يومَ لا ينفع النَّدم ! مرَّة أخرى , أردتُ يا ابنتي الكريمة ألاَّ نفترق حتّى أعرض عليك مَشاهد أخرى مِن يوم القيامة , كما وصفها القرآنُ الكريم بأسلوبه الفريد . يقول اللَّه تعالى : { وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ 27 بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ 28 وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ 29 وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ 30 قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ 31 وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ 32 } (6- الأنعام 27-32) . انتبهي يا ابنتي الفاضلة ! إنَّ هذا الموقف سيَقِفُه أُناسٌ مثْلي ومثْلك , غير أنَّهم , إمَّا انشَغلُوا بالحياة الدُّنيا فخرجُوا منها دون أن يُكَلِّفُوا أنفُسَهم عَناء البحث عن الدِّين الحقِّ , وإمَّا أنَّهم جادلُوا وعانَدُوا وجحدُوا وتكبَّرُوا , وماتُوا على غير الإسلام . ويقول تعالى : { حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ 99 لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ 100 فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ 101 فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ 102 وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ 103 تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ 104 أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ 105 قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ 106 رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ 107 قَالَ اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ 108 إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ 109 فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ 110 إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ 111 } (23- المؤمنون 99-111) . ويقول تعالى : { إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا 40 } (78- النّبأ 40) . آياتٌ تهزُّ المشاعر والقلُوب , وبلاغةٌ تشهدُ لِوَحْدها بأنَّ القرآن كلامُ ربِّ العالَمين . |
وبعد , أيُّها القارئ الكريم ! أما زلتَ في شكٍّ من أنَّ اللَّه تعالى هو الذي خلقك ؟! واللَّهِ إنَّ كلَّ عُضْوٍ في جسمكَ يشهد بوجود هذا الخالق وعظمته ! يقول اللَّه تعالى في القرآن الكريم : { وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ 20 وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ 21 } (51- الذّاريات 20-21) . ويقول تعالى : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ 53 } (41- فصّلت 53) . ولو تأمَّلتَ مثلاً في كيفيَّة عمَل دماغك , لَتبيَّنَ لكَ في الحال أنَّه لا يُمكنُ أن يكون إلاَّ من صُنع إلهٍ واحد لا حدود لِقُدرته ولِعلْمه . فالدِّماغ يستقبل كلَّ لحظة , بواسطة الأعصاب , مليارات المعلومات القادمة من مختلف أعضاء الجسم , فيُحلِّلها بسُرعة خياليَّة , ثمَّ يُصدرُ أوامره بالتَّحرُّك . وبهذا يستطيع الإنسان أن يُميِّز بين آلاف الأصوات , وأن يُشاهد الصُّور , ويتذوَّق الطَّعام , ويُفكِّر , ويمشي , ويضحك . والأغرب من هذا , أنَّ الدِّماغ لا يتوقَّف لحظة واحدة عن العمل , فتنامُ أنت على فراشك وأنت مطمئنٌّ أنَّ قلبكَ لن يتوقَّف عن النَّبض , وأنَّ جهازك التَّنفُّسي سيبقى يعمل . هذا صُنعُ اللَّه , فماذا صنعَ إنسانُ العصر الحديث ؟ إنَّه لم يستطع أن يصنع سوى إنسان آليّ , هو عبارة عن كُتلة من المعادن محدودة الحركة , لا تُحسُّ ولا تُفكِّر ولا تأكل ولا تشرب ! والمدهشُ فعلاً أنَّ الكثير من الباحثين , عِوَض أن يَصلُوا ببحوثهم إلى معرفة اللَّه والشَّهادة له بالقُدرة والعظمة , يَركبُهم , على العكس , الغُرور , فلا تراهم يتحدَّثون إلاَّ عن عبقريَّتهم وإبداعاتهم ! ولو أراد اللَّه أن يَسلبهم مثلاً نعمةَ التَّفكير , لَما استطاعُوا أن يكتشفُوا أيَّ شيء ! ولو لَم يُوفِّر لهم العناصر اللاَّزمة لِصُنع الأجهزة المختلفة ولِنقل الأصوات والصُّور والمعلومات , لَما استطاعُوا التَّخاطبَ بالهاتف , أو مُشاهدة التّلفاز , أو استخدام الإنترنت . نعم , لقد أعمى الغرورُ إنسانَ العصر الحديث , فجعله ينتفخ كلَّما توصَّل إلى اكتشاف جديد , بينما كان الأولى به أن يزداد إيمانًا بوجُود خالق واحد عظيم القُدرة , وأنَّ هذا الخالق لم يقذف به هكذا على الأرض , وإنَّما وفَّر له كلَّ ما يحتاج إليه .. وأكثر ! يقول اللَّه تعالى : { وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ 34 } (14- إبراهيم 34) . ----------------------------------- مُلتقانا في الجزء الثَّالث بإذن اللَّه تعالى , لِنَتحدَّث عن الإسلام بالتَّفصيل . |
الشَّهادتان , مفتاح الدُّخول في الإسلام بعد أن تعرَّفْنا في الجزء السَّابق على اللَّه سبحانه وتعالى وعلى النَّبيِّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , سنتعرَّف الآن سيِّدتي الفاضلة على الإسلام , وسنبدأ بالحديث عن كيفيَّة الدُّخول فيه . أوَّلُ ما يجبُ أن يفعلَه أيُّ فَرْدٍ لكي يدخُلَ في الإسلام , هو أن يغتسل ويُطهِّر ثيابه , ثمَّ يَنْطِق بالشَّهادتين بصوت مَسموع , ويكون ذلِكَ عادةً أمَامَ إمَامٍ مُسْلِم وبحضُور بعض المسلِمين . لكنّه يستطيع أن يفعل ذلك وحده أو أمام صديق مسلم . المهمّ أن لا يؤخِّر هذا الأمر عندما يعزم عليه , لأنّ لا أحد يضمن لنفسه العيش إلى الغد ! والشَّهادتان هما : أَشْهَدُ أن لا إلَهَ إلاَّ اللَّه وأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّه . طبعًا , هذا الإقرار الظَّاهري باللِّسان يجب أن يُصاحبه في أعماق النَّفس : - إيمانٌ ثابتٌ بأنَّ اللَّه واحدٌ لا شريك له , وأنَّه وحده خالقُ كلِّ شيء في هذا الوجود , وهو وحده المتصرِّفُ فيه كما يشاء , وأنَّه حيٌّ لا يموتُ أبدًا , وأنَّه لَم يُولَد وليس له زوجة ولا أولاد , وأنَّه ليس كمِثْلِه شيء , وأنَّه مختلفٌ عن كلِّ صورة يمكن أن نتخيَّلها عنه , سبحانه وتعالى . - إيمانٌ ثابتٌ بأنَّ محمَّدًا رسول اللَّه , وأنَّه خاتم الأنبياء والمرسلين , فلاَ نبيَّ بعدهُ إلى قِيَام السَّاعة . - إيمانٌ ثابتٌ بأنَّ المسيح عيسى عبدُ اللّه ورسوله . - إيمانٌ بجميع الأنبياء والمرسلين الذين سَبقُوا محمَّدًا , عليهم الصَّلاة والسَّلام , وبجميع الكُتُب المقدَّسة التي أُنزلَتْ عليهم . - إيمانٌ بوجود الملائكة والجِنّ . - إيمانٌ بالقضاء والقَدَر , خَيْره وشرِّه , وأنَّ أفعال كلّ فَرْد مُقدَّرة ومكتوبة في عِلْم اللَّه منذ الأَزَل . - إيمانٌ ثابتٌ بأنَّنا سنُبعثُ من جديد بعد موتنَا , وأنَّ اللَّه تعالى سيُحاسِبُنا على كلِّ ما فعلْنَاه في الدُّنيا , وأنَّ هناك جنَّة ونارًا . هذا على مُستوى العقيدة . أمَّا على مُستوى الأفعال , فيجبُ أن يُصاحبَ النُّطقَ بالشَّهادتين : عزمٌ على القيام بما افترضَه اللَّهُ على المسلم , بَدْءًا بالأركان التي وردَتْ في الحديث الذي رواه الإمام البخاري في صحيحه عن (عبد اللَّه) بن عمر رضي اللَّه عنه , أنَّ النَّبيَّ محمَّدًا صلَّى اللَّه عليه وسلَّم قال : بُنِيَ الإسلام على خَمْس : شهادة أن لا إله إلاَّ اللَّه وأنَّ محمَّدًا رسولُ اللَّه , وإقام الصَّلاة , وإيتاء الزَّكاة , والحجّ (وفي رواية لِمُسلم : وحجُّ البيت) , وصوم رمضان . (الجامع الصّحيح المختصر – الجزء 1 – ص 12 – رقم الحديث 8) . طبعًا , هذه الفرائض الخمْس لا تُمثِّلُ كلَّ الإسلام , وإنَّما هي الأعْمِدة التي يرتكزُ عليها هذا الدِّين , بحيثُ إذا اختلَّ منها عمودٌ اختلَّ البِناء . وإذا كانت الشَّهادتان هما الحَدّ الفاصِل بين الكُفر والإسلام , فمَن لم ينطق بهما لم يدخُل في هذا الدِّين , فإنَّ الأركان الأربعة الأخرى إذا فَرَّط المسلمُ في القيام بواحد منها دون عُذْر شَرعيٍّ مَقْبول , فإنَّه يَرتكبُ ذنبًا عظيمًا , قد يُخرجُه في بعض الحالات من الإسلام ! وسنحاول التَّعرُّف على هذه الأركان في الصَّفحات القادمة بعون اللَّه . |
الصَّلاة , موعدٌ يومي مع اللَّه ! إنَّ من رحمة اللَّه تعالى بنَا أنَّه لم يفرضْ علينا شيئًا إلاَّ وكان فيه فائدة عظيمة لنا . نعم , فاللَّه سُبحانه الذي خلَقَنا , هو وحده الذي يعرفُ بالضَّبط ما تحتاجه أبداننا وأنفسنا في كلِّ الحالات . وإذا كان بعضُ المسلمين يتكاسلُون مثلاً عن أداء الصَّلاة في أوقاتها بدعْوَى أنَّها تُرهِقُ أبدانهم أو تُعيقهم عن العمل أو الدِّراسة , فإنَّ العِلْم الحديث بيَّن , بالعكس , أنَّها أفضلُ طريقة للوقاية , وأيضًا للعلاج , من العديد من الأمراض البدنيَّة والنَّفسيَّة , وأنَّها خَيْرُ مُعين على العمل والدِّراسة ! لِنَبدأ بتعريف كَيْفيَّة الصَّلاة , وأوقاتها : هناك خمسُ صلَوات مفروضة على المسلم كلّ يوم , في خَمْسة أوقات مختلفة , وهي : 1- الصُّبح : ركْعتان , مسبُوقًا مباشرةً بسُنَّة الفجر : ركْعتان , وذلك عند طلوع الفجر . 2- الظُّهر : أربع ركعات , وذلك عند زوال الشَّمس , أي عند انحرافها عن وسط السَّماء . 3- العصر : أربع ركعات , وذلك عند العصر , أي عندما يصلُ ظِلُّ كلّ شيء مثله ويبدأ في الزِّيادة . 4- المغرب : ثلاث ركعات , وذلك عندما يغيب قُرْصُ الشَّمس كاملاً . 5- العشاء : أربع ركعات , متبُوعًا بسُنَّتَي الشَّفع : ركعتان , والوتر : ركعة , وذلك عند مغيب الشَّفق الأحمر . وكيفيَّة الصَّلاة هي : أن يقف المصلِّي مُعتدلاً , متَّجها بوَجْهه إلى القبلة (أي متَّجها في اتّجاه الكعبة الشَّريفة بمكَّة) , ثمَّ يرفعُ يديه قائلاً : اللَّه أكبر , مُعلِنًا دخُولَه في الصَّلاة . ومِنْ هنا تبدأ الرّكعة , فيقرأ المصلِّي سورة الفاتحة متبوعةً , فقط في الرّكعتين الأولتين من كلِّ صلاة , بسورة أخرى كاملة أو بضع آيات منها , ثمَّ يركعُ بحيثُ يَثْني نصفَه الأعلى حتَّى يُصبح مُتوَازيًا مع الأرض , ويضعُ يَديْه على رُكْبتَيْه , ثمَّ يقفُ من الرُّكوع , ثمَّ يَسجُد بحيثُ يضعُ جَبْهَتَه وأنفَه ويديْه ورُكبتَيْه على الأرض , ثمَّ يَجْلس , ثمَّ يَسجُد مرَّة ثانية , ثمَّ يقفُ معتدلاً , وتنتهي بذلك الرّكْعة الأولى , وتبدأ الرّكْعة الثَّانية . وتُختَم الصَّلاةُ بقراءة التَّشهُّد جالسًا , ثمَّ السَّلام . هذه إجْمالاً كيفيَّة الصَّلاة , وتُصلَّى تقريبًا في كلِّ مكان من الأرض ليس فيه نجاسة . ويَبدأُ تعليمُها للصِّغار منذ سنِّ السَّابعة . وهي تُصلَّى فرْدًا أو جماعةً بنفس الكيفيَّة وفي أيِّ مكان طاهر , إلاَّ أنَّها في حالة الجماعة يختارُ المصَلُّون واحدًا منهم , يُسَمَّى في هذه الصَّلاة إمامًا , يقفُ أمامَهم ويُصلِّي بهم , وهم يَقتدُون به في الحركات , مِن ركوع وسجود . وهي أكثر أجْرًا من الصَّلاة الفرديَّة . والصَّلاة في المسجد تُصلَّى مثل صلاة الجماعة , ويكونُ الإمام فيها : إمام المسجد , وهي أكثر أجرًا من الصَّلاة في البيت . وهي واجبةٌ على الرَّجُل , إلاَّ إذا كان له عُذرٌ مقبُول , فإنَّه يُصلِّيها في بيته أو في مكان عمَله . أمَّا المرأة , فالأفضل لها أن تُصلِّيها في بيتها . ويوم الجمعة , تُفرضُ صلاةُ الجمُعة على الرَّجُل , وليست واجبة على المرأة , وتُصلَّى في المسجد عِوَضًا عن صلاة الظُّهر , وتَسبِقُها خُطْبتان فيهما وعظٌ وإرشادٌ . ثمَّ هناك صلوات أخرى تُصلَّى في بعض المناسبات الدِّينيَّة , منها صلاة العيد , مرَّتان في السَّنة , في عيد الفطر وعيد الأضحى , وتُصلَّى جماعةً في المسجد , بعد طلوع الشَّمس بقليل . ومنها صلاة التَّراويح , وتُصلَّى عادةً جماعةً في المسجد , كلّ ليلة خلال شهر رمضان , مباشرة بعد صلاة العشاء . قبل الصَّلاة , يجبُ على المسلم أن يَتوَضَّأ . والوضوء بإيجاز هو : غَسْل اليدين بماءٍ طاهر إلى الرُّسْغَيْن , ثمَّ غَسْل الفَم , وهو المضمضة , ثمَّ غَسْل الأنف , وهو الاستنْشاق والاستنْثار , ثمَّ غَسْل الوجه , ثمَّ غَسْل اليدين إلى المرفقَيْن , ثمَّ مَسْح الرَّأس, ثمَّ مَسْح الأذُنَيْن , ثمَّ مَسْح الرِّجلَيْن إلى الكعْبَين . وإذا كان المسلمُ على جنابة , مِن احتلامٍ أو اتِّصالٍ جنسي مع زوجته , فيلزَمُهُ الغُسْلُ أو الوضوء الأكبر , وهو غَسل كامل البدَن بالماء قبل الصَّلاة . وهنا , تَجْدُر الإشارة إلى أنَّه , إلى جانب الفوائد الصِّحِّيَّة الظَّاهرة للوضوء والغُسْل , فإنَّ فيهما أيضًا تعظيمًا لِحُرمة اللَّه واستعدادًا نفسيًّا وبدنيًّا للصَّلاة بين يديه |
الصَّلاة , أفضل وقاية من أمراض العصر ! أريد أن أنبِّه في البداية إلى أنَّ الهدف من ذكرنا لبعض فوائد الصَّلاة هنا , ثمّ لبعض فوائد تشريعات الإسلام في العناصر القادمة , هو فقط زيادة التّدليل على أنّ اللّه تعالى , بِمَا أنّه يتَّصفُ بكلِّ صفات الكمال , فإنّ كلَّ ما يأمرُنا به يَخدم بلا شَكّ مصلحتنا . لكنّ المسلم لا ينتظر حتَّى يفهم الحكمة من تشريعٍ مَا لكي يُطبِّقه , وإنَّما يَقبلُه بكلِّ طواعية ورِضى , حتّى ولو لَم يَفهم الحكمة منه , مُمتثلاً لقول اللَّه تعالى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا 36 } (33- الأحزاب 36) . ننتقل الآن إلى فوائد الصّلاة : أمَّا على مستوى البدن , فالصَّلاة تُوفِّر للمصلِّي على الأقلّ خَمْس فُرَص يوميَّة مُنتظمة لكي يقوم بتمارين رياضيَّة , لو عَلِم النَّاسُ ما فيها من فوائد عظيمة , لَمَا تأخَّروا عن القيام بها لحظة واحدة ! وهذا النِّظام الرِّياضي لا يمكنُ أن يتوفَّر إلاَّ لِلمُسلم ! نعم , فعمليَّةُ الرُّكوع ثمَّ الرَّفع منه , والسُّجود ثمَّ الرَّفع منه , والجلوس للتَّشهُّد , مرَّات متتالية في اليوم , تُقوِّي العمود الفقاري خاصَّة , وكلّ عضلات الجسم عامَّة , وتُنشِّط الدَّورة الدَّمويَّة في كامل البدن , بما في ذلك الأطراف . وقد زار مرَّةً طبيبٌ فرنسي القاهرة ورأى المسلمين يُصلُّون في المساجد , فعاد إلى بلده وأصبح يَنصحُ مرضاه الذين يُعانون من آلام في الظَّهر , بالقيام بنَفْس حركات الصَّلاة , عدَّة مرَّات في اليوم ! وقام طبيبٌ آخر مصري ببحثٍ أثبتَ فيه علميًّا أنَّ الصَّلاة تَقي صاحبها من مرض دَوالي السَّاقَيْن . ثمَّ إنَّ وَضْعَ الوَجه على الأرض ورَفْعه , مرَّات متتالية في اليوم , يُنشِّط الدَّورة الدَّمويَّة في شرايين الدِّماغ , ويُوقظُ الذِّهن . وهذا ما لا يُتاح لغير المسلم الذي يبقَى رأسُه طول اليوم في الأعلَى . ومع ظهور وسائل النَّقل الحديثة , أصبح الإنسان قليل المشي والحركة , وبالتَّالي مُعرَّضًا أكثر للإصابة بِجَلْطَة قلبيَّة أو بانسدادٍ في شرايين القلب نتيجة رُسوب الشُّحوم بها . فتأتي الصَّلاة كَوقاية فِعْليَّة من هذه الأمراض , لأنَّها تنشِّط الدَّورة الدَّمويَّة , فتَطْرُد بذلك الفضلات والشُّحوم بشكل مُستمرّ . ولكنَّ هذه الفوائد لا تتحقَّق إلاَّ إذا أُدِّيت الصَّلاةُ في وَقتها دون تأخير , عملاً بقول اللَّه تعالى : { إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا 103 } (4- النّساء 103) . ويجبُ أيضًا أن تُؤَدَّى بتأنٍّ وطُمأنينة , على الصِّفَة التي جاءتْ في روايةٍ للإمام مسلم في صحيحه عن أبي هُرَيْرة رضي اللَّه عنه , أنَّ النَّبيَّ محمَّدًا صلَّى اللَّه عليه وسلَّم دخلَ المسجد , فدخلَ رجلٌ فصلَّى , ثمَّ جاء فسلَّم على رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم . فرَدَّ رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم عليه السَّلامَ وقال : ارجعْ فصَلِّ فإنَّكَ لم تُصلِّ ! فرجعَ الرَّجلُ فصلَّى كما كان صلَّى , ثمَّ جاء إلى النَّبيِّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم فسلَّم عليه . فقال رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم : وعليكَ السَّلام , ثمَّ قال : ارجعْ فصلِّ فإنَّكَ لم تُصلِّ , حتَّى فعلَ ذلكَ ثلاث مرَّات ! فقال الرَّجلُ : والذي بعثكَ بالحقِّ ما أُحسِنُ غير هذا , علِّمني . فقال (أي النَّبيُّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم) : إذا قُمتَ إلى الصَّلاة فكَبِّرْ , ثمَّ اقْرأ ما تيسَّر معك من القرآن , ثمَّ اركَعْ حتَّى تطمئنَّ راكعًا , ثمَّ ارفَعْ حتَّى تعتدلَ قائمًا , ثمَّ اسجُدْ حتَّى تطمئنَّ ساجدًا , ثمَّ ارفَعْ حتَّى تطمئنَّ جالسًا , ثمَّ افعلْ ذلك في صلاتك كلّها . (صحيح مسلم – الجزء 1 – ص 298 – رقم الحديث 397) . وإذا كانت فوائدُ الصَّلاة على البَدن عظيمة , فإنَّ فوائدها على النَّفس لا تُقدَّر بثَمن ! فهي أوَّلاً تُتيح للمصلِّي فُرَصًا عديدة في اليوم لقراءة ما تَيَسَّر من القرآن الكريم الذي يَصِفُهُ اللَّهُ تعالى بقَوله : { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا 82 } (17- الإسراء 82) . وكلُّ مَن تَعوَّد أن يقرأ القرآن بتَدبُّر أو يستمع إليه بانتباه من قارئ آخر , يعرفُ جيِّدًا كَمْ له من تأثير حَسَن على النَّفس . بل إنَّه يَشفي فعْلاً من الأزمات النَّفسيَّة التي يمكن أن يتعرَّض لها المسلم في حياته اليوميَّة , عند مَوْت قريب أو فقدان عمل أو ضياع مال أو خوف شديد من شيء ما . يقول تعالى في آية أخرى : { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ 44 } (41- فصّلت 44) . ثمَّ إنَّ مِنْ بين أفعال الصَّلاة أنَّ المصلِّي , عندما يسجد واضعًا جبهته على الأرض , له أن يَدعُو اللَّهَ بما يشاء من حاجاته الدُّنيويَّة والأخرويَّة , له ولغيره , مباشرةً ودون أيّ واسطة ! نعم , يدعُو اللَّهَ أن يُوَفِّقه لإيجاد عمل جيِّد , أو يرزقَه مالاً طيِّبًا , أو يكتُبَه من أصحاب الجنَّة , أو يشفي والده من مرضه , أو يأخذ له حقَّه مِمَّن ظلَمه . وهو في دعائه هذا , يكُون على يقين تامٍّ أنَّ اللَّه ينظر إليه في ذلك الوقت ويسمعُ دعاءه , وأنَّه قادرٌ على أن يُعطيه ما طلب . أيضًا , كلُّنا يَمرُّ في حياته بعدَّة أوقات يشعُر فيها بحاجة أكيدة إلى صديق أو حبيب يتحدَّث إليه ويُفرغ له ما في نفسه من هموم وأحزان , لأنَّ الكبتَ يُوَلِّد الانفجار وربَّما الانتحار . فتأتي الصَّلاةُ كوَسيلة جيِّدة لتخفيف الضّغط عن النَّفس , عبر التَّحدُّث إلى اللَّه سبحانه وتعالى الذي يملكُ كلَّ شيء , والقادر على كلِّ شيء , والمتصرِّف في كلِّ شيء . فيبثُّ المصلِّي شجونَه وأحزانه إلى اللَّه , ويبكي بحرارة , ولا ينتهي من صلاته إلاَّ وقد ارتاح نفسيًّا من الهمِّ الذي كان يشكُو منه ! ولكنَّ المصَلِّي لا يُمكن له أن يَجْني هذه الفوائد النَّفسيَّة إلاَّ إذا كان خاشعًا في صلاته . يقول اللَّه تعالى : { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ 1 الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ 2 } (23- المؤمنون 1-2) . والخشوعُ في الصَّلاة هو حضور الذِّهن فيها , وعدم التَّفكير في أيِّ شيء من أمور الدُّنيا . وهذه أيضًا فائدة أخرى عظيمة من فوائد الصَّلاة , فهي تُوَفِّر للمصلِّي على الأقلّ خَمْس فُرَص في اليوم لكي ينقطع تمامًا عن مشاغل وهموم الدُّنيا , فيخفُّ الضَّغطُ عن دماغه وترتاحُ أعصابه . وهذا الانقطاع عن العالَم الخارجي هو ما يُسمَّى اليوم عِلْميًّا بالاسترخاء , ويلجأ إليه العديد من النَّاس لإراحة أعصابهم . وإذا كان للصَّلاة تأثير جيِّدٌ وكبيرٌ على النَّفس , فإنَّ تأثيرها يتعدَّى ذلك إلى السُّلوك ليُهذِّبَه . يقول تعالى : { اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ 45 } (29- العنكبوت 45) . فالمسلمُ الذي يؤدِّي صلاته في وقتها بطمأنينة وخشوع , يَستحي أن يُقابلَ ربَّه في الصَّلاة الموالية وقد غشَّ في عمله أو كذب على غيره ! وإذا غلَبتْه نفسُه وارتكبَ ذنبًا صغيرًا , فإنَّه يُسارع إلى التَّوبة منه قبل أن يَقف أمام خالقه من جديد . أمَّا الذُّنوب الكبيرة , فمن المستحيل تقريبًا أن يَقْربَها . هل عرفْتِ الآن سيِّدتي لماذا تُعتبَرُ الصَّلاةُ عمودًا من الأعمدة الخمسة التي يرتكزُ عليها الإسلام ؟ للأسف , كثيرٌ من المسلمين اليوم يجهلُون قيمتها , فتراهُم يُؤَدُّونها متكاسلين وبعد فوات وقتها , بلا اطمئنان ولا خشوع , فلا يَجنُون منها أيّة فائدة , ولا يدرون أنَّهم بهذا يُسيئون كثيرًا إلى أنفسهم .. وإلى دينهم ! |
الزَّكاة , حقٌّ مضمونٌ للفقير ! الزَّكاةُ هي مالٌ أو غَنَمٌ أو محصولٌ زراعي أو ما شابَه ذلك , يُؤخذ من أغنياء المسلمين لِيُوزَّع على فُقرائهم . وإذا كان كلُّ مسلم بالِغ مُطالَب بأن يؤدِّي فريضة الصَّلاة خَمْس مرَّات في اليوم , فإنَّه لا يُطالَبُ بإخراج الزَّكاة إلاَّ مرَّةً في السَّنة , وفقط إذا كان يملكُ الأشياء التي تجبُ فيها الزَّكاة . فالمسلمُ الذي يملكُ مثلاً أراضٍ زراعيَّة أو مواشي وأغنامًا أو تجارة , يُخرجُ مرَّة في السَّنة نِسبةً مُعيَّنة من المحصول الزِّراعي أو المرابيح التّجاريَّة للفقير . وإذا كان لا يملكُ شيئًا من كلِّ هذا , فإنَّه لا يُطالَبُ بالزَّكاة إلاَّ إذا ادَّخر مقدارًا من المال أو الذَّهب يساوي أو يزيد عن المقدار الذي تجب فيه الزَّكاة , ولم يستعملْهُ لِمُدَّة سنة قمَريَّة , فيُخرجُ منه نسبة 2.5 بالمائة للفقراء . وكما تُلاحظين يا ابنتي الفاضلة , فإنَّ هذه النِّسبة ضئيلة جدًّا ولا تُثقِلُ كاهلَ المسلم . والزَّكاة هي وسيلة من وسائل التَّكافل الاجتماعي , لا تُرهق الغنيَّ ويَفرح بها الفقير . وهي إضافة لهذا , تُعَوِّدُ المسلمَ على عدم التَّعلُّق بالمال , فيسهلُ عليه بعد ذلك أن يتصدَّق ويُهدي ويُقرض , الأمر الذي يصعبُ على كثير من النَّاس . وبهذا تتآلفُ النُّفوس , وتُصبح العلاقة بين الغنيِّ والفقير ليست علاقة صراع وعداء كما في الأنظمة الأخرى , وإنَّما علاقة إخاء وتعاون ومحبَّة , الغنيُّ يُزكِّي ويتصدَّق , والفقير يَقنع ويَرضى , والجميع يقفون في الصَّلاة صفًّا واحدًا , يَدعون ربًّا واحدًا ! ونظرًا لأهميَّة الزَّكاة , فقد ذكَرها اللَّه تعالى في العديد من الآيات في القرآن الكريم مَقْرونة بالصَّلاة , مثل قوله تعالى : { وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ 43 } (2- البقرة 43) . ولكن للأسف , هناك من المسلمين مَن تجبُ عليهم الزَّكاة فلا يُؤدُّونها , ناسِينَ أنَّهم بذلك يأكلون حقَّ الفقير , ويُعرِّضون أنفسهم لِعذاب شديد يوم القيامة . يقول اللَّه تعالى : { وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ 180 } (3- آل عمران 180) . |
الصِّيام , راحة للمعدة وتقوية للإيمان ! الصِّيام فريضةٌ على كلِّ مسلم بالِغ , كامل شهر رمضان من كلِّ سنة . ورمضانُ هو شهرٌ قمري , وعلى هذا فإنَّ الصِّيام يدور على مَرِّ السِّنين على كلِّ أشهر السَّنة الشَّمسيَّة , وبالتَّالي على كلِّ الفصول . فإذا بدأ شهر رمضان مثلاً في سنةٍ ما في 1 ديسمبر , فإنَّه يبدأ في السَّنة الموالية حوالي 20 نوفمبر , ثمَّ يبدأ في السَّنة التي بعدها حوالي 9 نوفمبر , وهكذا . والصِّيام هو الانقطاع عن الأكل والشُّرب والجِماع وكُلِّ المفْطِرات , من طلوع الفجر إلى غروب الشَّمس . وعندما تكون المرأة حائضًا أو نفساء , فإنَّها لا تصوم حتَّى ينقطع عنها الدَّم , فتصوم عندئذ بقيَّة رمضان ثمَّ تقضي بعد ذلك الأيَّام التي أفطَرتْها . ويُرخَّص في بعض الحالات للمسافر أو للمريض أو للمرأة الحامل أو التي تُرضِع , أن تُفطر ثمَّ تقضي الأيَّام التي أفطَرتْها . أمَّا المريض الذي لا يُرجَى شفاءُه , فإنَّه يُعفَى من الصّيام , ويُعوِّض عن ذلك بإخراج طعامٍ عن كلِّ يَوم يُفطِره . يقول اللَّه تعالى : { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ 185 } (2- البقرة 185) . وكما تلاحظ سيِّدي الفاضل , فإنَّ الصِّيام يُراعي حالة الجسم , وليس الغرض منه أبدًا تعذيب المسلم ! بالعكس , فقد أثبتت عدَّة دراسات طبِّيَّة أنَّ صيام شهرٍ محدَّد كلّ سنة , يُريح المعدة والكلْيَتَيْن والجهاز البولي بصفة دوريَّة . وهو كذلك يُخلِّص البدن من الشُّحوم والفضلات المتراكمة داخله , ويُنظِّم معدَّل السُّكَّر في الدَّم , ويُخفِّف من حدَّة الغريزة الجنسيَّة . هذا على مستوَى البدن . أمَّا على مستوَى النَّفس , فإنَّ الصِّيام يُدرِّب على الصَّبر على الجوع , ويُوَفِّر للصَّائم فرصةً حقيقيَّة للإحساس بِمَا يُعاني منه الفقراء في كلِّ أنحاء العالَم , فتكون له حافزًا لِمَدِّ يَد المساعدة لهم . ثمَّ إنَّ كلَّ الصَّائمين يشعرون في شهر رمضان بدافع داخليٍّ قويّ للإقبال على مَزيد من العبادة ومَزيد من الإحسان إلى الغير . فترى الذي كان يتكاسلُ عن الصَّلاة مثلاً , ينشطُ في رمضان , ويخرج إلى المسجد , ويقرأ القرآن , ويُمسكُ لسانَه عن الكذب والشَّتائم والكلام البذيء . لذلك يُوصَف هذا الشَّهر عند المسلمين بشهر العبادة والرَّوْحانيَّات . ومن فضْل اللَّه تعالى على عباده أنَّه يُضاعِفُ أجر العمل الصَّالح في هذا الشَّهر أضعافًا عديدة , ويغفر فيه الذُّنوب , ويَعتقُ فيه الرِّقاب من النَّار . فقد جاء في صحيح ابن خزيمة عن سلمان الفارسي رضي اللَّه عنه , قال : خطَبَنا رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم في آخر يوم من شعبان , فقال : أيُّها النَّاس , قد أظَلَّكُم شهرٌ عظيم , شهرٌ مُبَارَك , شهرٌ فيه ليلةٌ خير من ألف شهر . جعلَ اللَّهُ صيامَه فريضةً , وقِيَام لَيْلِه تَطوُّعًا . مَن تَقرَّب فيه بخصْلَة من الخير كان كمَنْ أدَّى فريضةً فيما سِوَاه , ومَنْ أدَّى فيه فريضةً كان كمَنْ أدَّى سَبْعين فريضةً فيما سِوَاه . وهو شهرُ الصَّبْر , والصَّبرُ ثوابُه الجنَّة , وشهرُ الموَاساة , وشهرٌ يزدادُ فيه رزقُ المؤمن . مَنْ فطَّر فيه صائمًا كان مغفرةً لِذُنوبه وعِتْقَ رقبته من النَّار , وكان له مثْل أجْره من غير أن ينتقص من أجْره شيءٌ . قالُوا : ليس كلُّنا نَجد ما يفطر الصَّائم . فقال : يُعطي اللَّهُ هذا الثَّوابَ مَنْ فطَّر صائمًا على تمرة أو شربة ماء أو مذقة لبن (أي شربة لبن) . وهو شهرٌ أوَّلُه رَحْمة , وأوْسَطُه مغفرة , وآخرُه عِتْقٌ من النَّار . مَنْ خفَّفَ عن مملُوكه غفرَ اللَّهُ له وأعْتَقه من النَّار . واستكْثِرُوا فيه من أربع خِصال : خصلتَيْن تُرْضُون بهما ربَّكُم , وخصلتَيْن لا غِنى بكم عنهما . فأمَّا الخصْلتان اللَّتان تُرضُون بهما ربَّكُم : فشهادة أن لا إلَه إلاَّ اللَّه , وتَستغْفِرونه , وأمَّا اللَّتان لا غِنى بكم عنهما : فتسألون اللَّهَ الجنَّة وتعُوذُون به من النَّار . ومَنْ أشْبَعَ فيه صائمًا سَقاهُ اللَّهُ من حَوْضِي شربةً لا يظمأُ حتَّى يدخلَ الجنَّة . (صحيح ابن خزيمة – الجزء 3 – ص 191 – رقم الحديث 1887) . وفي هذا الشَّهر الكريم بَدأ نزولُ القرآن على النَّبيِّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم بواسطة الملَك جبريل عليه السَّلام . وفيه ليلةٌ مُباركةٌ تُسمَّى ليلة القدر , هي خيْرٌ في الفضْل والأجْر من ألف شهر . وعند انتهاء شهر رمضان ودخُول أوَّل يوم من شوَّال , يحتفلُ المسلمون بعيد الفطر , إعلانًا عن نهاية الصِّيام . هذه إذًا بإجمال فريضةُ الصِّيام . فإذا كان محمَّدٌ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم قد أتَى بها من عنده , فمَنْ أخبره بكلِّ فوائدها البدنيَّة والنَّفسيَّة والاجتماعيَّة , وقومُه لم يكونُوا يعرفون الصِّيام ولا يسمعون به ؟! |
الحجُّ , تلبية لنداء الرَّحمن ! الحجُّ فريضةٌ على كلِّ مسلم بالِغ , مرَّةً واحدةً في العُمُر , عندما يكون قادرًا على ذلك بدنيًّا وماليًّا . يقول اللَّه تعالى : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ 96 فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ 97 } (3- آل عمران 96-97) . ويدخُل وقتُ الحجِّ كلَّ سنة مع بداية شهر شوَّال , مباشرةً بعد انتهاء شهر الصِّيام . ولكنْ جَرَت العادةُ اليوم أن تبدأ وُفُودُ الحجَّاج في القُدوم إلى مكَّة أفواجًا أفواجًا من كلِّ بقاع الأرض , خلال شهر ذي القعدة الذي يَلي شوَّال . ومع دخول شهر ذي الحجَّة الذي يلي ذي القعدة , يكون آخر فوج قد وصل إليها . فيُؤدُّون جميعًا مناسك الحجِّ , وعند منتصف ذي الحجَّة يبدأون في أخذ طريق العودة إلى بلدانهم . وبما أنَّ أشهر الحجِّ قمريَّة , فإنَّ موسم الحجِّ يدور على مَرِّ السِّنين على كلِّ أشهر السَّنة الشَّمسيَّة , وبالتَّالي على كلِّ الفصول , مثل رمضان . أمَّا مناسكُ الحجّ , فهي عديدة ومفصَّلَة في كُتُب الفقه . ومِن بين المحطَّات الهامَّة للحاجِّ , هناك الإحرام , وهو نيَّة الدُّخول في أعمال الحجِّ . فيبدأ الحاجُّ عادةً بإزالة شعر الإبطين والعانة وتقليم الأظافر , ثمَّ يغتسل ويلبس ثياب الإحرام , وهي بالنِّسبة للرَّجل : منْشَفَتَان نَظِيفَتَان لَونُهما أبيض , واحدة يُغطِّي بها ما بين السُّرَّة إلى الرُّكبة , وواحدة لتغطية الظَّهر والصَّدر . أمَّا المرأة فتلبسُ ثيابها العاديَّة الشَّرعيَّة التي تستُر كلَّ بدنها ورأسها . ثمَّ يبدأ الحاجُّ في ترديد التَّلبية , وهي : لبَّيْكَ اللَّهُمَّ لبَّيْك , لبَّيْكَ لا شريكَ لكَ لبَّيْك , إنَّ الحمْدَ والنِّعْمة لكَ والملْك , لا شريكَ لك . وبدايةً مِن تلك اللَّحظة وحتَّى نهاية المناسك , يَمتنعُ الحاجُّ عن عدّة أشياء , منها الجماع والخصام . يقول اللَّه تعالى : { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ 197 } (2- البقرة 197) . ومِن بين أعمال الحجِّ : الطَّواف بالكعبة سبع مرَّات . ومنها أيضًا : السَّعْي بين الصَّفا والمرْوَة , مثلما فعلَت السَّيِّدة هاجر زوجة النَّبيِّ إبراهيم عليه السَّلام , عندما كانت تبحثُ عن الماء لطفلها الرَّضيع إسماعيل , ففجَّر اللَّهُ تعالى لهما بئر زمزم التي يشرب منها الحجَّاجُ اليوم . وفي اليوم التَّاسع من ذي الحِجَّة , يقفُ كلُّ الحجَّاج بمكانٍ يُسمَّى عَرَفَة , حيثُ يَدعُون اللَّهَ بما يشاءُون . وهو موقفٌ مَهيبٌ يُذَكِّر بوقُوف النَّاس في مكان واحد يوم القيامة , ينتظرُون أن يُعرَضُوا على العزيز الجبَّار ليُحاسِبَهم على أفعالهم في الدُّنيا . وفي اليوم العاشر من ذي الحِجَّة , وهو عيد الأضحَى لكلِّ المسلمين , يَذبحُ الحجَّاج , ويذبحُ مَن له القُدرة من المسلمين , خروفًا أو غير ذلك , إحياءً لذكرى الفِداء , عندما أراد اللَّهُ تعالى امتحانَ نبيِّه إبراهيم عليه السَّلام , فأمَره بذَبْح ابنه الوحيد إسماعيل . فلمَّا استجابَ الاثنان لأمْر اللَّه , وفي اللَّحظة التي مَرَّرَ فيها إبراهيمُ السِّكِّينَ على رَقبة إسماعيل , تَدخَّلَت العِنَايةُ الإلهيَّة لإيقاف هذا العَمَل , ونزلَ جبريلُ عليه السَّلام بكَبْش عظيم , فذبحهُ إبراهيمُ عِوَضًا عن ابنه . والغريبُ أنَّ بعضَ النَّاس مِن غير المسلمين يعتبرون ذبْحَ ملايين الخِرْفان بالسِّكِّين وفي وقت واحد : مجزرة فظيعة في حقِّ الحيوان ! سُبحان اللَّه ! ماذا إذًا عن ملايين الخرفان الأخرى وملايين البَقر التي تُذبحُ كلَّ يوم بطُرُق مُختلِفة في المسالِخ في كلِّ بقاع الأرض ؟! هل هذه أيضًا مجزرة في حَقِّها ؟! وماذا عن ملايين الأسماك التي تُصادُ كلَّ يوم بالشِِّباك ؟! وماذا عن بائعي اللُّحوم والأسماك وآكِليها , هل هم شُركاء في الجريمة ؟! نعم , هكذا تختلطُ الأمور على بعض النَّاس , فلا يَدْرُون ما يقولُون ! ثمَّ لِيَعلمْ هؤلاء أنَّ كلَّ مسلم , مباشرة بعد أن يذبح أضحيَته , يُرسلُ بجزء منها صدقةً للفقير , وجزء آخر هديَّة لجاره . أليس هذا وجهٌ آخر من التَّكافل الاجتماعي في الإسلام , وطريقة أخرى لِنَشْر التَّحابُب بين النَّاس ؟! وليَعْلَمُوا أيضًا أنَّ الإسلام يحثُّ بشدّة على الرِّفق بالحيوان , ويُحرِّمُ تعذيبه . فقد روى الإمام مسلم في صحيحه عن شداد بن أَوْس رضي اللَّه عنه , قال : ثِنْتان حَفظْتُهما عن رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , قال : إنَّ اللَّهَ كتبَ الإحسانَ على كلِّ شيء , فإذا قتَلْتُم فأحْسِنُوا القتْلَة , وإذا ذبحْتُم فأحْسِنُوا الذَّبْح , وليَحُدَّ أحدُكُم شفْرَتَه فلْيُرِحْ ذَبيحَتَه . (صحيح مسلم – الجزء 3 – ص 1548 – رقم الحديث 1955) . وروى الإمام مسلم أيضًا في صحيحه عن عبد اللَّه (بن عمر) رضي اللَّه عنه , أنَّ رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم قال : عُذِّبَت امرأةٌ في هرَّة سجَنَتْها حتَّى ماتتْ , فدخلتْ فيها النَّار , لا هي أطْعَمتْها وسَقَتْها إذْ هي حَبَسَتْها , ولا هي تركَتْها تأكلُ من خشاش الأرض . (صحيح مسلم – الجزء 4 – ص 2022 – رقم الحديث 2242) . وروى الإمام البخاري في صحيحه عن أبي هُرَيرة رضي اللَّه عنه , أنَّ النَّيَّ محمَّدًا صلَّى اللَّه عليه وسلَّم قال : بينما رجلٌ بطريقٍ اشتدَّ عليه العطش , فَوَجدَ بئرًا فنزلَ فيها فشَرب . ثمَّ خرجَ , فإذا كلبٌ يَلْهث , يأكلُ الثَّرَى من العطَش . فقالَ الرَّجُل : لقد بلغَ هذا الكلبُ من العطش مثل الذي كان بَلَغ منِّي . فنزلَ البئر , فملأ خُفَّه ماءً , فسقَى الكلْبَ , فشكَرَ اللَّهَ له , فغَفَر له . قالُوا : يا رسولَ اللَّه , وإنَّ لنا في البهائم لأجرًا ؟! فقال : في كلِّ ذاتِ كَبِدٍ رَطْبَة أجْرٌ . (الجامع الصّحيح المختصر – الجزء 2 – ص 870 – رقم الحديث 2334) . نعود لفريضة الحجِّ , ماذا يجني المسلمُ من أدائه لها ؟ أوَّل هذه الفوائد وأعظمها , ما رواه الإمام البخاري في صحيحه عن أبي هُرَيْرة رضي اللَّه عنه , قال : قال رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم : مَنْ حَجَّ هذا البيْتَ فلَمْ يَرْفُثْ ولم يَفْسُقْ , رجعَ كيَوْم وَلَدَتْهُ أُمُّه . (الجامع الصّحيح المختصر – الجزء 2 – ص 645 – رقم الحديث 1723) . وفي رواية للإمام أحمد : خرجَ من ذُنُوبه كَيَوْم وَلَدَتْهُ أُمُّه . (مسند الإمام أحمد بن حنبل – الجزء 2 – ص 484 – رقم الحديث 10279) . وأمَّا الفوائد الأخرى : فمنها تمتُّع الحاجِّ برؤية الكعبة الشَّريفة , والصَّلاة في المسجد الحرام بمكَّة , والصَّلاة في المسجد النَّبويِّ بالمدينة , وزيارة قبر النَّبيِّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , والشُّرب من ماء زمزم المبارَك . ومنها : تعرُّفه على مسلمين من مختلف البُلدان . ومنها : شعوره بعد الحجِّ بأنَّه يجبُ أن يكون أكثر حرصًا على فعل الخيرات واجْتِنَاب المحرَّمات , بعد أن غفر له اللَّه ذنوبَه الماضية . هذه إذًا بإيجاز فريضة الحجّ , الرُّكن الخامس من أركان الإسلام . --------------------------------- التالي بإذن الله تعالى : اجتنبوا الخمر والميسر , ولا تقربوا الزِّنا ! |
اجتنبوا الخمر والميسر , ولا تقربوا الزِّنا ! بعد أن تحدَّثْنا عن الأعمدة الخمسة التي يرتكز عليها الإسلام , تعالَيْ معي سيِّدتي الفاضلة نتعرَّف على الطَّريقة العجيبة التي يسلُكها هذا الدِّين في التَّعامل مع الآفات الخطيرة التي يمكن أن تُدمِّر المجتمع . يقول اللَّه تعالى في القرآن الكريم : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ 90 إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ 91 } (5- المائدة 90-91) . ويقول تعالى بخصوص الزِّنا : { وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً 32 } (17- الإسراء 32) . في هذه الآيات دليلٌ جديد على إعجاز القرآن ! فلَو طُلِبَ من بَشَر أن يُحذِّر النَّاس من شُرب الخمر أو لَعب القمار أو ممارسة الزِّنا , لَقال : لا تشربُوا الخمر , لا تلعبُوا القِمار , لا تَزْنُوا . لكنَّ اللَّه سبحانه وتعالى يعرفُ جيِّدًا طبيعةَ النَّفْس البشريَّة , لذلك سدَّ أمامها كُلَّ المسالك المؤدِّية لهذه الآفات , فجاء الأمرُ الإلهي : { فَاجْتَنِبُوهُ } , { وَلا تَقْرَبُوا } , بِمَعنى : لا تفعلُوا هذه الفواحش , وأيضًا : ابتعِدُوا عن كُلِّ ما يُمكنُ أن يُؤدِّي إلى الوقوع فيها . وقد بَيَّنَ لنا النَّبيُّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم كيفيَّة اجتناب الخمر , في أحاديثَ نختار منها ما رواه الحاكم في مُستدركه عن عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنه , أنَّ رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم قال : لعنَ اللَّهُ الخمْرَ , ولعنَ ساقِيها , وشاربَها , وعاصرَها , ومُعْتصرَها , وحاملَها , والمحمُولَة إليه , وبائعَها , ومُبْتاعَها , وآكِلَ ثَمَنها . (المستدرك على الصّحيحين – الجزء 2 – ص 37 – رقم الحديث 2235) . فهل يمكنُ لِمُسلمٍ صادِق أن يَقْرب الخمرَ بعد هذا التَّرهيب ؟! وعن الميْسِر (أي لعب القمار) , روى الحسن بن موسى الأشيب عن مُجاهد وعطاء , اثنان من صحابة النَّبيِّ الثِّقات , رضي اللَّه عنهما , أنَّهما قالاَ : في كلِّ شيء فيه قمارٌ فهو من الميْسِر , حتَّى لَعِب الصِّبْيَان بالجَوْز والكعَاب . (كتاب : جزء أشيب , للحسن بن موسى الأشيب البغدادي – ص 74 – رقم الحديث 51) . فهل يمكنُ لِمُسلمٍ صادِق بعد هذا التَّوضيح أن يَقربَ القِمار , ولو كان لعبًا بالورق يُغرَّمُ إثْرَه الخاسِرُ بدفْع ثمن قهوة للرَّابح ؟! وأمَّا عن الزِّنَا : وهو الاتِّصال الجنسي بين رجل وامرأة أو شابّ وشابَّة لا تربطهما رابطة زواج بعقد شرعي , فقد روى ابنُ حِبَّان في صحيحه عن أبي هُرَيْرة رضي اللَّه عنه , أنَّ رسولَ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم قال : العينان تَزْنِيَان , واللِّسانُ يَزْني , واليَدان تَزْنِيَان , والرِّجْلان تَزْنِيَان , ويُحَقِّقُ ذلكَ الفَرْجُ أو يُكَذِّبُه . (صحيح ابن حبّان – الجزء 10 – ص 267 – رقم الحديث 4419) . فهل يمكنُ لِمُسلمٍ صادِق بعد هذا التَّحذير أن يَقربَ الزِّنَا , ولو كان نظرًا إلى صُوَر عارِيَة وأفلام هابطة , أو تقبيلاً أو لَمْسًا ؟! قد تتساءلينَ سيِّدتي : لكن لماذا حرَّم الإسلام الخَمْر والقِمَار والزِّنَا ؟ أقول : لأنَّها كلُّها مُضِرَّةٌ جدًّا بالفَرْد وبالمجتمع . فشُرْبُ الخَمْر يُسَبِّبُ أمراضًا مُختلِفة في الجهاز الهضمي والجهاز البولي والجهاز العصبي , ويصلُ إلى حدِّ الإصابة بالسَّرطان . وعندما يكونُ الإنسانُ في حالة سُكْر , فإنَّه قد يتَفَوَّه بكلام أو يقومُ بأفعال تضُرُّ بنفسه وبغيره . وما حوادثُ السَّيَّارات والقتل والاغتصاب النَّاتجة عن شُرب الخَمْر , إلاَّ خير شاهد على ذلك . ولَعِبُ القِمار مَضْيَعة للمال , ومصدرٌ لانتشار العَداوة والبَغْضاء بين اللاَّعبين , بالإضافة إلى أنَّه قد يُعرِّض الخاسِر لأزمات عصبيَّة حادَّة . والزِّنَا يُعرِّضُ صاحِبَه للإصابة بأمراض خطيرة , مثل : الزُّهَري والسِّيدَا (أو الإيدز) . وهو بالإضافة إلى ذلك يُمثِّلُ أحد الأسباب الرَّئيسيَّة في تَفَكُّك الأُسرة بالنِّسبة للمتزوِّجين , والعُزوف عن الزَّواج بالنِّسبة للشَّباب . ثمَّ إنَّ هذه الآفات الثَّلاث تشتركُ في أنَّ الذي يقوم بها يُصبح عُرْضة للإدمان عليها , وبالتَّالي لا يستطيع الخلاص من حِبالها ولو كلَّفه ذلكَ ضيَاع مالِه وأُسْرته ! نعم , حتَّى الأشخاص الذين يقولُون بأنَّهم مُعتدِلُون , يَخرجُون عن اعتدالهم هذا عند أوَّل مُصيبة تعترضُهم في حياتهم , فيغرقُون في شرب الخمر أو لعب القمار أو الزِّنَا ! أليس من الأفضل إذًا سَدّ كُلّ الطُّرق التي تُوصلُ إلى الوقوع في هذه الآفات ؟ نعم , هذا هو الحلُّ الأفضل , وهذا ما فعلَه الإسلام . فماذا فعلَت الأنظمة الأخرى ؟ لا شيء تقريبًا ! فهي عندما تفطَّنت إلى الآثار المدمِّرة للخمر , لم تستطع إلاَّ إضافة جُملة في أسفل إعلاناتها : الإسرافُ في شُرب الخَمْر مُضِرٌّ بالصِّحَّة ! فهل غَيَّر هذا مِن الوَضع شيئًا ؟ لا , لم يُغَيِّر أيَّ شيء ! تسألين لماذا ؟ الإجابة تَجدينها سيِّدتي في الحديث الذي رواه ابنُ ماجه في سُنَنه عن عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنه , قال : قال رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم : كُلُّ مُسْكِر حرامٌ , وما أسْكَر كَثِيرُه فقَلِيلُه حرام . (سنن ابن ماجة – الجزء 2 – ص 1124 – رقم الحديث 3392) . نعم , حتَّى القليل من الخمر مُضِرّ ! وكذلك الحال بالنِّسبة للقليل من القمار والقليل من الزِّنا والقليل من الدُّخان والقليل من المخدِّرات ! كان إذًا على الحكومات والمنظَّمات الصِّحِّيَّة أن تُعدِّل جُملَتها الإعلانيَّة السَّابقة لِتُصبح : الخَمْرُ مُضِرٌّ بالصِّحَّة . وهنا لا بُدَّ من الإشارة إلى أنَّ الإسلام هو الدِّين الوحيد الذي أتَى منذ حوالي 1400 سنة بتشريع واضح وصارم بِخصُوص الخمر , خالفَ به كلَّ العقائد والقوانين الموجودة على وجه الأرض . بينما فعلَ النَّصارى عكس ذلك تَمامًا , حيثُ جعلُوا من الخمر جزءًا من شعائرهم الدِّينيَّة , يشربُونه مِن يَد القسِّ شخصيًّا , ويرمزون إليه بدَم المسيح , ويزعمُون أنَّ هذا الشَّراب يُطهِّرُهم ويُنَقِّيهم من الذُّنوب والخطايَا ! وواللَّهِ إنَّ المسيحَ عيسَى عليه السَّلام لَبريءٌ منهم ومن شعائرهم ومن عقيدتهم المحرَّفة ! وسينزلُ هذا الرَّسولُ الكريم في آخر الزَّمان على الأرض , فيُلغي كلَّ هذه الأباطيل , ولا يقبلُ غير الإسلام دينًا . ولا بُدَّ من الإشارة أيضًا إلى أنَّ اللَّه تعالى أعدَّ لِعباده الصَّالحين في الجنَّة خَمْرًا , غير أنَّها تختلفُ تمامًا عن خَمْر الدُّنيا . يقول اللَّه تعالى في القرآن الكريم متحدِّثًا عن أصحاب الجنَّة : { يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ 45 بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ 46 لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ 47 } (37- الصّافّات 45-47) . فهي إذًا خمرٌ لا تُذهِبُ العقلَ ولا تضُرُّ بالبدن . ومن ناحية القِمار : لم تَرَ الحكوماتُ فيه أيّة خُطورة , فأصبح كلُّ النَّاس يَحلُمون بالثَّروة , وكلُّهم يَلعبُون القمار بأصنافه المختلفة , حتَّى ولو كان ذلك على حساب مصروف البيت والأطفال ! وأمَّا عن الزِّنَا : فاعْتَبرت الأنظمةُ هذا الأمرَ حضارةً وتمدُّنًا , فكانت النَّتيجة أن غرقت مجتمعاتُها في مشاكلَ لها أوَّل وليس لها آخِر , من كثرة حالات الطَّلاق والاغتصاب والقتل , وهروب الشَّباب من مسؤوليَّة الزَّواج , وظهور جمعيَّات للشَّاذِّين جنسيًّا , وأصبح الرَّجلُ يتزوَّجُ الرَّجلَ علَنًا وبعقْد قانوني , والمرأةُ تتزوَّجُ المرأة , ولا غرابة أن نسمع في المستقبل عن زواجٍ بين الأخ وأخته وبين الابن وأمِّه ! فإلى أين نحنُ ذاهبون ؟! إلى أين نحنُ ذاهبون ؟! |
كلمة عن اللّواط اللّواطُ هو ممارسةُ الرَّجُلِ الجنسَ مع رجُلٍ آخر . وهو شُذُوذٌ يشمئزُّ منه الذَّوقُ السَّليم , ويَتَنَافَى مع الرُّجولة والشَّهامة والشَّرف . لِذَلِكَ , فهو سُبَّةٌ عند جميع شعوب العالَم , يُنعتُ بها مَن كان يَتَّصِفُ بالدَّناءة وسوء الخُلُق . لا غرابةَ إذًا أن يُحَرِّمَه الإسلامُ تحريمًا شديدًا , ويَتَوَعَّد مَنْ يَقوم به باستحقاق لَعْنَة اللَّه وغضبه وعذابه . فقد روى الإمام أحمد في مُسْنَده عن ابن عبَّاس رضي اللَّه عنه , أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم قال : لَعَنَ اللَّهُ مَنْ ذبحَ لِغَيْر اللَّه , ولَعَنَ اللَّهُ مَنْ غَيَّر تخُوم الأرض , ولَعَنَ اللَّهُ مَنْ كمه الأعمَى عن السَّبيل , ولَعَنَ اللَّهُ مَنْ سَبَّ والِدَه (وفي رواية : والدَيْه) , ولَعَنَ اللَّهُ مَنْ تَوَلَّى غَيْر مَواليه , ولَعَنَ اللَّهُ مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْم لُوط , ولَعَنَ اللَّهُ مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْم لُوط , ولَعَنَ اللَّهُ مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْم لُوط (ثلاث مرّات) . (مسند الإمام أحمد بن حنبل – الجزء 1 – ص 309 – رقم الحديث 2817) . وتَعُود تَسْمِيَةُ اللّواط إلى قَوْم النَّبيِّ لُوط عليه السَّلام , الذين تَفَشَّى فيهم هذا الفعْل القبيح , فأخَذَهُم اللَّه بعذاب أليم في الدُّنيا قَبْلَ الآخرة . يقول اللَّه تعالى في القرآن الكريم : { كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ 160 إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ 161 إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ 162 فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ 163 وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ 164 أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ 165 وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ 166 قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ 167 قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ 168 رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ 169 فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ 170 إِلاَّ عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ 171 ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ 172 وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ 173 إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ 174 وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ 175 } (26- الشّعراء 160-175) . ولا تغترَّ يا ابني الكريم بِمَا يَسُوقه الذين يُمارسُون اللّواط مِن مُبَرِّرات , مِن أنَّ الميَلان إلى نفس الجنس هو شيءٌ غريزي في الإنسان , وأنَّه يَتفاوتُ مِن شخص لآخر , وبالتَّالي فإنَّ مَيلان الرَّجُل إلى رجل آخر ورغبته في الزَّواج منه هو شيء طبيعي , تَمامًا مثلما يُحبُّ الرَّجُلُ امرأةً ثمَّ يتزوَّجها ! فحتَّى لو سَلَّمْنَا بأنَّ هذه الغريزة موجودةٌ فعلاً في الإنسان , فَهل يَعني هذا أن نَنْقاد لها ؟! وماذا إذًا عن الذي يجدُ في نفسه مَيْلاً شديدًا لِمُمارسة الجنس مع أخته أو أمِّه , أو لِتَذَوُّق المخدّرات ؟ هل نسمحُ له بالانقياد لِشَهواته ؟! طبعًا لا نسمحُ له بذلك , لأنَّنا لو فعَلْنا لَما بَقيَ هناك أسرة ولا مجتمع ولا مبادئ ولا قِيَم , ولَأَصبح العالَمُ يعيشُ في فَوضَى لا حدود لها . إنَّ الغرائز البَشريَّة هي حقيقةٌ لا يُمكنُ تَجَاهُلها , ولكن عِوَضَ الانقياد لها والوقوع في الشُّذُوذ , يجبُ على العكس تهذيبها والتَّحكُّم فيها من ناحية , والضَّرب على أيدي الشَّاذِّين من ناحية أخرى , حتَّى لا يغرقَ الجميع . ويومَ اعترفَت المجتمعاتُ الغربيَّة بالشُّذوذ الجنسي , أنَّه حالةٌ طبيعيَّة في المجتمع , وسَمحتْ للشَّاذِّينَ بالدِّعاية لِشُذُوذهم في وسائل الإعلام , أصبحَ هؤلاء يُطالبُون بالزَّواج في الكنيسة , وبتَبَنِّي أطفالٍ لِتَربِيَتهم , وبالتَّمتُّع بكلِّ الحقوق الاجتماعيَّة التي يتمتَّع بها المتزوِّجون . سُبحان اللَّه ! هل ترضَى سيِّدي أن تتزوَّج من امرأة وتُنجب لك أطفالاً , ثمَّ تُعطيهم لهؤلاء الشَّاذِّين لِتَربِيَتهم أو حتَّى لِمُجرَّد حراسَتهم لبضع ساعات في بيتك حتَّى تعود ؟! طبعًا لا ترضَى , لأنَّك لا تَأمَنُ أبدًا على أطفالكَ أن يعتدي عليهم هؤلاء .. جنسيًّا ! نعم , إنَّهم شاذُّون فعلاً عن الفطرة السَّليمة وعن الذَّوق السَّليم , وإنَّ الذي نراه اليوم من انتشارٍ كبير لِمَرض السِّيدا (أو الإيدز) ومن ظُهور لِأمراض أخرى جديدة لم تَظهرْ في الماضي , مثل جنون البقر , لَهُو عقابٌ من اللَّه تعالى لَنَا بسبب سماحنا بهذا الشُّذُوذ ! فَمَتَى سنَعْقِلْ ؟! مَتَى سنَعْتَبِرْ ؟! روى ابنُ ماجه في سُنَنه عن عبد اللَّه بن عُمَر رضي اللَّه عنه , قال : أقبلَ علينا رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , فقال : يا مَعْشَر المهاجرين , خَمْسٌ إذا ابْتُلِيتُم بهنَّ , وأعوذُ باللَّه أن تُدْركُوهُنَّ : لَمْ تَظْهَر الفاحشَةُ في قَوْمٍ قَطُّ حتَّى يُعْلِنُوا بها , إلاَّ فَشَا فيهم الطَّاعُون والأوجاعُ التي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ في أسْلافِهم الذين مَضَوْا , ولم ينْقصُوا المكْيَالَ والميزان إلاَّ أُخِذُوا بالسِّنين وشِدَّة المئُونَة وجُور السُّلْطان عليهم , ولَمْ يَمْنعُوا زكاةَ أموالهم إلاَّ مُنِعُوا القطْرَ (أي المطَر) من السَّماء , ولولاَ البَهائم لَمْ يُمطَرُوا , ولَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّه وعَهْدَ رسوله إلاَّ سَلَّطَ اللَّهُ عليهم عَدُوًّا من غَيْرهم فأخَذُوا بعضَ ما في أيْديهم , وما لَمْ تَحْكُم أئِمَّتُهم بكتاب اللَّه ويَتَخَيَّرُوا ممَّا أنزلَ اللَّه , إلاَّ جعلَ اللَّهُ بأسَهُم بينهُم . (سنن ابن ماجة – الجزء 2 – ص 1332- رقم الحديث 4019) . واللَّهِ إنَّ هذا الحديث لَهُو مُعجزةٌ من المعجزات التي أيَّد اللَّهُ بها نبيَّه محمَّدًا صلَّى اللَّه عليه وسلَّم ! فقد شاعت الفاحشةُ فعْلاً في عصرنا الحالي , وأصبح النَّاسُ يُمارسُون الزِّنا واللّواط في كلِّ مكان وكأنَّه أمرٌ عادي , ويتبجَّحون بذلك عَلَنًا ! فكانت النَّتيجة أن ظهر مرض السِّيدَا (أو الإيدز) , وهو ما يُسمَّى بطاعُون العصر الذي لَمْ يَظْهَر في الأُمَم السَّابقة , وفَشَا فعْلاً في المجتمعات التي شاعت فيها الفاحشة . والسِّيدَا هو مرضٌ يُصيبُ جهاز المَناعة لَدَى الإنسان , ويتسبَّبُ فيه فيروس (Vérus) يُهاجم كُرَيَّات الدَّم البَيْضاء التي مُهمَّتُها التَّصدِّي للجراثيم والميكروبات , فيُدَمِّرها واحدةً بعد الأخرى , ويَفقدُ الجسمُ بذلك أهمَّ وسائله الدِّفاعيَّة , فيُصبحُ بعد ذلك عاجزًا عن مقاومة الأمراض التي كان يستطيعُ التَّغلُّب عليها في الظُّروف العاديَّة , وتتدهور صحَّةُ المريض شيئًا فشيئًا حتَّى يموت . وقد كان عدد المصابين بالسِّيدَا لا يتجاوز العشرات عند ظهوره سنة 1979 م , ثمَّ أصبح سنة 2000 م يُعَدُّ بعشرات الملايين ! فهو ينتشرُ بسُرعة مَهُولة , خاصَّة في صفوف الذين يُمارسُون اللّواط . وتنتقل العدوى من شخص مُصاب إلى شخص سليم إذا وقع بينهما اتِّصالٌ جنسيّ أو نقل دَم . ويُمكنُ أن تنتقل العدوى من الأمِّ المصابة إلى جنينها في فترة الحمل . لهذا نسمع اليوم بنساء وأطفال مُصابين بالسِّيدَا , بالإضافة إلى الرِّجال . هذه إذًا نتائج الشُّذوذ الجنسي , وهذا جزاء مَنْ يُعلنُ الحرْبَ على اللَّه ! وطالَما لم يَفهم الإنسانُ أنَّ مرض السِّيدَا هو عقابٌ من عند اللَّه , فلنْ تنفعه بُحُوثُه ولا تظاهراته ولا احتجاجاته للتَّصدِّي لهذا المرض . نعم , إنَّه عقابٌ إلهي , ولَنْ يرفع اللَّهُ عقابه إلاَّ إذا تحرَّكت المجتمعات لِمُحاربة اللّواط وكلّ أنواع الشُّذوذ الجنسي , وللتَّشنيع علَنًا بِالشَّاذِّين ! اللَّهُمَّ هل بَلَّغْت ؟! اللَّهُمَّ فاشْهَدْ . |
كلمة عن جماع الزّوجة في فترة الحيض يقول اللَّه تعالى في القرآن الكريم : { وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ 222 } (2- البقرة 222) . ينهَى اللَّه تعالى في هذه الآية الكريمة نَهيًا صريحًا عن جِماع الزَّوج لِزَوجته خلال فترة حَيْضها . وقد بيَّن النَّبيُّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم المقصودَ باعتزال النِّساء وعدم قُربهنَّ في هذه الفترة , بأنَّه عدم جِمَاعهنَّ في الفَرْج . أمَّا باقي الأمور المباحة في غير فترة الحيض , مِن تَقْبيلٍ أو عِناق أو النَّوم مع الزَّوجة تحت غطاء واحد , أو الأكل والشُّرب معها , فهي كلّها مُباحة أيضًا في فترة الحيض . وقد روى أبو جعفر الطّحاوي في كتابه شرح معاني الآثار عن أبي قلابة رضي اللَّه عنه , أنَّ رجلا سأل عائشة (زوجة النَّبيّ) رضي اللَّه عنها : ما يَحِلُّ لِلرَّجُل من امرأته إذا كانت حائضًا ؟ فقالت : كلّ شيء إلاَّ فَرْجها . (شرح معاني الآثار – الجزء 3 – ص 38) . ومِن حُسْن أدَب النَّبيِّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم مع زوجاته ومراعاته لحالتهنَّ النَّفسيَّة في هذه الفترة , ما رواه أبو داود في سُننه عن عائشة رضي اللَّه عنها , قالت : كنتُ أتعرَّق العظم (أي أتناولُ عِرْق اللَّحم بفَمي) وأنا حائض , فأُعْطيه النَّبيَّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , فيضَعُ فمَهُ في الموْضِع الذي فيه وَضعْتُه , وأشربُ الشَّرابَ (أي الماء) فأناولُه , فيضَعُ فمَهُ في الموْضِع الذي كنتُ أشْربُ منه ! (سنن أبي داود – الجزء 1 – ص 68 – رقم الحديث 259) . نعم , هكذا يتعامل الإسلام مع المرأة الحائض . بينما لو تأمَّلنا مثلاً في التَّوراة المحرَّفة الموجودة اليوم عند اليهود , لَوجدنا فيها نقيض ذلك تمامًا ! فقد جاء في سفر اللاَّويِّين : وإذا كانت امرأةٌ لها سَيْلٌ وكان سَيْلُها دَمًا في لَحمها , فسَبعة أيَّام تكونُ في طَمْثِها . وكلُّ مَنْ مَسَّها يكونُ نَجِسًا إلى المساء . وكلُّ ما تَضطجعُ عليه في طَمْثِها يكونُ نَجِسًا , وكلُّ ما تجلسُ عليه يكونُ نَجِسًا . وكلُّ مَنْ مَسَّ فِراشَها يَغسلُ ثيابَه ويَستحِمُّ بِماء , ويكونُ نَجِسًا إلى المساء . وكلُّ مَنْ مَسَّ مَتاعًا تجلسُ عليه يغسلُ ثيابَه ويَستحِمُّ بِماء ويكونُ نَجِسًا إلى المساء . (سفر اللاَّويِّين – الإصحاح الخامس عشر 19 – 22) . طبعًا , لا مجال للمقارنة بين تشريع الإسلام وتشريع التَّوراة المحرَّفة ! نعود لِمسألة الحيض لِنَرى رأي العِلْم الحديث فيها : أثبتَت الدِّراساتُ الطِّبِّيَّة أنَّ هناك أضرارًا كبيرةً يُمكنُ أن تُصيبَ المرأة والرَّجل نتيجة الجِمَاع أثناء فَتْرة الحيض . أمَّا المرأة : فإنَّها عندما تكون حائضًا تنقصُ عندها المناعة ضدَّ الأمراض , وبالتَّالي فإنَّ الجِمَاع في هذه الفترة قد يُؤدِّي إلى وصول بعض الجراثيم إلى رَحِمها , فيُسبِّب له الْتِهَابات , وربَّما بعض الأمراض الخطيرة . وأمَّا الرَّجل : فهو معَرَّضٌ أيضًا أن تنتقل إليه الجراثيم عن طريق الذَّكَر , مِمَّا قد يُؤدِّي إلى حدوث الْتِهابات شديدة في الخصْيَتَيْن والبروستات . هذا بالإضافة إلى أنَّ الجماع في فترة الحيض يُنافي الذَّوق السَّليم , وتَنفر منه الطِّباعُ النَّقيَّة ! لكن , بعد أن تطهُر المرأةُ من دم الحيض , فيُمكنُ عندئذ لها ولزوجها أن يُمارسَا معًا عمليَّة الجماع مثلما يطيبُ لهما , ويتمتَّعا ببعضهما كما أرادا , شرط أن يتجنَّبَا الدُّبُر . وهذا هو المقصود بقوله تعالى : { فأتُوهُنَّ مِنْ حيثُ أمَركُم اللَّه } , أي في الفَرْج . وقد روى ابن حبَّان في صحيحه عن ابن عبَّاس رضي اللَّه عنه , أنَّ رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم قالَ : لا يَنْظُرُ اللَّهُ إلى رجُلٍ أتَى امرأتَهُ في دُبُرها . (صحيح ابن حبّان – الجزء 9 – ص 517 – رقم الحديث 4204) . وروى أبو داود في سُنَنه عن أبي هُرَيْرة رضي اللَّه عنه , قال : قال رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم : مَلْعُونٌ مَنْ أتَى امرأتَهُ في دُبُرها . (سنن أبي داود – الجزء 2 – ص 249 – رقم الحديث 2162) . وروى الإمام أحمد في مُسنده عن ابن عبَّاس رضي اللَّه عنه , قال : أُنزِلَتْ هذه الآية : { نساؤُكُم حَرْثٌ لكُم ... } , في أُناس من الأنصار أَتَوا النَّبيَّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم فسأَلُوه , فقال : ائْتِها على كلِّ حال , إذا كانَ في الفَرْج . (مسند الإمام أحمد بن حنبل – الجزء 1 – ص 268 – رقم الحديث 2414) . قال المفسِّرون : أي قائمةً وقاعدة ومُقبِلَة ومُدْبِرة ومُستلْقِيَة , ما دام ذلك في الفَرْج . |
هكذا يتعامل الإسلام مع الغرائز لقد أخطأ دُعاةُ الحرِّيَّة الجنسيَّة خطأ جسيمًا عندما أشاعُوا أنَّ إطلاق العنان للغرائز يَقي صاحبَها من الكبت والحرمان والعُقَد النَّفسيَّة . وما نراه اليوم من مشاكل لا حصر لها في المجتمعات التي تحرَّرت من المبادئ والقِيَم الأخلاقيَّة , لَهُو خير شاهد على فداحة خطئهم , حتَّى أنَّ أحد الصّحفيِّين الأمريكيِّين أطلق صفَّارة الإنذار منذ أكثر من ثلاثين سنة قائلا : إنَّ خطر الطَّاقة الجنسيَّة قد يكون في نهاية الأمر أكبر من خطر الطَّاقة الذّرِّيَّة ! ولو تأمَّلنا حالَ دُعاة الحرِّيَّة الجنسيَّة , لَوَجدناهم أكثر النَّاس شذوذًا , وأكثرهم تفكيرًا في الجنس ! بل إنَّهم لا يَشبعُون منه أبدًا , فتراهم يلهثُون وراء كلّ فتاة كالذِّئاب الجائعة ! وقد كان يُظَنُّ أنَّ العُقَد النَّفسيَّة لا تنشأ إلاَّ عن الحرمان , فإذا بِنَا نراها اليوم تُصيبُ أُناسًا أطلَقُوا العنان لِغَرائزهم الجنسيَّة , فحوَّلَتْهم إلى وحوش آدميَّة , يَغتصِبُون بناتهم , وأطفال أقاربهم وزوجات جيرانهم , إرضاءً لِنَزواتهم ! وصدق اللَّه العظيم حين يقول : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ 179 } (7- الأعراف 179) . وأخطأ النَّصارى , في الطَّرف المقابل , عندما ابتدعُوا الرَّهبانيَّة (وهي تحريم الزَّواج على مَن ينقطعُ للتَّعبُّد في الكنيسة , ولَم يُشَرِّعْها لهم نبيُّهم عيسى عليه السَّلام) , لأنَّ فيها فعلاً كبتٌ حقيقي للغرائز الفطريَّة لَدَى الرَّجُل والمرأة . فكانت النَّتيجة ما نَسْمعُه من حين لآخر من وسائل الإعلام الغربيَّة , عن فضائح أخلاقيَّة تحدثُ داخل الكنائس , خاصَّة منها الاعتداءات الجنسيَّة على الأطفال , وهو أمرٌ لَم يَعُدْ يَخْفَى على أحد ! وأكبر هذه الفضائح ظهرت في أمريكا منذ بضع سنوات , وتورَّط فيها مئات القساوسة . والغريب أنَّ بعض رجال الكنيسة اليوم , في أمريكا وغيرها , أصبحُوا لا يتحرَّجون من التَّصريح بأنَّ لهم مُيولات جنسيَّة للرِّجال ! بل وأَدْهَى من ذلك , صرَّحُوا أيضًا أنَّ الشَّاذِّين جنسيًّا لهم الحقُّ في الزَّواج في الكنيسة , الأمر الذي سَبَّب إحراجًا كبيرًا للبابا في الفاتيكان ! بل ووصل الأمر في ولاية نيو هامبشاير بأمريكا إلى انتخاب أسقف في الكنيسة البروتستانتيَّة شاذٍّ جنسيًّا , اسمه جين روبنسون , يتعاطى اللّواط ! لكن لو نظرنَا في تشريعات الإسلام , لوجدنا أنّها لَمْ تأتِ لِكَبْت غرائز الإنسان الفطريَّة ولا لإطلاقها , وإنَّما لِتَوجيهها التَّوجيه الصَّحيح , لِتُصَرَّف في الحدود التي وضَعها لها الخالِق , بحيثُ لا تَضُرُّ بصاحبها ولا بِمَنْ حولَه . فلو أخذنا مثلاً غريزة الأكل والشُّرب : المعروفُ أنَّ الإنسان إذا كَبَتَها وامتنعَ عن إشباعها فإنَّه يموتُ لا محالة , وإذا أطلق لها العنان فإنَّه يُصابُ بالتُّخمة أو السِّمنة أو غير ذلك . لهذا , نظَّم الإسلامُ هذه الغريزة حسب القاعدة التَّالية : يقول اللَّه تعالى : { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ 31 } (7- الأعراف 31) . وروى التّرمذي في سُنَنه عن المقدام بن معدي كرب رضي اللَّه عنه , أنَّ رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم قال : ما مَلَأ آدَمِيٌّ وِعاءً شَرًّا من بَطْن . بِحَسبِ ابن آدمَ أُكلاتٍ يُقِمْنَ صُلْبَه . فإن كان لا مَحالَة , فَثُلُثٌ لِطَعامه , وثُلُثٌ لِشَرابه , وثُلُثٌ لِنَفَسِه . (الجامع الصّحيح سنن التّرمذي – الجزء 4 – ص 590 – رقم الحديث 2380) . ولو أخذنا غريزة الجِنْس : نجدُ أنّ الإسلامَ نظَّمها بحَيْثُ لا تُصَرَّف إلاَّ في إطار الزَّواج بعَقْدٍ شَرْعي بين رجُلٍ وامرأة . وكُلُّ تَصْريفٍ لهذه الغريزة خارج إطار الزَّواج , سواءً بالقيام بالعمليَّة الجنسيَّة أو بالنَّظر إلى عورات النَّاس أو إلى الصُّوَر والأفلام الخليعة , يُعْتَبَرُ زِنَا , وهو حرامٌ كمَا ذَكَرْنا سابقًا . وقد ذكَرْنا أيضًا المضارَّ الكبيرة المنجَرَّة عن الزِّنا , سواء على الفرد أو على المجتمع . وحتَّى في إطار الزَّواج , نظَّم الإسلامُ هذه الغريزة بحيثُ لا تَضرُّ بالزَّوجين ولا بالمجتمع . فحرَّم من ناحية على الزَّوج جِماع زوجته في دُبُرها أو في فترة حيضها , لِمَا في ذلك من ضَرر عليهما كما ذكَرْنا , وحرَّم من ناحية أخرى على الزَّوجين أن يَتعرَّيَا أو يَقُوما بالعمليَّة الجنسيَّة أمام أيّ إنسان آخر , ولو كان طفلهُما الصَّغير ! وفي هذا تقديسٌ للرَّابطة الزَّوجيَّة , وحفاظ على المجتمع من الانحلال . وخالفَ الإسلامُ النَّصارى في رهبانيَّتهم , فنهى عن الامتناع عن الزَّواج بدعوى التَّقرُّب إلى اللَّه ! فقد روى الإمام البخاري في صحيحه عن أنَس بن مالك رضي اللَّه عنه , قال : جاء ثلاثة رَهطٍ إلى بُيوت أزواج النَّبيّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم يَسْألُون عن عبادة النَّبيِّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم . فلَمَّا أُخْبِرُوا , كأنَّهم تَقالُّوها , فقالُوا : وأينَ نحنُ مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , قد غَفَر اللَّهُ له ما تقدَّم من ذَنْبِه وما تأخَّر (أي إذا كانت هذه عبادةُ النَّبيّ , وهو الذي غَفر له اللَّهُ ما تقدَّم من ذَنْبِه وما تأخَّر , فيجبُ علينا نحنُ أن نتعبَّد أكثر من ذلك) . فقال أحدُهم : أمَّا أنا , فأُصَلِّي اللَّيْلَ أبَدًا (أي أقومُ اللَّيلَ كلَّه أصلِّي , وأستمرُّ على هذه الحال طول حياتي) , وقالَ آخَر : وأنا أصومُ الدَّهرَ ولا أُفْطِر (أي أصوم كلَّ يوم) , وقال آخَر : وأنا أعْتَزلُ النِّساءَ فلا أتَزَوَّجُ أبَدًا . فجاء رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , فقال : أنْتُم الذينَ قُلْتُم كَذَا وكَذَا ؟ أمَا وَاللَّهِ إنِّي لَأَخْشَاكُم لِلَّه وأتْقَاكُم له , لَكِنِّي أصُومُ وأفْطر , وأصَلِّي وأرْقُد , وأتَزوَّجُ النِّسَاء , فَمَنْ رَغِبَ عن سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنّي . (الجامع الصّحيح المختصر – الجزء 5 – ص 1949 – رقم الحديث 4776) . قد تقول يا ابني الكريم : ولكنَّ الشَّابَّ المسلم والفتاة المسلمة يظَلاَّن إذًا في حالة كَبْت جِنْسيّ طوال فترة عُزُوبَتهما ؟! أقول : إنَّ الكَبْت الحقيقي هو في عدم الزَّواج مُطْلَقًا , أو في التَّفكير الدَّائم في الجنس دون القُدرة على مُمارسته . والشَّابُّ المسلم والفتاة المسلمة لَيْسَا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء . فهما لا يَشعران بالكَبت والحرمان , طالَما يَعلَمان أنَّهما سيَتمتَّعان بالجنس بعد الزَّواج . وفي انتظار ذلك , فهما يَصْرفَان عن ذِهْنهما الأفكار الجنسيَّة إرضاءً لِلَّه تعالى وطَمَعًا في ثوابه , وهذا كافٍ وحده لكي يُمِدّهما بقوَّة إيمانيَّة غريبة للصَّبر على الشَّهوات . وبصفة عامَّة , فإنَّ المسلمَ يَتَرَبَّى منذ الصِّغَر على أن يُحِبَّ اللَّهَ تعالى أكثر من كلِّ شيء , فتُصبح بذلك تصرُّفاتُه وأفكاره , وحتَّى مشاعره وأحلامه وغرائزه , تعملُ راضيةً في الحدود التي رسَمَها اللَّه . ونحنُ نعلَمُ أنَّ الإنسان يستطيعُ أن يتحمَّل أيَّ شيء في سبيل إرضاء مَن يُحبّ , فما بالُك إذا كان هذا الحبيبُ هو .. اللَّهُ جلَّ جلالُه ! ثمَّ إنَّ التَّجارب الواقعيَّة أثبتتْ أنَّ عدم التَّفكير في الجنس يُخفِّف من حدَّة هذه الغريزة , بينما التَّفكير الدَّائم فيه لا يزيدُها إلاَّ اشتعالاً . وقد رأينا أنَّ دُعاة الحرِّيَّة الجنسيَّة هم فعلاً أكثر النَّاس جَرْيًا وراء الجنس , كأنَّهم يعيشون في كَبْت دائم ! حالُهم مثل حال مَن هو دائم التَّفكير في المال أو المنصب أو الشُّهرة , تجدُه يَلْهثُ طول حياته وراء هذه الشَّهوات , وكلَّما ازداد مالاً أو شُهرة كلَّما أراد المزيد . وعلى كلِّ حال , فقد عملَ الإسلامُ من جانب آخر على التَّيسير على الشَّباب , فَحَثَّ الأولياءَ على تسهيل أسباب الزَّواج لأبنائهم وعدم تأخيره , إذا تَوفَّرت لهم القُدرة على ذلك . أمَّا إذا لَم تَتوفَّر الأسباب , فيَنصحُ الإسلامُ الشَّبابَ بالصَّوم للتَّخفيف من حِدَّة الغريزة الجنسيَّة . فقد روى الإمام مسلم في صحيحه عن عبد اللَّه (بن مسعود) رضي اللَّه عنه , أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم قال : يا مَعْشَر الشَّباب , مَن اسْتَطاع منْكُم الباءَة فلْيَتَزَوَّجْ , فإنَّه أغَضُّ لِلْبَصَر وأحْصَنُ لِلْفَرْج , ومَن لَم يَسْتَطِعْ فَعَلَيْه بالصَّوم , فإنَّه له وجَاء (أي وقاية) . (صحيح مسلم – الجزء 2 – ص 1019 – رقم الحديث 1400) . هذه إذًا طريقة الإسلام في تهذيب الغرائز البَشريَّة . وإذا كان الكثير من النَّاس يأكلُون ويَشربون وينامون ويُمارسون الجنس كالبهائم , فإنَّ المسلم يفعل كلَّ هذه الأشياء , ولكن وهو يذكرُ اللَّه , وفي الحدود التي رسمها له اللَّه ! فلا تدخلُ لُقمةُ طعام أو شربة ماء إلى جوفه إلاَّ بعد أن يُسمِّي عليها اسمَ اللَّه , ولا ينامُ حتَّى يذكر اللَّه ويَتَعوَّذ من الشَّيطان , ولا يُجامع زوجته إلاَّ بعد أن يَدعُو بالدُّعاء الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه عن ابن عبَّاس رضي اللَّه عنه , أنَّ رسولَ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم قال : لَو أنَّ أحَدَهُم إذا أرادَ أن يأتي أهْلَه (أي يُجامع زوجَتَه) قال : باسْمِ اللَّه , اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطانَ وجَنِّب الشَّيْطانَ ما رزَقْتَنَا , فإنَّه إن يقدر بَيْنَهُما وَلَدٌ في ذلكَ لَمْ يَضُرَّهُ شيطانٌ أبدًا . (صحيح مسلم – الجزء 2 – ص 1058 – رقم الحديث 1434) . فهل هناك أسمى وأشرف من هذه الطَّريقة ؟! أم أنَّ الأفضل أن نأكل ونشرب ونمارس الجنس كالبهائم ؟! يقول اللَّه تعالى : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ 12 } (47 - محمّد 12) . |
كلمة عن حجاب المرأة المسلمة يقول اللَّه تعالى في القرآن الكريم : { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ 30 وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ 31 } (24- النّور 30-31) . كانت المرأة المسلمة في السَّنوات الأولى من بعثة النَّبيّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم ترتدي جلبابًا يسترُ كامل جسدها , وتضع فوق رأسها خمارًا تُغطِّي به شعرَها وتسدُله وراء ظهرها , فيبدُو بذلك عنقها وبعض صدرها . وكانت هذه أيضًا عادة المشركات من نساء قريش . فلمَّا نزل أمْرُ اللَّه تعالى : { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ } , أصبحت المرأة المسلِمَة مأمورة بتغطية رأسها وكلّ شعرها وعُنقها وفتحة الصَّدر وما يقابلها من الظَّهر , بالإضافة إلى تغطية باقي جسمها إلى القدمين . وهذا الأمر ليس على سبيل الاستحباب , وإنَّما أَمْر وُجوب , تَمامًا مثل الأمر بإقامة الصَّلوات الخمس وصيام شهر رمضان . يقول اللَّه تعالى في آية أخرى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا 59 } (33- الأحزاب 59) . فالمقصود بقوله تعالى : { يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ من جَلابيبهِنَّ } , أي يُدنين بالطَّرف العُلوي من جلبابهنَّ أو ثوبهنَّ الفضفاض , على رؤوسهنَّ وعلى وُجوههنَّ . لهذا , قال فريقٌ من عُلَماء المسلمين بأنَّ الفتاة المسلمة إذا بَلَغت المحيض , وجبَ عليها تغطية كامل جسمها , بِما فيه الوجه والكفَّيْن . وهذا الرَّأيُ معمولٌ به خاصَّةً في بلدان الخليج , حيثُ تُغطِّي المرأةُ وجهها بنِقاب , ويديها بقُفَّازَيْن . وقال آخرون بأنَّه لا مانع من كشف الوجه والكفَّيْن , وهذا الرَّأيُ معمولٌ به خاصَّةً في بلدان المغرب العربي . طبعًا , هذا اللِّباس ترتديه الفتاة الشَّابَّة أو المرأة عندما تكُون خارج بيتها . أمَّا عندما تكون فقط مع مَحارمها , مثل والديها وأخواتها وأعمامها وأخوالها , أو مع نساء مسلمات , فيمكنها أن تنزع الحجاب . وإذا كانت متزوِّجة , فلها الحقُّ أن تلبس ما تشاء وتكشف عمَّا تشاء أمام زوجها . ويُشتَرطُ في لباس المرأة المسلمة أن يكون فضفاضًا : أي لا يُحدِّدُ أجزاءَ البَدن , وغير شفَّاف : أي لا يُظهر ما تحته . وهذا الأمر يتحقَّق أفضل ما يُمكن بلُبس حجاب يُغطِّي الرَّأس والشَّعر والعُنق والصَّدر , مع جلباب واسع ينسدلُ على الجسم إلى القدمين . لكن للأسف , نجدُ اليوم بعض الفتيات المسلمات يَحرصْنَ على تغطية الرَّأس بالحجاب , ويُهمِلْن في المقابل الالتزام بالثَّوب الفضفاض ! فترى الواحدة منهنَّ تخرج بسرْوَال وقميص , تَمامًا مثل الشَّباب , والأخرى تلبس فستانًا ضيِّقًا يصف كلَّ بدنها , وكأنَّ الواجب فقط هو تغطية الرَّأس بحجاب ! وهؤلاء لا يدرين أنَّهنَّ بهذا يُسِئن كثيرًا إلى دينهنَّ . شرطٌ آخر يجبُ على المرأة المسلمة أن تلتزم به : يقول تعالى في الآية 31 من سورة النُّور التي ذكرناها في بداية هذا العنصر : { ولا يُبْدِينَ زينَتَهُنَّ إلاَّ ما ظَهَر منها } . قال العُلماء : أي لا يُبدين إلاَّ اللِّباس الشَّرعي , وربَّما أيضا : الخاتم والسِّوار في اليد . وعلى هذا , فإنَّ ما نراه اليوم من خروج بعض المحجَّبات بِمَساحيق على الوجه , هو حرام . فهذه الزِّينة لا تجوز إلاَّ أمام الزَّوج أو المحارم . قد تقولين يا ابنتي الكريمة : ولكنَّ هذا تضييقٌ على المرأة المسلمة إلى حدِّ الاختناق , وإهانةٌ لها , وحَدٌّ من حرِّيَّتها ! أقول : لو طرحتِ هذا السُّؤال على أيِّ فتاة تحجَّبتْ بملْء إرادتها في أيِّ مكان من العالَم , لأجابتْكِ بأنَّها لم تشعُر أبدًا بالعزَّة والحرِّيَّة والرَّاحة النَّفسيَّة إلاَّ عندما لبسَت الحجاب ! نعم , فهذا اللِّباسُ أشْعَرها فعلاً بأنَّ عزَّتها الحقيقيَّة تكمنُ في الحفاظ على عِفَّتها وشَرفها . لذلك أصبحتْ تنظر إلى غيرها من الفتيات الغير مُحجَّبات , نظرات كلُّها شَفَقة , وكأنَّها تقول لهنَّ : أفِقْنَ من غَفْلَتكُنَّ , فوَاللَّهِ إنَّ هذه الحرِّيَّة الكاذبة التي تجرين وراءها ليستْ إلاَّ شعارات زائفة , تُخفي وراءها خُبثًا ودناءة من أُناس يُريدون تعرية المرأة للتَّمتُّع بمفاتنها , فتفنَّنُوا في ذلك , وجعلُوا من جسدها سلعة تُباعُ وتُشترى , وأنزلُوها إلى مستوى الحيوان بدعوى الحرِّيَّة , وللأسف .. هي صدَّقتْ ذلك ! وللأسف أيضًا أنَّ بعض المسؤولين السِّياسيِّين في بعض البلدان الغربيَّة , وحتَّى في بعض البلدان الإسلاميَّة , لم يفهمُوا هذا المعنى , فأصدرُوا قوانين تمنع الفتاة المسلمة من ارتداء الحجاب في المدرسة والعمل , ولم يعلَمُوا أنَّهم بهذا كأنَّهم يطلبون منها أن تَنزعَ عنها عزَّتَها وشَرفَها وعِفَّتها ! والغريبُ أنَّهم يعرفون تمامًا أنَّ هذا الحجاب لا يُعيقُها أبدًا عن الدِّراسة أو العمل أو السَّفر , أو أيّ شيء من أمور الحياة اليوميَّة , ولا يحثُّها على الرَّذيلة أو العنف أو التَّعدِّي على حقوق الغير ! فأين المشكلة إذًا ؟! ولو تمعَّنُوا في الحكمة من الحجاب والملابس الفضفاضة , لَعرفُوا أنَّ اللَّه تعالى لم يأمر بهما إلاَّ ليَحفظ كرامة المرأة وإنسانيَّتها , وأيضًا لِيَحفظ المجتمع من الفساد . فكما ذكَرْنا سابقًا أنَّ اللَّه سبحانه يعرفُ جيِّدًا شدَّة خطر الزِّنا على الفرد وعلى المجتمع , لذلك لم يقتصر على تحريمه فقط , وإنَّما سَدَّ أمامه كلَّ الطُّرُق التي تُؤدِّي إليه . ولَمَّا كان النَّظرُ هو أوَّل هذه الطَّرُق , أمر اللَّهُ تعالى في الآيات التي ذكَرْناها من سورة النُّور , الرَّجلَ والمرأة على السَّواء , بغَضِّ البَصَر عن النَّظر إلى عورة الغير . ولَمَّا كان إظهارُ مفاتن المرأة من أخطر هذه الطُّرُق , أمر اللَّهُ تعالى المرأة بتغطية جسمها كاملاً , وبعدم استعمال الأصباغ في وجهها حتَّى لا تَفْتن الرَّجُل . ولِلْعلم , فإنَّ عورة الرَّجل أو الشَّابِّ التي يجبُ عليه تغطيتها بلباس واسع وغير شفَّاف , هي من السُّرَّة إلى الرُّكبة فقط , لأنَّ بقيَّة جسمه لا يدعُو عادةً إلى الفتنة . هل عرفتِ الآن يا ابنتي الفاضلة الحكمةَ من الحجاب والجلباب ؟ أليس في هذا التَّشريع الحكيم دليلٌ جديدٌ على أنَّ القرآن وحيٌ من عند اللَّه ؟ قبل أن أنتقل بكِ إلى العنصر الموالي , اسمحي لي أن أروي لك باختصار قصَّتين واقعيَّتين , حتَّى يتَّضح لكِ أكثر أنَّ حرِّيَّة المرأة ليستْ في كشفها عن مفاتنها , وإنَّما بالعكس : في تَغْطيتها . القصَّة الأولى مأخوذة من موقع www.amrkhaled.net , وبطلَتُها فتاةٌ اسمُها سارَّة , من أصل لبناني , هاجَر والداها إلى نيوزيلندا Newzeland , وعمرها وقتها عشر سنوات , ثمَّ انفصلا عن بعضهما , وعاشت البنتُ وحيدة . ولكي تَعُولَ نفسها , عملتْ في البارات , ثمَّ دخلت مسابقة جمال محلِّيَّة ففازت الأولى , وكان هذا الحدث بداية الشُّهْرة بالنِّسبة لها . فأصبحت تعمل في مجال الإعلانات , وتفنَّنَ المصوِّرون في تَعرية جسدها . وكَثُرَ المالُ بين يديها , وأصبحت لياليها صاخبة . وفي يومٍ , كانت مَدْعوَّةً للعشاء عند عائلة لبنانيَّة مسلمة تسكن قريبًا منها , وكانت قد بلغت سنَّ التَّاسعة عشر . وخلال السَّهرة , جرى الحديثُ حول ضرورة أن تتعلَّم سارَّة العربيَّة , لُغتها الأصليَّة . ثمَّ فتحت العائلةُ التِّلفاز على قناة فضائيَّة عربيَّة , وشاء اللَّهُ أن يكون البرنامج : محاضرة إسلاميَّة عن العِفَّة , وترجمتها في أسفل الشَّاشة بالإنجليزيَّة . فاستغربتْ سارَّة أن يُوجد في هذا العصر مَن يتحدَّث عن شيء اسمه العِفَّة والشَّرف ! وبدأتْ تُنصتُ باهتمام إلى الدَّرس , ثمَّ لم تتمالك نفسها فأجهشتْ بالبُكاء , وشعُرتْ في تلك اللَّحظة أنَّها حقيرة , لا شرف لها ولا دِين . ثمَّ سجَّلَت اسم موقع الانترنت الخاصّ بهذا الدَّاعية , وعادت بسرعة إلى بيتها , ففتحت الكمبيوتر , وكتبت إليه رسالة تسأل فيها لأوَّل مرَّة في حياتها عن الإسلام , وهل يمكن أن يقبل اللَّهُ توبتها ؟ فردَّ عليها الدَّاعية بأنَّ اللَّه يقبل طبعًا توبة كلّ مَن يعود إليه . ثمَّ توالت الرَّسائل بينهما , وتابت سارَّة توبة صادقة إلى اللَّه , وحفظت بعض السّور من القرآن الكريم من خلال سماعها لأشرطة مُسجَّلَة , وتعلَّمت الصَّلاة , ولبستْ حجابًا وملابس فضفاضة , وشعرتْ لأوَّل مرَّة في حياتها بسعادة حقيقيَّة لم تكُن تجدُها في الشُّهرة والمال والسَّهرات اللَّيليَّة في الملاهي . ثمَّ شاء اللَّه أن تُجري سارَّة عمليَّة جراحيَّة لاستئصال وَرَم سرطاني في الدّماغ , وتموت , رحمها اللَّه . فهل تدرين يا ابنتي الكريمة كَم كانت المدَّة ما بين دخول سارَّة في الإسلام وبين موتها ؟ ثلاثة أسابيع ! نعم , كلُّ شيء تَمَّ خلال أقلّ من شهر , انتقلت فيه سارَّة , بفضل اللَّه ورحمته , من الخلود في النَّار إلى الخلود في جنَّات ونعيم ورضوان من اللَّه أكبر , نسأل اللَّه لها ذلك . القصَّة الثَّانية مأخوذة من موقع www.islamicweb.com , وبطلَتُها فتاة فرنسيَّة اسمُها فابيان , كانت تَعمَلُ عارضة أزياء , ثمَّ شرح اللَّهُ صدرَها للإسلام , تقول : منذُ طفولَتي كنتُ أحلُم دائمًا بأن أكون ممرِّضَة مُتطوِّعة , أعملُ على تخفيف آلام الأطفال المرضَى . ومع الأيَّام كبرتُ , ولَفَتُّ الأنظارَ بجمالي ورشاقتي , فحثَّني مَنْ حَوْلي على التَّخَلِّي عن حُلم طُفولتي , واستغلال جمالي في عَمَلٍ يَدرُّ علَيَّ الكثير من المال , بالإضافة إلى الشُّهرة والأضواء . وكان الطَّريقُ أمامي سَهْلاً , وسُرعان ما عرفتُ طَعْم الشُّهرة , وغَمَرَتْني الهدايَا الثَّمينة التي لَم أكُن أحلُم باقتنائها . ولكنَّ الثَّمنَ كان غاليًا , فقد كان علَيَّ أن أتَجرَّد من إنسانيَّتي وأتَخلَّى عن حيائي الذي تَربَّيتُ عليه . كما كان علَيَّ أن أحرم نفسي من جميع المأكولات اللَّذيذة , وأعيشَ على الفيتامينات الكيميائيَّة والمقوِّيات . وكان علَيَّ أيضًا أن أفْقد مشاعري تُجاه البَشَر , فلا أكره ولا أحبّ ولا أرفض أيَّ شيء ! لقد جعلَتْ منِّي دورُ الأزياء مجرَّد صَنَمٍ , خالٍ من الأحاسيس , مُهمَّتُه فقط أن يَتحرَّك ويَبتسم . ثمَّ كان تَحَوُّلي المفاجئ أثناء زيارةٍ لي إلى لبنان وقْت الحرب , حيثُ رأيتُ ضحايَا من الأطفال في مستشفى ببيروت , فتحرَّكَ في نفسي الجانب الإنساني . فتركتُ بيروت وذهبتُ إلى باكستان , وعند الحدود مع أفغانستان عشتُ الحياة الحقيقيَّة وتعلَّمْتُ كيف أكون إنسانة . كنتُ أعتني بالأُسر المتضَرِّرة من الحرب , وأحببتُ الحياة معهم , فأحسنُوا معاملَتي . وتعرَّفتُ على الإسلام من خلال مُعايَشَتي لهم , واقتنعتُ بأنَّه ليس دينًا فقط , وإنَّما أيضًا دستور للحياة . فأسلمتُ , وبدأتُ أتعلَّم اللُّغة العربيَّة , لغة القرآن . وبعد أن كنتُ أستَمدُّ نظامَ حياتي من صانعِي الموضَة , أصبحَتْ حياتي تَسيرُ تَبَعًا لِمبادئ الإسلام ورَوحانِيَّاته . ولَمَّا علِمَتْ دورُ الأزياء العالميَّة بإسلامي , أرسلُوا إليَّ عروضًا بِمُضاعفة أُجْرَتي إلى ثلاثة أضعاف , على أن أترك هذا الدِّين وأعود إلى العمل معهم ! فرفَضْتُ بشدَّة . فبعثُوا إلَيَّ بهدايَا ثَمينة لإغرائي , فرفَضْتُ أيضًا . عند ذلك لَجَأُوا إلى محاولَة تَشويه صُورتي أمام الأُسَر الأفغانيَّة , فقامُوا باستخراج نُسَخ عديدة من أغْلِفة المجلاَّت التي كانتْ تَتَصدَّرُها صُوَري كعارضَة أزياء في السَّابق , وعلَّقُوها على جنبات الطُّرُقات لِمُحاولَة الوقيعة بيني وبين أهلي الجُدُد في أفغانستان , ولكن خابَ ظَنُّهم والحمدُ للَّه . نعم , هكذا بلغتْ بهم الدَّناءة , ولكن كما يقول اللَّه تعالى : { يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ 32 } (9- التّوبة 32) . |
كلمة عن مكانة المرأة في الإسلام روى الحاكم في مُسْتَدركه عن عبد اللَّه بن عكرمة رضي اللَّه عنه , قال : لَمَّا كان يومُ الفَتح (أي فتح مكَّة من طرف المسلمين بعد أن طردَهُم قومُهم منها قبل ذلك ببضع سَنوات) , دخلَ الحارثُ بن هشام وعبد اللَّه بن أبي ربيعة على أمِّ هانئ بنت أبي طالب رضي اللَّه عنها (وهي ابنة عمِّ النَّبيِّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم) , فاسْتجارَا بها وقالا : نحنُ في جِوارك (وكانا مُشْركَيْن , فهَربَا خوفًا من جُيوش المسلمين) , فأجارَتْهُما . فدخلَ عليهما عليُّ بن أبي طالب (أخوها) رضي اللَّه عنه , فنظَرَ إليهما , ثمَّ أشْهرَ عليهما السَّيْف . فتفلَتْ (أمُّ هانئ) عليهما , واعتنقَتْهُ وقالتْ : تَصنعُ بي هذا مِنْ بَيْن النَّاس ؟! لَتَبْدَأنَّ بي قَبْلَهُما ! فقال : تُجِيرينَ المشْركين ؟! وخرج . قالتْ أمُّ هانئ : فأتَيْتُ رسولَ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , فقلْتُ : يا رسولَ اللَّه , ما لَقِيتُ مِن ابن أُمِّي عَلِيّ ما كدتُ أفْلتُ منه , آجرْتُ حَمْوَيْن لي مِن المشركين , فانْفَلَتَ عليهما لِيَقْتلهُما . فقالَ رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم : ما كانَ ذلكَ له , قد أجَرْنَا مَنْ أجَرْتِ وأمَّنَّا مَنْ أمَّنْتِ . فرجَعْتُ إليهما فأخْبَرْتُهما , فانْصَرَفَا إلى منازلِهما . (المستدرك على الصّحيحين – الجزء 3 – ص 312 – رقم الحديث 5210) . وروى الإمام أحمد في مُسنَده عن سليمان بن سحيم عن أمية بنت أبي الصَّلت عن امرأة من بَني غفار , قالت : أتَيْتُ رسولَ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم في نِسْوَة من بَني غِفَار , فقُلْنَا له : يا رسولَ اللَّه , قد أردْنَا أن نَخْرُجَ معكَ إلى وَجْهِكَ هذا , وهو يَسيرُ إلى خَيْبَر (لِمُحاربة اليَهود الذين غَدرُوا بالمسلمين ونَقَضُوا العَهد الذي أبْرمُوه معهم) , فنُدَاوي الجرْحَى ونُعين المسْلِمين بِمَا اسْتَطَعْنا . فقال : علَى بَرَكة اللَّه . فخَرجْنا معه , وكنتُ جاريَةً حديثَة , فأرْدَفَني رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم على حَقيبة رَحْلِه (أي وراءه) . فَلمَّا أناخَ ونزلْتُ عن حَقيبة رَحْلِه , إذا بها دَمٌ , فكانتْ أوَّل حَيْضَة حِضْتُها , فتَقَبَّضْتُ إلى النَّاقة واسْتَحْيَيْتُ . فلَمَّا رأى رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم ما بِي , رأى الدَّم , قال : ما لَكِ ؟ لَعَلَّكِ نَفسْتِ ؟ قلتُ : نَعَم . قال : فأصْلِحِي من نَفْسِكِ , وخُذِي إناءً من ماء فاطْرَحي فيه مِلْحًا , ثمَّ اغْسِلي ما أصابَ الحقيبَةَ من الدَّم , ثمَّ عُودي لِمَرْكبك . فلَمَّا فتحَ رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم خَيْبَر , رَضَخَ لَنَا من الفَيء , وأخذَ هذه القلادة التي تَرَيْنَ في عُنُقي , فأعطانِيها وجعَلَها بيَده في عُنُقي , فوَاللَّهِ لا تُفارقُني أبدًا . قال سليمان : فكانتْ في عُنقِها حتَّى ماتتْ , وكانتْ أوْصَتْ أن تُدْفَنَ معها , وكانت لا تَطْهر من حَيْضَة إلاَّ جعلَتْ في طهُورها مِلْحًا , وأوْصَتْ أن يُجعلَ في غُسْلِها حين ماتتْ . (مسند الإمام أحمد بن حنبل – الجزء 6 – ص 380 – رقم الحديث 27180) . باللَّه علَيْكِ سيِّدتي الفاضلة , هل هذا دِينٌ يُهينُ المرأة ؟! واللَّهِ الذي لا إله غيرُه , ليس هناك نظامٌ أو دينٌ أكْرمَ المرأةَ أكثر من تكريم الإسلام لها . فهو أكْرَمها بلُبس الحجاب والجلْباب لكي يَحفظَ لها عِفَّتَها وشَرَفَها . ويومَ تَخَلَّت المرأةُ عن هذا اللّباس , أصبحتْ سِلْعةً تُباعُ وتُشْتَرى , في الشَّارع والتِّلفاز وعلى صفحات المجلاَّت , بدَعْوى التَّحرُّر , فلَم تَجْنِ من وراء ذلكَ سِوَى خِيَانة الزَّوج وضَياع الأبناء ! وأكْرَمها طفلةً , فحثَّ والدَيْها وأخْوَتها الذُّكور على حُسْن معامَلَتها . فقد روى ابنُ حِبَّان في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه , أنَّ رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم قال : مَنْ كانَ له ثلاث بَنات أو ثلاث أخَوات أو ابْنتان أو أُختان , فأَحْسَنَ صُحْبَتَهُنَّ واتَّقَى اللَّهَ فِيهنَّ , دَخَلَ الجنَّة . (صحيح ابن حبّان – الجزء 2 – ص 189 – رقم الحديث 446) . وأكْرَمها شابَّةً , فنَهى والِدَيْها عن تَزويجها بِدون مُوافقتها . فقد روى التّرمذي في سُنَنه عن أبي هُرَيْرة رضي اللَّه عنه , أنَّ رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم قال : لا تُنكَحُ الثَّيِّبُ حتَّى تُسْتَأْمر (أي تُستشار) , ولا تُنْكَح البِكْرُ حتَّى تُسْتَأذَن , وإذنُها الصُّموت (أي تَصمتُ حياءً , دليلاً على مُوافقتها) . (الجامع الصّحيح سنن التّرمذي – الجزء 3 – ص 415 – رقم الحديث 1107) . والثَّيِّب هي التي فارقتْ زوجَها بِمَوتٍ أو طلاق , بينما البِكْر هي العذراء , التي لم تتزوَّج بعد . قال التّرمذي : هذا حديثٌ حسن صحيح , والعمل على هذا عند أهل العلم أنَّ الثَّيِّب لا تُزَوَّج حتَّى تُستأمَر , وإن زَوَّجها الأبُ من غير أن يستأمرها , فكَرهتْ ذلك , فالنِّكاح مَفْسوخ عند عامَّة أهل العلم . ورأى أكثرُ أهل العلم من أهل الكوفة وغيرهم أنَّ الأب إذا زوَّجَ البكْرَ وهي بالغةٌ بغير أَمْرها , فلَم ترضَ بتزويج الأب , فالنِّكاح مَفْسوخ . وأكْرَم الإسلامُ المرأة أُمًّا , فأمَر أولادَها بحُسن صُحبَتها . فقد روى ابنُ حِبَّان في صحيحه عن أبي هُرَيْرة رضي اللَّه عنه , قال : جاء رجلٌ إلى رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , فقال : مَنْ أحقُّ النَّاس بِحُسْن صُحْبَتي ؟ قال : أمُّك , فقال : ثمَّ مَنْ ؟ قال : أمُّك , قال : ثمَّ مَنْ ؟ قال : أمُّك , قال : ثمَّ مَنْ ؟ قال : أبُوك . (صحيح ابن حبّان – الجزء 2 – ص 177 – رقم الحديث 434) . وأكْرَمها زَوجةً , فأمرَ زوجَها بِحُسن معاشرتها . فقد روى ابنُ حِبَّان في صحيحه عن عائشة رضي اللَّه عنها , أنَّ رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم قال : خَيْرُكُم خَيْرُكم لِأهْلِه (أي لِزوجته) , وأنا خَيْرُكم لِأهلي , وإذا مات صاحِبُكُم فَدَعُوه . قال ابنُ حِبَّان : فدَعُوه : أي لا تَذْكُروه إلاَّ بخَيْر . (صحيح ابن حبّان – الجزء 9 – ص 484 – رقم الحديث 4177) . وأكْرَمها في الفراش مع زوجها . فقد روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه , أنَّ رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم قال : إنَّ مِنْ أشَرِّ النَّاس عند اللَّه مَنْزلَةً يومَ القيامة : الرَّجلُ يُفْضِي إلى امرأته وتُفْضي إليه , ثمَّ يَنْشُر سِرَّها . (صحيح مسلم – الجزء 2 – ص 1060 – رقم الحديث 1437) . ذلك أنَّ للبيت حُرمَتُه وللفراش حُرمَتُه , ومِن الدَّناءة فعلاً أن يُفضِي الزَّوجان إلى بعضهما , ثمَّ يَنشُر كلٌّ منهما أسرار الآخر بين عائلته وأصحابه ! فالعلاقة الزَّوجيَّة في الإسلام ليست مُجَرَّد مُعاشرة جنسيَّة , وإنَّما هي سكينةٌ وموَدَّة ورحمة , يقول اللَّه تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ 21 } (30- الرّوم 21) . فهل هناك تعريفٌ للعلاقة الزَّوجيَّة أسْمَى من هذا التَّعريف ؟! وأكرم الإسلامُ المرأة بأن أراحَها من الجري وراء لُقْمة العيش , ففرضَ على الزَّوج الإنفاق على زوجته وأبنائه , ولم يفرض هذا الأمر على الزَّوجة . فالمرأة مُطالَبة بالتَّعلُّم مثل الرَّجل , ولكن ليستْ مُجْبَرة أن تعمل , لأنَّ وظيفتها الأساسيَّة هي داخل البيت . وإذا أرادت باختيارها أن تشتغل أو أجبرَتْها الحاجةُ على ذلك , فليس مِن حقِّ أبيها أو زوجها أن يأخذ منها درهَمًا واحدًا بدون رضاها ! ويومَ تخلَّت المرأةُ عن وظيفتها الأساسيَّة في البيت , وخرجت تُزاحمُ الرَّجلَ في فُرَص العمل بدَعْوَى أنَّها مُساوية له في كلِّ شيء , اهتزَّ المجتمع بأكمله ! فأصبح الأطفال يتنقَّلون من حاضنةٍ لأخرى مَحْرومين من حنان الأمومة , وأصبحت المرأة تجري وتَتعبُ مُقابل رَاتِب شَهْري , يذهبُ قِسْطٌ كبيرٌ منه إلى الحاضنة وقسْطٌ آخر في شراء الفساتين ومواد الزِّينة , وكَثُرت البطالة في صُفوف الرِّجال . والغريب أنَّ نفس الأشخاص الذين كانُوا إلى وقت قريب يقولُون أنَّ عملَ المرأة بالبيت هو إهانة لها , أصبحُوا الآن يَرَوْن فيه الحلَّ الأمثل للتَّخفيف من حِدَّة البطالة ومن انحراف الأطفال ! وأصبحت بعض الدُّول الغربيَّة تُعطي مِنحَةً شهريَّة لكلِّ امرأة تتفرَّغُ لتربية أطفالها . أليس هذا بالضَّبط ما يدعُو إليه الإسلام ؟! طبعًا , إذا كانت المرأة غير متزوّجة أو لم يكن لها أطفال أو كانت مُطَلَّقة أو مات زوجُها , فيُمكنُها أن تشتغل إذا أرادت ذلك لِتَعُول نَفسَها وربَّما أبناءها أو والديها أو أخواتها , شرط أن تعمل في مهنة شريفة تتماشَى مع فِطرتها , وأن تلتزم بالحجاب وباللِّباس الشَّرعي الفضفاض . وهناك بعض الاختصاصات التي تحتاج فعلاً لعمل المرأة , مثل الطِّبِّ النِّسائي , والتَّدريس . لكن , في الحالات العاديَّة التي تَستوجبُ وجود المرأة في البيت , فإنَّ عمَلَها فيه هو الأفضل , وعلى زوجها أن يُوَفِّر لها كلَّ ما تحتاجه من مأكل وملبس ومسكن وغير ذلك . ____________________ التالي بإذن الله تعالى: وماذا عن تعدُّد الزَّوجات ؟! |
وماذا عن تعدُّد الزَّوجات ؟! أليسَ فيه فعلاً إهانة للمرأة ؟! إطلاقًا ! بل قد تعجبين سيِّدتي الفاضلة إذا قلتُ لَكِ أنَّ فيه , بالعكس , تكريمًا لها ! فالإسلام لم يُشَجِّع تعدُّد الزَّوجات , وإنَّما شرَّعه لِلُّجوء إليه في بعض الحالات الخاصَّة , وقَيَّده بشَرطٍ أساسي وهو العدل بين الزَّوجات , في المسكَن والملبس والمبيت والمعاملة والنَّفقة وكلّ شيء . يقول اللَّه تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا 3 } (4- النّساء 3) . وقد كان التَّعدُّد معروفًا وسائدًا في الشَّرائع السَّماويَّة السَّابقة وفي القوانين الوضعيَّة , دون قيد أو شرط . فلمَّا جاء الإسلام , قيَّدَ العددَ الأقصى بأربعة , واشترطَ العدل . لِلرَّجُل إذًا الحقّ أن يَتزوَّج امرأة واحدة أو اثنتين أو ثلاثة أو أربعة , شَرط أن يعدل بينهنَّ في كلِّ شيء كما ذكَرْنا . أمَّا الأسباب التي قد تدعُو إلى التَّعدُّد , فمنها أن تكون الزَّوجة عقيمًا , أو مريضة مرضًا مُزمنًا , أو ضعيفة الشَّهوة , ويكون زوجُها مُتعلِّقا بها غير أنَّه يرغبُ في أن يكون له بنين وبنات , أو يكون قويّ الشَّهوة . أليس إذًا من الأفضل أن يتزوَّج هذا الرَّجلُ امرأةً ثانية , بعِلْم زوجته الأولى ورضاها , ويعيش الجميع عائلة واحدة ؟ أم أنَّ الأفضل أن يُطلِّقها , وفي هذا إهانةٌ وتشريدٌ لها , أو يَخُونها , بأن يُبقي عليها كزوجة صوريَّة , ويتَّخذ من وراءها خليلات كما هو الحال في المجتمعات الغربيَّة ؟! كذلك , فإنَّ المرأة , بِحُكْم تَركيبَتها البَدَنيَّة , لا تكون مستعدَّة للجِماع عندما تكون بِدَم الحيض أو دَم النِّفاس , وتنفر منه في فترة الحمل التي تستغرق تسعة أشهر , وفترة الرَّضاعة التي قد تمتدُّ إلى سَنَتَيْن , على خلاف الرَّجُل الذي يكون دائمًا مستعدًّا لهذا الأمر . أليس من العدل إذًا أن يُشرِّع له خالقُه إمكانيَّة الزَّواج بأكثر من واحدة , إذا أراد ذلك ووثقَ من نفسه أنَّه يستطيع العدل بينهنَّ ؟ قد يُوجَد أيضًا في بعض المجتمعات أو في بعض الحالات (مثل الحروب) عددٌ كبيرٌ من النِّساء , مقابل عدد أقلَّ من الرِّجال . أليس إذًا من الأفضل أن يتزوَّج الرَّجلُ أكثر من امرأة , وتتمتَّع كلُّ واحدة منهنَّ بكلِّ حقوقها كزوجة ؟ أم أنَّ الأفضل أن يكتفي بواحدة , وتبقى بقيَّة الفتيات عوانس , مِمَّا قد يَجرُّهُنَّ إلى الانحراف والزِّنا ؟! هذا إذًا نظام تعدُّد الزَّوجات كما جاء به الإسلام , وهو يُبرهِنُ من جديد على أنَّ تعاليم هذا الدِّين صالِحةٌ فعْلاً لكلِّ زمان ومكان . |
كلمة عن أكل لحم الخنزير يقول اللَّه تعالى في القرآن الكريم : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ 172 إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ 173 } (2- البقرة 172-173) . في هذه الآيات إذًا تحريمٌ واضحٌ وصريح لأكل الميتَة والدَّم ولحم الخنزير . وبما أنَّ اللَّه حرَّمَها على عِباده , فلا بُدَّ أنَّ في أكْلِها مَضرَّة لهم . فما رأيُ العِلْم في ذلك ؟ أمَّا الميتة : فيقولُ العُلماء أنَّ عدم خروج الدَّم المحتَبس عند موتها , يُساعد على نُمُوِّ الجراثيم في هذا الدَّم , ويُعرِّضُ آكلَ لحم هذه الميتة للإصابة بأمراض مختلفة . وأمَّا الدَّم : فهو سريع الامتصاص للجراثيم , وبالتَّالي يُصبح شاربُه عُرضةً للأمراض أيضًا . وأمَّا لحم الخنزير : فيحتوي على العديد من الطُّفيليَّات والدِّيدان الخطيرة . فالخنزيرُ حيوانٌ قَذِر , يعيشُ في الأقذار , ويأكلُ القاذورات والنَّجاسات , وهو بهذا ينقلُ الأمراض إلى الإنسان . ولحمُ الخنزير غنيٌّ جدًّا بهرمُونات النُّموِّ التي تُسبِّب الإصابة بالأورام الخبيثة . ودُهنُه يُسبِّب ارتفاع نسبة الكُوليسترُول , وأيضًا تَصلُّب الشَّرايين . ثمَّ إنَّ الخنزير هو الحيوان الوحيد الذي لا يَغار على أُنْثَاه حين يُعتَدَى عليها , ولا يُدافع عنها ولا عن صغارها إذا هُوجِمُوا ! ومِن هنا , فهو سُبَّةٌ عند جميع شعوب العالَم بلا استِثْناء . فترَى الذي يُريد أن يصفَ غيرَه بالدَّناءة ولُؤم الطَّبع , يَنْعتُه بالخنزير . مِن العجيب إذًا أن يقبل الإنسان بعد هذا أن يُهينَ نفسَه بأكل لحم الخنزير , وقد جعلَ له خالقُه آلاف الأطعمة الطَّيِّبة والنَّافعة عِوضًا عنه . |
كيف تكوَّنت الأرض ؟ نعود للحديث عن بعض الآيات القرآنيَّة المعجزة , ونهتمُّ الآن بتاريخ الأرض . يقول علماء الجيولوجيا والفيزياء الأرضيَّة أنَّ عُمر الأرض هو حوالي 4.5 مليار سنة , وأنَّها كانت في بداية خِلْقَتِها كُرَةً من صُخور مَصهورة , تُشبه كُرَةً من عجين . ولم تكن بها جبال , وكانت البحار والمحيطات في صورة بُخار نظرًا لارتفاع درجة الحرارة فوق الأرض . وكانت سرعة دوران الأرض حول نفسها أكبر مِمَّا هي عليه اليوم , بحيثُ أنَّ طول اليوم واللَّيلة كان 4 ساعات فقط , وليس 24 ساعة . فماذا يقول القرآن في هذا الأمر ؟ يقول اللَّه تعالى : { إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ 54 } (7- الأعراف 54) . ففي هذه الآية يتحدَّثُ اللَّه سُبحانه عن فترةٍ زمنيَّة أُولى , وهي بداية خلْق الأرض وكُلّ الكون . فذكَر أنَّ اللَّيلَ كان يَطلبُ النَّهار سريعًا , أي أنَّهما كانا يتعاقبان بسرعة أكبر من الآن . وهذا ما أثبتهُ العلم الحديث فعْلاً . لِنُتابعْ ما يقوله العلماء : ثمَّ بَردت الأرضُ , وانخفضت درجة الحرارة فوق سطحها إلى أقلّ من درجة غلَيان الماء , فتكثَّف البُخار وأصبح ماءً تكوَّنتْ منه البحار والمحيطات , ويَبسَت القشرة الأرضيَّة فظَهرت القارَّات . وبِتَكَوُّن البحار والمحيطات , أصبح القمر يُمارسُ جاذبيَّته عليها , فيَجذبُ إليه سطحَ الماء المقابل له , فيَعْلُو نَحْوَه , فيكونُ بذلك المَدُّ , ثمَّ تدور الأرضُ , فيهبطُ هذا الماء , ويكونُ بذلك الجَزْر . ثمَّ يُمارسُ القمرُ جاذبيَّته على مكان آخر وبَحْر آخر , فيكون فيه المَدُّ , وهكذا . وبظُهور ظاهرة المَدّ والجَزْر بفعْل جاذبيَّة القَمَر , حدثَ تعطيلٌ في دوران الأرض حول نفسها , وبالتَّالي تخفيضٌ في سُرعة هذا الدَّوران . ولكي تفهم سيِّدي هذا الأمر , دعني أضربُ لك مثالاً : عندما تدور حول نفسكَ بسُرعة مُعَيَّنة , ثمَّ تأتي ابنتُكَ الصَّغيرة لِتُمسِكَ بطَرَفِ قَميصِكَ , وكلَّما أفلَتَ منها طَرَفٌ أمسكَتْ بطَرَفٍ آخَر , فإنَّ هذا بلا شَكّ سيُعيقُ سُرعتكَ في الدَّوران . أليس كذلك ؟ هذا تقريبًا ما يحدُثُ بين القمر والأرض : فالقمر يجذبُ سطح بَحْرٍ مَا , ثمَّ تدور الأرضُ , فيَترُكُه ويَجذبُ بَحْرًا آخر , وهكذا . وهذه الإعاقة في سُرعة دوران الأرض حول نفسها , مع ضآلَتها , تراكَمتْ على مَرِّ ملايين السِّنين , فأصبحت الأرضُ تدورُ اليوم حول نفسها مرَّةً كلَّ 24 ساعة , بعد أن كانت تدور مرَّةً كلَّ 4 ساعات في بداية خَلْقِها . وبالتَّالي , أصبح الآن اللَّيلُ والنَّهار أطْوَل مِمَّا كانَا عليه في البداية . وهنا , نقفُ عند آية ثانية في القرآن الكريم , يقول اللَّه تعالى : { وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ 3 } (13- الرّعد 3) . فإذا كان اللَّهُ سبحانه قد تحدَّث في الآية السَّابقة عن فترة زمنيَّة أولى من تاريخ الأرض , فتعرَّض فيها لِسُرعة تعاقُب اللَّيل والنَّهار , فإنَّه في هذه الآية يتحدَّثُ عن فترة زمنيَّة تالية , حيثُ تكَوَّنت الجبالُ والأنهار وظهرت الثِّمار . لهذا , ذكَر هُنا تعاقُبَ اللَّيل والنَّهار , دون أن يذكُر السُّرعة , ربَّما لِيُخبرنا أنَّ اللَّيل والنَّهار أصبحَا في هذه الفترة أطول مِمَّا كانَا عليه عند ولادة الأرض ! أليس في هذا دليلٌ جديد على أنَّ كلَّ كلمة في القرآن لها معناها الدَّقيق ؟! ---------------------------------------- التالي بإذن الله تعالى: اللَّهُ الذي جعل الأرض فراشًا ! |
اللَّهُ الذي جعل الأرض فراشًا ! يقول علماء الجيولوجيا : تتركَّبُ الأرضُ من عدَّة طبقات : - أوَّلها القشرة الأرضيَّة التي نعيشُ فوقها , سُمكُها حوالي 35 كلم تحت القارَّات و 6 كلم تحت قاع المحيطات . وهي تتكوَّن من صخور صلبة . - هذه القشرة تطفُو فوق طبقة سائلة تُسمَّى الرِّداء , سُمْكُها حوالي 2900 كلم , وتتراوح حرارتها من 1500 إلى 4000 درجة باتِّجاه مركز الأرض . وهي تتكوَّن من صخور مصهورة . - تحتها توجد نواة (أو قلب) الكرة الأرضيَّة , وتنقسم إلى : الطَّبقة الخارجيَّة للنَّواة , سُمكُها حوالي 2200 كلم , وتتجاوز حرارتها 4000 درجة . وهي طبقة سائلة وتتكوَّن أساسًا من الحديد ونسبة أقلّ من النّيكل . ثمَّ الطَّبقة الدَّاخليَّة للنَّواة , سُمكُها حوالي 1200 كلم , وحرارتها تصل إلى 6650 درجة . وهي طبقة صلبة وتتكوَّن من الحديد ونسبة أقلّ من النّيكل . وهنا , اسمح لي سيِّدي الكريم أن أسألك : هل كان بإمكان الإنسان أن يعيش مباشرةً فوق طبقة الرِّداء السَّائلة والمرتفعة الحرارة , أو فوق النَّواة الملتهبة ؟ طبعًا لا ! كان لا بُدَّ إذًا من تَغليف الأرض بقشرة يابسة وباردة وصالحة للحياة . بل كان لا بُدَّ أيضًا من تمهيد سطحها لِيكُون صالِحًا للتَّنقُّل والبناء , وفَرْشِها بتُرْبَةٍ صالحة للزِّراعة لكي يَجد الإنسانُ والحيوانُ ما يأكلان . لقد قدَّر الخالقُ الحكيم كلَّ هذا وغيره . يقول اللَّه تعالى في القرآن الكريم : { وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ 48 } (51- الذّاريات 48) . أليس وصفُ القرآن للأرض بأنَّها مفروشة (بالتُّراب) ومُمَهَّدة , قد جَمَعَ بين الإيجاز والدِّقَّة ؟! ويقول تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ 21 الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ 22 } (2- البقرة 21-22) . فشَبَّه اللَّهُ هنا الأرضَ بأنَّها فِراش , وهو حقًّا تشبيهٌ دقيقٌ ومُعجِز , لأنَّ القشرة الأرضيَّة هي فعلاً بمثابة لِحَاف رقيق يَلُفُّ بقيَّة الطَّبقات السَّميكة , وهذا اللِّحاف مُمَهَّد , ومَفْروش بقِشْرة من التُّربة ! |
هل نزل الحديد فعلاً من السَّماء ؟! يقول علماء الفيزياء الكونيَّة : تتكوَّن الأرض من عناصر مختلفة , كلُّ عنصر منها تَكوَّن بدوره عن طريق اجتماع إلكترونات وبروتونات ونترونات اتَّحدتْ مع بعضها , فكوَّنت الذَّرَّةَ الأولى للعُنصر . لكنَّ هذا الاتِّحاد ما كان لِيَتِمَّ إلاَّ بوُجود طاقة . ولَمَّا حسبَ العلماءُ الطَّاقةَ اللاَّزمة لِتكْوين ذرَّة واحدة من عنصر الحديد , وجدُوا أنَّها تعادل أربع مرَّات طاقة النِّظام الشَّمسي بأكمله ! لذلك استنتجُوا أنَّ الحديد عنصُرٌ غريبٌ عن الأرض , ولم يتكوَّنْ فيها . من أين جاء إذًا ؟! يقول العلماء : بعدما حدث الانفجارُ العظيم , منذ أكثر من 13 مليار سنة , مع ما صاحَبَه من طاقة هائلة جدًّا , تكوَّنت النُّجومُ والكواكب والأقمار , وتكوَّنَ الحديدُ في بعض النُّجوم . ثمَّ انفجرت هذه النُّجوم , وتناثرت أشلاؤها في الكون , ونزل الحديدُ إلى الأرض في صورة وابلٍ من النَّيازك الحديديَّة . وبِمَا أنَّ الأرضَ في بداية خَلْقِها كانت مثل كُرَة العجين , استقرَّ الحديدُ في باطِنها نظرًا لِثِقَلِه . لذلك , هو يُكوِّنُ اليومَ غالبيَّة نواة الكُرة الأرضيَّة . هذا ما قاله عُلَماء القرن العشرين . فماذا قال القرآن في هذا الموضوع منذ القرن السَّابع الميلادي ؟ يقول اللَّه تعالى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ 25 } (57- الحديد 25) . فلو كان القرآنُ من تأليف بَشَر , لكانت الجملة مثلاً : وجعلنا في الحديد بأسًا شديدًا . لكنَّ القرآن كلامُ اللَّه , لذلك قال تعالى : { وأَنْزَلْنَا الحدِيدَ } , وهذا ما اكتشفه العلماء فعلاً : أنَّ الحديد نزلَ إلى الأرض ! وتَزيدُ الآيةُ إعجازًا عندما تَذكُر أهمِّيَّة الحديد . ونحنُ نعرف اليوم أنَّه فعلاً يُشكِّلُ عنصُرًا أساسيًّا , سواء في صناعة الدَّبَّابات والطَّائرات الحربيَّة والأسلحة , أو في بناء المنازل والعمارات والمصانع . بل إنَّه عنصُر أساسي لا بُدَّ من توفُّره في غذائنا اليومي (نَجده في الخضَر وغيرها) لكي تنمُو أجسامنا نموًّا سليمًا ! فهل يُعقَل بعد هذا أن نُصدِّق العلماء في قولهم أنَّ الحديد نزل من السَّماء , ولا نُصدِّق النَّبيَّ محمَّدًا صلَّى اللَّه عليه وسلَّم في قوله أنَّ القرآن أُنزل عليه أيضًا منَ .. السَّماء ؟! ------------------------------------ التالي بإذن الله تعالى: في الأرض قِطعٌ متجاورات ! |
في الأرض قِطعٌ متجاورات !* في بداية القرن العشرين (سنة 1915 م) , وضعَ عالِمٌ ألماني اسمه Alfred Wegener مختصٌّ في الفلَك والفيزياء الأرضيَّة , نظريَّةً تُسمَّى طَفْو (أو حركة) القارَّات , قال فيها أنَّ القارَّات تطفُو على جسْمٍ لَزج (مثلما تَطفو السَّفينةُ في البحر) , وأنَّها كانت في البداية قارَّةً واحدة كبيرة , ثمَّ انقسمتْ إلى قارَّات صغيرة , أخذت تتباعد عن بعضها البعض حتَّى وصلت إلى الشَّكل الذي هي عليه اليوم . وفي سنة 1968 م ظهرت نظريَّة جديدة , تُسمَّى حركة الصَّفائح , تُعتبر من أهمِّ النَّظريَّات التي تَرتكز عليها الجيولوجيا الحديثة . تقول هذه النَّظريَّة أنَّ القارَّات والمحيطات محمولة على حوالي 12 صفيحة , نصف صلبة ومتجاورة , تتحرَّك ببطء فوق طبقة الرِّداء المائعة . حدودُ هذه الصَّفائح (أو أطرافُها) هي المناطق التي تكثر فيها الزَّلازل وتثور فيها البراكين . فهل تعرَّض القرآن الكريم لهذه الحقيقة أيضًا ؟! نعم , يقول اللَّه تعالى : { وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ 4 } (13- الرّعد 4) . أليست القِطَعُ المتجاورات التي ذكَرَتْها الآية , هي نفسُها الصَّفائح المتجاورة التي تحمل القارَّات والمحيطات , والتي لم يتمَّ اكتشافها إلاَّ في النِّصف الثَّاني من القرن العشرين ؟ أغلبُ الظَّنِّ أنَّها هي ! |
الأرض ليست كُرويَّة تمامًا ! كان الإنسان يعتقد أنَّ الأرض منبسطة , بحيثُ إذا وصلَ إلى طَرفها , سقطَ في المجهول . ثمَّ اكتشفَ أنَّها كُرويَّة . وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة , حيثُ يقول اللَّه تعالى متحدِّثًا عن ذاته العليَّة : { خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ 5 } (39- الزّمر 5) . فلو كانت هذه الآية من تأليف بشَر , لَجَاء التَّعبيرُ مثلاً : وخلق اللَّيلَ والنَّهار ! لكنَّها فعْلاً كلامُ اللَّه , لذلك جاء التَّعبيرُ الإلهي : { يُكَوِّرُ اللَّيْلَ على النَّهار ويُكَوِّرُ النَّهار علَى اللَّيْل } , وفي هذا إشارة واضحة إلى كُرويَّة الأرض ! لِنُتابع البحث : ثمَّ توصَّلتْ بعثةٌ فرنسيَّة في البيرو سنة 1735 م إلى اكتشاف أنَّ الأرض ليست كُرويَّة تمامًا , وإنَّما مُسَطَّحة قليلا عند القُطبَيْن . وبصُعود الإنسان إلى الفضاء في القرن العشرين , أخذ العُلماء قياسات وصُوَرًا للأرض من الفضاء الخارجي , فتأكَّدوا أنَّ الأرض مُسطَّحة فعلاً عند القُطب الشَّمالي وعند القُطب الجنوبي , بفِعْل القوَّة الطَّاردة النَّاتجة عن دوران الأرض حول نفسها . ولو حَسبْنا قُطْر الأرض عند خطِّ الاستواء , لَوَجدْناه : 12756 كلم , بينما قُطْرها الذي يَصل بين القُطبَيْن يُساوي : 12713 كلم . هناك إذًا فارق 43 كلم بين القُطرَيْن , مِمَّا يدلُّ على أنَّ الأرضَ ليست كُرويَّة تمامًا , وإنَّما منقُوصة الطَّرفَيْن . وهنا , لنا وقْفَة ثانية مع القرآن الكريم : يقول اللَّه تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ 41 } (13- الرّعد 41) . ففي قوله تعالى : { نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرافِهَا } إشارةٌ واضحة إلى أنَّ الأرض منقوصة الطَّرَفَيْن . فكيفَ عرفَ محمَّدٌ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم هذه الحقائق إن لَم يَكن اللَّهُ هو الذي أخبرهُ بها ؟! |
الجبال أوتادٌ ورواسي ! لقد كانت دهشة علماء الجيولوجيا كبيرة عندما اكتشفُوا حديثًا أنَّ للجبال جذورًا تمتدُّ تحت الأرض ! وزادت دهشتُهم عندما اكتشفُوا أيضًا أنَّ جزءَ الجبل الغائص في أعماق الأرض يُساوي حوالي أربعة أضعاف ونصف الجزء الظَّاهر منه ! فالجبالُ إذًا أرسخ وأثبت بكثير مِمَّا كنَّا نتصوَّر . لِنَسْتمع لِمَا يقوله القرآن الكريم في هذا الموضوع : يقول اللَّه تعالى : { أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا 6 وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا 7 } (78- النّبأ 6-7) . فاللَّه تعالى شبَّهَ هُنا الجبالَ : بالأوتاد . ونحنُ نعرف أنَّ الأوتاد ثابتة في الأرض , وأنَّها تُستَعمل لتثبيت شيء آخر , وأنَّ الجزء الغائص منها في التُّراب أطول من الجزء الظَّاهر . وهذا هو الحالُ فعلاً بالنِّسبة للجبال , فهي ثابتة فوق الأرض , وجُذورُها تمتدُّ كثيرًا في الأعماق , وبيَّنَ العلماءُ في السَّنوات الأخيرة أنَّ لها أيضًا دورًا كبيرًا في تثبيت القشرة الأرضيَّة من الانزلاق , وما زالت البحوث جارية في هذا المجال . وشبَّه القرآنُ في آيات أخرى الجبالَ بالرَّواسي للدَّلالة على ثباتها ورسُوخها في الأرض , يقول تعالى : { وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا 32 } (79- النّازعات 32) . ويقول أيضًا : { خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ 10 } (31- لقمان 10) . أليس في تشبيه القرآن إذًا للجبال بالأوتاد والرَّواسي دليلٌ جديد على أنَّ هذا الكتاب مُنزَّلٌ من عند اللَّه ؟! ------------------------------------ التالي بإذن الله تعالى: ولكن , لماذا خُلقنا على هذه الأرض ؟! |
ولكن , لماذا خُلقنا على هذه الأرض ؟! قال البعض : ربَّما أرادت الآلهةُ أن تَتَسلَّى بهذا العمل ! وقال آخرون : خَلَقَتْنَا الآلهةُ لِسببٍ مَا , ثمَّ نَسِيَتْنا ! وقال بعضٌ آخر : لا نعرف , ولا نريد أن نعرف ! نحن هنا , فَلْنَتمتَّعْ بكلِّ لحظة من حياتنا دون أن نَشغلَ بالَنا بهذا الموضوع ! فقط , الإسلامُ أجاب بوضوح على هذا السُّؤال ! يقول اللَّه تعالى في القرآن الكريم : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ 56 مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ 57 إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ 58 } (51- الذّاريات 56-58) . نحن هنا إذًا لعبادة اللَّه ! لكن انتبهي سيِّدتي الفاضلة : العبادةُ في الإسلام لا تعني صلاةً وصيامًا وذِكْرًا فقط . فالعملُ الشَّريفُ لِكَسْب الرِّزق عبادة ! يقول اللَّه تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ 9 فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ 10 } (62- الجمعة 9-10) . وروى الطَّبراني في المعجم الكبير عن كعب بن عجرة رضي اللَّه عنه , قال : مَرَّ على النَّبيِّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم رجلٌ , فرأى أصحابُ رسول اللَّه من جلْده ونشاطه (أي رأَوْا من قوَّة جسمه ونشاطه ما أعجبَهُم) , فقالُوا : يا رسول اللَّه , لو كانَ هذا في سبيل اللَّه ! فقال رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم : إن كان خرج يَسعَى على ولده صِغارًا فهو في سبيل اللَّه , وإن كان خرج يسعَى على أبوَيْن شَيْخين كبيرين فهو في سبيل اللَّه , وإن كان يسعَى على نفسه يَعُفّها فهو في سبيل اللَّه , وإن كان خرج رياءً ومُفاخَرة فهو في سبيل الشَّيطان . (المعجم الكبير – الجزء 19- ص 129 – رقم الحديث 282) . وفي رواية أخرى عن كعب , زادَ : وإن كان خرج يسعَى على أهله ففي سبيل اللَّه . (المعجم الصّغير – الجزء 2 – ص 148 – رقم الحديث 940) . وطَلبُ العلْم النَّافع عبادة ! فقد روى ابن ماجه في سُننه عن كثير بن قيس , قال : كنتُ جالسًا عند أبي الدَّرْداء في مسجد دمشق , فأتاه رجلٌ فقال : يا أبا الدَّرْداء , أتيتُك من المدينة , مدينة رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم لِحَديثٍ بلَغني أنَّك تُحدِّثُ به عن النَّبيِّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم . قال : فمَا جاء بك ؟ تجارة ؟ قال : لا . قال : ولا جاء بك غيره ؟ قال : لا (أي ما جئتُ إلاَّ من أجل هذا الحديث) . قال : فإنِّي سمعتُ رسولَ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم يقولُ : مَن سَلَكَ طريقًا يَلْتمسُ فيه عِلمًا سهَّل اللَّهُ له طريقًا إلى الجنَّة , وإنَّ الملائكة لَتَضعُ أجنحتَها رضًا لِطالب العلم , وإنَّ طالبَ العلم يَستغفِرُ له مَن في السَّماء والأرض حتَّى الحيتان في الماء , وإنَّ فَضْلَ العالِم على العابِد كفضْل القَمر على سائر الكواكب . إنَّ العُلَماء وَرَثَة الأنبياء , وإنَّ الأنبياء لم يُورِثُوا دينارًا ولا درهَمًا إنَّما ورَّثُوا العِلْم , فمَن أخذه أخذ بِحَظٍّ وَافِر . (سنن ابن ماجة – الجزء 1 – ص 81 – رقم الحديث 223) . بل إنَّ جِماعَ الزَّوج لزَوجته عبادة ! فقد روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي ذرّ رضي اللَّه عنه , أنَّ ناسًا من أصحاب النَّبيِّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم قالُوا له : يا رسولَ اللَّه , ذهبَ أهلُ الدُّثُور بالأجُور , يُصَلُّون كما نُصَلِّي ويَصُومون كما نَصُوم , ويَتَصدَّقون بفُضُول أموالهم . قال : أوَ لَيْس قد جعلَ اللَّهُ لكم ما تصدَّقون ؟ إنَّ بكُلِّ تَسبيحة صدَقة , وكلّ تكبيرة صدَقة , وكلّ تَحميدة صدَقة , وكلّ تَهليلة صدَقة , وأمر بالمعروف صدَقة , ونَهْي عن مُنْكر صدَقة , وفي بضْع أحَدِكُم صدَقة . قالُوا : يا رسول اللَّه , أيَأتِي أحَدُنا شَهْوَتَه ويكون له فيها أجْر ؟! قال : أرأيْتُم لَو وَضَعَها في حرام , أكانَ عليه فيها وِزْر ؟ فكذلك إذا وضَعها في الحلال كان له أجْر . (صحيح مسلم – الجزء 2 – ص 697 – رقم الحديث 1006) . القاعدة التي يُمكنُ استخلاصُها إذًا : إذا قام المسلِمُ بفِعْلٍ مُباح فإنَّ ذلك يُعتَبَر عبادة يؤجر عليها , وإذا قام بفِعْلٍ حرام فإنَّ ذلك يُعتَبَر مَعْصِيَة يُعاقَبُ عليها . وعلى هذا , فإذا كان اللَّهُ تعالى قد خلَقَنا لِعبادته , فهذا يعني أنَّه خلَقَنا لكي نُصلِّي ونصوم له وحده , ولكن أيضًا لكي نعمل وندرس ونأكل ونشرب وننام ونلعب ونتزوَّج , شَرْطَ أن يكون كلّ ذلك في إطار الحدُود التي رَسَمها لنا الخالِق , لا نحيد عنها حتَّى لا نَقَع في المعاصي . ومِنْ عَدْل اللَّه أنَّه لم يخلقنا لعبادته ثمَّ نَموت وينتهي الأمر , ولكن لِيُجازينا على عبادتنا له . يقول تعالى : { تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ 1 الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ 2 } (67- الملك 1-2) . |
هكذا يبني الإسلامُ الفردَ المسلم لقد حارت الأنظمةُ الحديثة في إيجاد قواعد تربويَّة لتكوين فرْدٍ صالِح , وبالتَّالي مجتمع سليم . والسَّبب أنَّها تركت الدِّينَ والأخلاقَ جانبًا , وراحت تبحث عن تكوين مجتمع فاضل على أُسُس مادِّيَّة لا روح فيها ! ولو اتَّبعَت القواعدَ التَّربويَّة الحكيمة التي وَضَعها الإسلام منذ عدَّة قرون , لَمَا وصلَتْ إلى ما وصلَتْ إليه اليومَ من مشاكل لا حَصْر لها . إنَّ النِّظام التَّربوي في الإسلام يرتكزُ على قاعدة أساسيَّة حكيمة , تكْفي لِوَحدها للدَّلالة على أنَّ هذا الدِّين هو الدِّينُ الحقّ . هذه القاعدة هي : رَبْطُ المسلمِ مُباشرةً باللَّه , فلا يخطُو أيَّ خطوة ولا يعملُ أيَّ عمل إلاَّ وهو على يقين أنَّ اللَّه ينظر إليه . وكلَّما تعمَّقَ في نفسه الشُّعورُ بأنَّ اللَّه ينظر إليه في كلِّ لحظة وفي كلِّ مكان , كلَّما تحسَّنت أخلاقُه , وكلَّما أصبح حريصًا على الإحسان لغيره والإكثار من فعل الخير . طبعًا , ولتحقيق هذه القاعدة , يجبُ أن يرسخَ في أعماق المسلم أنَّ اللَّه هو وحده خالق كلِّ شيء , وأنَّه هو وحده القادر على كلِّ شيء , وأنَّه لا يغيبُ عن علمه أيّ شيء , وأنَّه سيُجازي المطيعين بالجنَّة والعاصين بالنَّار . فتُصبح علاقتُه بربِّه ليست مجرَّد خوف من عقابه , وإنَّما علاقة حبٍّ وثقة وخوف ورجاء . حبّ للَّه أكثر من أيِّ شيء لأنَّ نِعَمَه على عباده لا تُعدُّ ولا تُحصَى , وثقة به لا يُعادلها أيّ شيء لأنَّه لا يُخيِّبُ عبدًا التجأ إليه , وخوف منه أكثر من أيّ شيء لأنَّه شديد العقاب , ورجاء في الفوز برضاه ودخول جنَّته . فإذا همَّ بعد ذلك أن يقوم بمعصية , فإنَّه يتذكَّر أنَّ اللَّه يراه , فيَخجلُ من نفسه ويعْدل عن هذا الأمر . وإذا غَلَبَتْه نفسُه وقام بها , فإنَّه سُرعان ما يَتوبُ ويستغفر . وإذا أصابتهُ مُصيبة , مِنْ نَقْصٍ في المال أو مَرضٍ أو ظلَمَه أحدٌ , فإنَّه يلجأ مباشرة إلى اللَّه , يدعُوه أن يرفع عنه هذا البلاء . ثمَّ إنَّه يَبقى طول الوقت على اتِّصال دائم باللَّه , فلا يأكل ولا يشرب ولا ينام حتَّى يذكر اللَّه , ولا يَشرع في عمل حتَّى يستعين باللَّه . فهل يمكن بعد هذا أن نحصل على أناس منحرفين ؟! مستحيل ! لأنَّ الذي ينشأ على هذه التَّربية , إذا حدثَ بعد ذلك أن تهاونَ في دراسته أو أساء الأدبَ مع غيره , فيكْفي أن يُذَكِّره والداه أو أقرباءه بأنَّ اللَّه لا يُحبُّ هذه الأشياء , لكي يعود إلى رُشده . وفي العادة , تكُون النَّتيجة أفضل بكثير من الصِّياح والتَّهديد والوعيد . بينما إذا رُبِّي الطِّفلُ فقط على قاعدة الخوف من عقاب والديه أو الخوف من الشُّرطة , فإنَّه سيجد دائمًا طريقةً لِمُغالَطتهم والإفلات من مراقبتهم ! أمَّا كيف يربطُ الإسلامُ المسلمَ مباشرةً بربِّه , فهذا ما سنراه مفصَّلاً في الصَّفحات القادمة بإذن اللَّه . |
انتبه , إنَّ اللَّه يراك ! نعم , فاللَّه سبحانه لا يَحُدُّه مكانٌ ولا زمان , وما مِن شيء يحدثُ في هذا الكون الفسيح إلاَّ وهو يعلمُه . يقول اللَّه تعالى في القرآن الكريم : { إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ 5 } (3- آل عمران 5) . ويقول تعالى : { هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ 4 } (57- الحديد 4) . بل حتَّى الأفكار التي تدور بأذهاننا في أيِّ وقت من الأوقات , يعلمُها اللَّه ! يقول تعالى : { يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ 19 } (40- غافر 19) . بإمكان الإنسان إذًا أن يُغالطَ إنسانًا مثله , ولكنَّه لن يستطيع أبدًا أن يُغالِط اللَّهَ سبحانه , أو أن يغيب لحظةً عن نَظَره ! لذلك , كان النَّبيُّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم يُربِّي المسلمين على أن يَسْتَشعِرُوا مراقبةَ اللَّه لهم بصِفَة دائمة . وقد روى الإمام مسلم في صحيحه عن عمر بن الخطَّاب رضي اللَّه عنه , قال : بينما نحن عند رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم ذاتَ يوم , إذ طلعَ علينا رجلٌ شديد بياض الثِّياب شديد سواد الشَّعر , لا يُرَى عليه أثَر السَّفَر ولا يَعرفُه منَّا أحَد , حتَّى جلسَ إلى النَّبيِّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , فأسْنَد رُكبتيْه إلى رُكبتيْه ووضع كفَّيْه على فخِذَيْه , وقال : يا محمَّد , أخبِرْني عن الإسلام . فقال رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم : الإسلامُ أن تشهدَ أن لا إله إلاَّ اللَّه وأنَّ محمَّدًا رسول اللَّه , وتُقيم الصَّلاة , وتُؤتي الزَّكاة , وتصُوم رمضان , وتحجّ البيت إن استطَعْت إليه سَبيلاً . قال : صدَقْت . قال عمر : فعجِبْنا له يسألُه ويُصدِّقُه ! قال : فأخْبِرْني عن الإيمان . قال : أن تُؤمن باللَّه , وملائكته , وكُتُبه , ورُسُله , واليوم الآخر , وتُؤمن بالقَدَر خَيْره وشرِّه . قال : صدَقْت . قال : فأخْبِرْني عن الإحسان . قال : أن تعبُدَ اللَّه كأنَّك تراه , فإن لم تكُن تراه فإنَّه يراك . قال : فأخْبِرْني عن السَّاعة . قال : ما المسؤولُ عنها بأعلَم من السَّائل . قال : فأخْبِرْني عن أماراتها . قال : أن تَلِد الأمَةُ ربَّتَها , وأن ترَى الحفاةَ العُراة العالَة رِعاء الشَّاء يتطاولون في البُنْيان . قال عمر : ثمَّ انطلقَ , فلبثْتُ مَلِيًّا ثمَّ قال لي : يا عمر , أتدري مَن السَّائل ؟ قلت : اللَّهُ ورسوله أعلَم . قال : فإنَّه جبريل أتاكُم يُعلِّمُكم دينكم . (صحيح مسلم – الجزء 1 – ص 36 – رقم الحديث 8) . القاعدة الأولى إذًا في بناء الفرد المسلم , هي : أن يعبُد المسلِمُ اللَّهَ تعالى كأنَّه يَراه , فإنَّه إن لم يكُن يَراه فإنَّ اللَّه يَراه ! |
حبٌّ ويقينٌ وتَوكُّل ! حديثان عَظيمان رواهما النَّبيُّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم عن ربِّه , لا نستطيع أن نقرأهما دون أن نَخِرَّ ساجدين لعظمة اللَّه سبحانه وتعالى , من خلال عَطائه الجزيل , ومَغْفرته الواسعة , وقُرْبه من عباده . الحديث الأوَّل رواه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي ذرّ الغفاري رضي اللَّه عنه , قال : قال رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم : يقولُ اللَّه عَزَّ وجلَّ : مَن جاء بالحسَنة فلَه عَشْر أَمثالِها وأَزِيد , ومَن جاء بالسَّيِّئة فجَزاءه سيٍّئة مثلها أو أَغْفِر . ومَن تَقرَّبَ منِّي شِبْرًا تقرَّبتُ منه ذراعًا , ومَن تقرَّبَ منِّي ذراعًا تقرَّبتُ منه باعًا , ومَن أتاني يَمشي أتيتُه هَرْوَلَة , ومَن لَقِيَني بقراب الأرض خطيئة لا يُشرك بي شيئًا لَقِيتُه بمثْلِها مَغْفِرة . (صحيح مسلم – الجزء 4 – ص 2068 – رقم الحديث 2687) . انتبه سيِّدي الكريم ! إنَّ المتحدِّثَ هنا هو اللَّهُ بجلاله وعظمته , يَعرض سخاءَه وكَرمه على مخلوق ضعيف من مخلوقاته , لا يَنفعه ولا يَضرُّه , ولا يَكاد يُرَى في هذا الكون الفسيح ! الحديث الثَّاني رواه أيضًا الإمام مسلم عن أبي ذرّ الغفاري رضي اللَّه عنه , قال : قالَ رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم : يقولُ اللَّه عزَّ وجلَّ : يا عِبَادي , إنِّي حرَّمْتُ الظُّلْمَ على نَفْسي وجعَلْتُه بينكُم مُحرَّمًا , فلا تَظَالَمُوا . يا عِبَادي , كُلُّكُم ضالٌّ إلاَّ مَنْ هَدَيْتُه , فاسْتَهْدُوني أهْدِكُم . يا عِبَادي , كُلُّكُم جائعٌ إلاَّ مَنْ أطْعَمْتُه , فاسْتَطْعِمُوني أُطْعِمْكُم . يا عِبَادي , كُلُّكُم عارٍ إلاَّ مَنْ كَسَوْتُه , فاسْتَكْسُوني أكْسِكُم . يا عِبَادي , إنَّكُم تُخْطِئُون باللَّيْل والنَّهار وأنا أغْفِرُ الذُّنوبَ جميعًا , فاسْتَغْفِرُوني أغْفِرْ لكُم . يا عِبَادي , إنَّكُم لَنْ تَبْلُغُوا ضرِّي فتَضُرُّوني , ولن تَبْلُغُوا نَفْعِي فتَنْفَعُوني . يا عِبَادي , لَوْ أنَّ أوَّلَكُم وآخِرَكُم وإنْسَكُم وجِنَّكُم كانُوا على أتْقَى قَلْبِ رجُلٍ واحدٍ منكُم , ما زَادَ ذلكَ في مُلْكِي شَيْئًا . يا عِبَادي , لَوْ أنَّ أوَّلَكُم وآخِرَكُم وإنْسَكُم وجِنَّكُم كانُوا على أفْجَرِ قَلْبِ رجُلٍ واحدٍ منكُم , ما نَقَصَ ذلكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا . يا عِبَادي , لَوْ أنَّ أوَّلَكُم وآخِرَكُم وإنْسَكُم وجِنَّكُم قَامُوا في صَعِيدٍ وَاحِدٍ فسَألُونِي فأعْطَيْتُ كُلَّ إنْسانٍ مَسْألَتَهُ , ما نَقَصَ ذلكَ مِمَّا عِنْدِي إلاَّ كما يُنْقِصُ المخْيَطُ إذا أدْخِلَ البَحْر . يا عِبَادي , إنَّمَا هي أعمَالُكُم أُحْصِيها لكُم ثمَّ أوَفِّيكُم إيَّاها , فمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَد اللَّه , ومَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذلك فلاَ يَلُومَنَّ إلاَّ نَفْسَه . (صحيح مسلم – الجزء 4 – ص 1994 – رقم الحديث 2577) . كلماتٌ تهزُّ المشاعرَ والقُلُوب ! ألا يستحي العبدُ بعد هذا أن يَعْبُدَ مع اللَّه شيئًا آخر , أو أن ينسب له ولدًا أو زوجة , أو أن يُحبَّ شيئًا آخر أكثر منه ؟! وإذَا كانتْ كلُّ الأمور بِيَد اللَّه , يُقلِّبُها وَحْدَه كيف يشاء , فلِمَ التَّذلُّلُ لِغَيْره؟! يقول تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ 2 } (8- الأنفال 2) . ويقول أيضًا : { إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ 58 } (51- الذّاريات 58) . على المسلم إذًا أن يتوكَّل على اللّه في أموره الحياتيّة , بمعنَى : أن يَدْرُس باجْتِهاد , وفي نَفْس الوَقْت يسألُ اللَّهَ أن يجعله من المتفوِّقين , وأن يَسْعى للبحث عن عَمَل شريف , وفي نَفْس الوَقْت يدْعُو اللَّهَ أن يرزُقَه عملاً جيِّدًا يدُرُّ عليه الخير والبركة , وإذا مَرض أن يذهبَ إلى الطَّبيب , وفي نَفْس الوَقْت يسأل اللَّه أن يشفيه , وإذا أصابتْه مُصيبة أن يُفكِّر في حلٍّ لها , وفي نَفْس الوَقْت يطلبُ من اللَّه العون . هذا هو معنى التَّوكُّل . فإذا كان الأمرُ على غير ما يُريد , فإنَّه يَرْضَى بقَضاء اللَّه . وإذا حصلَ على مُراده , فإنَّه يَتوجَّه بالشُّكْر للَّه أوَّلاً , ثمَّ إلى الشَّخص الذي كان سببًا في ذلك . يقول اللَّه تعالى : { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ 152 } (2- البقرة 152) . أمَّا أن نَنْسب الفَضْل فقط إلى الطَّبيب الذي أنقَذنا من الموت , أو إلى مهارتنا وذكائنا في حصُولنا على وظيفة جيِّدة , فهذا مَا لا يليق ! وقد روى الإمام البخاري في صحيحه عن زيد بن خالد رضي اللَّه عنه , قال : خرجْنَا مع رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم عامَ الحُدَيْبِيَة , فأصابَنَا مطرٌ ذاتَ لَيْلَة , فصلَّى بنا رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم صلاةَ الصُّبح ثمَّ أقبل علينا , فقال : أتَدْرُون ماذا قالَ ربُّكُم ؟ قُلْنا : اللَّهُ ورسولُه أعْلَم , فقال : قالَ اللَّه : أصْبَح مِن عِبَادي مُؤْمنٌ بي وكافِرٌ بي ! فأمَّا مَنْ قال : مُطِرْنَا برَحْمَة اللَّه وبرِزْقِ اللَّه وبفَضْل اللَّه , فهو مُؤْمنٌ بي كافرٌ بالكَوْكَب , وأمَّا مَنْ قال : مُطِرْنَا بنَجْم كَذَا وكذَا , فهو مُؤمنٌ بالكَوْكَب كافرٌ بي . (الجامع الصّحيح المختصر – الجزء 4 – ص 1524 – رقم الحديث 3916) . نختمُ بحديث أخير في التَّوكُّل على اللَّه , يُذهِبُ الغَمَّ ويُريح الأعصاب ! روى التّرمذي في سُنَنه عن ابن عبَّاس رضي اللَّه عنه , قال : كنتُ خَلْفَ رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم يومًا , فقالَ : يا غُلام , إنِّي أعلِّمكَ كَلِمَات : احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْك , احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجاهَك , إذا سألْتَ فاسْأَل اللَّه , وإذا استعنْتَ فاسْتَعِنْ باللَّه , واعْلَمْ أنَّ الأُمَّة لو اجْتَمعَتْ على أن ينفعُوكَ بشيء , لم ينفعُوكَ إلاَّ بشيء قد كَتَبه اللَّه لك , ولو اجْتَمعُوا على أن يَضُرُّوك بشيء , لم يَضُرُّوك إلاَّ بشيء قد كَتبه اللَّه عليك , رُفِعَت الأقلامُ وجَفَّت الصُّحُف . (الجامع الصّحيح سنن التّرمذي – الجزء 4 – ص 667 – رقم الحديث 2516) . القاعدة الثَّانية إذًا في بناء الفرد المسلم , هي : أن يُحبَّ المسلِمُ اللَّهَ تعالى أكثر من كلِّ شيء , وأن يَتَيقَّن في قرارة نفسه أنَّ كلَّ الأمور بيَده سُبحانه يُقلِّبُها وحدَه كيف يشاء , وأن يَتَوَكَّل عليه في كلِّ أعماله طالبًا منه العون والتَّوفيق . ------------------------------------ التالي بإذن الله تعالى: إخلاصُ النِّيَّة , شرطٌ أساسي لقبول العمل ! |
إخلاصُ النِّيَّة , شرطٌ أساسي لقبول العمل ! نعم , فإذا تصدَّق المسلم بصدقَة لكي يقول النَّاسُ أنَّه مُحسِن , فإنَّ صدَقَته مردُودةٌ عليه , لا يَقبلُها اللَّه منه ! لهذا , حرص النَّبيُّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم منذ بداية دَعْوته أن يُوَجِّه المسلمين إلى أن تكون جميع أعمالهم خالصة للَّه وحده , حتَّى تُحْظَى بالقبُول . فقد روى النّسائي في السُّنن الكبرى عن أبي هُرَيْرة رضي اللَّه عنه , قال : سمعتُ رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم يقول : أوَّلُ النَّاس يُقضَى يومَ القيامة عليه , ثلاثَة : رجلٌ استُشْهِد , فأُتِيَ به فعرَّفه (أي اللَّهُ تعالى) نِعَمَه فعَرفها , قال : فَمَا عملْتَ فيها ؟ قال : قاتَلْتُ فيك حتَّى استُشْهِدْتُ . قال : كذبْتَ , ولكن قاتلْتَ لِيُقال فلانٌ جريء , وقد قِيل , ثمَّ أُمِر به فسُحِبَ على وجهه حتَّى أُلْقِيَ في النَّار . ورجلٌ تعلَّم العِلْم وعلَّمَه وقرَأ القُرآن , فأُتِيَ به فعرَّفَه نِعَمَهُ فعَرفها , قال : فما عملْتَ فيها ؟ قال : تعلَّمتُ العِلْمَ وعلَّمْتُه وقرأتُ فيك القرآن . قال : كذبْتَ , ولكن تعلَّمتَ العِلْم لِيُقال عالِم , وقرأتَ القرآن لِيُقال قارئ , فقد قِيل , ثمَّ أُمِر به فسُحِب على وجهه حتَّى أُلقِيَ في النَّار . ورجلٌ وسَّع اللَّهُ عليه وأعطاه من أصناف المال كُلِّه , فأُتِيَ به فعرَّفه نِعَمَه فعَرفها , قال : ما عملْتَ فيها ؟ قال : ما تركتُ من سبيلٍ تحبُّ أن يُنْفَق فيها إلاَّ أنفقتُ فيها لك . قال : كذبْتَ , ولكن فعلْتَ كي يُقال جَواد , فقد قِيل , ثمَّ أُمِر به فسُحِبَ على وجهه حتَّى أُلقِيَ في النَّار . (السّنن الكبرى – الجزء 6 – ص 477 – رقم الحديث 11559) . وروى الإمام أحمد في مسنده عن محمود بن لبيد رضي اللَّه عنه , أنَّ رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم قال : إنَّ أخْوَفَ ما أخافُ عليكم : الشِّرْك الأصْغَر . قالُوا : وما الشّرْكُ الأصغَر يا رسول اللَّه ؟ قال : الرِّيَاء , يقول اللَّهُ عزَّ وجلَّ لهم (أي لِلْمُرائين) يوم القِيامة إذا جَزَى النَّاسَ بأعمالهم : اذهبُوا إلى الذين كُنْتُم تُراءون في الدُّنيا , فانظُرُوا هل تجدُون عندهُم جزاء . (مسند الإمام أحمد بن حنبل – الجزء 5 – ص 428 – رقم الحديث 23680) . وروى أبو داود في سُننه عن عمر بن الخطَّاب رضي اللَّه عنه , قال : قال رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم : إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّات , وإنَّما لكُلِّ امرئ ما نَوَى , فمَنْ كانتْ هجرتُه إلى اللَّه ورسوله فهِجْرَتُه إلى اللَّه ورسوله , ومَنْ كانتْ هجْرَتُه لِدُنْيَا يُصِيبُها , أو امرأة يَتَزوَّجُها , فهِجْرَتُه إلى ما هاجر إليه . (سنن أبي داود – الجزء 2 – ص 262 – رقم الحديث 2201) . القاعدة الثَّالثة إذًا في بناء الفرد المسلم , هي : أن يُخْلِصَ المسلِمُ نِيَّتَه للَّه وحدَه , فلا يَقومُ بأيِّ عمل إلاَّ وهو يَرْجُو من ورائه مرضاةَ اللَّه وحُسْنَ ثَوابه , لا أن يَفعلَه كي يُقال : فلانٌ كثير الصَّدقة أو كثير العبادة . |
من ثمار هذه التّربية باللَّهِ عليكِ سيِّدتي الفاضلة , ماذا تَتوَقَّعين من إنسانٍ تربَّى على الشُّعور الدَّائم بمراقبة اللَّه له , وتربَّى على حُبِّ اللَّه والثِّقة به والتَّوكُّل عليه , وعلى إخلاص العمل له وحده ؟ طبعًا , سيُصبح من الصَّعب عليه جدًّا أن يتهاون في دراسته أو يعُقَّ والديه أو يؤذي غيره أو يسرق أو يتعاطى المخدّرات , لأنَّه يعلَم أنَّ كلَّ ذلك يُغضِبُ ربَّه . وسيتوَلَّدُ في داخله مُحَرِّكٌ قويٌّ يدفعُه دائمًا لِفعل الخير واجتناب الشَّرّ . وعند ذلك , لن يستغرب مِن تَوْجيه النَّبيِّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده عن أَنَس بن مالك رضي اللّه عنه , قال : قال رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم : إن قامَت السَّاعةُ وبِيَدِ أحَدِكُم فَسِيلةٌ , فإن استَطاع أن لا يقُومَ حتَّى يَغْرِسها فَلْيَفْعلْ ! (مسند الإمام أحمد بن حنبل – الجزء 3 – ص 191 – رقم الحديث 13004) . نعم , لن يستغربَ مِن هذا التَّوجيه لأنَّه إن كان سَيَغرسُ الفَسِيلة ابتغاء مرضاة اللَّه وطمعًا في ثوابه , فلِمَ لا يفعلُ ذلك , حتَّى ولو قامَت السَّاعةُ وعلِم أنَّه سيموتُ في تلك اللَّحظة ؟! وعندما تَربَّى المسلمون الأوائل على القواعد الثَّلاث التي ذكَرناها سابقًا , كانت النَّتيجةُ أن بلغتْ دعوةُ الإسلام نصف الكرة الأرضيَّة في حوالي نصف قَرْنٍ من الزَّمان , ودخلَ النَّاسُ من مختلف الجنسيَّات أفواجًا في دِين اللَّه بسبب أخلاق المسلمين العالية ! نعم , فهم رأوا فيهم أمانةً في التِّجارة , وصدْقًا في الحديث , وعدْلاً في الحكْم لَم يَعْهدُوه مِن قبلُ تحت حُكْم الملُوك الجبابرة من الرُّوم والفُرس . وكانت النَّتيجةُ , كما ذكَر الواسطي في كتابه تاريخ واسط , أنَّ الرَّجُلَ يُخْرجُ زكاة مالِه في زَمَن الخليفة العادل عُمر بن عبد العزيز , فلا يجدُ أحدًا يَقْبَلُها ! نعم , فاضَ المالُ في الدَّولة الإسلاميَّة , فلم يعُد هناك فُقَراء لِأَخذ الصَّدقة , ولم يَطْمع أحدٌ في الزِّيَادة ! هذا سيِّدتي الكريمة ما أنْتَجه الإسلام . فماذَا أنتجَت الأنظِمَةُ الأخرى ؟ لقد أنتجتْ إنسانًا مادِّيًّا , خالٍ من القِيَم والأخلاق , ليس له من مُحرِّك داخلي سِوَى حُبّ المال أو الشُّهرة أو المنصب أو الجنس . فكانت النَّتيجةُ أن غَرقت المجتمعاتُ التي أفْرَزتْها هذه الأنظمة في مشاكل لا نهاية لها , من كثرة السَّرقات وحوادث الاغتصاب وتعاطي المخدّرات , والفساد الإداري والسِّياسي والأخلاقي , وجُور المسؤولين . ذلك أنَّ الإنسان في هذه المجتمعات اسْتَكْبر أن يكونَ عبدًا للَّه , فسقَط دون أن يَشعر في عبادة شهواته الجارفة , لا يستطيع منها خلاصًا ! وأصبح عبْدُ المال يَرْتَشي ويَغشُّ ويسرق لِيَزداد ثَرَاءً , وصار عَبْدُ الجاه يَدُوس غَيْرَه ويَكِيدُ له لِيَصل إلى الكُرْسي , وطَغَت الشَّهوةُ على عَبْد الجِنْس فلَم تَسْلَم من وَحْشِيَّته ابنَته ولا زَوْجة جاره ! ________________________________ التالى هكذا يحفظُ الإسلامُ الفردَ المسلم من الانهيار أمام الأزمات9 |
جميع الأوقات حسب التوقيت الدولي +2. الساعة الآن 18:32. |
Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.