّا للعهد بعد أخيه الهادي. تولي الرشيد خلافة المسلمين سنة 170هـ، وسنه خمسة وعشرين عامًا وأصبحت بغداد في عصره من أعظم مدن الدنيا، فريدة في حضارتها وعمارتها، وشمل بعدله القوي والضعيف والعاجز والمريض وذا الحاجة، وازدهرت فترة ولايته بوجود الكثير من أئمة العلم العظام كالإمام مالك بن أنس، والليث بن سعد، والكسائي ومحمد بن الحسن من كبار أصحاب أبي حنيفة. وكان يضرب به المثل في التواضع، يحكى أن أبي معاوية الضرير وهو من العلماء المحدثين قال: أكلت مع الرشيد ثم صبَّ على يدي الماء رجل لا أعرفه، فقال الرشيد: تدري من صب عليك؟ قلت: لا. قال: أنا، إجلالاً للعلم. وجاوزت خشيته من الله الحدود، فكان جسده يرتعد، ويسمع صوت بكائه إذا وعظه أحد من الناس، يحكي أنه جالس (أبا العتاهية) الشاعر، وكلف أحد جنوده بمراقبته، وإخباره بما يقول، فرآه الجاسوس يومًا وقد كتب على الحائط: إلى ديان يوم الدين نمضي وعند الله يجتمع الخصوم فأخبر الجاسوس الرشيد بذلك، فبكي وأحضر أبا العتاهية، وطلب منه أن يسامحه، وأعطاه ألف دينار. وقال الأصمعي: وضع الرشيد طعامًا، وزخرف مجالسه وزينها، وأحضر أبا العتاهية وقال له: صف لنا ما نحن فيه من نعيم هذه الدنيا، فقال أبو العتاهية: فعش ما بدا لك سالمًا في ظل شاهقة القصور فقال الرشيد: أحسنت ثم ماذا؟ فقال: يسعى إليك بما اشتهيت لدى الرواح وفي البكور فقال: حسن؟ ثم ماذا؟ فقال أبو العتاهية مندفعًا: فإذا النفوس تقعقعت في ظل حشرجة الصدور فهناك تعلم موقنًا ما كنت إلا في غرور فبكى الرشيد، فزجر أحد الحاضرين أبا العتاهية لأن المقام مقام فرح وسرور، فقال الرشيد: دعه، فإنه رآنا في عمى فكره أن يزيدنا منه. وكان كثير الغزو والحج يغزو سنة ويحج سنة، فإذا حج حجَّ معه مائة من الفقهاء وأبنائهم، وإذا لم يحج قام بالإنفاق على ثلاثمائة رجل ليؤدوا فريضة الحج، ورغم هذه الرقة والشفافية والزهد، كان شجاعًا لا يخاف في الله لومة لائم، غيورًا على دينه، صلبًا كالحديد في وجه أعداء الله، ففي سنة سبع وثمانين ومائة (187هـ) نقض ملك الروم الهدنة التي كانت بين المسلمين وبين الملكة (ذيني) ملكة الروم، فكتب للرشيد كتابًا يقول فيه: (أما بعد فإن الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام الرخ (طائر ضخم خيالي) وأقامت نفسها مقام البيدق (الطائر الصغير) فحملت إليك من أموالها أحمالاً لضعف النساء وحمقهن، فإذا قرأت كتابي فاردد ما حصل قبلك من أموالها وإلا فالسيف بيني وبينك). فلما قرأ الرشيد رسالته كتب إليه: (قد قرأت كتابك والجواب ما ترى لا ما تسمع) وسار إليه بجيش كبير حتى فتح مدينة (هرقل) وانتصر عليه انتصارًا عظيمًا، وفي عهده لم يبق في الأسر مسلم، وظل طيلة حياته يحب الجهاد والفتوحات الإسلامية، فغزا الروم، وفتح هرقلة، وبلغ جيشه أنقره، وسار الرشيد نحو خراسان ليغزوها، فوصل (طوس) فمرض بها ومات في ثالث جمادى الآخر سنة ثلاث وتسعين ومائة (193هـ). مات هارون الرشيد، وود العلماء لو يفتدوه بأنفسهم، يقول الفضيل بن عياض: (ما من نفس تموت أشد على من موت أمير المؤمنين هارون الرشيد، ولوددت أن الله زاد من عمري في عمره) ويحكي أنه لما احتضر قال: اللهم انفعنا بالإحسان واغفر لنا الإساءة.. يا من لا يموت ارحم من يموت. |
هارون الرشيد الخليفة المفترى عليه هو أكثر من تعرض تاريخه للتشويه والتزوير من خلفاء الإسلام، مع أنه من أكثر خلفاء الدولة العباسية جهادا وغزوا واهتماما بالعلم والعلماء، و بالرغم من هذا أشاعوا عنه الأكاذيب وأنه لاهم له سوى الجواري والخمر والسكر، ونسجوا في ذلك القصص الخرافية ومن هنا كان إنصاف هذا الخليفة واجب على كل مؤرخ مسلم. ومن المؤرخين الذين أنصفوا الرشيد أحمد بن خلكان الذي قال عنه في كتابه وفيات الأعيان: "كان من أنبل الخلفاء وأحشم الملوك ذا حج وجهاد وغزو وشجاعة ورأي" وكتب التاريخ مليئة بمواقف رائعة للرشيد في نصرة الحق وحب النصيحة وتقريب العلماء لا ينكرها إلا جاحد أو مزور، ويكفيه أنه عرف بالخليفة الذي يحج عاما ويغزو عاما. نسبه ومولده هو أبو جعفر هارون بن المهدي محمد بن المنصور أبي جعفر عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس الهاشمي العباسي، كان مولده بالري حين كان أبوه أميرا عليها وعلى خرا سان في سنة ثمان وأربعين ومائة وأمه أم ولد تسمى الخيزران وهى أم الهادي وفيها يقول مروان ابن أبى حفصة: يا خيزران هناك ثم هناك *** أمسى يسوس العالمين ابناك أغزاه أبوه بلاد الروم وهو حدث في خلافته. توليه الخلافة ولي الخلافة بعهد معقود له بعد الهادي من أبيهما المهدي في ليلة السبت السادس عشر من ربيع الأول سنة سبعين ومائة بعد الهادي، قال الصولي: هذه الليلة ولد له فيها عبد الله المأمون ولم يكن في سائر الزمان ليلة مات فيها خليفة وقام خليفة وولد خليفة إلا هذه الليلة وكان يكنى أبا موسى فتكنى بأبي جعفر. وكان ذا فصاحة وعلم وبصر بأعباء الخلافة وله نظر جيد في الأدب والفقه، قيل إنه كان يصلي في خلافته في كل يوم مائة ركعة إلى أن مات لا يتركها إلا لعلة ويتصدق من صلب ماله كل يوم بألف درهم.. قال الثعالبي في اللطائف قال الصولي خلَّف الرشيد مائة ألف ألف دينار. وكان يحب المديح ويجيز الشعراء ويقول الشعر، أسند عن معاوية بن صالح عن أبيه قال أول شعر قاله الرشيد أنه حج سنة ولى الخلافة فدخل دارا فإذا في صدر بيت منها بيت شعر قد كتب على حائط: ألا أمير المؤمنين أما ترى *** فديتك هجران الحبيب كبيرا فدعا بدواة وكتب تحته بخطه: بلى والهدايا المشعرات وما *** مشى بمكة مرفوع الأظل حسيرا. ولداود بن رزين الواسطى فيه: بهارون لاح النور في كل بلدة *** وقام به في عدل سيـرته النهـج إمـام بـذات الله أصبح شغله *** فأكثر ما يعنى بـه الغزو والحـج تضيق عيون الخلق عن نور وجهه *** إذا ما بدا للناس منظره البلج تفسحت الآمال في جود كفه *** فأعطى الذي يرجوه فوق الذي يرجو وكان يقتفي آثار جده إلا في الحرص. وقال محمد بن على الخرساني الرشيد أول خليفة لعب بالصوالجة والكرة ورمى النشاب في البرجاس و أول خليفة لعب بالشطرنج من بنى العباس. قال الجاحظ اجتمع للرشيد ما لم يجتمع لغيره وزراؤه البرامكة وقاضيه القاضي أبو يوسف وشاعره مروان بن أبي حفصة ونديمه العباس بن محمد عم والده وحاجبه الفضل بن الربيع أتيه الناس ومغنيه إبراهيم الموصلي وزوجته زبيدة. حبه للعلماء وكان الرشيد يحب العلماء ويعظم حرمات الدين ويبغض الجدال والكلام، وقال القاضي الفاضل في بعض رسائله ما أعلم أن لملك رحلة قط في طلب العلم إلا للرشيد فإنه رحل بولديه الأمين والمأمون لسماع الموطأ على مالك رحمه الله. ولما بلغه موت عبد الله ابن المبارك حزن عليه وجلس للعزاء فعزاه الأكابر. قال أبو معاوية الضرير ما ذكرت النبي صلى الله عليه وسلم بين يدي الرشيد إلا قال صلى الله على سيدي ورويت له حديثه "وددت أني أقاتل في سبيل الله فأقتل ثم أحيى ثم أقتل فبكى حتى انتحب" وعن خرزاذ العابد قال حدث أبو معاوية الرشيد بحديث احتج آدم وموسى فقال رجل شريف فأين لقيه فغضب الرشيد وقال النطع والسيف زنديق يطعن في الحديث فما زال أبو معاوية يسكنه ويقول بادرة منه يا أمير المؤمنين حتى سكن. وعن أبي معاوية الضرير قال صب على يدي بعد الأكل شخص لا أعرفه فقال الرشيد تدري من يصب عليك قلت: لا. قال: أنا إجلالا للعلم. وكان العلماء يبادلونه التقدير، روي عن الفضيل بن عياض أنه قال: ما من نفس تموت أشد علي موتا من أمير المؤمنين هارون ولوددت أن الله زاد من عمري في عمره، قال فكبر ذلك علينا فلما مات هارون وظهرت الفتن وكان من المأمون ما حمل الناس على القول بخلق القرآن قلنا الشيخ كان أعلم بما تكلم. بكاؤه عند سماع الموعظة قال منصور بن عمار: ما رأيت أغزر دمعا عند الذكر من ثلاثة الفضيل بن عياض والرشيد وآخر. وقال عبيد الله القواريرى لما لقي الرشيد الفضيل قال له يا حسن الوجه أنت المسئول عن هذه الأمة. وتقطعت بهم الأسباب قال: الوصلة التي كانت بينهم في الدنيا فجعل هارون يبكى ويشهق. روى أن ابن السماك دخل على الرشيد يوما فاستسقى فأتى بكوز فلما أخذه قال على رسلك يا أمير المؤمنين لو منعت هذه الشربة بكم كنت تشتريها قال بنصف ملكي قال اشرب هنأك الله تعالى فلما شربها قال أسألك لو منعت خروجها من بدنك بماذا كنت تشترى خروجها قال بجميع ملكي قال إن ملكا قيمته شربة ماء وبوله لجدير أن لا ينافس فيه فبكى هارون الرشيد بكاء شديدا. وقال ابن الجوزي قال الرشيد لشيبان عظني قال لأن تصحب من يخوفك حتى يدركك الأمن خير لك من أن تصحب من يؤمنك حتى يدركك الخوف فقال الرشيد فسر لي هذا قال من يقول لك أنت مسئول عن الرعية فاتق الله أنصح لك ممن يقول أنتم أهل بيت مغفور لكم وأنتم قرابة نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم فبكى الرشيد حتى رحمه من حوله. مواقف لا تنسى في سنة سبع وثمانين ومائة جاء للرشيد كتاب من ملك الروم نقفور بنقض الهدنة التي كانت عقدت بين المسلمين وبين الملكة ريني ملكة الروم وصورة الكتاب [من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب أما بعد فإن الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام الرخ وأقامت نفسها مقام البيذق فحملت إليك من أموالها أحمالا وذلك لضعف النساء وحمقهن فإذا قرأت كتابي فأردد ما حصل قبلك من أموالها وإلا فالسيف بيننا وبينك] فلما قرأ الرشيد الكتاب استشاط غضبا حتى ما تمكن أحد أن ينظر إلى وجهه فضلاً أن يخاطبه وتفرق جلساؤه من الخوف واستعجم الرأي على الوزير فدعا الرشيد بدواة وكتب على ظهر كتابه بسم الله الرحمن الرحيم من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة والجواب ما تراه لا ما تسمعه ثم سار ليومه فلم يزل حتى نزل مدينة هرقل وكانت غزوة مشهورة وفتحا مبينا فطلب نقفور الموادعة والتزم بخراج يحمله كل سنة. وأسند الصولى عن يعقوب بن جعفر قال خرج الرشيد في السنة التي ولى الخلافة فيها حتى غزا أطراف الروم وانصرف في شعبان فحج بالناس آخر السنة وفرق بالحرمين مالا كثيرا وكان رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في النوم فقال له إن هذا الأمر صائر إليك في هذا الشهر فاغز وحج ووسع على أهل الحرمين ففعل هذا كله. وأخرج ابن عساكر عن ابن علية قال أخذ هارون الرشيد زنديقا فأمر بضرب عنقه فقال له الزنديق: لم تضرب عنقي قال له أريح العباد منك. قال فأين أنت من ألف حديث وضعتها على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلها ما فيها حرف نطق به قال فأين أنت يا عدو الله من أبى إسحاق الفزارى وعبد الله بن المبارك ينخلانها فيخرجانها حرفا حرفا. من أعماله في الخلافة حج غير مرة وله فتوحات ومواقف مشهودة ومنها فتح مدينة هرقلة،قال المسعودي في "مروج الذهب": رام الرشيد أن يوصل ما بين بحر الروم وبحر القلزم مما يلي الفرما فقال له يحيى البرمكي كان يختطف الروم الناس من الحرم وتدخل مراكبهم إلى الحجاز. وزر له يحيى بن خالد مدة وأحسن إلى العلوية وحج سنة 173 وعزل عن خراسان جعفر بن أشعث بولده العباس بن جعفر وحج أيضا في العام الآتي وعقد بولاية العهد لولده الأمين صغيرا فكان أقبح وهن تم في الإسلام وأرضى الأمراء بأموال عظيمة وتحرك عليه بأرض الديلم يحيى بن عبد الله بن حسن الحسيني وعظم أمره وبادر إليه الرافضة فتنكد عيش الرشيد واغتم وجهز له الفضل بن وزيره في خمسين ألفا فخارت قوى يحيى وطلب الأمان فأجابه ولاطفه ثم ظفر به وحبسه ثم تعلل ومات ويقال ناله من الرشيد أربعمائة ألف دينار. وفي سنة 175هـ ولى خراسان الغطريف بن عطاء وولى مصر جعفرا البرمكي واشتدت الحرب بين القيسية واليمانية بالشام ونشأت بينهم أحقاد وإحن. وغزا الفضل بن يحي البرمكي بجيش عظيم ما وراء النهر ومهد الممالك وكان بطلا شجاعا جوادا ربما وصل الواحد بألف ألف وولي بعده خراسان منصور الحميري وعظم الخطب بابن طريف ثم سار لحربه يزيد بن مزيد الشيباني وتحيل عليه حتى بيته وقتله ومزق جموعه. وفي سنة 179هـ اعتمر الرشيد في رمضان واستمر على إحرامه إلى أن حج ماشيا من بطن مكة.وغزا الرشيد وتوغل في أرض الروم فافتتح الصفصاف وبلغ جيشه أنقرة. ثم حج سنة ست وثمانين الرشيد بولديه الأمين والمأمون وأغنى أهل الحرمين. ثم حدثت نكبة البرامكة إذ قتل الرشيد جعفر بن يحيى البرمكي وسجن أباه وأقاربه بعد أن كانوا قد بلغوا رتبة لا مزيد عليها. وفي العام نفسه انتقض الصلح مع الروم وملكوا عليهم نقفور فيقال إنه من ذرية جفنة الغساني وبعث يتهدد الرشيد فاستشاط غضبا وسار في جيوشه حتى نازله هرقلة وذلت الروم وكانت غزوة مشهودة، ثم كانت الملحمة العظمى وقتل من الروم عدد كثير وجرح النقفور ثلاث جراحات وتم الفداء حتى لم يبق في أيدي الروم أسير.وبعث إليه نقفور بالجزية ثلاثمائة ألف دينار. وفي سنة ست وسبعين ومائة فتحت مدينة دبسة على يد الأمير عبد الرحمن بن عبد الملك بن صالح العباسى وفي سنة تسع وسبعين ومائة اعتمر الرشيد في رمضان ودام على إحرامه إلى أن حج ومشى من مكة إلى عرفات وفي سنة ثمانين كانت الزلزلة العظمى وسقط منها رأس منارة الإسكندرية وفي سنة إحدى وثمانين فتح حصن الصفصاف عنوة وهو الفاتح له وفي سنة ثلاث وثمانين خرج الخزر على أرمينية فأوقعوا بأهل الإسلام وسفكوا وسبوا أزيد من مائة ألف نسمة وجرى على الإسلام أمر عظيم لم يسمع قبله مثله. وفاة الرشيد مات الرشيد في الغزو بطوس من خراسان ودفن بها في ثالث من جمادى الآخرة سنة ثلاث وتسعين ومائة وله خمس وأربعون سنة وصلى عليه ابنه الصالح قال الصولى خلف الرشيد مائة ألف ألف دينار ومن الأثاث والجواهر والورق والدواب ما قيمته ألف ألف دينار وخمسة وعشرون ألف دينار. وقيل إن الرشيد رأى مناما أنه يموت بطوس فبكى وقال احفروا لي قبرا فحفر له ثم حمل في قبة على جمل وسيق به حتى نظر إلى القبر فقال يا ابن آدم تصير إلى هذا وأمر قوما فنزلوا فختموا فيه ختما وهو في محفة على شفير القبر ولما مات بويع لوالده الأمين في العسكر وهو حينئذ ببغداد فأتاه الخبر فصلى الناس الجمعة وخطب ونعى الرشيد إلى الناس وبايعوه. ولأبى الشيص يرثى الرشيد: غربت في الشرق شمس فلها عيني تدمع مـا رأينا قط شمسا غربت من حيث تطلع وقال أبو النواس: جـامـع بيـن العـزاء والهناء جترت جـوار بالسعـد والنحـس فنحن في مأتم وفي عرس القلب ضاحكة فنحن في وحشة وفي أنس يضـحكنـا القـائـم الأميـن ويبــكينـا وفـاة الإمـام بالأمـس بدران بدر أضحى ببغداد في الخــلد وبدر بطـوس فـي الرمـس ---------------- المصادر: (1) وفيات الأعيان لابن خلكان. (2) البداية والنهاية لابن كثير. (3) تاريخ الخلفاء للسيوطي. |
الليث بن سعد لله درك يا إمام.. لقد حزت أربع خصال لم يكملن لعالم: العلم، والعمل، والزهد والورع. في سنة 94هـ، وفي أحد أيامها المباركة ولد الليث بن سعد، في قرية (قرقشندة) من قرى مصر، ونشأ ذلك الطفل بين ربوع تلك القرية، فوجد الأطفال يتعلمون القراءة والكتابة ويحفظون القرآن الكريم، فأسرع الليث إلى منزله، وأحضر أوراقه وقلمه، وبدأ يحفظ القرآن الكريم، ثم درس الحديث والفقه والعلوم العربية، فسبق زملاءه، وساعده على ذلك نبوغه المبكر، وذكاؤه الفريد. واصل الليث الدراسة والتعلم والحفظ، فكان كلما قرأ شيئًا في الفقه أو الحديث عَلَقَ بذاكرته وحفظه فلا ينساه أبدًا، فقد كان قوي الذاكرة، جيد الحفظ، ولفت الفتى الليث الأنظار إليه بعلمه وورعه، وأصبحت له مكانة كبيرة بين أهله، يعرفون فضله، ويقدمونه على من سواه، ولكن الفتى لم يغترَّ بهذه الشهرة، ولم يخلد إليها ولا إلى التقدير الذي كان له وسط العلماء، بل استمر يتعلم ويتزود وينهل من غيره من العلماء، حتى صار أستاذًا يدرس للعلماء. واشتاقت نفس الليث يومًا لزيارة بيت الله الحرام وزيارة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- فشدَّ رحاله وأعد نفسه للسفر، وهناك في تلك الأراضي المقدسة كانت حلقات العلم منتشرة في كل مكان؛ والتقى هناك بـ(عطاء بن أبي رباح) و(ابن أبي مليكة) و(نافع مولى ابن عمر) و(ابن شهاب الزهري).. وغيرهم، فأخذ عنهم ونهل منهم رغم رسوخه في العلم، ومضت الأيام والسنون، وأصبح الليث شيخًا جاوز الخمسين من عمره، وهو لا يمل العلم والتعلم؛ حتى أصبح من كبار العلماء في عصره. وكان الإمام الفقيه الليث بن سعد غنيًّا، ينفق كل سنة على الفقراء والمساكين أكثر من خمسين ألف دينار ولا يدخر منها شيئًا لنفسه، ويتصدق في كل صلاة على ثلاثمائة مسكين، ويطعم الناس عسل النحل وسمن البقر في الشتاء، واللوز والسكر في الصيف. جاءته امرأة ذات يوم وقالت له: يا شيخنا، إن لي ابنًا مريضًا يشتهي أكل العسل، فقال الليث: يا غلام، أعطها مرطًا من عسل (والمرط: مائة وعشرون رطلاً) وكان مع المرأة إناء صغير الحجم، فلما رآه الغلام قال: يا شيخنا إنها تطلب قليلاً من العسل، فقال الليث: إنها طلبت على قَدْرِهَا ونحن نعطيها على قدرنا، وأمره أن يعطيها المرط. ولم يكن الليث بن سعد كريمًا على أهل بلده فحسب، بل كان سخيًّا كريم اليد على الآخرين، فيحكى عنه أنه لما جاء إلى المدينة المنورة بعث إليه الإمام مالك بن أنس بطبق من الرطب، فلم يشأ الليث أن يرد الطبق إلى الإمام مالك خاويًا، فوضع في الطبق ألف دينار ورده إليه. وقد شهد له كثير من علماء عصره بعلمه وفضله؛ سئل الإمام أحمد بن حنبل ذات مرة عن الليث، فقال: الليث بن سعد كثير العلم، صحيح الحديث، وقال عنه يحيى بن بكير: ما رأيت أحدًا أكمل من الليث بن سعد، كان فقيه البدن، عربي اللسان، يحسن القرآن والنحو، ويحفظ الحديث والشعر، حسن المذاكرة، لم أَرَ مثله. وقد عرض عليه الخليفة المهدي ذات يوم أن يتولى القضاء، ويعطيه من بيت المال مائة ألف درهم، فرفض وقال: إني عاهدت الله ألا ألي شيئًا، وأعيذ أمير المؤمنين بالله ألا أفي بعهدي، فقال له المهدي: الله.. قال الليث: الله.. قال المهدي: انطلق فقد أعفيتك، وكان الليث زاهدًا في حكام الدنيا، مشغولاً عن الجاه والسلطان بغرس الأخلاق العظيمة في نفوس الناس، وكان يصل النهار بالليل في العلم والعبادة ليرضي ربه. وفي سنة 175هـ توفي الإمام الكبير الليث بن سعد، فحزن الناس عليه حزنًا شديدًا، وكان الشافعي -رضي الله عنه- يحب لقاءه، فلم يمهله القدر فوقف يومًا على قبره وقال: لله درك يا إمام، لقد حزت أربع خصال لم يكملن لعالم: العلم، والعمل، والزهد، والورع |
شريك بن عبد الله القضاء.. العدل.. الظلم.. حق الناس.. حق الله.. كلمات أخذ يرددها شريك بينه وبين نفسه عندما عرض عليه الخليفة أن يتولى قضاء (الكوفة) فما أعظمها من مسئولية!! في مدينة (بُخارى) بجمهورية أوزبكستان الإسلامية الآن، وُلِدَ شريك بن عبد الله النخعي سنة خمس وتسعين للهجرة، ولمَّا بلغ من العمر تسع سنوات أتم حفظ القرآن الكريم، ثم درس الفقه والحديث، وأصبح من حفاظ أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي مدينة الكوفة اشتهر بعلمه وفضله، فأخذ يعلم الناس ويفتيهم في أمور دينهم، وكان لا يبخل بعلمه على أحد، ولا يُفَرِقُ في مجلس علمه بين فقير وغني؛ فيحكى أن أحد أبناء الخليفة المهدي دخل عليه، فجلس يستمع إلى دروس العلم التي يلقيها شريك، وأراد أن يسأل سؤالاً؛ فسأله وهو مستند على الحائط، وكأنه لا يحترم مجلس العلم، فلم يلتفت إليه شريك، فأعاد الأميرُ السؤالَ مرة أخرى، لكنه لم يلتفت إليه وأعرض عنه؛ فقال له الحاضرون: كأنك تستخف بأولاد الخليفة، ولا تقدرهم حق قدرهم؟ فقال شريك: لا، ولكن العلم أزين عند أهله من أن تضيِّعوه، فما كان من ابن الخليفة إلا أن جلس على ركبتيه ثم سأله، فقال شريك: هكذا يطلب العلم. وقد عُرِضَ عليه أن يتولى القضاء لكنه امتنع وأراد أن يهرب من هذه المسئولية العظيمة، خوفًا من أن يظلم صاحب حق، فعندما دعاه الخليفة المنصور، وقال له: إني أريد أن أوليك القضاء، قال شريك: اعفني يا أمير المؤمنين، قال: لست أعفيك.. فقبل تولي القضاء، وأخذ شريك ينظر في المظالم ويحكم فيها بالعدل، ولا يخشى في الله لومة لائم، فيحكى أنه جلس ذات يوم في مجلس القضاء، وإذا بامرأة تدخل عليه وتقول له: أنا بالله ثم بك يا نصير المظلومين، فنظر إليها شريك وقال: مَنْ ظلمك؟ قالت: الأمير موسى بن عيسى ابن عم أمير المؤمنين، فقال لها: وكيف؟ قالت: كان عندي بستان على شاطئ الفرات وفيه نخل وزرع ورثته عن أبي وبنيت له حائطًا، وبالأمس بعث الأمير بخمسمائة غلام فاقتلعوا الحائط؛ فأصبحت لا أعرف حدود بستاني من بساتينه؛ فكتب القاضي إلى الأمير: "أما بعد.. أبقى الله الأمير وحفظه، وأتم نعمته عليه، فقد جاءتني امرأة فذكرت أن الأمير اغتصب بستانها أمس، فليحضر الأمير الحكم الساعة، والسلام". فلما قرأ الأمير كتاب شريك غضب غضبًا شديدًا، ونادى على صاحب الشرطة، وقال له: اذهب إلى القاضي شريك، وقل له -بلساني- : يا سبحان الله!! ما رأيت أعجب من أمرك! كيف تنصف على الأمير امرأة حمقاء لم تصح دعواها؟ فقال صاحب الشرطة: لو تفضل الأمير فأعفاني من هذه المهمة، فالقاضي كما تعلم صارم، فقال الأمير غاضبًا: اذهب وإياك أن تتردد. فخرج صاحب الشرطة من عند الأمير وهو لا يدري كيف يتصرف، ثم قال لغلمانه: اذهبوا واحملوا إلى الحبس فراشًا وطعامًا وما تدعو الحاجة إليه، ومضى صاحب الشرطة إلى شريك، فقال القاضي له: إنني طلبت من الأمير أن يحضر بنفسه، فبعثك تحمل رسالته التي لا تغني عنه شيئًا في مجلس القضاء!! ونادي على غلام المجلس وقال له: خذ بيده وضعه في الحبس، فقال صاحب الشرطة: والله لقد علمت أنك تحبسني فقدمت ما أحتاج إليه في الحبس. وبعث الأمير موسى بن عيسى إليه بعض أصدقائه ليكلموه في الأمر فأمر بحبسهم، فعلم الأمير بما حدث، ففتح باب السجن وأخرج مَنْ فيه، وفي اليوم التالي، عرف القاضي شريك بما حدث، فقال لغلامه: هات متاعي والحقني ببغداد، والله ما طلبنا هذا الأمر (أي القضاء) من بني العباس، ولكن هم الذين أكرهونا عليه، ولقد ضمنوا لنا أن نكون فيه أعزة أحرارا. فلما عرف الأمير موسى بذلك، أسرع ولحق بركب القاضي شريك، وقال له: يا أبا عبد الله أتحبس إخواني بعد أن حبست رسولي؟ فقال شريك: نعم؛ لأنهم مشوا لك في أمر ما كان لهم أن يمشوا فيه، وقبولهم هذه الوفادة تعطيل للقضاء، وعدوان على العدل، وعون على الاستهانة بحقوق الضعفاء، ولست براجع عن غايتي أو يردوا جميعًا إلى السجن، وإلاَّ مضيت إلى أمير المؤمنين فاستعفيته من القضاء، فخاف الأمير وأسرع بردِّهم إلى الحبس، وجلس القاضي في مجلس القضاء، واستدعى المرأة المتظلمة وقال: هذا خصمك قد حضر.. فقال الأمير: أما وقد حضرت فأرجو أن تأمر بإخراج المسجونين، فقال شريك: أما الآن فلك ذلك. ثم سأل الأميرَ عما تَدَّعيه المرأة، فقال الأمير: صدقت.. فقال القاضي شريك: إذن ترد ما أخذت منها، وتبني حائطها كما كان.. قال الأمير: أفعل ذلك، فسأل شريك المرأة: أبقي لك عليه شيئًا؟ قالت: بارك الله فيك وجزاك خيرًا، وقام الأمير من المجلس وهو يقول: مَنْ عَظَّمَ أمرَ اللِه أذل الله له عظماء خلقه، ومات القاضي شريك سنة 177 هـ. |
العلامة ابن حزم الأندلسي مُنَاي مِنَ الدُّنْيَا عُلُومٌ أَبُثُّهَا وَأَنْشُرُهَا في كُلِّ بَادٍ وَحَاضِرِ دُعَاءٌ إلى الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ الَّتِي تَنَاسَى ذِكْرُهَا فِي المَحَاضِرِ في (مدينة) قرطبة الساحرة، إحدى مدن الأندلس وفي قصر أحد الوزراء، في أواخر شهر رمضان في عام 384هـ، كان ميلاد طفل مبارك أصبح له بعد ذلك شأن كبير، فرح به والده فرحًا شديدًا، وشكر الله سبحانه وتعالى على نعمته وعطائه. نشأ الغلام في قصر أبيه نشأة كريمة، فقد كان أبوه وزيرًا في الدولة العامرية وتعلم القرآن الكريم، والحديث النبوي، والشعر العربي، وفنون الخط والكتابة، وتمر الأيام ويكبر الغلام، فيجعله أبوه في صحبة رجل صالح يشرف عليه، ويشغل وقت فراغه، ويصحبه إلى مجالس العلماء.. إنه: (علي بن أحمد بن سعيد الأندلسي) الشهير بابن حزم الأندلسي. كانت أسرته لها مكانة مرموقة وعراقة في النسب، فـ(بنو حزم) كانوا من أهل العلم والأدب، ومن ذوي المجد والحسب، تولى أكثر من واحد منهم الوزارة، ونالوا بقرطبة جاهًا عريضًا. وكان صلى الله عليه وسلم أحمد بن سعيد) والد (ابن حزم) من عقلاء الرجال، الذين نالوا حظًّا وافرًا من الثقافة والعلم، ولذلك كان يعجب ممن يلحن في الكلام، ويقول: (إني لأعجب ممن يلحن في مخاطبة أو يجيء بلفظة قلقة في مكاتبة، لأنه ينبغي له إذا شك في شيء أن يتركه، ويطلب غيره، فالكلام أوسع من هذا). وكانت هذه الثقافة الواسعة، والشخصية المتزنة العاقلة هي التي أهلت والد ابن حزم لتولي منصب الوزارة للحاجب المنصور ابن أبي عامر في أواخر خلافة بني أمية في الأندلس، وفي القصر عاش ابن حزم عيشة هادئة رغدة، ونشأ نشأة مترفة، تحوط بها النعمة، وتلازمها الراحة والترف، فلا ضيق في رزق ولا حاجة إلى مال، وحوله الجواري الحسان ورغم هذه المغريات عاش ابن حزم عفيفًا لم يقرب معصية.. يقول في ذلك: (يعلم الله وكفي به عليمًا، أني بريء الساحة، سليم الإدام (أي: آكل حلالاً) صحيح البشرة، نقي الحجزة، وأني أقسم بالله أجل الأقسام، أني ما حللت مئزري على فرج حرام قط، ولا يحاسبني ربي بكبيرة الزنى منذ عقلت إلى يومي هذا). وتغيرت الأحوال؛ فقد مات الخليفة، وجاء خليفة آخر، فانتقل ابن حزم مع والده إلى غرب قرطبة بعيدًا عن الفتنة، ومن يومها والمحن تلاحق ابن حزم، فالحياة لا تستقرُّ على حال، فقد كشرت له عن أنيابها، وأذاقته من مرارة كأسها، بعدما كانت له نعم الصديق، واضطر(ابن حزم)إلى الخروج من قرطبة إلى (المَرِيَّة) سنة 404هـ وبعدها عاش في ترحال مستمر بسبب السياسة واضطهاد الحكام له، وكان ابن حزم واسع الاطلاع، يقرأ الكثير من الكتب في كافة المجالات، ساعده على ذلك ازدهار مكتبات قرطبة بالكتب المتنوعة، واهتمام أهل الأندلس بالعلوم والآداب، واشتهر ابن حزم بعلمه الغزير، وثقافته الواسعة، فكان بحق موسوعة علمية أحاطت بالكثير من المعارف التي كانت في عصره في تمكن وإحاطة. قال عنه أحد العلماء (أبو عبد الله الحميدي): كان ابن حزم حافظًا للحديث وفقهه، مستنبطًا للأحكام من الكتاب والسنة، متفنِّنًا في علوم جمَّة عاملاً بعلمه، ما رأينا مثله فيما اجتمع له من الذكاء، وسرعة الحفظ، وكرم النفس والتدين.. وبعد أن بلغ ابن حزم رتبة الاجتهاد في الأحكام الشرعية، طالب بضرورة الأخذ بظاهر النصوص في القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، وكان ابن حزم متنوع الكتابات، كتب في علوم القرآن والحديث، والفقه والأديان، والرد على اليهود والنصارى، والمنطق.. وغيرها من العلوم، قال عنه أحد المؤرخين: كان ابن حزم أجمع أهل الأندلس قاطبة لعلوم الإسلام، وأوسعهم معرفة مع توسعه في علم اللسان (أي علوم اللغة) وزيادة حظه من البلاغة والشعر والمعرفة بالسير والأخبار.. وقد بلغ ما كتبه ابن حزم أربعمائة مجلد، تشتمل على ثمانين ألف ورقة تقريبًا، كما قال ابنه الفضل.. يقول عنه الإمام (أبو حامد الغزالي): وجدت في أسماء الله تعالى كتابًا ألفه (ابن حزم الأندلسي) يدل على عظيم حفظه وسيلان ذهنه. شغل ابن حزم منصب الوزارة ثلاث مرات، وكان وفيًّا للبيت الأموي الحاكم في الأندلس، ومواليًا لهم، يعمل على إعادة الخلافة للدولة الأموية، ويرى أحقيتها في الخلافة، وبسبب ذلك كان يعرِّض نفسه للأسر أو السجن أو النفي، وقد دبر له خصومه المكائد، وأوقعوا بينه وبين السلطان حسدًا وحقدًا عليه، حتى أحرقت كتبه في عهد (المعتضد بن عباد) فقال ابن حزم في ذلك: فإن تحرقوا القِرْطاس لا تَحْرِقُوا الذي تضمَّنه القرطاسُ بَلْ هُوَ فِي صَدْرِي يَسِيُر مَعِي حَيْثُ اسْتَقَلتْ رَكَائبي وَيَنْزِلُ إِنْ أنزل وُيدْفن في قبري وكان عزيز النفس، واثق الكلمة أمام خصومه وأعدائه، لا ينافق الحكام، ويرفض قبول هداياهم حتى لو سبب له ذلك الكثير من المتاعب، وكانت صفة الوفاء ملازمة له، فكان وفيًّا لدينه وإخوانه وشيوخه، ولكل من اتصل به. وتفرغ ابن حزم للتأليف؛ فأخرج كتبًا كثيرة، مثل: (المحلَّى) في الفقه و(الفصل بين أهل الآراء والنحل) و(الإحكام في أصول الأحكام) و(جمهرة أنْسَاب العرب) و(جوامع السير) و(الرد على من قال بالتقليد) و(شرح أحاديث الموطأ) كما يعد كتاب (طوق الحمامة) من أشهر كتبه، وفيه الكثير من الشعر الذي قاله في مختلف المناسبات.وعاش هذا الفقيه في محراب العلم، يتصدى للظلم والجهل، ويجاهد مع ذلك هوى نفسه، وبعد حياة حافلة بالكفاح والعلم والصبر على الإيذاء، لقي ابن حزم ربه في الثامن والعشرين من شعبان سنة 564 هـ عن عمر يقارب إحدى وسبعين سنة، ويقف (أبو يوسف يعقوب المنصور) ثالث خلفاء دولة الموحدين أمام قبره خاشعًا ولم يتمالك نفسه، فيقول: كل الناس عيال على ابن حزم |
أمير المؤمنين في الحديث( البخاري) ولد بمدينة (بخارى) وهي تقع في جمهورية أوزبكستان سنة 194هـ، وكان والده عالم كبير يحفظ آلاف الأحاديث النبوية، ورحل في طلب العلم إلى المدينة المنورة، وتتلمذ على أيدي كبار العلماء والمحدثين، أمثال: مالك بن أنس، وحماد بن زيد وغيرهما، وكان رجلا غنيًّا، أنعم الله عليه بثروة كبيرة كان ينفقها في الخيرات على الفقراء والمساكين. توفي والد البخاري وتركه طفلاً مع والدته بعد أن ترك له مالا كثيرًا وعلمًا نافعًا، وظلت أمه تعطف عليه وتحيطه بحنانها ورعايتها لتعوضه عن فقد أبيه، وما إن بلغ البخاري سن العاشرة حتى ظهرت عليه علامات الذكاء والتفوق؛ فحفظ القرآن الكريم وكثيرًا من الأحاديث النبوية، وتردد على حلقات علماء الحديث في بلده ليتعلم على أيديهم، وعمره إحدى عشرة سنة، وكان مع صغر سنه يصحح لأساتذته وشيوخه ما قد يخطئون فيه. ومن ذلك ما روي عنه أنه دخل يومًا على أستاذه (الداخلي) فقال الداخلي: عن سفيان عن أبي الزبير عن إبراهيم، فقال له البخاري: إن أبا الزبير لم يروِ عن إبراهيم وقال له: ارجع إلى الأصل إن كان عندك، فدخل فنظر فيه، ثم رجع فقال: كيف هو يا غلام؟ فقلت: هو الزبير بن عدي عن إبراهيم، فأخذ القلم وأصلح كتابه، وقال لي: صدقت.. وقد ساعد البخاري على ذلك حفظه الجيد للأحاديث، وذاكرته القوية والكتب الكثيرة التي تركها له والده، فحفظها ودرسها دراسة جيدة، وأصبح البخاري -ذلك الغلام الصغير- يحترمه الشيوخ ويقدرونه حق قدره، ولِمَ لا، وهو يحفظ في هذه السن كتب ابن المبارك ووكيع بن الجراح وهما من أئمة الحديث النبوي وكثير من الأحاديث؟! فقد قرأ على زملائه خمسة عشر ألف حديث عن ظهر قلب، وفي كل يوم كان البخاري يزداد علمًا، وكان مشايخه يأملون له خيرًا ويتوقعون له مستقبلا كريمًا، وكان من الممكن أن يقنع الفتي الصغير بذلك القدر من العلم، ولكنه رحل مع والدته وأخيه الأكبر أحمد إلى مكة المكرمة لتأدية فريضة الحج وعمره ستة عشر عامًا ولما أدى الفريضة استقر هناك يتعلم الحديث على أيدي علماء مكة وشيوخها، ثم رحل إلى المدينة المنورة فزار قبر الرسول صلى الله عليه وسلم. وظل في المدينة المنورة سنة، ثم رحل إلى البصرة ليسمع الحديث، ومكث بها خمس سنوات، كان يتردد فيها على مكة المكرمة في مواسم الحج؛ ليلتقي فيها بعلماء المسلمين، وظل البخاري ينتقل في بلاد الإسلام لطلب العلم. يقول البخاري عن نفسه: لقيت أكثر من ألف رجل، أهل الحجاز والعراق والشام ومصر لقيتهم مرات؟ أهل الشام ومصر والجزيرة مرتين، وأهل البصرة أربع مرات، ومكثت بالحجاز ستة أعوام، ولا أحصي كم دخلت الكوفة وبغداد مع محدِّثي خراسان. كتب البخاري الحديث وسمعه عن ألف وثمانين من الشيوخ وحفاظ الحديث، وكان يدوِّن الأحاديث الصحيحة، ويترك الأحاديث التي يشك في أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قالها، وقد أدهش البخاري العلماءَ والشيوخَ لسرعة حفظه للأحاديث حتى ظنوه يشرب دواءً للحفظ، فقد كان البخاري ينظر إلى الكتاب مرةً واحدة فيحفظ ما فيه من أحاديث لا يستطيع غيره أن يحفظها في شهور عديدة. وفي أحد رحلاته إلى بغداد أراد العلماء أن يختبروه فاجتمعوا واختاروا مائة حديث، وقلبوا متونها وأسانيدها أي أسندوا الأحاديث إلى غير رواتها، ليمتحنوا حفظه، ودفعوا إلى كل واحد عشرة أحاديث ليلقوها على البخاري في المجلس، فقام أحدهم فسأل البخاري عن حديث من عشرته، فقال: لا أعرفه، وسأله عن آخر فقال: لا أعرفه وهكذا حتى فرغ من أحاديثه العشرة، ثم قام آخر فسأل البخاري، وكذلك الثالث والرابع إلى آخر العشرة.. فلما فرغوا التفت البخاري إلى الأول منهم فقال له: أما أحاديثك: فالأول قلت كذا وصحته كذا، والثاني قلت كذا وصحته كذا ... إلى آخر العشرة أحاديث؛ وفعل بالآخرين مثل ذلك، عندئذ أقر له الناس بالحفظ. وكان البخاري عالمًا كبيرًا إذ كان يحفظ مائة ألف حديث صحيح، ومائتي ألف حديث غير صحيح، مما جعل عشرات الآلاف من طلاب العلم يلتفوا حوله؛ لينهلوا منه ويتتلمذوا عليه، ومن أشهرهم الإمام مسلم صاحب كتاب الجامع الصحيح، وقد أثني العلماء على البخاري، فقال ابن خزيمة: ما تحت أديم السماء أعلم بالحديث من محمد بن إسماعيل البخاري.. وقال قتيبة بن سعيد: جالست الفقهاء والعباد والزهاد فما رأيت منذ عقلت مثل محمد بن إسماعيل (البخاري) وهو في زمانه كعمر في الصحابة . وكان البخاري كثير العبادة لله -عز وجل- يجتمع مع أصحابه في أول شهر رمضان، فيصلى بهم ويقرأ في كل ركعة عشرين آية، ويظل هكذا إلى أن يختم القرآن، وكان يقرأ في السحر ما بين النصف إلى الثلث من القرآن، وكان يختم بالنهار في كل يوم ختمة ويقول: عند كل ختمة دعوة مستجابة، وكذلك كان ينفق من أمواله الكثيرة التي ورثها عن أبيه على الفقراء من المسلمين، وتعلم البخاري رمي السهام، ولم يشغله طلب العلم عن ذلك، بل إنه كان يرى ذلك واجبًا على كل مسلم؛ حتى يستطيع الدفاع عن ديار المسلمين. وعاد البخاري إلى بلدته (بخارى) فاستقبله أهلها أروع استقبال، ومن فرحتهم الشديدة بقدومه نثروا عليه الدراهم والدنانير، فعقد جلسات للعلم في مسجده ومنزله ليورث علمه للمسلمين، ولم يبخل البخاري بعلمه على أحد، غير أن أمير بخارى (خالد بن أحمد) طلب منه أن يأتيه بكتبه؛ حتى يسمعها له ولأولاده في قصره وحدهم، فرفض البخاري أن يستجيب لطلبه، وقال: من أراد أن يتعلم فليأت إلى مجلس العلم، فالعلم يؤتى له ولا يأتي، ولا يمكنني أن أحرم الناس الآخرين من علمي، وقال لرسول الأمير قل له: إني لا أذل العلم ولا أحمله إلى أبواب السلاطين فإن كان له إليَّ شيء منه حاجة فليحضر في مسجدي أو في داري، وإن لم يعجبه هذا فإنه سلطان فليمنعني من الجلوس، ليكون لي عُذر عند الله يوم القيامة لئلا أكتم العلم. وظل الإمام البخاري عزيزًا كريمًا، لا يخضع لأحد مهما كان مركزه وقدره، فأحبه الناس، وأراه الله في حياته قبل مماته منزلته ومكانته، حيث كان الناس ينصرونه بأنفسهم حفظًا للعلم والعلماء، وكتب إليه أهل بغداد يومًا قائلين: المسْلِمَونَ بِخَيْرِ مَا بَقِيتَ لَهَمْ وَلَيْسَ بَعْدَكَ خَيْرٌ حِينَ تُفْتَقَدُ وقد توفي البخاري ليلة عيد الفطر سنة 256هـ بعد أن ملأ الدنيا بعلمه وأضاءها بإخلاصه.. رحم الله البخاري جزاء ما بذل وقدم. |
يتبع ان شاء الله تم تجميع هذه الصفحات من عدة مواقع وترتيب الباحث علي بن نايف شحود وبعض الصفحات تم الحاق المصادر فيها للافادة ان شاء الله لاتنسونا من صالح الدعاء في ظهر الغيب جزاكم الله خيرا |
مجهـــــود كبير
بارك الله فيك اخي الفاضل أسال الله أن يجعله في ميزان حسناتك جزاك الله خير الجزاء اللهم أعز الاسلام والمسلمين |
http://upload.traidnt.net/upfiles/Mmx57181.gif
جزاكِ الله خيرا اختي الفاضلة ايمان على مروركِ الكريم بارك الله فيكِ ورزقك الجنة نسال الله ان يعيد علينا رمضان اعواما عديدة وسنوات مديدة انه ولي ذلك والقادر عليه |
لله درهم من ابطال
جزاك الله خيرا على هذا الموضوع النافع الماتع وجعله في ميزان حسناتك حياك الله |
http://upload.traidnt.net/upfiles/Mmx57181.gif
جزاكِ الله الجنة اختنا الكريمة صوفيا على مرورك بارك الله فيكِ رزقنا الله واياكم الاخلاص في القول والعمل |
هارون الرشيد الخليفة المفترى عليه
هو أكثر من تعرض تاريخه للتشويه والتزوير من خلفاء الإسلام، مع أنه من أكثر خلفاء الدولة العباسية جهادا وغزوا واهتماما بالعلم والعلماء، و بالرغم من هذا أشاعوا عنه الأكاذيب وأنه لاهم له سوى الجواري والخمر والسكر، ونسجوا في ذلك القصص الخرافية ومن هنا كان إنصاف هذا الخليفة واجب على كل مؤرخ مسلم. ومن المؤرخين الذين أنصفوا الرشيد أحمد بن خلكان الذي قال عنه في كتابه وفيات الأعيان: "كان من أنبل الخلفاء وأحشم الملوك ذا حج وجهاد وغزو وشجاعة ورأي" وكتب التاريخ مليئة بمواقف رائعة للرشيد في نصرة الحق وحب النصيحة وتقريب العلماء لا ينكرها إلا جاحد أو مزور، ويكفيه أنه عرف بالخليفة الذي يحج عاما ويغزو عاما. نسبه ومولده هو أبو جعفر هارون بن المهدي محمد بن المنصور أبي جعفر عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس الهاشمي العباسي، كان مولده بالري حين كان أبوه أميرا عليها وعلى خرا سان في سنة ثمان وأربعين ومائة وأمه أم ولد تسمى الخيزران وهى أم الهادي وفيها يقول مروان ابن أبى حفصة: يا خيزران هناك ثم هناك *** أمسى يسوس العالمين ابناك أغزاه أبوه بلاد الروم وهو حدث في خلافته. توليه الخلافة ولي الخلافة بعهد معقود له بعد الهادي من أبيهما المهدي في ليلة السبت السادس عشر من ربيع الأول سنة سبعين ومائة بعد الهادي، قال الصولي: هذه الليلة ولد له فيها عبد الله المأمون ولم يكن في سائر الزمان ليلة مات فيها خليفة وقام خليفة وولد خليفة إلا هذه الليلة وكان يكنى أبا موسى فتكنى بأبي جعفر. وكان ذا فصاحة وعلم وبصر بأعباء الخلافة وله نظر جيد في الأدب والفقه، قيل إنه كان يصلي في خلافته في كل يوم مائة ركعة إلى أن مات لا يتركها إلا لعلة ويتصدق من صلب ماله كل يوم بألف درهم.. قال الثعالبي في اللطائف قال الصولي خلَّف الرشيد مائة ألف ألف دينار. وكان يحب المديح ويجيز الشعراء ويقول الشعر، أسند عن معاوية بن صالح عن أبيه قال أول شعر قاله الرشيد أنه حج سنة ولى الخلافة فدخل دارا فإذا في صدر بيت منها بيت شعر قد كتب على حائط: ألا أمير المؤمنين أما ترى *** فديتك هجران الحبيب كبيرا فدعا بدواة وكتب تحته بخطه: بلى والهدايا المشعرات وما *** مشى بمكة مرفوع الأظل حسيرا. ولداود بن رزين الواسطى فيه: بهارون لاح النور في كل بلدة *** وقام به في عدل سيـرته النهـج إمـام بـذات الله أصبح شغله *** فأكثر ما يعنى بـه الغزو والحـج تضيق عيون الخلق عن نور وجهه *** إذا ما بدا للناس منظره البلج تفسحت الآمال في جود كفه *** فأعطى الذي يرجوه فوق الذي يرجو وكان يقتفي آثار جده إلا في الحرص. وقال محمد بن على الخرساني الرشيد أول خليفة لعب بالصوالجة والكرة ورمى النشاب في البرجاس و أول خليفة لعب بالشطرنج من بنى العباس. قال الجاحظ اجتمع للرشيد ما لم يجتمع لغيره وزراؤه البرامكة وقاضيه القاضي أبو يوسف وشاعره مروان بن أبي حفصة ونديمه العباس بن محمد عم والده وحاجبه الفضل بن الربيع أتيه الناس ومغنيه إبراهيم الموصلي وزوجته زبيدة. حبه للعلماء وكان الرشيد يحب العلماء ويعظم حرمات الدين ويبغض الجدال والكلام، وقال القاضي الفاضل في بعض رسائله ما أعلم أن لملك رحلة قط في طلب العلم إلا للرشيد فإنه رحل بولديه الأمين والمأمون لسماع الموطأ على مالك رحمه الله. ولما بلغه موت عبد الله ابن المبارك حزن عليه وجلس للعزاء فعزاه الأكابر. قال أبو معاوية الضرير ما ذكرت النبي صلى الله عليه وسلم بين يدي الرشيد إلا قال صلى الله على سيدي ورويت له حديثه "وددت أني أقاتل في سبيل الله فأقتل ثم أحيى ثم أقتل فبكى حتى انتحب" وعن خرزاذ العابد قال حدث أبو معاوية الرشيد بحديث احتج آدم وموسى فقال رجل شريف فأين لقيه فغضب الرشيد وقال النطع والسيف زنديق يطعن في الحديث فما زال أبو معاوية يسكنه ويقول بادرة منه يا أمير المؤمنين حتى سكن. وعن أبي معاوية الضرير قال صب على يدي بعد الأكل شخص لا أعرفه فقال الرشيد تدري من يصب عليك قلت: لا. قال: أنا إجلالا للعلم. وكان العلماء يبادلونه التقدير، روي عن الفضيل بن عياض أنه قال: ما من نفس تموت أشد علي موتا من أمير المؤمنين هارون ولوددت أن الله زاد من عمري في عمره، قال فكبر ذلك علينا فلما مات هارون وظهرت الفتن وكان من المأمون ما حمل الناس على القول بخلق القرآن قلنا الشيخ كان أعلم بما تكلم. بكاؤه عند سماع الموعظة قال منصور بن عمار: ما رأيت أغزر دمعا عند الذكر من ثلاثة الفضيل بن عياض والرشيد وآخر. وقال عبيد الله القواريرى لما لقي الرشيد الفضيل قال له يا حسن الوجه أنت المسئول عن هذه الأمة. وتقطعت بهم الأسباب قال: الوصلة التي كانت بينهم في الدنيا فجعل هارون يبكى ويشهق. روى أن ابن السماك دخل على الرشيد يوما فاستسقى فأتى بكوز فلما أخذه قال على رسلك يا أمير المؤمنين لو منعت هذه الشربة بكم كنت تشتريها قال بنصف ملكي قال اشرب هنأك الله تعالى فلما شربها قال أسألك لو منعت خروجها من بدنك بماذا كنت تشترى خروجها قال بجميع ملكي قال إن ملكا قيمته شربة ماء وبوله لجدير أن لا ينافس فيه فبكى هارون الرشيد بكاء شديدا. وقال ابن الجوزي قال الرشيد لشيبان عظني قال لأن تصحب من يخوفك حتى يدركك الأمن خير لك من أن تصحب من يؤمنك حتى يدركك الخوف فقال الرشيد فسر لي هذا قال من يقول لك أنت مسئول عن الرعية فاتق الله أنصح لك ممن يقول أنتم أهل بيت مغفور لكم وأنتم قرابة نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم فبكى الرشيد حتى رحمه من حوله. مواقف لا تنسى في سنة سبع وثمانين ومائة جاء للرشيد كتاب من ملك الروم نقفور بنقض الهدنة التي كانت عقدت بين المسلمين وبين الملكة ريني ملكة الروم وصورة الكتاب [من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب أما بعد فإن الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام الرخ وأقامت نفسها مقام البيذق فحملت إليك من أموالها أحمالا وذلك لضعف النساء وحمقهن فإذا قرأت كتابي فأردد ما حصل قبلك من أموالها وإلا فالسيف بيننا وبينك] فلما قرأ الرشيد الكتاب استشاط غضبا حتى ما تمكن أحد أن ينظر إلى وجهه فضلاً أن يخاطبه وتفرق جلساؤه من الخوف واستعجم الرأي على الوزير فدعا الرشيد بدواة وكتب على ظهر كتابه بسم الله الرحمن الرحيم من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة والجواب ما تراه لا ما تسمعه ثم سار ليومه فلم يزل حتى نزل مدينة هرقل وكانت غزوة مشهورة وفتحا مبينا فطلب نقفور الموادعة والتزم بخراج يحمله كل سنة. وأسند الصولى عن يعقوب بن جعفر قال خرج الرشيد في السنة التي ولى الخلافة فيها حتى غزا أطراف الروم وانصرف في شعبان فحج بالناس آخر السنة وفرق بالحرمين مالا كثيرا وكان رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في النوم فقال له إن هذا الأمر صائر إليك في هذا الشهر فاغز وحج ووسع على أهل الحرمين ففعل هذا كله. وأخرج ابن عساكر عن ابن علية قال أخذ هارون الرشيد زنديقا فأمر بضرب عنقه فقال له الزنديق: لم تضرب عنقي قال له أريح العباد منك. قال فأين أنت من ألف حديث وضعتها على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلها ما فيها حرف نطق به قال فأين أنت يا عدو الله من أبى إسحاق الفزارى وعبد الله بن المبارك ينخلانها فيخرجانها حرفا حرفا. من أعماله في الخلافة حج غير مرة وله فتوحات ومواقف مشهودة ومنها فتح مدينة هرقلة،قال المسعودي في "مروج الذهب": رام الرشيد أن يوصل ما بين بحر الروم وبحر القلزم مما يلي الفرما فقال له يحيى البرمكي كان يختطف الروم الناس من الحرم وتدخل مراكبهم إلى الحجاز. وزر له يحيى بن خالد مدة وأحسن إلى العلوية وحج سنة 173 وعزل عن خراسان جعفر بن أشعث بولده العباس بن جعفر وحج أيضا في العام الآتي وعقد بولاية العهد لولده الأمين صغيرا فكان أقبح وهن تم في الإسلام وأرضى الأمراء بأموال عظيمة وتحرك عليه بأرض الديلم يحيى بن عبد الله بن حسن الحسيني وعظم أمره وبادر إليه الرافضة فتنكد عيش الرشيد واغتم وجهز له الفضل بن وزيره في خمسين ألفا فخارت قوى يحيى وطلب الأمان فأجابه ولاطفه ثم ظفر به وحبسه ثم تعلل ومات ويقال ناله من الرشيد أربعمائة ألف دينار. وفي سنة 175هـ ولى خراسان الغطريف بن عطاء وولى مصر جعفرا البرمكي واشتدت الحرب بين القيسية واليمانية بالشام ونشأت بينهم أحقاد وإحن. وغزا الفضل بن يحي البرمكي بجيش عظيم ما وراء النهر ومهد الممالك وكان بطلا شجاعا جوادا ربما وصل الواحد بألف ألف وولي بعده خراسان منصور الحميري وعظم الخطب بابن طريف ثم سار لحربه يزيد بن مزيد الشيباني وتحيل عليه حتى بيته وقتله ومزق جموعه. وفي سنة 179هـ اعتمر الرشيد في رمضان واستمر على إحرامه إلى أن حج ماشيا من بطن مكة.وغزا الرشيد وتوغل في أرض الروم فافتتح الصفصاف وبلغ جيشه أنقرة. ثم حج سنة ست وثمانين الرشيد بولديه الأمين والمأمون وأغنى أهل الحرمين. ثم حدثت نكبة البرامكة إذ قتل الرشيد جعفر بن يحيى البرمكي وسجن أباه وأقاربه بعد أن كانوا قد بلغوا رتبة لا مزيد عليها. وفي العام نفسه انتقض الصلح مع الروم وملكوا عليهم نقفور فيقال إنه من ذرية جفنة الغساني وبعث يتهدد الرشيد فاستشاط غضبا وسار في جيوشه حتى نازله هرقلة وذلت الروم وكانت غزوة مشهودة، ثم كانت الملحمة العظمى وقتل من الروم عدد كثير وجرح النقفور ثلاث جراحات وتم الفداء حتى لم يبق في أيدي الروم أسير.وبعث إليه نقفور بالجزية ثلاثمائة ألف دينار. وفي سنة ست وسبعين ومائة فتحت مدينة دبسة على يد الأمير عبد الرحمن بن عبد الملك بن صالح العباسى وفي سنة تسع وسبعين ومائة اعتمر الرشيد في رمضان ودام على إحرامه إلى أن حج ومشى من مكة إلى عرفات وفي سنة ثمانين كانت الزلزلة العظمى وسقط منها رأس منارة الإسكندرية وفي سنة إحدى وثمانين فتح حصن الصفصاف عنوة وهو الفاتح له وفي سنة ثلاث وثمانين خرج الخزر على أرمينية فأوقعوا بأهل الإسلام وسفكوا وسبوا أزيد من مائة ألف نسمة وجرى على الإسلام أمر عظيم لم يسمع قبله مثله. وفاة الرشيد مات الرشيد في الغزو بطوس من خراسان ودفن بها في ثالث من جمادى الآخرة سنة ثلاث وتسعين ومائة وله خمس وأربعون سنة وصلى عليه ابنه الصالح قال الصولى خلف الرشيد مائة ألف ألف دينار ومن الأثاث والجواهر والورق والدواب ما قيمته ألف ألف دينار وخمسة وعشرون ألف دينار. وقيل إن الرشيد رأى مناما أنه يموت بطوس فبكى وقال احفروا لي قبرا فحفر له ثم حمل في قبة على جمل وسيق به حتى نظر إلى القبر فقال يا ابن آدم تصير إلى هذا وأمر قوما فنزلوا فختموا فيه ختما وهو في محفة على شفير القبر ولما مات بويع لوالده الأمين في العسكر وهو حينئذ ببغداد فأتاه الخبر فصلى الناس الجمعة وخطب ونعى الرشيد إلى الناس وبايعوه. ولأبى الشيص يرثى الرشيد: غربت في الشرق شمس فلها عيني تدمع مـا رأينا قط شمسا غربت من حيث تطلع وقال أبو النواس: جـامـع بيـن العـزاء والهناء جترت جـوار بالسعـد والنحـس فنحن في مأتم وفي عرس القلب ضاحكة فنحن في وحشة وفي أنس يضـحكنـا القـائـم الأميـن ويبــكينـا وفـاة الإمـام بالأمـس بدران بدر أضحى ببغداد في الخــلد وبدر بطـوس فـي الرمـس ---------------- المصادر: (1) وفيات الأعيان لابن خلكان. (2) البداية والنهاية لابن كثير. (3) تاريخ الخلفاء للسيوطي. |
المعتصم بالله
بلغه أن ملك الروم الظالم خرج وأغار على بلاد الإسلام، وأن امرأة مسلمة صاحت وهي في أيدي جند الروم: (وامعتصماه!!) فأجابها على الفور وهو جالس على سرير ملكه (لبيك لبيك!!) وجهز جيشًا عظيمًا ليثأر لكرامة امرأة مسلمة أهانها أعداء الله!! هو الخليفة أبو إسحاق محمد بن هارون الرشيد، الذي عرف بالمعتصم بالله، ولد سنة 180هـ، وكان يقال له المثمن؛ لأنه ثامن الخلفاء من بني العباس ولأنه استمر في ملكه ثماني سنين وفتح ثمانية فتوح، وأسر ثمانية ملوك. كان المعتصم شجاعًا، كتب إليه ملك الروم يهدده، فأمر أن يقرءوا له رسالته، فلما قرأها أمر برميها، وقال للكاتب اكتب: (أما بعد.. فقد قرأت كتابك، وسمعت خطابك والجواب ما ترى لا ما تسمع، وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار) وكانت له فتوحات وغزوات كثيرة في سبيل الله، قيل: إنه لما أراد غزو (عمورية) زعم المنجمون أنه لن ينتصر، وطلبوا منه ألا يخرج، ولكنه خرج وانتصر بإرادة الله. وكان المعتصم كريم الخلق، متواضعًا، يحكي عنه أنه خرج مع أصحابه في يوم ممطر، وتفرق عنه أصحابه، فبينما هو يسير إذ رأي شيخًا معه حمار عليه حمل شوك، وقد وقع الحمار وسقط الحمل، والشيخ قائم ينتظر من يمر به فيساعده، فنزل المعتصم عن دابته، وخلص الحمار عن الوحل، ورفع عليه حمله وانتظر أصحابه حتى جاءوا، وأمرهم أن يسيروا مع الشيخ ليعينوه. كما كان المعتصم سخيًّا، فلقد روى أحمد بن أبي داود: تصدق المعتصم على يدي، ووهب ما قيمته ألف ألف درهم، وفي عهده كثر العمران، وبنيت القصور وارتفع البنيان، وقد مرض المعتصم فأخذ يقول: ذهبت الحيلة، فليس حيلة، ولقي ربه في سنة 227هـ بعد حياة حافلة بالأعمال النافعة للمسلمين. |
شيخ الجغرافيين الشريف الإدريسي
في أواخر القرن الخامس الهجري سنة 493هـ، وفي مدينة (سبتة) بالمغرب ولد رجل من أعظم علماء الجغرافيا في العالم، إنه (محمد بن عبد الله بن إدريس) المعروف بالشريف الإدريسي. ولد محمد بن عبد الله بن إدريس سنة 493هـ، ونشأ محبًّا للعلم يحب الطبيعة والأزهار، وكثيرًا ما كان يتتبع نمو الأزهار، والنباتات ومظاهر الطبيعة التي كانت تعجبه، وتشغل باله، ذهب الإدريسي في طفولته إلى الكُتَّاب ليحفظ القرآن ويتعلم اللغة والفقه، ولكنه لم ينتظر حتى يكمل دراسته، بل خرج للرحلة، ومشاهدة مظاهر الطبيعة في البلاد، فأكمل دراسته، وتعلمه خلال رحلاته ومشاهداته، ولم يهتم الإدريسي بعلوم الدين فقط، وإنما خرج يطوف في البلاد يشاهد ويدون، ويرسم ما شاهده، وقد دفعته نفسه التواقة إلى القيام برحلة كبيرة تغطي أرجاء العالم الإسلامي، كما زار البرتغال وإيطاليا وسواحل فرنسا وإنجلترا، وكان لهذه الرحلات أثرها في تنمية معلوماته الجغرافية. اتصل الإدريسي بالملك (روجر الثاني) ملك صقلية وكانت صقلية لا تزال تزدهر فيها الثقافة الإسلامية على الرغم من استيلاء النورمانديين عليها من المسلمين؛ فطلب من الإدريسي أن يرسم له خريطة للعالم، فاختار الرجال، ودربهم على دقة المشاهدة ليصوروا ما يشاهدونه برسومهم ويزودوه بمعلوماتٍ جغرافيةٍ عن البلاد التي سينزلون بها، وحين اطمأن إلى قدرتهم على إنجاز مهمته أرسلهم إلى بلادٍ كثيرة، وكان الإدريسي يدون المعلومات التي تصل إليه منهم، ويعيد صياغتها. ثم جمع الإدريسي كل ما وصل إليه في كتاب سماه (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق) وقد احتوى الكتاب على كثير من المعلومات الخاصة بغرب أوربا، وقد اشتهر هذا الكتاب بين علماء الشرق والغرب وخاصة المشتغلين بالجغرافيا، واستغرق إخراج هذا الكتاب خمسة عشر عامًا. وبعد الانتهاء من تأليفه، أهداه إلى صديقه الملك روجر سنة 1154م الذي أعجب به، وكافأه عليه، ثم قام برسم خريطة للعالم حسب طلب الملك (روجر) على لوح مستطيل من الفضة؛ حيث اشتملت على عدد كبير من الأسماء، ثم طلب منه أن يصنع له كرة توضح شكل الكرة الأرضية، فأمر الإدريسي أن تفرغ له من الفضة الخالصة دائرة مفصلة عظيمة الحجم في وزن 400 رطل، فلما كملت أمر العمال أن ينقشوا عليها صور الأقاليم ببلادها، وأقطارها وريفها وخلجانها وبحارها ومواقع أنهارها وعامرها والطرق والمسافات بين البلاد والمراسي، لا يتركون شيئًا، ويأتون به على هيئته وشكله، فصنع بذلك أول مجسم لكرة أرضية دقيقة عُرفت في التاريخ على هذا الشكل، ولكن للأسف تعرضت للضياع. ولم يَبْقَ من آثار الإدريسي إلا كتابه وأطلس خرائطه، ويعد الإدريسي أول جغرافي متخصص في هذا العلم، فقد فاق (بطليموس) العالم اليوناني القديم الذي كان يدرس الرياضيات والفلك، فكان اهتمامه بالجغرافيا لهذا السبب، أما الإدريسي فلم يهتم إلا بالجغرافيا فقط، فجعلها علمًا مثل باقي العلوم ومن إسهاماته في هذا المجال أنه أكد على خطوط الطول والعرض لتحديد المكان والمسافة، وقال بكروية الأرض، وترك عددًَا من الخرائط لمنابع نهر النيل والبحار وأقاليم العالم القديم. وقد اهتمت الدول المختلفة بنقل المعلومات التي كتبها الإدريسي عنها ودرسوها فكان الإدريسي بذلك أعظم جغرافي آنذاك، وحصل على تلك المكانة بفضل ملكاته الممتازة في رسم الخرائط، ويعتبر أطلسه أهم أثر للخرائط التي رُسِمَتْ في العصور الوسطي، وقد استطاع (كونراد ميللر) أن يستخرج من أطلس خرائط الإدريسي خريطة جامعة للعالم، وطبعت سنة 1938م ملونة وفي 1951م طُبِعَت باللغة العربية وظل الاعتماد على خرائطه في أوربا حتى القرن السادس عشر الميلادي. ولم يكن الإدريسي بارعًا في الجغرافيا وحدها بل برع أيضًا في النبات وبخاصة الأعشاب الطبية، وألف فيه كتابه (الجامع لصفات أشتات النبات) وقد استفاد (ابن البيطار) النباتي المشهور من هذا الكتاب الذي لم يصل إلينا، ونقل منه مائة مرة أشياء تختص بالأشجار والنبات والأزهار. وظل الإدريسي يعمل في خدمة العلم، تحت رعاية صديقه الملك (روجر الثاني) ومن جاء بعده، حتى توفي في سنة 560هـ على رأي أكثر المؤرخين وهو بعيد وغريب عن بلده يسعى للعلم. |
أيوب السختياني
الإمام ، الحافظ ، سيد العلماء ، أبو بكر بن أبي تميمة كيسان العنزي ، مولاهم البصري ، عداده في صغار التابعين . - مولده عام توفي ابن عباس سنة ثمان وستين . - لقي ابن عيينة ستة وثمانين من التابعين ،وكان يقول : مارأيتُ مثل أيوب . - عن إسحاق بن محمد ، سمعت مالكاً يقول : كنا ندخل على أيوب السختياني ، فإذا ذكرنا له حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى حتى نرحمه . - عن سلام ، قال : كان أيوب السختياني يقوم الليل كله فيخفي ذلك ، فإذا كان عند الصبح رفع صوته كأنه قام تلك الساعة . - عن عارم ، حدثنا حماد قال : ما رأيت رجلاً قط أشد تبسماً في وجوه الرجال من أيوب -عن سلام بن مسكين ، سمعت أيوب يقول : لا خبيث أخبث من قارئ فاجر . - وكان يقول : ليتق الله رجل . فإن زهد ، فلا يجعلن زُهده عذاباً على الناس ، فلأن يُخفي الرجل زهده خير من أن يعلنه . - وكان أيوب ممن يُخفي زهده ، دخلنا عليه ، فإذا هو على فراش مخمس أحمر، فرفعته أو رفعه بعض أصحابنا ، فإذا خصفة محشوة بليف . - قال أيوب : ما صدق عبدٌ فأحب الشهرة . - عن حمّاد بن زيد ، قال : كان أيوب في مجلس فجاءته عبرة فجعل يمتخط ويقول : ما أشد الزكام - عن ابن شوذب ، قال : كان أيوب يؤم أهل مسجده في شهر رمضان ، ويصلي بهم في الركعة قدر ثلاثين آية ، ويصلي لنفسه فيما بين الترويحتين بقدر ثلاثين آية .وكان يقول هو بنفسه للناس : الصلاة ، ويوتر بهم ، ويدعو بدعاء القرآن ، ويؤمن من خلفه و آخر ذلك يُصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ، ويقول : اللهم استعمِلنا بسنته ، وأوزعنا بهديه ، و اجعلنا للمتقين إماماً ، ثم يسجد . وإذا فرغ من الصلاة دعا بدعوات . - وعن هشام بن حسان : أن أيوب السختياني حج أربعين حجة . - قال معمر : كان في قميص أيوب بعض التذييل فقيل له ، فقال : الشهرة اليوم في التشمير .- كان أيوب في طريق مكة ، فأصاب الناس عطش حتى خافوا ، فقال أيوب :أتكتمون علي ؟ قالوا : نعم ، فدور رداءه ودعا ، فنبع الماءُ ، وسقوا الجمال ورووا، ثم أمرّ يده على الموضع كما كان . - قلت : اتفقوا على أنه توفي سنة إحدى وثلاثين ومئة بالبصرة زمن الطاعون ،وله ثلاث وستون سنة. نزهة الفضلاء 2/513 |
الإمام الحافظ الناقد الذهبي
يجمع الذهبي بين ميزتين لم تجتمعا إلاّ للأفذاذ القلائل في تاريخنا، فهو يجمع الإحاطة الواسعة بالتاريخ الإسلامي حوادث ورجالاً، والمعرفة الواسعة بقواعد الجرح والتعديل للرجال، فكان وحده مدرسة قائمة بذاتها. والذهبي من العلماء الذين دخلوا ميدان التاريخ من باب الحديث النبوي وعلومه، وظهر ذلك في عنايته الفائقة بالتراجم التي صارت أساس كثير من كتبه ومحور تفكيره التاريخي، وصار بذلك من أعظم أعلام علم الجرح والتعديل ومعرفة الرجال، حتّى قيل فيه: لو وقف الإمام الذهبي على قنطرة ومرّ أمامه الناس من لدن آدمَ حتى عصره، لقال لكَ: هذا فلان بن فلان، وهذا فلان بن فلان، وهذا يتّصف بكذا وذاك يتّصف بكذا. المولد والنشأة ولد الإمام محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز الذهبي في مدينة دمشق الفيحاء في (ربيع الآخر 673هـ= تشرين الأول 1274م). ونشأ في أسرة كريمة، تركمانية الأصل، وكان والده يعمل في صناعة الذهب، ومنها عُرِف بالذهبي، وكان رجلا صالحًا محبًا للعلم، فعني بتربية ولده وتنشئته على حب العلم. وكان لكثير من أفراد أسرته انشغال بالعلم، فشبَّ الإمام محمد الذهبي في بيئة تحبّ العلم وتبجّله. وفي سن مبكرة انضم إلى حلقات تحفيظ القرآن الكريم حتى حفظه وأتقن تلاوته. ثم اتجهت عنايته إلى تعلم القراءات وهو في الثامنة عشرة من عمره، فاتصل بشيوخ الإقراء في زمانه. وفي الوقت الذي كان يتلقى فيه القراءات مال إلى سماع الحديث الذي ملك عليه نفسه، فاتجه إليه، واستغرق وقته، ولازم شيوخه، وبدأ رحلته الطويلة في طلبه. نشاطه العلمي بعد أن أنهى الذهبي رحلاته في طلب العلم ومقابلة الشيوخ، وهم أعداد غفيرة تجاوزت الألف، اتجه إلى التدريس وعقد حلقات العلم لتلاميذه، وانغمس في التأليف والتصنيف، وبدأت حياته العلمية في قرية "كفر بطنا" بغوطة دمشق، حيث تولّى الخطابة في مسجدها سنة (703هـ=1303م)، وظل مقيمًا بها إلى سنة (718هـ= 1318م). وفي هذه القرية ألّف الذهبي خيْر كتبه. وتُعدّ الفترة التي قضاها بها، أخصب فترات حياته إنتاجًا، ثم تولى مشيخة دار الحديث بـ"تربة أم صالح"، وكانت هذه الدار من كبريات دور الحديث بدمشق، واتخذها سكنًا له حتى وفاته. وأتاحت له هذه المدارس أن يَدْرُس عليه عددٌ كبير من طلبة العلم، ويفِد عليه للتلقي كثيرون من أنحاء مختلفة، بعد أن اتسعت شهرته وانتشرت مؤلفاته، ورسخت مكانته، لمعرفته الواسعة بالحديث وعلومه، والتاريخ وفنونه، فكان مدرسة قائمة بذاتها، تخرج فيها كبار الحفاظ والمحدثين، مثل: عبد الوهاب السبكي صاحب طبقات الشافعية الكبرى، والحافظ ابن كثير، وصلاح الدين الصفدي، وابن رجب الحنبلي وغيرهم. مؤلفاته ترك الإمام الذهبي إنتاجًا غزيرًا من المؤلفات، بلغ أكثر من مائتي كتاب، شملت كثيراً من ميادين الثقافة الإسلامية، فتناولت القراءات، والحديث ومصطلحه، والفقه وأصوله، والعقائد والرقائق، غير أن معظم هذا الإنتاج يُغطّي علم التاريخ وفروعه. وثلث هذا العدد مختصرات قام بها الذهبي لأمهات الكتب التاريخية المؤلَّفة قبله، فاختصر تاريخ بغداد للخطيب البغدادي، وتاريخ دمشق لابن عساكر، وتاريخ نيسابور لأبي عبد الله الحاكم النيسابوري، وتاريخ مصر لابن يونس، وكتاب الروضتين في أخبار الدولتين لأبي شامة، والتكملة لوفيات النَّقَلَة للمنذري، وأسد الغابة لابن الأثير. وقد حصر الدكتور شاكر مصطفى الكتب التي اختصرها الذهبي في 367 عملاً. غير أن أشهر كتبه كتابان هما: تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، وهو أكبر كتبه وأشهرها، تناول فيه تاريخ الإسلام من الهجرة النبوية حتى سنة (700هـ= 1300م)، وتضمن هذا العمل الحوادث الرئيسة التي مرت بالعالم الإسلامي، مع تراجم للمشهورين في كل ناحية من نواحي الحياة. ويبلغ عدد من تَرْجَم لهم الذهبي في هذا الكتاب الضخم أربعين ألف شخصية. أما الكتاب الثاني فهو: "سير أعلام النبلاء"، وهذا الكتاب هو أضخم أعمال الذهبي بعد كتابه (تاريخ الإسلام)، وهو كتاب عام للتراجم التي سبقت عصر الذهبي. وفاته ظل الذهبي موفور النشاط، يقوم بالتدريس في خمس مدارس للحديث في دمشق، ويواصل التأليف، حتى ضَعُفَ بصرُه في أواخر عمره، وفقد الإبصار تماماً، ومكث على هذه الحال حتى توفي في (3 من ذي القعدة 748هـ= 4 من شباط 1348م). |
الشيخ علي الطنطاوي
هو علي بن مصطفى الطنطاوي، ولد في مدينة دمشق في 12 حزيران 1909، لأسرة ذات علم ودين. أصله من مدينة طنطا في مصر حيث انتقل جده محمد بن مصطفى في أوائل القرن التاسع عشر إلى دمشق، وكان عالماً أزهرياً حمل علمه إلى ديار الشام فجدد فيها العناية بالعلوم العقلية ولاسيما الفلك والرياضيات. وقد نزح معه ابن أخيه أحمد بن علي جدّ علي الطنطاوي وكان هذا إمام طابور متقاعد في الجيش العثماني. أما أبوه الشيخ مصطفى فكان من العلماء المعدودين في الشام، انتهت إليه أمانة الفتوى في دمشق. وكان مديراً للمدرسة التجارية في دمشق، ثم ولي منصب رئيس ديوان محكمة النقض عام 1918 إلى أن توفي عام 1925. وأسرة أمه أيضاً من الأسر العلمية في الشام، كثير من أفرادها من العلماء المعدودين ولهم تراجم في كتب الرجال.. خاله محب الدين الخطيب الكاتب الإسلامي الكبير الذي استوطن مصر وأنشأ فيها صحيفتي (الفتح) و(الزهراء) وكان له أثر في الدعوة فيها في مطلع القرن العشرين. تلقى علي الطنطاوي دراسته الابتدائية الأولى في العهد العثماني، فكان طالباً في المدرسة التجارية، ثم في المدرسة السلطانية الثانية وبعدها في المدرسة الجقمقية، ثم في مدرسة حكومية أخرى إلى سنة 1923 حيث دخل مكتب عنبر الذي كان الثانوية الوحيدة في دمشق ومنه نال البكالوريا سنة 1928. ثم ذهب إلى مصر ودخل دار العلوم العليا، ولكنه لم يتم السنة وعاد إلى دمشق في السن التالية فدرس الحقوق في جامعتها حتى نال الليسانس سنة 1933. كان على الطنطاوي من الذين جمعوا في الدراسة بين طريقي التلقي على المشايخ، والدراسة في المدارس النظامية، فقد تعلم في هذه المدارس إلى أن تخرج من الجامعة. وكان يقرأ معها على المشايخ علوم العربية والعلوم الدينية على الأسلوب القديم. عندما عاد الطنطاوي إلى الشام دعا إلى تأليف لجان للطلبة على غرار تلك التي رآها في مصر فألفت لجنة للطلبة سميت (اللجنة العليا لطلاب سورية) وانتخب رئيساً لها وقادها نحواً من ثلاث سنين. وكانت هذه اللجنة بمثابة اللجنة التنفيذية للكتلة الوطنية التي كانت تقود النضال ضد الاستعمار الفرنسي لسوريا. ابتدأ الطنطاوي التدريس في المدارس الأهلية في دمشق وهو في الثامنة عشرة من عمره، وقد طبعت محاضراته التي ألقاها على طلبة الكلية الوطنية في دروس الأدب العربي عن (بشار بن برد) في كتاب عام 1930. بعد ذلك عين معلماً ابتدائياً في مدارس الحكومة سنة 1931 حين أغلقت السلطات جريدة (الأيام) التي كان يعمل مديراً لتحريرها، وبقي في التعليم الابتدائي إلى سنة 1935. وكانت حياته في تلك الفترة سلسلة من المشكلات بسبب مواقفه الوطنية وجرأته في مقاومة الفرنسيين وأعوانهم في الحكومة. عام 1936 انتقل الطنطاوي للتدريس في العراق، فعين مدرساً في الثانوية المركزية في بغداد، ثم في ثانويتها الغربية ودار العلوم الشرعية في الأعظمية، ولكن روحه الوثابة وجرأته في الحق فعلا به في العراق ما فعلا به في الشام، فما لبث أن نقل مرة بعد مرة، فعلم في كركوك في أقصى الشمال، وفي البصرة في أقصى الجنوب. وبقي يدرس في العراق حتى عام 1939، لم ينقطع عنه غير سنة واحدة أمضاها في بيروت مدرساً في الكلية الشرعية فيها حتى عام 1937. ثم رجع إلى دمشق فعين أستاذاً معاوناً في مكتب عنبر، ولكنه لم يكف عن مواقفه التي سببت له المتاعب، فنقل إلى مدرسة دير الزور سنة 1940 ولبث فيها فصلاً دراسياً أبعد بعدها قسرياً بسبب خطبة حماسية ألقاها في صلاة الجمعة ضد المستعمر الفرنسي. عام 1941 دخل الطنطاوي سلك القضاء، فعين قاضياً في النبك مدة أحد عشر شهراً ثم قاضياً في دوما (من قرى دمشق)، ثم قاضياً ممتازاً في دمشق مدة عشر سنوات فمستشاراً لمحكمة النقض في الشام، ثم مستشاراً لمحكمة النقض في القاهرة أيام الوحدة مع مصر. وقد اقترح الطنطاوي ـ يوم كان قاضياً في دوما ـ وضع قانون كامل للأحوال الشخصية فكلف بذلك عام 1947، وأوفد إلى مصر مع عضو محكمة الاستئناف الأستاذ نهاد القاسم (الذي صار وزيراً للعدل أيام الوحدة) فأمضيا تلك السنة كلها هناك حيث كلف هو بدرس مشروعات القوانين الجديدة للمواريث والوصية وسواها. وقد أعد مشروع قانون الأحوال الشخصية كله وصار هذا المشروع أساساً للقانون الحالي في سورية. وكان القانون يخول القاضي الشرعي في دمشق رياسة مجلس الأوقاف وعمدة الثانويات الشرعية، فصار الطنطاوي مسؤولاً عن ذلك كله خلال العشر سنين التي أمضاها في قضاء دمشق، فقرر أنظمة الامتحانات في الثانويات الشرعية، وكان له يد في تعديل قانون الأوقاف ومنهج الثانويات، ثم كلف عام 1960 بوضع مناهج الدروس فيها فوضعها وحده بعدما سافر إلى مصر واجتمع فيها بالقائمين على إدارة التعليم في الأزهر واعتمدت كما وضعها. انتقل الطنطاوي عام 1963 بعد انقلاب الثامن من آذار، وإعلان حالة الطوارئ في سورية، إلى المملكة العربية السعودية ليعمل مدرساً في كلية الشريعة وكلية اللغة العربية في الرياض، ومنها انتقل إلى مكة، للتدريس فيها ليمضي فيها وفي جدة خمساً وثلاثين سنة. بدأ الطنطاوي هذه المرحلة الجديدة من حياته بالتدريس في كلية التربية بمكة، ثم لم يلبث أن كلف ببرنامج للتوعية الإسلامية، فترك الكلية وراح يطوف على الجامعات والمعاهد والمدارس في أنحاء المملكة لإلقاء الدروس والمحاضرات، وتفرغ للفتوى يجيب على أسئلة وفتاوى الناس في الحرم ـ في مجلس له هناك ـ أو في بيته ساعات كل يوم، ثم بدأ برنامجيه (مسائل ومشكلات) في الإذاعة، و(نور وهداية) في التلفزيون اللذين قدر لهما أن يكونا أطول البرامج عمراً في تاريخ إذاعة المملكة وتلفزيونها. يعتبر الطنطاوي من أقدم المحاضرين الإذاعيين في العالم العربي، إذ بدأ يحاضر من إذاعة الشرق الأدنى من يافا من أوائل الثلاثينات، ومن إذاعة بغداد سنة 1937، ومن إذاعة دمشق سنة 1942 لأكثر من عقدين متصلين، وأخيراً من إذاعة المملكة وتلفزيونها نحواً من ربع قرن متصل من الزمان. نشر الطنطاوي أول مقالة له في جريدة عامة في عام 1926، ولم ينقطع عن النشر في الصحف منذ ذلك التاريخ، فشارك في تحرير مجلتي خاله محب الدين (الفتح) و(الزهراء) حين زار مصر عام 1926، ثم كتب في جريدة فتى العرب ثم في (ألف باء)، ثم كان مدير تحرير (الأيام) التي أصدرتها الكتلة الوطنية سنة 1931 وخلال ذلك كان يكتب في (الناقد) و(الشعب) وسواهما من الصحف. وفي سنة 1933 أنشأ الزيات المجلة الكبرى (الرسالة) فكان الطنطاوي واحداً من كتابها واستمر فيها عشرين سنة إلى أن احتجبت سنة 1953. وكتب في مجلة (المسلمون) و(النصر) وفي مكة كتب في مجلة (الحج) وفي جريدة (المدينة)، ونشر ذكرياته في (الشرق الأوسط) على مدى نحو خمس سنين. وله مقالات متناثرة في عشرات الصحف والمجلات التي كان يعجز هو نفسه عن حصرها وتذكر أسمائها. شارك الطنطاوي في طائفة من المؤتمرات منها حلقة الدراسات الاجتماعية التي عقدتها جامعة الدول العربية في دمشق في عهد الشيشكلي، ومؤتمر الشعوب العربية لنصرة الجزائر، ومؤتمر تأسيس رابطة العالم الإسلامي واثنين من المؤتمرات السنوية لاتحاد الطلبة المسلمين في أوروبا. وأهم مشاركة له كانت في المؤتمر الإسلامي الشعبي في القدس عام 1953 والذي تمخضت عنه سفرته الطويلة في سبيل الدعاية لفلسطين، وقد جاب فيها باكستان والهند والملايو وإندونيسيا. لما جاوز الطنطاوي الثمانين من عمره وبدأ التعب يغزو جسمه آثر ترك الإذاعة والتلفزيون واعتزل الناس إلا قليلاً من المقربين يأتونه في معظم الليالي زائرين، فصار ذلك له مجلساً يطل من خلاله على الدنيا، وصار منتدى أدبياً وعلمياً تبحث فيه مسائل العلم والفقه واللغة والأدب والتاريخ. وفي الثامن عشر من حزيران عام 1999 توفي علي الطنطاوي في مستشفى الملك بجدة، ودفن في مكة في اليوم التالي بعدما صلي عليه في الحرم المكي الشريف. يعد الشيخ علي الطنطاوي أحد رموز الدعوة الإسلامية الكبيرة في العالم العربي وشخصية محببة ذائعة الصيت نالت حظاً واسعاً من الإعجاب والقبول، وله سجل مشرف في خدمة الإسلام والمسلمين. كان الطنطاوي أديباً وداعية يتمتع بأسلوب سهل جميل جذاب متفرد لا يكاد يشبهه به أحد، يمكن أن يوصف بأنه السهل الممتنع، فيه تظهر عباراته أنيقة مشرقة، فيها جمال ويسر، وهذا مكنه من طرح أخطر القضايا والأفكار بأسلوب يطرب له المثقف، ويرتاح له العامي. حمل الطنطاوي على كاهله راية الإصلاح الديني في الميادين كافة: التشريعي والسياسي والاجتماعي، فكان في ما يؤلف ويحاضر الداعية المسلم الذي يهجم على الخرافات والتقاليد البالية والسلوكيات المستوردة؛ فيصحح عقائد الناس ويقوم أخلاقهم، كما كان يتصدى لظلم رجال السلطان وأصحاب الدعوات الهدامة بمنطق الحق القويم وسلاسة الأسلوب وعذوبة العبارة مما قيض له قبولاً عند عامة الناس، كما نصب له في الوقت نفسه كثيراً من المعادين والشانئين. وكتبه في ميادين الإصلاح المختلفة كثيرة متعددة الاتجاهات تشهد له بعمق الفكرة وطول الباع وسلامة المنهج، وقد سبق زمانه في طروحاته الإصلاحية على صعيد التشريع والسياسة والاجتماع. رزق الشيخ الطنطاوي خمساً من البنات، وقد كان لفقد إحداهن (بنان) ـ وقد اغتالتها يد الإرهاب الآثم في مدينة آخن الألمانية ـ أكبر الأثر في نفسه، ولكنه احتسبها عند الله. وتمسك بالصبر والتسليم بقضاء الله. ترك الطنطاوي عدة مؤلفات هي: ـ هتاف المجد. ـ مباحث إسلامية. ـ فصول إسلامية. ـ نفحات من الحرم. ـ صور من الشرق. ـ صيد الخاطر لابن الجوزي (تحقيق). ـ فكر ومباحث. ـ بشار بن برد. ـ مع الناس. ـ رسائل الإصلاح. ـ مسرحية أبي جهل. ـ ذكريات علي الطنطاوي. (ثمانية أجزاء). ـ أخبار عمر. ـ بغداد. ـ حكايات من التاريخ (من أدب الأطفال). ـ أعلام التاريخ (سلسلة للتعريف بأعلام الإسلام). ـ تعريف عام بدين الإسلام. ـ صور وخواطر. ـ من حديث النفس. ـ الجامع الأموي. ـ قصص من التاريخ. ـ قصص من الحياة. ـ أبو بكر الصديق. ـ عمر بن الخطاب. (جزآن). ـ في إندونيسيا. ـ في بلاد العرب. ـ في سبيل الإصلاح. ـ رسائل سيف الإسلام. ـ رجال من التاريخ. ـ الهيثميات. ـ التحليل الأدبي. ـ من التاريخ الإسلامي. ـ دمشق. ـ مقالات في كلمات. المراجع: ـ أحمد الجدع (معجم الأدباء الإسلاميين المعاصرين) الطبعة الأولى 1999، الجزء الثاني ص (800 ـ 805). ـ علي الطنطاوي (ذكريات علي الطنطاوي، دار المنار للنشر، السعودية). ـ مجلة الفيصل السعودية ، العدد 158، ص (17). ـ مجاهد مأمون ديرانية (علي الطنطاوي 1909 ـ 1999) دار القلم، دمشق، الطبعة الأولى، 2001). |
جميع الأوقات حسب التوقيت الدولي +2. الساعة الآن 10:50. |
Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.