منتديات كلمة سواء الدعوية للحوار الإسلامي المسيحي

منتديات كلمة سواء الدعوية للحوار الإسلامي المسيحي (https://www.kalemasawaa.com/vb/index.php)
-   تعرف على الإسلام من أهله (https://www.kalemasawaa.com/vb/forumdisplay.php?f=132)
-   -   أما آن لك أن تعتنق الإسلام دين كل الأنبياء؟! (https://www.kalemasawaa.com/vb/showthread.php?t=12209)

كلمة سواء 16.01.2011 14:29

ولكن , هل يُعقَل أن يكون رجال الدِّيانات الأخرى
على خطأ ؟!



هل يُعقَل أن يكون رجالُ الكنيسة , وأحبارُ اليهود , وغيرهم من زعماء الدِّيانات الأخرى , على عقائد باطلة ؟!
نعم , هم ليسُوا على الدِّين الحقِّ ! وكُلُّ مَن بَلَغَتْه دعْوَةُ الإسلام , بعد بعْثَة النَّبيِّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , فلَم يَقبَلْها , فهو كافر , ومصيرُه جهنَّم خالدًا فيها إذا مات على تلك الحال . وقد ذكَرْنَا الآيات القرآنيَّة الدَّالَّة على ذلك بوضوح .
بل إنَّ موقفَ زُعماء الدِّيانات الأخرى سيكون أصعب يوم القيامة من أتباعهم من عامَّة النَّاس , لأنَّ مركَزَهم يقتضي أن يكون عندهم عِلْمٌ أكثر من غيرهم , سواء بديانتهم أو بالدِّيانات الأخرى , وبالتَّالي كان الأَوْلَى بهم أن يتثبَّتُوا من صحَّة معتقداتهم , وإذا عرفُوا الحقَّ , ألاَّ يُصرُّوا على الباطل .
لكنَّ المدهش حقًّا أنَّ أغلب هؤلاء سمعوا فعلاً بما يقوله القرآن بخصوص حقيقة عيسى عليه السَّلام خاصَّةً , وحقيقة الأنبياء والرُّسُل عامَّةً , وصفات اللَّه تعالى , وأنَّ اللَّه لن يقبل غير الإسلام , وأنَّ كلّ من يموتُ على غير هذا الدِّين سيكون جزاءه جهنَّم خالدًا فيها , لكنَّهم عِوَضَ أن يتَّبعُوا الحقَّ الذي جاءهم , أعرضُوا وراحُوا يُحاولُون عبثًا أن يجدُوا تبريرات يستطيعون بها الرَّدَّ على تساؤلات أتباعهم العديدة , دون جدوى ! فماذا ستكون حُجَّتُهم أمام اللَّه عندما يَسألُهم يوم القيامة لماذا أصرُّوا على معتقداتهم الخاطئة ولم يُسلِمُوا , فضَلُّوا وأَضَلُّوا غَيْرَهم ؟!

أمَّا أتباعُهم من عامَّة النَّاس , فإذا أصرُّوا على اتِّباعِهم دون تفكير , فاستمعْ لِمَا يقوله القرآنُ فيهم وفي أمثالهم : يقول اللَّه تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا 64 خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا 65 يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولاَ 66 وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا 67 رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا 68 } (33- الأحزاب 64-68) .
والسَّاداتُ والكُبراء هنا هم رجالُ الدِّيانات الأخرى غير الإسلام , وأيضًا كلّ مَن يستغلّ سُلطَته أو شُهرته أو مالَه لِيُضِلَّ غيره عن طريق اللَّه .
أمَّا أتباعُهم , فسَوْفَ يَعضُّون أصابعَهم يوم القيامة من النَّدَم أنَّهم لم يتَّبعُوا الأنبياء , ثمَّ لن يَملِكُوا إلاَّ أن يَدْعُوا اللَّهَ أن يُؤتي كُبَراءَهم ضعفَيْن من العذاب بِسَبب إضلالِهم لهم .







http://hurras.org/vb/mwa2009/mwa07/m...7-border-l.gif

كلمة سواء 16.01.2011 14:30

أليس في هذا الكلام اعتداء على حُرمة رجال الدِّين ؟!



إطلاقًا ! فما ذكَرناه سابقًا لَم يَكُن أبدًا شَتْمًا لِرجال الدِّين أو استهزاءً بهم , وإنَّما كان بِقَصْد تَنبيههم , هم وأتباعهم , إلى الأخطاء الموجودة في معتقداتهم من وجهة نَظر الإسلام , وهم في الأخير أحرارٌ في قَبُول أو رفض هذا التَّنبيه !
ويعلَمُ اللّه أنَّ الدَّافع الأساسي لِذِكْري لِمَا يقولُه القرآن في الدِّيانات الأخرى , هو حِرْصي على أن يُراجع أتباعها معتقداتهم , لعلَّ اللَّه يهديهم إلى الإسلام , فيَنْجون بذلك من العذاب الشَّديد يوم القيامة . فلِماذا هذه الحساسيَّات المفرطة تُجاه كلّ ما يتعلَّق بالدِّين ؟!

كلمة سواء 16.01.2011 14:30

أليس فيه إذًا عداءٌ لليهود والنَّصارى ؟!



أبدًا ! فهذا الكتاب مُوَجَّه إلى غير المسلمين عامَّة , وإلى اليهود والنَّصارى خاصَّة , لِدَعوتهم إلى الإسلام . وبما أنَّ هؤلاء (أي اليهود والنَّصارى) يعبدون اللَّهَ الذي يعبده المسلمون , كان لا بُدَّ من تنبيههم إلى ما يقوله هذا الإله بخصوص عقائدهم حتَّى يُعيدوا النَّظر فيها .
ربَّما تقول سيِّدي : وما شأنُك بهم ؟! دَعْهُم يعبدون ربَّهم كما يشاءون واعبدْ أنت ربَّك كما تشاء ؟!
أقول : وهل تقبل أنت أن تقف مكتوف اليدين وأنت ترى إنسانًا يَمشي في طريق , هو يعتقد أنَّ فيها سعادته , وأنت على يقين أنَّها ستؤدِّي به إلى السُّقوط في النَّار ؟!
طبعًا لا تقبل ! فكيف تريد إذًا من المسلم أن يدرس أو يشتغل مع يَهودي مثلاً أو يسكُن بجواره , ثمَّ لا يدعوه إلى الإسلام , وهو يعلم يقينًا أنَّ جاره هذا أو زميله في الشُّغل لو مات على يَهوديَّته فإنَّه سيُحرَم من دخول الجنَّة ويكون مصيره إلى النَّار ؟!
واللَّهِ الذي لا إله غيرُه , إنَّ هذا الجار اليَهودي سيحتجُّ أمام اللَّه يوم القيامة أنَّ جاره المسلم لم يَدْعُهُ إلى الدِّين الحقِّ , وسيَسألُ اللَّهُ تعالى المسلِمَ عن ذلك !
فالدَّعوةُ إلى الإسلام إذًا هي واجبٌ إنساني وأخلاقي على المسلم . لكن للأسف كما ذكَرْنا سابقًا , كثيرٌ من النَّاس يتعاملون بحساسيَّة مُفرطة مع كلِّ ما يتعلَّق بالدِّين ! وهذا الأمر جعلَ العديد من المسلمين يتجنَّبون دعوةَ اليهود والنَّصارى إلى الإسلام , حتَّى لا يُتَّهمُوا بإثارة الفِتَن في المجتمعات !

كلمة سواء 16.01.2011 14:30

هل يقبلُ اللَّه عُذر من ماتَ على غير الإسلام ؟

أمَّا مَنْ ماتَ على غير دين , فماذا سيكون عُذْره عندما يقف أمام اللَّه يوم الحساب , بعد أن عاش طول حياته يَمشي في أرضه , ويأكل من رزقه , ويتنعَّم بنِعَمه التي لا تُحصَى , من هواء وسمع وبَصر ونُطق وغير ذلك , دون أن يَجد إلزامًا على نفسه أن يبحث عن هذا الخالق لِيَشكُره ؟!
ألا يُعتبر هذا مُنتهى الجحود وسوء الخلُق ؟! هل تقبلُ أنت أن تُقدِّم خِدْمةً لِأَحدٍ مَا , ثمَّ عِوَض أن يشكُرك , يُقابلك بالنُّكْران والإساءة , أو يُعرض عنك ويشكر أحدًا غيرك ؟! هل من المعقول أن يعيش الإنسان طيلة حياته يعملُ ويأكلُ وينام ويلهُو , دون أن يَجد الوقت لكي يبحثَ عمَّن خلَقَه ؟!
لا , غير معقول ! وليس لهؤلاء أيّ عذر إذا ماتُوا على كُفرهم .

وأمَّا مَنْ مات نصرانيًّا أو يهوديًّا , بعد نُبُوَّة محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , أو كان يعبدُ شيئًا آخر غير اللَّه , فأين كان عقلُه ومنطقُه ؟! ولماذا لم يبحث في حياته عن الدِّين الحقِّ كما كان يبحثُ عن الطَّعام والرِّزق ؟! وهل يُعقَل أنَّه لم يسمع طول حياته بالإسلام ؟!
إنَّ وسائل الإعلام تَملأ كلَّ الدّنيا في عصرنا هذا , وأغلب الظَّنِّ أنَّ كلَّ النَّاس تقريبًا سمعوا بالإسلام . لكنَّ أكثر هؤلاء لم يُكلِّفُوا أنفسهم عناء التَّعرُّف عليه , على الأقلّ للتَّثبُّت من مدى صحّة معتقداتهم . ولو اطَّلَعوا على القرآن الكريم بلُغَته العربيَّة , أو ترجمة معانيه باللُّغات الأخرى , لَكَفاهم ذلك لِلوصول إلى الحقيقة . وواللَّهِ الذي لا إله غيرُه , لو أنَّ أيَّ إنسان بَحثَ بصدق عن الدِّين الحقِّ , لَهَداه اللَّه تعالى إليه , بعدله ورحمته .
ليس لهؤلاء إذًا أيّ عذر أمام اللَّه يوم القيامة .
وهنا لا بُدَّ من ملاحظة شيء هامّ : إنَّ مجرَّد القول بأنَّ محمَّدًا نبيٌّ مثل إبراهيم وموسى وعيسى , وأنَّ الإسلام دينٌ مثل اليهوديَّة والمسيحيَّة , هذا القول لا يُنجي صاحبه من الخلود في النَّار يوم القيامة , إذا لم يدخل هذا الشَّخصُ فعْلاً في الإسلام وينطق بالشَّهادتين .

وأمَّا مَن لم تبلُغه دعوةُ الإسلام , أو وَصلَتْه بصورة مُشَوَّهة , أو الذي مات صغيرًا من أبناء الكفَّار , أو المجنون , أو غير ذلك من الحالات الخاصَّة , فإنَّ أمْرَهُم إلى اللَّه يوم القيامة , يَحكُم فيهم بما يشاء . وعلى كلِّ حال , فالمؤكَّد أنَّ اللَّهَ تعالى لن يُعامِلَهم مثل معامَلَته لِمَن بلَغَتْهُ دعوةُ الإسلام فأعرضَ عنها , لأنَّ اللَّه لا يظلم أحدًا من خلقه . يقول تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ 44 } (10- يونس 44) .

أمَّا أنت أيُّها القارئ الكريم , فلَم يَعُد لك أيُّ عُذر بعد الآن إذا متَّ على غير الإسلام , لأنَّ الدَّعوة إليه قد بَلَغَتْكَ فعْلاً عن طريق هذا الكتاب ! أرجُو اللَّهَ أن يشرح صدركَ لهذا الدِّين العظيم .

كلمة سواء 16.01.2011 14:31

وماذا عن الذي سخَّر حياته لفعل الخير ؟!

أليسَ من الظُّلم أن يُعذِّبه اللَّهُ بالخلود في النَّار إذا مات على غير الإسلام ؟!
قبل الإجابة على هذا السُّؤال , لِنَستمعْ لهذا الحديث الذي رواه ابن حبَّان في صحيحه عن الأسود بن سريع رضي اللَّه عنه , قال : قال النَّبيُّ (محمَّد) صلَّى اللَّه عليه وسلَّم : أربعةٌ يَحتجُّون يومَ القيامة : رجلٌ أصَمّ , ورجلٌ أحمق , ورجلٌ هرم , ورجلٌ مات في الفترة . فأمَّا الأصمّ فيقول : يا ربّ , لقد جاء الإسلام وما أسمعُ شيئًا . وأمَّا الأحمقُ فيقول : ربِّ , قد جاء الإسلامُ والصِّبْيانُ يَحْذفُونَني بالبَعر . وأمَّا الهرم فيقول : ربِّ , لقد جاء الإسلامُ وما أعْقِل . وأمَّا الذي مات في الفترة فيقول : ربِّ , ما أتاني لك (أي منك) رسول . فيأخُذُ مَواثيقَهم لَيُطيعُنَّه , فيُرسلُ إليهم رسولاً أن ادخُلُوا النَّار . قال : فَوَالذي نَفْسي بيَدِه , لو دَخلُوها كانت (أي لَكانَتْ) عليهم بَرْدًا وسلامًا . (صحيح ابن حبّان – الجزء 16 – ص 356 – رقم الحديث 7357) .
وروى أبو يعلَى في مُسنَده عن أنَس بن مالك رضي اللَّه عنه , أنَّ النَّبيَّ محمَّدًا صلَّى اللَّه عليه وسلَّم قال : يُؤتَى بأربعةٍ يومَ القيامة : بالمولود , وبالمعتُوه , وبِمَنْ ماتَ في الفترة , والشَّيخ الفاني , كلُّهم يتكلَّم بِحُجَّته . فيقولُ الرَّبُّ تباركَ وتعالَى لِعُنق من النَّار : ابرُزْ . ويقول لهم : إنِّي كنتُ أبعثُ إلى عبادي رُسُلاً من أنفُسِهم , وإنِّي رسولُ نَفْسي إليكُم , ادخُلُوا هذه (أي هذه النَّار) ! فيقولُ مَنْ كُتِبَ عليه الشَّقاء : يا رَبِّ , أنَّى نَدْخُلها ومنْها كُنَّا نَفِرّ ؟!
ومَنْ كُتِبَتْ عليه السَّعادة يَمضي , فيَقْتحمُ فيها مُسرعًا .
فيقولُ اللَّهُ تبارك وتعالى (لِمَنْ رَفَضُوا دخول النَّار) : أنْتُم لِرُسُلي أشَدّ تكذيبًا ومَعْصِيَة .
فيدخُلُ هؤلاء الجنَّة (أي مَن أطاع واقتحم في النَّار) , وهؤلاء النَّار (أي مَن عَصَى) . (مسند أبي يعلى – الجزء 7 – ص 225 – رقم الحديث 4224) .
فمِنْ عَدْل اللَّه إذًا ورحمته أنَّه لا يُعذِّبُ أحدًا من عباده حتَّى يُقيم عليه الحُجَّة , إمَّا في الدُّنيا أو في الآخرة ! والذين ماتُوا قَبْلَ أن تبلُغهم فعْلاً دعْوةُ الإسلام , سَيُمتَحنون في الآخرة كما امتُحِنَ غيرُهم في الدُّنيا . فمَنْ أطاع كان من أهل الجنَّة , ومَن عصَى دخلَ النَّار خالدًا فيها .
أليسَ هذا مُنتهَى العدل ؟!

وأمَّا مَنْ بلَغَتْه دعوةُ الإسلام فأعرض عنها وأصرَّ على البقاء على المسيحيَّة أو اليهوديَّة أو الإلحاد أو غير ذلك , فهو الذي ظلَم نفسَه في هذه الحالة لأنَّه عانَد وتكبَّر , وسيكون مصيره بلا شكّ : الخلود في جهنَّم .
وبِمَا أنَّ اللَّهَ أكْرم وأعدل مِن أن يظلم مثقال ذرَّة من خير عمِلَه عبدٌ من عباده , فكلُّ مَا يَفعلُه الكافرُ من خير , يُجازيه اللَّهُ تعالى عليه إمَّا في الدُّنيا أو في الآخرة أو في الاثنين معًا .
أمَّا في الدُّنيا , فَيُوَسِّعُ عليه في الرِّزق , أو يَصرف عنه بعض المصائب , أو يُعطيه من الخير ما تمنَّى , أو غير ذلك .
وأمَّا في الآخرة , فيُخفِّفُ عنه العذاب . فالنَّارُ دركات , والجنَّة درجات . يقول اللَّه تعالى مثلاً في منزلة المنافقين : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا 145 } (4- النّساء 145) .

لا يَضيعُ إذًا أيُّ شيء في ميزان اللَّه , سواء كان العبدُ مسلمًا أو كافرًا . يقول اللَّه تعالى : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ 7 وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ 8 } (99- الزّلزلة 7-8) .
فهل هناك أعدل من اللَّه ؟!

كلمة سواء 16.01.2011 14:31

إنَّ اللَّه لا يغفر أن يُشرَك به



ربَّما تقول سيِّدي الفاضل : ولكنَّ النَّصارى واليهود يعبدون اللَّه , فلماذا يكون مصيرُهم إلى النَّار خالدين فيها مثل الملحدين والظَّالمين والقَتَلَة ؟!
استمعْ إذًا لِمَا يلي : يقول اللَّه تعالى في القرآن الكريم : { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا 48 } (4- النّساء 48) .
فأعظمُ الذُّنوب عند اللَّه : أن يُشرَك في عبادته شيءٌ آخر .
والنَّصارى أشركُوا مع عبادة اللَّه : عبادتَهُم للمسيح عليه السَّلام , وادِّعاءَهم أنَّه ابنُ اللَّه . بينما اليهود ادَّعَوْا مِن قبلُ أنَّ العُزَيرَ ابنُ اللَّه , ثمَّ نسبُوا إلى اللَّه سبحانه نَقائص لا تليقُ بكَمَاله , ونَسبُوا لأنبيائه أيضًا نقائص لا تليق بهم , وقد عَرَضْنا أمثلةً لذلك . فأيُّ ظُلم أكبر من هذا ؟! يقول اللَّه تعالى : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ 30 اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ 31 } (9- التّوبة 30-31) .
فهل تقبلُ أنتَ أن تُنفِق على أطفالكَ حتَّى يكبروا , وتُوَفِّر لهم كلّ ما يحتاجوه من مأكل وملبس ورعاية , ثمَّ بعد ذلك يَشْتموك , أو يَنْسبُوا الفضلَ في ما وصلُوا إليه إلى شخص آخر غيرك ؟!
طبعًا لا تَقْبل ! فكيف تريدُ إذًا من الخالق سُبحانه أن يقبل أن ينتقص اليهودُ مِن صفاته بعد أن عَرفوها , وأن يستهزئُوا بأنبيائه ويُحرِّفُوا توراته ؟! وكيف تريده أن يقبل أن ينسب إليه النَّصارى ابنًا , ثمَّ يعبُدوا الابنَ المزعوم وينسبُوا إليه كلَّ الفضل , ويتركُوا الخالق ؟! أليس هذا مُنتهى الظُّلم ؟!
وقد روى الطَّبراني في مسند الشَّاميِّين عن أبي الدَّرداء رضي اللَّه عنه , أنَّ رسولَ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم قال : قال اللَّه عزَّ وجلَّ : إنِّي والجِنَّ والإنسَ في نَبَأ عظيم , أخلُقُ ويُعْبَدُ غَيْري , وأرزُقُ ويُشْكَرُ غَيْري ! (مسند الشّاميّين – الجزء 2 – ص 93 – رقم الحديث 974) .

ومِثْلُ هؤلاء في الظُّلم : مَنْ يَدْعُو إلى فصل الدِّين والخالق عن الحياة , ويحتجُّ قائلاً : ما ضرورةُ الدِّين , إذا كنتُ أسعَى لِنَشْر المحبَّة والسِّلْم بين النَّاس ؟!
فهل تقبلُ أنت أن يترُكَك أطفالُكَ جانبًا ويعزلوك عن حياتهم ولا يذكُرونَك مُطلَقًا , بدَعوى أنَّهم على كلِّ حال يَعملُون لإحلال السِّلْم في هذا العالَم ؟‍!
واللَّهِ الذي لا إله غيرُه , لو حصل أطفالُك على عشرات الأَوْسمة من المنظَّمات الإنسانيَّة , ولو أجمعَ كلُّ النَّاس على أنَّهم أفرادٌ يَستحقُّون التَّقدير والإعجاب , لَمَا أطفأ ذلكَ غضبكَ الشَّديد عليهم بسبب تَنَكُّرهم لكَ ! بل لو علِمَ النَّاسُ بِجُحود أطفالك لك , لأنكَرُوا عليهم ذلك , ولَرُبَّما جرَّدُوهم من كُلِّ الأَوْسمة التي حصلُوا عليها .
فما بالُكَ بِمَنْ يُنعِمُ عليه اللَّهُ تعالى بأرضٍ يعيشُ فوقها , وهواء يتنفَّسُه , وشمس تُدفئُه , وعَقْل يُفكِّر به , وحواسّ , وجوارح , وغير ذلك , ثمَّ يَتَنكَّرُ لِخالقه ولا يعبدُه , بدَعْوى أنَّه على كلِّ حال يَسْعَى لِنَشر المحبَّة بين النَّاس ؟!

واجبٌ إذًا على كلِّ إنسان يَملكُ ذرَّةً مِن أخلاق أن يَنسب الفَضْلَ لِصاحبه , فيعترف بنِعَم اللَّه التي لا تُحصَى عليه , ويعبُده وحده ولا يُشرك به شيئًا , ويتَّبع دينَه الذي ارتضاه له , ويؤمن بجميع أنبيائه , ويمتثل لأوامره . باختصار : واجبٌ على كلِّ إنسان أن يكون مسلِمًا لِيُحقِّقَ هذه الأمور .

كلمة سواء 16.01.2011 14:31

الإسلام شرطٌ لدخول الجنَّة


نعم , وكم ستكون كبيرة خيبةُ أمل النَّصارى واليهود وكلّ مَن أشرك شيئًا آخر مع اللَّه أو عبدَ غيره , وكم ستكون حسرتُهم عظيمة يوم القيامة عندما يُذهبُ بهم إلى النَّار , وقد كانُوا يَظنُّون أنَّهم سيُقابَلُون بالحفاوة والتَّكريم والجنَّة ! يقول اللَّه تعالى : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ 39 } (24- النّور 39) .
ويقول تعالى : { مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ 18 } (14- إبراهيم 18) .
ويقول تعالى : { يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا 22 وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا 23 } (25- الفرقان 22-23) .
وهذا لا يتنافَى مع ما ذكرناهُ سابقًا من أنَّ الكُفَّار سيُجازَون على عملهم الصَّالح , إمَّا في الدُّنيا أو في الآخرة . لكنَّ هذه الآيات تُبيِّن أنّ عملَهم هذا لَن يَشفع لهم لدخُول الجنّة . وكم ستكونُ خيبةُ أملِهم كبيرة لأنَّهم كانُوا يَنتظرون أن يُستقبَلُوا بالحفاوة والتَّكريم والمدح , تقديرًا لِمَا فعلُوا في الدُّنيا من أعمال خيريَّة أو خدمات لصالح الوطن أو غير ذلك , فوَجدُوا عكس ذلك تمامًا , ثمَّ انتهى بهم المطاف إلى الخلود في النَّار !

كلمة سواء 16.01.2011 14:32

وهل سيدخلُ المسلم العاصي إلى النَّار ؟!

يومَ القيامة سيُنصَبُ ميزانٌ لِوَزن أفعال كلّ إنسان , فمَنْ رجحتْ سيِّئاتُه من المسلمين ولَم تَنَلْهُ شفاعةُ الشّافعين , فإنَّه يُعذَّبُ في النَّار ما شاء اللَّه , ثمَّ يدخلُ الجنَّة . الفرقُ إذًا بين المسلم وغير المسلم هنا , أنَّ الأوَّل إذا عُذِّب في النَّار بذُنوبه فإنَّه لا يُخلَّد فيها , بل يدخُل فيما بعدُ إلى الجنَّة , بينما الثَّاني يُخلَّد في النَّار ولا يدخلُ الجنَّة أبدًا .
وإنَّ من عَدْل اللَّه تعالى أنَّه يوم القيامة سيقتصُّ لِكُلِّ ظالم مِمَّن ظلَمَه , حتَّى لو كان الظَّالم مسلمًا والمظلوم كافرًا !
نعم , يقول تعالى في القرآن الكريم : { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ 47 } (21- الأنبياء 47) .
ويُفصِّل لنا النَّبيُّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم هذا القِصَاص , في حديث رواه البَيْهقي في سُنَنه عن أبي هُرَيْرة رضي اللَّه عنه , أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم قال : أتَدْرونَ مَن المفْلِس ؟ قالُوا : المفْلِس فينا مَنْ لا دِرهَم له ولا مَتاع . فقال : إنَّ المفْلِس مِن أمَّتي يأتي يومَ القيامة بصلاة وصيام وزكاة , ويأتي قد شَتَم هذَا , وقذفَ هذا , وأكلَ مالَ هذا , وسفَكَ دَمَ هذا , وضربَ هذا , فَيُعطَى هذا من حَسَناته , وهذا من حَسَناته , فإن فَنِيَتْ حَسَناتُه قبل أن يُقضَى عنه ما عليه , أخذَ من خطاياهُم فطُرحَتْ عليه , ثمَّ طُرح في النَّار . (سنن البيهقي الكبرى – الجزء 6 – ص 93 – رقم الحديث 11284) .
نعم , الذي طُرح في النَّار هنا هو مسلمٌ كان يُؤدِّي فرائضَ اللَّه من صلاة وصيام وزكاة , ولكنَّه نسيَ أنَّ اللَّه العادلَ لن يتركَه قبل أن يُحاسبه على ظُلْمِه لتلك المرأة المسلمة , وسَرقته لِمَال ذلك النّصراني , وضَرْبه لذلك اليهودي , وشهادته زورًا ضدَّ ذلك الملْحِد .
فهل هناكَ أعدل من اللَّه ؟!

قد تقول : ولكن ما الَّذي سيستفيدهُ الكافرُ يومَ القيامة من الاقتصاص له من المسلم , وماذا سيفعلُ بالحسنات التي ستُضاف إلى ميزانه بِمَا أنَّه سيُخلَّد في النَّار ؟!
أقول : سيرتاح نفسيًّا لأنَّه أخذ أخيرًا حقَّه مِمَّنْ ظلَمَه , وسيُخفَّف عنه العذابُ بهذه الحسنات , لأنَّ النَّارَ دركَاتٍ كما ذكَرْنَا .

كلمة سواء 16.01.2011 14:33

لا إكراه في الدِّين



قد تقولين سيِّدتي الكريمة : ولكنَّني , مع كلِّ ما ذَكَرْتَه حتَّى الآن , لا أريد أن أدخُلَ في الإسلام . فهل يُمكنُ لأحدٍ أن يُجبرني على ذلك ؟!
أقول : طبعًا لا ! وحتَّى لو كنتِ تعيشين في بلَدٍ أهلُه مسلمُون , لا أحد يستطيع أن يفرضَ عليكِ اعتناقَ الإسلام . يقول اللَّه تعالى : { لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ 256 } (2- البقرة 256) . ففي هذه الآية إعلانٌ صريح بأنَّ الإسلام لا يُكْرِه أحدًا على الدُّخول فيه .
ذلكَ أنَّ المسلم مُطالَبٌ بدَعْوة النَّاس إلى دينه بالحكمة واللِّين , كما قال تعالى : { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ 125 } (16- النّحل 125) .
أمَّا النَّتيجة , فيترُكها للَّه , لأنَّه هو وحده الذي بيده الهداية . يقول تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ 4 } (14- إبراهيم 4) . ويقول تعالى : { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ 56 } (28- القصص 56) . ويقول تعالى : { لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ 272 } (2- البقرة 272) .
وعلى هذا , فلا يَحِقُّ للمسلم أن يتعرَّض لغير المسلمين بالسُّوء , سواء بالقول أو بالفعل , بِحُجَّة أنَّهم امتنعُوا عن الدُّخول في الإسلام . بل إنَّ الإسلام يُحرِّم تحريمًا قاطعًا على المسلم أن يغشَّ غيرَ المسلم في بيعٍ أو تجارة , أو يسرق منه شيئًا , أو يشتغل عنده فيَخُونه , أو يكذب عليه , أو يسكن في بلَدٍ لا يَدينُ بالإسلام فيَسرق من المغازات , ويركب الحافلة دون أن يدفع ثمن التَّذكرة , ويُخرِّب الممتلكات العامَّة , كلُّ ذلك بدَعْوى أنَّ أهل هذا البلد كفَّار !
ولا يكتفي الإسلام بتحريم هذه الأفعال , بل يحُثُّ المسلمَ أن يتحلَّى بالأخلاق العالية مع كلِّ النَّاس , أيًّا كانت عقيدتهم ! مِن ذلك أن يزور صديقَه النّصراني إذا مرض , ويُعين جارَه اليهودي بالمال إذا ضاق به الحال , ويُقدِّم هديَّة إلى زميله الملحد في العمل بمناسبة زواجه , وينصح زميله الآخر بِمَا يراه منفعة له .

نعم , هذا هو الإسلام , وهذه أخلاق المسلم !


كلمة سواء 16.01.2011 14:33

ولكن , أليس الإسلام دين إرهاب ؟!



أبدًا ! فهل يُعقَل أن يَشترِطَ اللَّهُ تعالى لِدُخول الجنَّة أن يكُون المسلمُ تقيًّا وعلى قدْر عالٍ من الأخلاق , ثمَّ يأمره بالاعتداء على كلِّ مَن خالَفه في الدِّين ؟!
إطلاقًا ! يقول اللَّه تعالى : { لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ 8 إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ 9 } (60- الممتحنة 8-9) .
قال الإمام الطَّبري في تفسير الآية 8 : أي لا ينهاكُم اللَّهُ عن الذين لم يُقاتِلُوكم في الدِّين , مِن جميع أصناف المِلَل والأديان , أن تَبَرُّوهم وتَصِلُوهم وتُقسِطُوا إليهم .
وإذا كان الإسلام يُحرِّم , كما ذكَرْنا سابقًا , الاعتداءَ بالقول أو بالفعل على غير المسلمين بدَعْوى أنَّهم كُفَّار , فهو يُشَدِّدُ التَّحريم عندما يتعلَّق الأمرُ بإيذاء غير المسلمين الذين لهم مُعاهدات مع المسلمين أو الذين يعيشون في البلدان الإسلاميَّة . فقد روى أبو داود في سُنَنه عن صفوان بن سليم عن عدد من أبناء أصحاب رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم قال : ألاَ مَنْ ظَلَم مُعاهِدًا , أو انتقَصَه , أو كلَّفَه فوق طاقَته , أو أخذَ منه شيئًا بغَيْر طِيب نَفْس , فأنا حجيجُه يومَ القيامة . (سنن أبي داود – الجزء 3 – ص 170 – رقم الحديث 3052) .
وروى الإمام البخاري في صحيحه عن عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّه عنه , أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم قال : مَنْ قَتَل مُعاهِدًا لَمْ يرحْ رائحةَ الجنَّة , وإنَّ ريحَها تُوجَد من مَسيرة أربعين عامًا . (الجامع الصّحيح المختصر – الجزء 3 – ص 1155 – رقم الحديث 2995) .
وعلى هذا , فإنَّ الإسلام بريء من كلِّ التَّفجيرات التي تَستهدفُ غيرَ المسلمين الذين يعيشون آمنين في بُلدانهم , أو يعيشُون مُسالِمين في ضيافة البُلدان الإسلاميَّة . بل إنَّ التَّاريخ يشهد أنَّ غيرَ المسلمين كانُوا يُلاقُون أفضل المعاملة في ظلِّ الخلافة الإسلاميَّة .

ثمَّ إنَّ كلَّ الأنبياء والرُّسُل بعثَهم اللَّه جميعًا , ليس لِتَرْويع النَّاس وإرهابهم , وإنَّما لِدَعْوَتهم إلى دينه بالحكمة والموعظة الحسَنَة . حتَّى الطُّغاة يجبُ دعوتُهم إلى دين اللَّه بالرِّفق واللِّين ! يقول اللَّه تعالى مخاطبًا نبيَّه موسى عليه السَّلام : { اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى 17 فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى 18 وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى 19 } (79- النّازعات 17-19) .
وواللَّهِ إنَّ كلَّ مسلم لَيَفرح أشدَّ الفرح عندما يَهدي اللَّهُ على يديه رجلاً أو امرأة إلى الإسلام , لأنَّه يشعُر حقيقةً أنَّه كان سببًا في إنقاذ هذا الشَّخص من الخلود في النَّار . وقد روى الإمام أحمد في مُسنَده عن أنَس بن مالِك رضي اللَّه عنه , أنَّ غلامًا يهوديًّا كان يضَع للنَّبيِّ (محمَّد) صلَّى اللَّه عليه وسلَّم وُضوءه ويُناوله نَعْلَيْه , فمَرِض . فأتاهُ النَّبيُّ فدخلَ عليه , وأبُوه قاعدٌ عند رأسه , فقال له النَّبيُّ (أي قال للغلام) : يا فُلان , قلْ لا إله إلاَّ اللَّه . فنظَرَ إلى أبيه , فسَكَت أبوه , فأعاد عليه النَّبيُّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , فنظَرَ إلى أبيه , فقال أبوه : أَطِعْ أبا القاسِم ! فقالَ الغلام : أشهدُ أن لا إله إلاَّ اللَّه وأنَّكَ رسولُ اللَّه . فخرج النَّبيُّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم (من عنده) وهو يقول : الحمدُ للَّه الذي أخْرجه بي من النَّار . (مسند الإمام أحمد بن حنبل – الجزء 3 – ص 175 – رقم الحديث 12815) .

فهل يُعقَل بعد هذا أن نقول أنَّ الإسلام دين إرهاب وتفجيرات ؟! واللَّهِ إنَّه دعوةٌ للرَّحمة والتَّعاون ونَشْر الفَضيلة بين كلِّ البشَر . وستزداد معرفتك به , سيِّدي الفاضل , عند قراءتك للأجزاء الأخرى

كلمة سواء 16.01.2011 14:34

لماذا يُتَّهم الإسلام فقط بالإرهاب ؟!



لِماذا يُتَّهم المسلِمُون في الإعلام الغربي بأنَّهم إرهابيُّون , ولا يُتَّهم بذلك اليهودُ ولا النَّصارى ؟! لِماذا الادِّعاءات بأنَّ القرآن الكريم يحثُّ على القتل والإرهاب , ولا تُوصَف بذلك التَّوراةُ والأناجيلُ الموجودة اليوم عند أتباعها ؟!
لأنَّها لا تدعُو إلاَّ إلى السِّلم ونشر المحبَّة بين النَّاس ؟!
فما رأيُ النَّصارى إذًا فيما جاء في إنجيل متّى , ما نُسِبَ للمسيح عليه السَّلام أنَّه قال : لا تظُنُّوا أنِّي جئتُ لِأُلْقِي سلامًا على الأرض . ما جئتُ لِأُلْقِي سلامًا , بل سَيْفًا , فإنِّي جئْتُ لِأُفرِّقَ الإنسانَ ضِدَّ أبيه , والابنةَ ضِدَّ أمِّها , والكَنَّةَ ضِدَّ حَماتِهَا , وأعداءُ الإنسان أهلُ بَيْتِه . (إنجيل متّى – الإصحاح العاشر 34- 36) .
ألا يتناقضُ هذا الكلام مع ما يَدَّعيه النَّصارى من أنَّهم رُوَّادُ العالَم في الدَّعوة إلى التَّسامح ونَبذ الحروب ؟!

وما رأيُ اليهود في ما جاء في سِفْر التّثْنِيَة : حينَ تَقْرُبُ من مَدينة لِتُحاربَها , اسْتَدْعِها لِلصُّلْح . فإن أجابَتْكَ إلى الصُّلْح وفَتَحَتْ لَك , فكُلُّ الشَّعْب الموجُود فيها يكُون لَكَ لِلتَّسْخير ويُسْتَعْبدُ لكَ . (سِفْر التّثْنِيَة – الإصحاح العشرون 9 -11) .
وما رأيُهم في ما جاء في سِفْر العَدَد : وسَبَى بَنُو إسرائيل نِسَاءَ مِدْيَانَ وأطْفَالَهم , ونَهَبُوا جَميعَ بَهائِمهم وجَميعَ مَوَاشِيهم وكلَّ أملاكِهم . وأَحْرقُوا جَميعَ مُدُنِهِم بِمَسَاكِنِهم وجَميعَ حُصُونِهم بالنَّار . وأخَذُوا كُلَّ الغَنيمَة وكُلَّ النَّهْب من النَّاس والبَهائم . وأتوا إلى مُوسَى وألِعَازَار الكاهِن وإلى جَمَاعَة بَني إسْرائيل بالسَّبْي والنَّهْب والغَنيمَة إلى المحَلة إلى عَربَات مُوآب التي على أرْدُنَّ أريحَا . فخرجَ مُوسَى وألِعَازَار الكاهِنُ وكُلّ رؤساء الجمَاعَة لِاسْتِقْبَالِهم إلى خَارج المحَلة . فسَخطَ مُوسَى على وُكَلاء الجَيْش رُؤسَاء الألُوف ورُؤسَاء المِئَات القَادِمينَ من جُنْد الحَرْب , وقالَ لَهُم مُوسَى : هلْ أبْقَيْتُم كُلَّ أنْثَى حَيَّة ؟ إنَّ هؤلاء كُنَّ لِبَني إسْرائيل حَسَبَ كَلام بَلعَام سَبَبَ خِيَانةٍ لِلرَّبّ في أمْر فَغُور فكَانَ الوَبَاء في جَمَاعة الرَّبّ . فالآنَ اقْتُلُوا كُلَّ ذَكَر منَ الأطْفَال , وكُلّ امْرَأةٍ عَرَفَتْ رجُلاً بِمُضَاجَعة ذكَر اقْتُلُوها . (سِفْر العَدَد – الإصحاح الحادي والثَّلاثون 9 – 17) .
ومديانُ المذكورة هنا هي التي مكثَ فيها موسَى عليه السَّلام عدَّة سنوات , فهل يُعقَل أن يَأمُر فيما بعدُ بني إسرائيل بأن يقتُلوا أهلَها شَرَّ قتْلَة ؟! ثمَّ , كيف للجنود أن يعرفُوا النِّساء الغير عذارى لِيَقتلوهنّ : " وكُلّ امْرَأةٍ عَرَفَتْ رجُلاً بِمُضَاجَعة ذكَر اقْتُلُوها " ؟! هل أمَرَهُم موسى باغتصاب كلّ النّساء لمعرفة ذلك ؟! طبعًا , كلُّ هذا افتراءٌ على نبيِّ اللَّه عليه السَّلام !

وما رأيُ اليهود في ما جاء في سفْر يوشع , وصيّ موسى عليهما السَّلام : وصعدَ الشَّعبُ إلى المدينة , كلُّ رجُل مع وجهه , وأخذُوا المدينة . وحرَّمُوا كلَّ ما في المدينة من رجُل وامرأة , من طفل وشيخ , حتَّى البَقَر والغَنَم والحمير بِحَدّ السَّيف . (سفْر يوشع – الإصحاح السَّادس 20 – 21) .
وما رأيُهم في ما جاء في سفْر يوشع أيضًا أنَّه قال : أَحرِقُوا المدينة بالنَّار مع كلّ ما بها . (سفْر يوشع – الإصحاح السَّادس 24) .
فهل يُتَّهم يُوشع عليه السَّلام بأنَّه وحش , يَحرق كلَّ ما في المدينة بالنَّار , ويقتلُ الرِّجال والنِّساء والشُّيوخ والأطفال , بل حتَّى البَقر والغنم والحمير ؟! حاشى له وكلاَّ أن يكون كذلك !

وما رأيُ اليهود في ما جاء في سفر صموئيل الأوَّل : فأخبر عبيدُه داوُدَ بهذا الكلام , فحسُنَ الكلامُ في عَيْنَيْ داوُد أن يُصاهرَ الملِك . ولَم تَكْمُل الأيَّام حتَّى قامَ داوُدُ وذهبَ هو ورجالُه وقتلَ من الفِلِسطينيّين مائتَيْ رَجُل , وأتَى داوُدُ بِغُلْفِهم فأكْملُوها للملِك لِمُصاهَرة الملِك , فأعطاهُ شاوُلُ ميكالَ ابنتهُ امرأةً . (سفْر صموئيل الأوّل – الإصحاح الثّامن عشر 26 – 27) .
فهلْ يُعقَل أن يَقتُلَ النَّبيُّ داوُد مائتَيْ رجُل , ثمَّ يكشفُ عوراتهم ويُمسِكُ بذُكُورهم ويقطعُ غُلفهم (وهي الجلدة التي تُقطع في الختان) , ويُقدِّمها مُهرًا لكي يتزوَّج من ابنة ملك إسرائيل الأوَّل (طالوت) ؟! حاشى له وكلاَّ أن يفعل ذلك !

وما رأيُ اليهود في ما جاء في سفْر صموئيل الثّاني : فجمعَ داوُدُ كلَّ الشَّعب وذهبَ إلى ربَّة وحاربَها وأخذها . وأخذَ تاجَ مَلِكِهم عن رأسه ووزنه وزْنَة من الذَّهب مع حجَر كريم , وكان على رأس داوُد , وأخرجَ غنيمةَ المدينة كثيرةً جدّا , وأخرجَ الشَّعبَ الذي فيها ووضَعهُم تحت مناشير ونَوارج حديد وفُؤوس حديد , وأمَرَّهُم في أتُون الآجُرّ , وهكذا صنعَ بِجَميع مُدُن بَني عَمُّون , ثمَّ رجعَ داوُدُ وجميعُ الشَّعب إلى أورشَليم . (سفْر صموئيل الثّاني – الإصحاح الثّاني عشر 29 – 31) .
وما رأيُهم في ما جاء في سفْر صموئيل الثّاني أيضًا : وبعد ذلك ضربَ داوُدُ الفلسطينيِّين وذَلَّلَهم , وأخذ داوُدُ زِمامَ القصَبة مِنْ يَد الفلسطينيِّين . وضربَ الموآبيِّينَ وقاسَهُم بالحَبْل . أضْجَعَهُم على الأرض , فقاسَ بِحَبْلَيْن للقَتْل وبِحَبْلٍ للاسْتِحْياء . وصار الموآبيُّونَ عبيدًا لِدَاوُدَ يُقدِّمون هدايَا . (سفْر صموئيل الثَّاني – الإصحاح الثَّامن 1- 2) .
أي أنَّ داوُدَ , حسبَ زعم اليهود , طرح الموآبيِّينَ على الأرض في صفوف , ثمَّ أخذ يقتلُ صفَّيْن ويَستبقي صفًّا , ثمَّ جعل مَن استبقاهُم عبيدًا له ! حاشى لهذا النَّبيِّ الكريم أن يقوم بهذا الفعل الشَّنيع !

وما رأيُ اليهود في ما جاء في سفْر الملوك الثَّاني : ثمَّ صعد من هناك (أي النَّبيُّ اليشع) إلى بَيْت إيل . وفيما هو صاعدٌ في الطَّريق , إذا بصبْيَان صِغَار خرجُوا من المدينة وسَخِرُوا منه وقالُوا له : اصعَدْ يا أقرع ! اصعَدْ يا أقرع ! فالْتَفتَ إلى ورائه ونظرَ إليهم ولَعَنَهم باسْم الرَّبّ . فخَرَجَتْ دبَّتان من الوَعْر وافْتَرَسَتَا منهم اثْنَيْن وأربعينَ وَلدًا . (سفْر الملوك الثَّاني – الإصحاح الثَّاني 23 – 24) .
وما رأيُهم في ما جاء في سفْر الملوك الثَّاني أيضًا : وكان جوعٌ شديد في السَّامرة . وهم حاصَرُوها حتَّى صار رأسُ الحمار بثَمانين من الفضَّة , ورُبْع القاب من زبْل الحمام بخمس من الفضَّة . وبينما كان مَلِكُ إسرائيل جائزًا على السُّور , صرختْ امرأةٌ إليه : خَلِّصْ يا سَيِّدي الملك . فقال : لا ! يُخَلّصكِ الرَّبُّ . مِن أينَ أخلِّصكِ ؟ أمِنَ البَيْدَر أو من المعْصَرة ؟ ثمَّ قال لها الملك : مالَكِ ؟ فقالتْ : هذه المرأةُ قالتْ لي : هاتي ابْنَكِ فنأكُله اليَومَ ثمَّ نأكلُ ابني غدًا . فسَلَقْنَا ابني وأكَلْناه . ثمَّ قلتُ لها في اليوم الآخر : هاتي ابْنَكِ فنأكُله , فخَبَّأت ابْنَها . (سفْر الملوك الثَّاني – الإصحاح السَّادس 25– 29) .

انتبه يا ابني الكريم ! إنَّ هذه المجازر البشعة ليست منقولَة عن كتاب في التَّاريخ , وإنَّما عن توراة اليهود المحرَّفة !!
لا غرابة إذًا أن تُنزَع الرَّحمةُ من أُناسٍ يقرأون في كتابهم المقدَّس أنَّ أنبياءَهم كانُوا يُقتِّلُون الأبرياءَ من النِّساء والشُّيوخ والأطفال , بل حتَّى الحيوانات لم تَسلَمْ من وَحشِيَّتهم , وكلُّ ذلك بِمُباركةٍ من اللَّه حسبَ زَعْمهم !!

وما أكبرَ الفارقَ بين هذه النُّصوص التي تقطر دمًا , وبين وصايا النَّبيِّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم وخُلفائه الكرام إلى جيوش المسلمين : بالرِّفق بالبَشر والدَّوابِّ وحتَّى بالأشجار ! فقد روى البيهقي في سُنَنه عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه , أنَّ رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم قال (وهو يُودّعُ الجنود) : انْطَلِقُوا باسم اللَّه , وباللَّه , وعلى مِلَّة رسول اللَّه . لا تَقْتُلُوا شَيخًا فانِيًا , ولا طفلاً , ولا صغيرًا , ولا امرأةً , ولا تَغلوا , وضُمُّوا غنائمَكُم , وأصْلِحُوا وأحْسِنُوا إنَّ اللَّه يُحِبُّ المحسنين . (سنن البيهقي الكبرى – الجزء 9 – ص 90 – رقم الحديث 17932) .
وروى البيهقي أيضًا في سُنَنه عن أبي عمران الجوني , أنَّ أبا بكر رضي اللَّه عنه بعثَ يزيد بن أبي سفيان إلى الشَّام , فمَشَى معه يُشَيِّعُه . فقال يزيد بن أبي سفيان : إنِّي أكرهُ أن تكونَ ماشيًا وأنا راكِب . فقال : إنَّكَ خرجْتَ غازيًا في سبيل اللَّه , وإنِّي أحتَسِبُ في مَشْيي هذا معك . ثمَّ أوصاهُ فقال : لا تَقْتُلُوا صَبيًّا , ولا امرأةً , ولا شَيْخًا كبيرًا , ولا مريضًا , ولا راهبًا , ولا تَقْطَعُوا مُثْمِرًا , ولا تُخَرِّبُوا عامِرًا , ولا تَذْبَحُوا بعيرًا ولا بقرةً إلاَّ لِمَأكَل , ولا تغرقُوا نَخْلاً ولا تحرقُوه . (سنن البيهقي الكبرى – الجزء 9 – ص 90 – رقم الحديث 17931) .

واللَّهِ إنَّها لَوصايَا عظيمة تَعجز جمعيَّاتُ حقوق الإنسان عن الإتيان بمثلها ! فباللَّه عليك يا ابني الفاضل , أيُّ الفريقين يَصلُحُ أن يُتَّهم بالإرهاب ؟!

كلمة سواء 16.01.2011 14:35

الإسلام دين العقل والفطرة



نعم , الإسلام هو فعلاً الدِّينُ الوحيد الذي يتَّفق مع العقل والمنطق والفطرة السَّليمة .
فالمسلمُ يؤمنُ بوجود خالق واحد لكلِّ شيء , وهو اللَّه سبحانه . ونحن , عندما تعرَّفْنا في الجزء الأوَّل من هذا الكتاب على عظَمة هذا الكون وتَناسق كلّ شيء فيه , استنتجْنَا أنَّه لا بُدَّ أن يكون وراءَه خالقٌ واحد , عظيم القدرة .
والمسلمُ يؤمنُ بأنَّ اللَّه سبحانه , الذي قَدرَ على خلْق السَّماوات والأرض والإنسان وكلّ شيء , يستحيلُ عقليًّا ومنطقيًّا أن يكون له ابنٌ أو زوجة . بل يستحيل أن يكُون شبيهًا لِخَلْقِه بأيِّ حال من الأحوال .
والمسلمُ يؤمنُ بأنَّ اللَّه سبحانه مُتَّصفٌ بكلِّ صفات الكمال , مِثْل كمال القُدرة , فلا يُعجِزُه أيّ شيء , وكمال العِلْم , فلا يغيبُ عن علمه أيّ شيء . وهذا ما يتوافق أيضًا مع العقل والمنطق والفطرة السَّليمة , لأنَّه لو كان الخالقُ يأكلُ ويشرب ويتعب وينام مثل العباد , لَاختلَّ نظامُ كلّ شيء في هذا الكون , بل لَمَا وُجِدَ أصلاً أيُّ تناسق في أيِّ شيء .
والمسلمُ يؤمنُ حقيقةً بجميع الأنبياء والرُّسُل , مثل إبراهيم وموسى وعيسى ومحمَّد , عليهم الصَّلاة والسَّلام , ويعتبرُهم أفضل النَّاس وأشرفهم . وهذا ما يتوافق أيضًا مع العقل والمنطق والفطرة السَّليمة , لأنَّ كلَّ الأنبياء بُعِثُوا مِن عند إلهٍ واحد , وليس من المقبول عقليًّا ولا أخلاقيًّا أن يؤمن الإنسانُ بِنَبيٍّ ويُنكِر الآخرين أو ينسب إليهم النَّقائص !
والمسلمُ يؤمنُ بأنَّ هذه الدُّنيا ليست إلاَّ دار امتحان واختبار , وأنَّ اللَّهَ الذي خلَقَنا مِن لا شيء , قادرٌ على أن يُحْيينا من جديد بعد الموت لكي يُحاسبنا على كلِّ أفعالنا ويقتصَّ للمظلوم من الظَّالم , ثمَّ يُجازي المحسِنَ بالجنَّة ويُعاقب المسيءَ بالنَّار . وهذا ما يتوافق أيضًا مع العقل والمنطق والفطرة السَّليمة , لأنَّه لو لم يكُن هناك حسابٌ وجنَّة ونار , لَمَا كانتْ هناك أيّة فائدة من الحياة على هذه الأرض , ولَمَا كان هناك مَعْنى للخير والشَّرّ , ولَمَا اتَّفقَ هذا الأمرُ مع ما يتَّصفُ به اللَّهُ من عدْلٍ وحكْمة .
والمسلمُ يؤمنُ بأنَّ اللَّه الذي خَلَقَنا هو أعْلَم بِمَا ينفعُنا وما يَضُرُّنا , وأنَّه أنزلَ القرآنَ الكريم على خاتم أنبيائه لِيَكُون دليلاً للنَّاس في كلِّ زمان ومكان , يستمدُّون منه تشريعاتهم في كلِّ شؤونهم . وهذا ما يتوافق أيضًا مع العقل والمنطق والفطرة السَّليمة , لأنَّه ليس من المعقول أن يكون الإنسانُ أعلم مِن خالقه بِما يصلح له , كما أنَّ اللَّهَ الذي يتَّصف بكلِّ صفات الكمال لَم يكن لِيُغلِقَ بابَ النُّبُوَّة بعد بعْثَة محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم دون أن يَترُكَ لِعباده دليلاً يُرشِدُهم إلى الطَّريق السَّويّ . لذلكَ تركَ لهم القرآن الكريم دليلاً صالِحًا لكلِّ العصور .

فإذا كان هذا هو الإسلام , أليس من الحِكْمَة إذًا , أيُّها القارئ الكريم , أن تعتنق هذا الدِّين , على الأقلّ لِتنجو من الخلود الحتمي في النَّار لو مُتَّ على غيره من الأديان ؟!
أم أنَّ الأفضل إنكار وجود الخالق , مع ما في هذا الاختيار من مَغَبَّةٍ كبيرة , نهايتُها السُّقوط في قعر جهنَّم خالدًا فيها , لا شكَّ في ذلك , والحرمان الأبَدي من رؤية هذا الخالق ؟!
أو اتِّباع المسيحيَّة , بما فيها من عبادةٍ للمسيح عليه السَّلام , وأقاويل على اللَّه لا يقبلُها العقل , وتناقضات في أصول العقيدة , والسُّقوط أيضًا في النِّهاية في قعر جهنَّم خالدًا فيها ؟!
أو اتِّباع اليهوديَّة , بِمَا فيها من نَسْب نقائص إلى اللَّه سبحانه , وإساءة بالقول لعيسى ومريم ومحمَّد وغيرهم من الأنبياء عليهم السَّلام , والسُّقوط أيضًا في النِّهاية في جهنَّم خالدًا فيها ؟!
أو اتِّباع أيّ شيء آخر , يَعقُبُه عذابٌ شديدٌ ومتواصل يوم القيامة ؟!

أم أنَّ مركزك الاجتماعي , كأن تكون رئيس دولة , أو وزيرًا , أو رجل كنيسة , أو حِبْرًا من أحبار اليهود , يمنعك من الدُّخول في الإسلام ؟!
واللَّهِ لَو دخلتَ فيه وأنت في هذا المركز المرموق , لجازاكَ اللَّهُ أحسنَ الجزاء , لأنَّك ربَّما تكون سببًا في دخول المئات أو الآلاف من النَّاس لهذا الدِّين , يقتدون بك .

إنَّها واللَّهِ نارٌ حاميةٌ تنتظر الكفَّار , وظلام حالكٌ لا يمكن وصفه أو التَّعبير عنه ! فاخترْ لنفسكَ ما دُمتَ في الدُّنيا , قبْل أن يداهمك الموتُ فلا تستطيع تدارُك ما فات !

كلمة سواء 16.01.2011 14:35

ضيق التَّنفُّس عند الصُّعود في السَّماء !



نقف الآن مرّة أخرى مع بعض الآيات القرآنيَّة المعجزة .
لو سألنا عامَّة النَّاس : أين تنتهي طبقةُ الهواء التي نعيش وسَطها ؟ لأجاب أكثرُهم : طبعًا , تمتدُّ في السَّماء إلى ما لا نهاية .
وهذا ما كان يعتقده العلماء فعْلاً في العصور الماضية . ولكن , لَمَّا صعد الإنسان إلى السَّماء بالمنطاد في أواخر القرن الثَّامن عشر , اكتشف أنَّه كلَّما زاد عُلُوًّا في الجوِّ كلَّما شعر بالاختناق نتيجة نقص في الأكسيجين .
ثمَّ جاء عصرُ الطَّائرات والمركبات الفضائيَّة , وتأكَّد العلماء فعلاً أنَّه كلَّما صعدْنَا إلى أعْلَى , كلَّما نَقص سُمْكُ طبقة الهواء , وبالتَّالي ينقصُ الأكسيجين وينخفضُ الضَّغط الجوّي . لذلك , نرى اليوم رائد الفضاء يلبسُ بَدْلةً مُكيَّفة للضَّغط , ويحمل فوق ظهره أنبوبة أكسيجين للتَّنفُّس .
فهل هناك إشارة في القرآن الكريم لهذه الحقيقة ؟!
نعم , يقول اللَّه تعالى : { فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ 125 } (6- الأنعام 125) .
فهذه الآية تُشير بوُضوح إلى أنَّ الإنسان عندما يَصَّعَّدُ في السَّماء , أي يصعد فيها تدريجيًّا , يُصبح صدْرُه ضَيِّقًا حَرجًا , وذلك لِشُعوره بالاختناق نتيجة نقص الأكسجين .
فكيف عَلِمَ محمَّدٌ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم بهذه الظَّاهرة منذ حوالي 1400 سنة , إذا كان القرآنُ من تأليفه ؟!


كلمة سواء 16.01.2011 14:35


الغلاف الجوِّي أو السَّقف المحفوظ !



عندما صعد أوَّلُ روَّادٍ إلى الفضاء وابتعدُوا عن الكرة الأرضيَّة , أُصيبُوا بدهشة كبيرة لأنَّ ما اكتشفُوه كان خِلافًا لكلِّ تَوقُّعاتهم : ظلامٌ حالكٌ رهيبٌ يُحيط بكلِّ الأجرام السَّماويَّة , وصمتٌ مُطبِقٌ مُخيف بسبب عدَم وجود هواء , وبَرْد شديد قاتِل , وخَطَر الشُّهُب الكثيرة والإشعاعات المميتَة !
ما حدث مع هؤلاء الرُّوَّاد هو ربَّما الذي أشار إليه اللَّهُ تعالى في القرآن الكريم حين قال مُتحدِّثًا عن الكفَّار : { وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ 14 لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ 15 } (15- الحجر 14-15) .
فأوَّل أُناس صَعِدُوا إلى الفضاء كانُوا فعْلاً كُفَّارًا , وكانوا في حالةٍ من الذُّهول والدَّهشة , كأنَّهم تحت تأثير سِحْر , لا يُصدِّقون ما تراه أعيُنهم !
ثمَّ لاحِظْ أنَّ اللَّهَ تعالى قال : { يَعرُجون } , ولم يقلْ : يَصعدون . والعروجُ هو الصُّعود في مَسارٍ مُنْحَنٍ , مائل . ولو سألتَ علماء الفضاء لَقالُوا لك أنَّ مَسار الصَّواريخ التي يُطلقونها نحو السَّماء يكون دائمًا مائلاً , نظرًا لِعَوامل الجاذبيَّة الأرضيَّة وغيرها ! فهل هذه الدِّقَّة في اختيار ألفاظ القرآن هي من قَبيل الصُّدفة ؟!
لا , ليست من قَبيل الصُّدفة ! والدَّليلُ أنَّ اللَّه تعالى استعملَ لفظ العروج في مواضع أخرى من القرآن الكريم , عند حديثه عن الصُّعود بعيدًا في السَّماء , مثل قوله تعالى : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ 1 يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ 2 } (34- سبأ 1-2) .

لَمَّا عَرجَ العُلَماء إذًا في السَّماء , اكتشفُوا أنَّ الأرض وكُلَّ الأجرام السَّماويَّة تَسبحُ في ظلام كَوني دامس ! أمَّا السَّماء الزَّرقاء التي نراها فوقنا في النَّهار , فليست إلاَّ نتيجة تَلاقي ضوء الشَّمس مع ما يُسَمَّى بالغلاف الجوِّي للأرض Atmosphère terrestre . فلولا هذا الغلاف , لرأينا سماءً سوداء طول الوقت .
يبدأ الغلاف الجوِّي من سطح الأرض ويَمتدُّ حتَّى بُعْد حوالي 600 كلم إلى الأعلى , مُحيطًا بالأرض من كلِّ جوانبها . وهو يتكوَّن من الهواء , وجزئيَّات الغازات , وبُخار الماء , والجسَيْمات التُّرابيَّة . فطبقة الهواء الذي نتنفَّسه تنتهي إذًا عند نهاية الغلاف , لِتَبْدأ بعدها الغازات الكونيَّة الخطيرة , والتي تحتوي على غازَي الهيدروجين والهليوم بنسبة 98 بالمائة .
من مَزايا الغُلاف الجوِّي أنَّه يَمنع بُرودةَ الفضاء المهْلِكة والغازات الكونيَّة القاتلة والإشعاعات الخطيرة , أن تَتسرَّب إلى الأرض . وهو كذلك يَحْمي الأرض من ملايين الشُّهُب والنَّيازك التي تتساقطُ دَوْريًّا نحوها فتصطدم بالغلاف وتَتَفتَّت .
فهل تعلمين يا ابنتي أنَّ اللَّه تعالى تحدَّث عن الغُلاف الجوِّي في القرآن الكريم منذ حوالي 1400 سنة , وأسماه بالسَّقف المحفوظ ؟!
يقول اللَّه تعالى : { وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ 32 } (21- الأنبياء 32) .

وكما أنَّ اللَّه جعل هذا السَّقف حافظًا لنا من الأخطار الخارجيَّة , فقد جعله أيضًا حافظًا لنا من الموت ! نعم , فهو يَمنعُ غاز الأكسيجين من الهروب بعيدًا عن الأرض .
وهنا لا بُدَّ من ملاحظة أنَّ نسبة الأكسيجين في الهواء هي 21 بالمائة , وهي بالضَّبط النِّسبة التي يجبُ أن تكون , بحيثُ لو نقصَتْ , لاختَنقَ الإنسانُ والحيوان , ولو زادَتْ , لَاشتعلَت الحرائق في كلِّ مكان ولَما أمكن إطفاءها !
أليسَ في هذا إذًا دليلٌ آخر على وجود إله واحد وراء هذا الكون , وأنَّه خلقَ كلَّ شيء بنِسَب غايةٍ في الدِّقَّة ؟ يقول اللَّه تعالى : { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا 1 الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا 2 } (25- الفرقان 1-2) .
والغُلاف الجوِّي لا يَمنعُ الأكسيجين فقط من الهروب , بل يَمنع أيضًا الهواءَ وبخار الماء من ذلك . ولو هرب الهواءُ عن الأرض , لَخَيَّم عليها صمتٌ مُطْبق , ولَمَا استطاع النَّاسُ التَّخاطب فيما بينهم ولا سماع أيّ شيء , لأنَّ الهواء هو الذي يسمح بانتقال الموجات الصَّوتيَّة . ولو هربَ بُخار الماء , لَمَا تَكوَّنتْ بعد ذلك سُحُبٌ ولا أمطار , ولَهلَكَ كلُّ الأحياء فوق الأرض .

أليْسَ إذًا من واجبنا أن نشكُر اللَّهَ على نعمة الغلاف الجوِّي ؟
أم أنَّنا رَكِبَنا الغُرورُ بسَبب ما وصلْنَا إليه من تقدُّم علمي , فأصبحْنَا نَترفَّع عن شُكْر اللَّه , ونحنُ أعجز عن أن نستردَّ نعمةً يسلُبها اللَّهُ منَّا ؟! يقول اللَّه تعالى : { وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ 18 } (23- المؤمنون 18) .
نعم , لو ذهبَ اللَّهُ بالماء وحَرَمَنا المطَر , لَمَا استطاعت البشريَّةُ مُجتمعة أن تفعل أيَّ شيء لإنزال قَطرة ماءٍ واحدة من السَّماء !

كلمة سواء 16.01.2011 14:36

ظاهرة اللَّيل والنَّهار



لو صعدْتِ يا ابنتي الكريمة في مركبة فضائيَّة وابتعدَتْ بكِ خارج الغلاف الجوِّي , لَبَدَتْ لكِ الشَّمسُ قُرصًا أصفر يَحُوطه السَّواد من كلِّ جانب , ولَعجبْتِ من رؤية الأرض كُرةً تسبحُ في ظلام كوني حالك !
نعم , فالسَّماء الزَّرقاء التي نراها فَوْقَنا هي , كما ذكَرْنا سابقًا , نتيجة تفاعُل ضوء الشَّمس مع الغُلاف الجوِّي للأرض . وتفصيلُ ذلك أنَّ الشَّمسَ عندما ترسلُ أشعَّتها إلى الأرض , يَتصدَّى الغلافُ الجوِّي لهذه الأشعَّة , فيَمنَع الضَّارَّ منها من العُبور ويأذن للنَّافع بالاجتياز ! وهذا أيضًا من مزايَا هذا السَّقف المحفوظ .
الأشعَّة النَّافعة التي تَمُرُّ , منها ما هو مَنْظورٌ , تراه العين , ومنها ما هو غير مَنْظور . أمَّا المنْظور : فهو الذي يُكَوِّنُ ضوءَ النَّهار , وهو يتألَّف من الألوان السَّبعة لِلطَّيْف , والتي نراها في قَوْس قُزَح إثر نُزول المطر . وهي تصاعديًّا : الأحمر , البرتقالي , الأصفر , الأخضر , الأزرق , النِّيلي , والبنفسجي .
وأمَّا الغير مَنْظور : فهي الأشعَّة تحت الحمراء , والتي تُستخدم مثلاً في مجال الاتِّصالات اللاَّسلكيَّة , ويُقابلُها في الطَّرف الآخر من السُّلَّم : الأشعَّة فوق البنفسجيَّة , والتي لها عدَّة استخدامات في المجال الطِّبِّي وغيره .
عندما تَنفذُ أشعَّةُ الشَّمس إذًا من الغلاف الجوِّي للأرض , تصطدم بجُزئيَّات الهواء , فتَتَشتَّت . وأكثر ما يتشتَّتُ منها اللَّونُ الأزرق , فيَطغَى على ألوان الطَّيف الأخرى , فتظهرُ السَّماءُ زرقاءَ فوق سطح الكرة الأرضيَّة الموَاجِه للشَّمس , ويكون في هذا الوجه نهار , بينما يكُون في الوجه الآخر لَيْلٌ . ثمَّ تدور الأرض حول نفسها , فيدور معها السَّطحُ الذي كان مُوَاجِهًا للشَّمس , فيَحلُّ فيه اللَّيلُ , ويَحُلُّ في السَّطح الآخر نهار .

وهنا , نتوقَّف عند بعض آيات من القرآن الكريم فيها إشارة لهذه الظَّواهر ! يقول اللَّه تعالى : { وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا 1 وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا 2 وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا 3 وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا 4 } (91- الشّمس 1-4) . فالآياتُ تذكُر هنا أنَّ النَّهار هو الذي يُجَلِّي الشَّمسَ , أي يُظهرُها ساطعة جَلِيَّة . وهذا ما أثبته فعْلاً عُلَماءُ العَصْر الحديث . فالشَّمسُ لا تُضيءُ الأرضَ مباشرةً مِن نَفْسها , كما كان يعتقدُ النَّاسُ إلى وقت قريب , وإنَّما اختراقُ أشعَّتِها لِلجُزء المقابل لها من الغُلاف الجوِّي للأرض , هو الذي يجعلُ النَّهارَ يَحلُّ على ذلك الجزء من الكرة الأرضيَّة , فتبدُو عند ذلك الشَّمسُ ساطعة فيه . والدَّليلُ أنَّنا لو صعدْنَا بعيدًا عن الغُلاف الجوِّي , لَاخْتَفَى هذا الضَّوءُ السَّاطع , ولَبَدَت الشَّمسُ عند ذلك قُرصًا أصفر وسط ظلام الكَون الدَّامس .
ويقول تعالى في آية أخرى : { وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ 37 } (36- يس 37) . فسَلْخُ النَّهار من اللَّيل يدلُّ على إزالة الفَرْع من الأصل , والمؤقَّت من الدَّائم . وهذا ما يحدُثُ فعْلاً , فالأصلُ في الكون هو الظَّلام , وضَوْءُ النَّهار لا يُمثِّلُ إلاَّ جزءًا صغيرًا جدًّا من هذا الظَّلام . فهو إذًا فَرْعٌ , لِصِغَر المساحة التي يحتلُّها بالنِّسبة للظَّلام الكوني , ولأنَّه مُؤقَّت , يظهر ثمّ يختفي . بينما الظَّلام الكوني يحتلُّ مساحة لا حُدُود لها , وهو دائمٌ لا يَزول , فهو إذًا الأصل .
ونلاحظُ مرَّة أخرى دقَّة اللَّه سُبحانه في اختيار الألفاظ . فقد استعملَ تعالى فِعْل " نسلخُ " , ونحن نعلم أنَّ النَّهار لا يغيبُ مرَّة واحدة , وإنَّما يغيبُ شيئًا فشيئًا مع دوران الأرض حول نفسها . فكأنَّما يُسلَخُ فعْلاً من اللَّيل , لِيَحُلَّ هذا الأخيرُ مكانَه ! وهذا اللَّيلُ ليس سِوَى الظَّلام الكوني الذي يُحيط بالأرض وبكلِّ الأجرام السَّماويَّة بصفة دائمة .
أليس من الواجب علينا إذًا أن نشكر اللَّه تعالى على نعْمَتَي اللَّيل والنَّهار ؟! ولو أراد اللَّه أن يحرمَنا منهما , لَمَا استطاع أحدٌ أن يفعل أيّ شيء ؟! يقول اللَّه تعالى : { وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ 70 قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ 71 قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ 72 } (28- القصص 70-72) .

قد تتساءلين يا ابنتي الفاضلة : ولكنَّ الكونَ يحتوي على ملايين النُّجوم العملاقة التي يصل حجمُها إلى ملايين المرَّات حجم الشَّمس , وقوَّة إضاءتها أكبر منها بآلاف المرَّات , فلِمَاذَا لا يُجلِّي النَّهارُ أضواءَ هذه النُّجوم , مثلما يُجلِّي ضوءَ الشَّمس ؟!
الجوابُ هو أنَّها بعيدة جدًّا عنَّا . أمَّا الشَّمس فهي أقرب نجم إلى الأرض , تبعد عنها حوالي 150 مليون كيلومتر . فلمَّا ترسلُ بضوئها إلينا , يصل في بضع دقائق فقط , ويطغى على أضواء النُّجوم الأخرى , فيَحجُبها عنَّا .
أليس إذًا من الواجب علينا أيضًا أن نشكر اللَّه تعالى على شمسنا , حيثُ قَدَّر بُعدَها ونُورَها وحرارتها , فجعل كلّ ذلك مناسبًا تمامًا لنا ؟! ولو شاء لَذَهب بالشَّمس وأحلَّ محلَّها واحدًا من النُّجوم العملاقة , إذًا لَاحترقَت الأرضُ بِما فيها ومَن عليها !

وواللَّهِ إنِّي لأستغربُ حقًّا من عُلَماء الفَلَك خاصَّة , كيف لا يؤمنون باللَّه وهم يُشاهدون يوميًّا دلائل وجوده وعظمته من خلال حركة الأرض والنُّجوم وكلّ شيء في هذا الكون ؟!
هل هي مجرَّد غفلة ؟! أم أنَّ الإيمان بوجود خالق وأنبياء وجنَّة ونار أصبح تخلُّفًا في عصر التَّحرُّر والعلم ؟!

كلمة سواء 16.01.2011 14:36

القمر نور والشَّمس سراج !



لو سألتَ الكثير من عامَّة النَّاس عن ضوء القمر , مِن أين يأتي ؟ لأجابوا : طبعًا , من داخل القمر نفسه , وهو أضعف بكثير من ضوء الشَّمس , لذلك لا نراه إلاَّ في اللَّيل .
لكنَّ علماء العصر الحديث لهم رأيٌ آخر ! فهم يقولون أنَّ الشَّمس تحتوي في باطنها على فُرْن , تَتمُّ بداخله تفاعلات نَوَويَّة . هذه التَّفاعلات تُوَلِّدُ ضوءًا وحرارة يَذْهبان في كلِّ اتِّجاه , فيسقُطان على الكواكب والأقمار التَّابعة للشَّمس , فيُنيرانها ويُزوِّدانها بالحرارة بنِسَب مختلفة . وكذلك الحال بالنِّسبة لكلِّ النُّجوم .
أمَّا القمر , فهو لا يُنتِج ضوءًا ولا حرارة . وإنَّما هو يستقبلُ ضياءَ الشَّمس , فيعكِسُ جزءًا منه على الأرض على شكْل نُور , لا حرارة فيه .
وقد أشار اللَّهُ تعالى في القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة أيضًا منذ حوالي 1400 سنة ! يقول تعالى : { وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا 16 } (71- نوح 16) . فالآية هنا ذكَرتْ أنَّ القَمَر نورٌ , أي أنَّ ضوءَه هذا ليس مُتوَلِّدًا عنه , وليس فيه حرارة . بينما ذكَرت في المقابل أنَّ الشَّمس سراجٌ , أي أنَّها مصدرٌ للضَّوء والحرارة . أليس في هذا إذًا دليلٌ آخر على أنَّ كلَّ لفظٍ في القرآن هو من عند اللَّه ؟!

ولِمُحاولة فَهْم ما يحدثُ داخل الشَّمس من تفاعلات , لِنَستمع لِمَا يقوله عُلَماءُ الفيزياء النَّوويَّة في هذا الشَّأن : إنَّ أكثر العناصر الموجودة في الشَّمس , وفي كلِّ نجم أيضًا , هي غاز الهيدروجين (71 بالمائة) وغاز الهلْيُوم (27 بالمائة) . ويَتمُّ التَّفاعلُ النَّووي بأن تتجمَّع كلُّ ذرتين من الهيدروجين وتندمج فيما بينها , فتَتولَّد عند ذلك ذرَّةُ هلْيُوم , ويُصاحب هذا التَّوَلُّد صدور طاقة نَوويَّة هائلة جدًّا . ثمَّ يتمُّ تفاعلٌ جديد , وتَصدر طاقة جديدة , ويَبقى النَّجم يتوهَّج لِمليارات السِّنين دون أن ينطفئ . نعم , إنَّ اتِّحاد ذرَّات الهيدروجين يُنتجُ طاقةً عظيمة . وعُلَماءُ الذَّرَّة اليوم يعرفون جيِّدًا أنَّ القنبلة الهيدروجينيَّة أقوى وأخطر بكثير من القنبلة الذّرِّيَّة .
وتُقَدَّر درجة حرارة سطح الشَّمس بحوالي 6000 درجة , بينما تبلُغ حرارة باطنها حوالي 16 مليون درجة !
فالحمد للَّه الذي سخَّر لنا الشَّمسَ مصدرًا للضَّوء والحرارة , وجعلها سراجًا وهَّاجًا لا ينطفئ إلى قيام السَّاعة , وإلاَّ لَمَات كلُّ مَن على وجه الأرض بِمَوْت .. الشَّمس !

كلمة سواء 16.01.2011 14:36


أصغر من الذَّرَّة !



المعروفُ لَدَى عامَّة النَّاس أنَّ أصغر شيء في الكون هو الذَّرَّة , وتُسَمَّى باليُونانيَّة Atomos , أي الشَّيء الذي لا يتجزَّأُ ولا ينقسم . وهي تتكوَّن من نَواة في الوسط تدور حولها إلكترونات ذات شحنة سالبة . ووزنُ النَّواة يكادُ يكون هو نفسه وزن الذَّرَّة , لأنَّ الإلكترونات لا تكاد تزن شيئًا .
وتَتِمُّ التَّفاعلات الكيماويَّة بين الذَّرَّات بأن تتشابك الإلكتروناتُ فيما بينها , فتتَّحد وتُكوِّن مُرَكَّبًا جديدًا . مثال : عندما تتَّحدُ ذرَّتان من الهيدروجين مع ذرَّة أكسيجين , يَنتُج عن هذا الاتِّحاد : الماء . ويُمكنُ أيضًا حَلّ المركَّبات بتَفكيك الإلكترونات .

وكم كانت دهشةُ العلماء كبيرة عندما اكتشفوا في أواخر القرن التَّاسع عشر أنَّ نَواة الذَّرَّة تنقسم ! ووَجدوا فيها بروتونات Protons ذات شحنة كهربائيَّة موجبة , ونيترونات Neutrons بدون شحنة كهربائيَّة . وبدأ الخطر العظيم عندما استغلَّ البعضُ هذا الاكتشاف , فصنعُوا القنبلة الذّرِّيَّة , حيث تنشقّ فيها نواة ذرَّات اليورانيوم وتتفرَّق أجزاءها , فتُصدِرُ طاقة هائلة جدًّا من الحرارة والإشعاعات القاتلة .
وهنا لنا وقفة مع القرآن الكريم . يقول اللَّه تعالى : { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ 61 } (10- يونس 61) . فقد ذكَرت هذه الآية أنَّه لا شيء , في الأرض أو في السَّماء , يمكنُ أن يغيب عن عِلْم اللَّه , حتَّى ولو كان هذا الشَّيءُ في وزن الذَّرَّة أو أصغر من ذلك !
فهل أراد اللَّهُ تعالى أن يشير بهذا إلى أنَّ هناك فعْلاً ما هو أصغر من الذَّرَّة , أي النَّواة والإلكترونات ؟ أم أنَّه أراد الإشارة إلى إمكانيَّة تقسيم النَّواة ؟
أيًّا كانت الإجابة , فإنَّ الآية مُعْجزة .
فكيف لِمُحمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , النَّبيّ الأمِّيّ , الذي لم يتعلَّم القراءة والكتابة , أن يعرف أنَّ هناك ما هو أصغر من الذَّرَّة , إن لم يكُن اللَّهُ تعالى هو الذي أخبره بذلك ؟!



كلمة سواء 16.01.2011 14:37

عندما يتحدَّث اللَّه تعالى عن نفسه



بعد أن بَيَّنَّا سيِّدي الكريم أنَّ وراء هذا الكون خالِقًا عظيم القدرة , وأنَّه هو الذي خلقَنا وخلقَ كلَّ شيء في هذا الوجود , وأنَّ القرآن كلام اللَّه , سنحاول الآن التَّعرُّف على بعض صفات هذا الخالق من خلال ما ذكَره سبحانه عن نفسه في القرآن الكريم .

يقول تعالى : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ 1 اللَّهُ الصَّمَدُ 2 لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ 3 وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ 4 } (112- الإخلاص 1-4) . ففي هذه السُّورة القصيرة , يعلنُ تعالى باختصار مُدهش ووضوح تامّ أنَّه إلهٌ واحد لا شريك له , وأنَّه لا والد ولا زوجة ولا ولَد له , وأنَّه ليس له شبيهٌ أو مثيلٌ في الوجود قَطّ . يقول تعالى في آية أخرى : { فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَأُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ 11 } (42- الشّورى 11) .
ويُشدِّد اللَّهجةَ في آيات أخرى على من يَنسب له ولدًا , فيقول تعالى : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا 88 لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا 89 تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا 90 أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا 91 وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا 92 إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا 93 لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا 94 وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا 95 } (19- مريم 88-95) .
باللَّه عليك سيِّدي , هل قرأْتَ أو سمعْتَ في حياتك نصًّا بِمثل هذه البلاغة وبِمثل هذا التّعبير ؟! هل تريدُ فعلاً أدلَّة أخرى على أنَّ القرآن يستحيلُ أن يكون من تأليف بَشَر ؟!

ويقول تعالى في آية عظيمة تُسمَّى آية الكرسي : { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ 255 } (2- البقرة 255) .
فاللَّه سبحانه واحد , حيٌّ لا يموت , لا ينام ولا يغفل عن خلْقه أبدًا , يَملك ما في السَّماوات وما في الأرض وكلّ ما في الوجود , ويعلمُ ماضي كلّ شيء وحاضره ومستقبله . وبالرَّغم من عِظَم هذا الكون واتِّساعه الهائل , فإنَّ اللَّه تعالى لا يُثقِلُه حفْظُ ذلك كلّه ومراقبته أدنى شيء , ولا يغيب عن علمه أيّ شيء , مهما كان صغيرًا .
ويقول تعالى : { وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ 59 وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ 60 } (6- الأنعام 59-60) .
لا تستغربْ سيِّدي الفاضل ! إنَّ عِلْم اللَّه أحاط فعلاً بكلِّ شيء . حتَّى ورقة الشَّجرة , تسقط في أيّ لحظة من الزَّمن , وفي أيِّ بقعة من الأرض , لا يمكن أن تغيب عن علم اللَّه سبحانه وتعالى .
فهل يُعقَل بعد هذا أن نَظُنَّ أنَّ اللَّه يمكنُ أن ينسَى خلْقَه فلا يُرسل إليهم المطر , أو يغفلَ عن مراقبة الكون فتحدث الزَّلازل والحروب بدون علمه ؟!
لا , غير معقول ‍! يقول تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ 17 } (23- المؤمنون 17) .

فاللَّه سُبحانه مُتَّصِفٌ إذًا بكلِّ صفات الكمال , ومُنَّزَّه عن كلِّ النَّقائص , فلا يتعب ولا ينام ولا يأكل ولا يشرب , وليس له عينان ويدان ورجلان , ولا يُمكن أبدًا لعُقولنا الصَّغيرة أن تتخيَّل صورته . ولكنَّنا نستطيع أن نُدركَ شيئًا عن جلاله وجماله , عندما نقرأ قولَه تعالى : { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ 35 } (24- النّور 35) .

كلمة سواء 16.01.2011 14:37

اللَّه , لا إله إلاَّ هو



نعم , ليس هناك إلهٌ غير اللَّه . وإذا كنتَ ما زلتَ في شكٍّ من هذا الأمر , فاستمع سيِّدي لِهذه الآيات : يقول اللَّه تعالى : { أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ 60 أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ 61 أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ 62 أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ 63 أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ 64 قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ 65 } (27- النّمل 60-65) .
ويقول تعالى في آية أخرى : { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ 22 } (21- الأنبياء 22) .
ويقول تعالى في آية أخرى : { مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ 91 } (23- المؤمنون 91) .
قَطْعًا , ليس لِلَّه مثيلٌ ولا شبيهٌ ولا شريك , وكلُّ ما في الكون يسيرُ وِفقَ نظام واحد يشهدُ بأنَّ الخالق لا بُدَّ أن يكون واحدًا !

ويقول تعالى : { اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ 62 لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ 63 } (39- الزّمر 62-63) .
فاللَّه هو وحده خالق كلِّ شيء في هذا الوجود , وهو وحده الوكيل على كلِّ شيء , وهو وحده المتصرِّف في كلِّ شيء . والذين يستكْبرونَ عن عبادته هم فعلاً الخاسرون , وسيخسرون كلَّ شيء يوم القيامة !

كلمة سواء 16.01.2011 14:37

لا تبحث عن اللَّه في أيّ ركن هو من السَّماء !



فاللَّهُ سبحانه لا يحيطُه مكانٌ ولا زمان ! وهو في السَّماء , أي في العُلُوّ , لا يُحيطُ به شيءٌ من مخلُوقاته . وهو مع ذلك معَنا بعِلْمه وسَمعه وبَصَره , أيْنَمَا كُنَّا وفي أيّ لحظة من ليل أو نهار , يسمع كلامنا ويرى مكاننا ويعلمُ سرَّنا ونجوانا , ولكنَّنا لا نستطيع رؤيته !
يقول تعالى متحدِّثًا عن ذاته العَليَّة : { هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ 3 هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ 4 } (57- الحديد 3-4) .
ويقول أيضًا : { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ 102 لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ 103 } (6- الأنعام 102-103) .
فلا أحد من البشر يستطيع رؤية اللَّه تعالى في الدُّنيا . ولَمَّا حاولَ موسى عليه السَّلام ذلك , صُعِق ! وقد روى اللَّهُ تعالى لنا الحادثة في القرآن , فقال : { وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ 143 } (7- الأعراف 143) .

وهنا لا بُدَّ من ملاحظة شيء هامّ : إنَّ أصحاب الجنَّة فقط هم الذين سيُحظَوْن برؤية اللَّه تعالى في الدَّار الآخرة . نعم , سيَرونَه حقيقةً لأنَّ صُوَرهم وحواسَّهم في الجنَّة هي ليست صُوَرهم وحواسّهم في الدُّنيا .
فقد روى الإمام مُسلم في صحيحه عن جرير بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنه , قال : كُنَّا جُلُوسًا عنْدَ رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم إذْ نَظَر إلى القَمَر لَيْلَة البَدْر , فقالَ : أمَا إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هذَا القَمَر , لاَ تُضَامُونَ في رُؤْيَتِه . (صحيح مسلم – الجزء 1 – ص 439 – رقم الحديث 633) .
وروى الإمام مُسلِم أيضًا في صحيحه عن صُهَيْب رضي اللَّه عنه , أنَّ النَّبيَّ محمَّدًا صلَّى اللَّه عليه وسلَّم قالَ : إذَا دَخَلَ أهْلُ الجنَّةِ الجنَّةَ , يقولُ اللَّهُ تَباركَ وتَعالَى : تُريدُونَ شيْئًا أزِيدُكُمْ ؟ فيقُولُون : ألَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنا ؟ ألَمْ تُدْخِلْنا الجنَّةَ وتُنَجِّنا منَ النَّار ؟ فَيَكْشِفُ الحِجَابَ , فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إلَيْهِمْ مِنَ النَّظَر إلى رَبِّهِمْ عَزَّ وجَلَّ . (صحيح مسلم – الجزء 1 – ص 163 – رقم الحديث 181) .

أمَّا أصحابُ النَّار , فبالإضافة إلى العذاب الشَّديد الذي ينتظرُهم في جهنَّم خالدين فيها , فإنَّهم سيزدادونَ هَمًّا على هَمّ عندما يعلمون أنَّهم سوفَ يُحْرَمون إلى الأبد من رُؤيَة اللَّه الذي استكْبَروا عن عبادته في الدُّنيا . فأَيُّ عذاب أشدُّ من هذا العذاب ؟!

كلمة سواء 16.01.2011 14:38


عندما يطغَى العنادُ والجحود على العقل والمنطق !



سُئِل أعرابيٌّ من البادية : كيف عرفتَ أنَّ اللَّه موجود ؟
فأجاب بفطرته السَّليمة : البَعْرةُ تَدُلُّ على البعير , والخَطْوُ يَدلُّ على المسِير . سماءٌ ذات أبراج , وأرضٌ ذات فجاج , وبحارٌ ذات أمواج , أفلا يدلُّ ذلك على اللَّطيف الخبير ؟!
كلُّ النَّاس , بمختلف عقائدهم , يؤمنون في أعماقهم بوُجود خالقٍ لهذا الكون ! فالطَّالبُ لحظةَ الإعلان عن النَّتائج , والغريقُ وهو يصارع الأمواج , والأمُّ عند سماعها أنَّ حادثة خطيرة وقعتْ لابنتها , والرَّجُل وقد أحاطت به النِّيران من كلِّ جانب , كلُّهم يجدون أنفسهم في تلك اللَّحظات يتضرَّعون إلى اللَّه : يا ربّ , يا ربّ ! لكن , ما أن تَمُرَّ الأزمة حتَّى يعود الكافر إلى جحوده وكُفره !
يقول اللَّه تعالى : { قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ 63 قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ 64 قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ 65 } (6- الأنعام 63-65) .
ويقول تعالى : { هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ 22 فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ 23 } (10- يونس 22-23) .
ويقول تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ 30 أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ 31 وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ 32 } (31- لقمان 30-32) .

نعم , هذه هي طبيعة الكافر : عندما يُحيطُ به الخطَرُ من كلِّ جانب وتنقطع به الأسباب , لا تجد على لسانه سوى كلمة : يا ربّ , يا ربّ ! لكن , ما أن يُنعم عليه اللَّهُ بالنَّجاة , حتَّى يطغى على نفسه الجحودُ والعناد , فينسبُ الفضلَ في خَلاصه إلى أيِّ شيء آخر سوى .. اللَّه !
وأشدّ من هذا جحودًا : مَنْ يَضَعُ اللَّهُ في طريقه أسبابًا للإيمان , ولكنَّه عِوَضَ أن يَستغِلَّها , يزدادُ على العكس عنادًا وكُفرًا !
مثال ذلك : فرعون وقومه الذين ذكَر اللَّهُ قصَّتهم في القرآن . يقول تعالى مخاطبًا نبيَّه موسى عليه السَّلام : { وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ 12 فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ 13 وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ 14 } (27- النّمل 12-14) .
فهؤلاء أنكَرُوا بأفواههم أن يكون ما رأَوْهُ معجزات من عند اللَّه , ولكنَّهم كانُوا في قرارة أنفسهم مُتَيقِّنين أنَّها فعْلاً من عنده , ومَنعَهُم كِبْرُهم من الإقرار علانيةً بهذا .
والتِّسْع معجزات المشار إليها في هذه الآيات , هي : عصا موسى التي تحوَّلتْ إلى حَيَّة فالْتهَمتْ حِبالَ السَّحَرة , والتي ضرب بها موسَى البحْر فانفلقَ إلى نِصْفَين , ويَده التي كان يُدخِلُها في جَيْبه فتخرج بيضاء . أمَّا السَّبع معجزات الأخرى , فقد ذكَرها اللَّهُ تعالى في الآيات التَّالية : { وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ 130 فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ 131 وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ 132 فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ 133 وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائيلَ 134 فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ 135 فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ 136 } (7- الأعراف 130-136) .
ذلك أنَّ النَّبيَّ موسى عليه السَّلام لَمَّا هَزم فرعونَ والسَّحرة على الملَأ (وقد تعرَّضنا للقصَّة سابقًا) , أمَّا السَّحرةُ فآمنُوا على الفَوْر بموسى وبإلهه , وأمَّا فرعونُ وقومُه من الأقباط فاستكْبَرُوا وأصرُّوا على الكُفْر .
فمِنْ حِلْم اللَّه تعالى أنَّه لم يُرِدْ أن يُعجِّلَ لهم العذاب , وهو القادرُ على ذلك , فأرسلَ لهم الدَّلائلَ المتتابعة على قُدْرته , لكي يُقيمَ الحُجَّة عليهم . فبَدأَهم بسِنينَ من الجفاف وقِلَّة الثِّمار , لكنَّهم لم يَرْتَدعُوا . بل كانُوا إذا خفَّفَ اللَّهُ عنهم الشِّدَّة لبعض الوَقْت , قالُوا : هذا ما يليقُ بنا وما نستحقُّه ! فإذا عاد الجفاف ونَقْص الثِّمار , قالُوا : هذا بسبب موسى وقومه من بني إسرائيل !
فعذَّبهم اللَّهُ تعالى بالطُّوفان , وهو كثرة الأمطار المهلِكة وما ينتج عنها من انتشار للأوبئة , ثمَّ الجراد الذي أكَلَ زَرْعَهُم , ثمَّ القَمل الذي انْتَشر في بُيوتهم وأقَضَّ مَضاجعَهم , ثمَّ الضَّفادع كانت تسقُط في طعامهم وشرابهم , ثمَّ الدَّم الذي اختلطَ بماء الآبار والأنهار .
كلُّ هذا أصاب فرعونَ وقَوْمَه من الأقباط , ولم يُصب موسى وقومَه من بني إسرائيل شيئًا , وهذا من تمام المعجزة !
والغريب أنَّ فرعون وقومه كانوا كلَّما نزل بهم عذابٌ ورأوا آيةً من آيات اللَّه , حلَفُوا وعاهدُوا موسى لَئِنْ دعا ربَّه وكشفَ عنهم العذاب لَيُؤمِنُنَّ به . لكنَّهم ما أن يُرفَع عنهم العذاب حتَّى يعودُوا أشدّ مِمَّا كانوا عليه من الإنكار ! فيُرسِلُ اللَّهُ عليهم عذابًا أشدّ , فيَعِدُون ويحلفُون , ثمَّ يكفُرون من جديد !
هذا , والحليمُ القديرُ يُنظِرُهم ولا يَعجَلُ عليهم , ثمَّ أخَذَهم أخْذَ عزيز مُقتَدِر , فأغرَقَهم جميعًا , وجعلَهُم عِبْرةً لغيرهم .

وأنتَ سيّدي الكريم , أليسَ من رحمة اللَّه بكَ أن وضعَ في طريقك هذا الكتاب للتَّعرُّف على الإسلام ؟! أم تُريد أن تُضيعَ هذه الفرصة , فيُداهِمَك الموتُ , فتَخسَر كلَّ شيء ؟!

كلمة سواء 16.01.2011 14:38

من هو النَّبيُّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم ؟



هو محمَّد بن عبد اللَّه بن عبد المطَّلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرَّة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النَّضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان .
وقد ذكرتُ هذا النَّسَب بِطُولِه لأنَّ عدنان هو , بلا اختلاف , من سُلالة إسماعيل بن إبراهيم , عليهما السَّلام . وبالتَّالي , فالنَّبيُّ محمَّد هو أيضًا من سُلالة إسماعيل , عليهما الصَّلاة والسَّلام .
وهذا يؤكِّده القرآن الكريم , حيثُ يقول اللَّه تعالى : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ 126 وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ 127 رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ 128 رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ 129 } (2- البقرة 126-129) .
فالنَّبيُّ إبراهيم عليه السَّلام , عندما أمرهُ اللَّهُ تعالى بتَرْكَ زَوْجته هاجر وولَده الرَّضيع إسماعيل بمكَّة , وكانَتْ صحراء لا شجَر فيها ولا ماء ولا أُناس , دعَا اللَّهَ أن يجعلَها بلَدًا خصبًا ويَرزق أهلها من الخيرات . فاستجاب اللَّهُ دعاءَه , وكلُّ النَّاس يسمعُ اليومَ بمكَّة وخيراتها .
ولَمَّا كَبُر إسماعيل , أمر اللَّهُ تعالى إبراهيمَ عليه السَّلام بإعادة رفْع أُسُس وقواعد الكعبة الشَّريفة . ففَعل هو وابنُه , ودعا الاثنانِ اللَّهَ أن يجعلَ من ذُرِّيَّتهما أُمَّةً مُسلِمة , ويبعثَ من أهل مكَّة رسولاً . فاستجاب اللَّه دعاءهما , وبعثَ محمَّدًا صلَّى اللَّه عليه وسلَّم نبيًّا من ذُرِّيَّتهما , وهو أيضًا من أهل مكَّة . يقول اللَّه تعالى في سورة أخرى : { يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ 1 هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ 2 } (62- الجمعة 1-2) .
وكان لإبراهيمَ ولدٌ آخر اسمُه إسحاق . ومِن ذُرِّيَّة إسحاق جاء كلُّ أنبياء بني إسرائيل , عليهم السَّلام أجمعين . وقد ذكرْنَا أنَّ يعقوبَ بن إسحاق يُسمَّى أيضًا إسرائيل , وإليه ينتسبُ بَنُو إسرائيل .

وُلِدَ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم بمكَّة يوم الاثنين 12 ربيع الأوَّل (الشّهر الثَّالث قمري) سنة 570 م , وتوفِّي بالمدينة (في السّعوديَّة) ودُفن بها وعمره 63 سنة , صلَّى اللَّه عليه وسلَّم .
مات أبوه عبدُ اللَّه وهو ما زال في بطن أمِّه , ثمَّ ماتت أمُّه آمنة بنت وهب بن عبد مناف , وهو ابن ستّ سنين , ولم يكُن أبَوَاهُ رُزِقا بأطفال غيره . فعاش يتيمًا في كفالة جدِّه عبد المطَّلب , سيِّد قبيلة قريش آنذاك . ولَمَّا بلغ ثماني سنين , ماتَ جدُّه أيضًا , فكَفَلَه عمُّه أبو طالب . يقول اللَّه تعالى في القرآن الكريم مخاطبًا محمَّدًا صلَّى اللَّه عليه وسلَّم : { أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى 6 } (93- الضّحى 6) .
اشتُهِر في قَوْمه بالصِّدق والأمانة وحُسْن الخُلُق , حتَّى لَقَّبوه بالأمين . يقول اللَّه تعالى مادحًا أخلاقه : { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ 4 } (68- القلم 4) . وهذه الصِّفات ساعَدَتْه كثيرًا في دَعْوَته إلى اللَّه فيما بعد .
لم يتعلَّم محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم القراءة ولا الكتابة , لِحِكْمةٍ أرادها اللَّهُ تعالى . يقول سبحانه مخاطبًا إيَّاه : { وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ 48 } (29- العنكبوت 48) .
لَمَّا بلغ سِنَّ الخامسة والعشرين , تزوَّج من السَّيدة خديجة بنت خُوَيْلِد , أشرف نساء مكَّة وأكثرهنَّ مالاً . وكانت سمعَتْ عن أمانته وحُسْن أخلاقه , فعرضَتْ عليه الزَّواج , فكلَّمَ عمَّه حمزة بن عبد المطَّلب , فخَطبها له من أبيها . وكانت نِعْمَ الزَّوجة له , وأوَّل مَن أسلَم , ولم تزلْ تشدُّ من أزره وتُثبِّتُه حين نزل عليه الوحيُ وكذَّبَهُ النَّاسُ , حتَّى تُوُفِّيَت , رضي اللَّه عنها . فبقيَ النَّبيُّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم يذكُرها ويذكرُ فضائلها طولَ حياته .
أنجبت السَّيِّدة خديجة لِمُحمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم : القاسِم , ثمَّ زينب , ثمَّ عبد اللَّه , ثمَّ أمّ كلثوم , ثمَّ فاطمة , ثمَّ رُقَيَّة . فماتَ القاسِم بمكَّة صغيرًا , ثمَّ مات عبد اللَّه .
ولم يُرزَق النَّبيُّ بعد ذلك بأطفال , غير إبراهيم من زوجته السَّيِّدة مارية القبطيَّة . ولَم يَلْبَثْ إبراهيمُ أن مات أيضًا بالمدينة , وهو ابنُ ثمانية عشر شهرًا .

كلمة سواء 16.01.2011 14:38

كيف بدأت نُبوَّة محمَّد ؟



كان محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , قبل أن يُبعث نبيًّا , يَبغضُ ما كان يفعلُ قومُه من عبادة الأصنام . وكان يعتكفُ شهرًا من كلِّ سنة في غار حراء بِمَكَّة , يَتعبَّد على شَرْع النَّبيِّ إبراهيم عليه السَّلام .
قال ابنُ إسحاق , أحد الأئمَّة الثِّقات الذين كَتبوا عن سيرة النَّبيِّ محمَّد , ونقلاً عن كتابه السِّيرة النَّبويَّة مع تصرّف بسيط في سَرْد القصَّة : فلمَّا بلغ سِنَّ الأربعين , جاءه الملَك جبريل في ليلةٍ من ليالي شهر رمضان وهو نائم في غار حراء .
يقول محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم : فقال لي : اقرأْ , قلتُ : ما أنا بقارئ (أي لا أعرف القراءة ) ! فغَتَّني (أي شَدَّني) حتَّى ظننتُ أنَّه الموتُ , ثمَّ أرسلَني فقال : اقرأْ , قلتُ : ما أنا بقارئ ! فغَتَّني حتَّى ظننتُ أنَّه الموتُ , ثمَّ أرسلَني فقال : اقرأْ , قلتُ : ماذا أقرأْ ؟! ما أقولُ ذلك إلاَّ افتداءً منه أن يَعود لي بمثل ما صنع بي , فقال : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ 1 خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ 2 اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ 3 الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ 4 عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ 5 } (96- العلق 1-5) .
فكان هذا أوَّل ما نَزل من القرآن الكريم , ثمَّ توالَى نُزولُ الوَحْي بعد ذلك بواسطة الملَك جِبْريل عليه السَّلام على مدى ثلاث وعشرين سنة , مُتَفرِّقًا بحسب الأحداث .
يقولُ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم متابعًا القصَّة : فقرأتُها (أي الآيات) , ثمَّ انتهى وانصرفَ عنّي . فهبَبْتُ من نومي وكأنَّما كُتِبَتْ في قلبي كتابًا . فخرجتُ , حتَّى إذا كنتُ في وَسط من الجبل سمعتُ صوتًا من السَّماء يقول : يا محمَّد , أنتَ رسولُ اللَّه وأنا جبريل ! فرفعتُ رأسي إلى السَّماء أنظُر , فإذا جبريلُ في صورة رجُلٍ صافٍّ قدمَيْه في أُفُق السَّماء يقولُ : يا محمَّد , أنتَ رسولُ اللَّه وأنا جبريل ! فوَقفتُ أنظرُ إليه , لا أتقدَّم ولا أتأخَّر , وجعلْتُ أصرفُ وجهي عنه في آفاق السَّماء , فلا أنظرُ في ناحيَة منها إلاَّ رأيتُه كذلك !
فما زلتُ واقفًا لا أتقدَّم أمامي ولا أرجعُ ورائي حتَّى بعثَتْ خديجةُ رُسُلَها في طلَبي , فبَلَغُوا أعلَى مكَّة ورجعُوا إليها وأنا واقفٌ في مكاني ذلك . ثمَّ انصرفَ عنِّي , وانصرفتُ راجعًا إلى أهلي , حتَّى أتيتُ خديجة , فجلستُ إلى فخذِها مُلْتصقًا بها . فقالتْ : يا أبا القاسم , أين كُنت ؟ فوَاللَّهِ لقد بعثْتُ رُسُلي في طَلَبك حتَّى بَلَغُوا مكَّة ورجعُوا لي . فحدَّثْتُها بالذي رأيتُ , فقالتْ : أبْشِر يا ابنَ عمِّ واثبُتْ , فوَالَّذي نَفْسُ خديجةَ بِيَدِه إنّي لَأَرجو أن تكونَ نَبِيَّ هذه الأُمَّة .
قال ابن إسحاق : ثمَّ قامتْ خديجة , فجَمعتْ عليها ثيابها وانطَلَقَتْ إلى ابن عمِّها وَرَقَة بن نَوْفَل , وكان قد تَنَصَّر وقَرَأَ الكُتُبَ وسمعَ مِنْ أهْلِ التَّوراة والإنْجِيل . فأَخبَرتْه بما أخْبَرها به رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم أنَّه رأَى وسمع , فقال وَرَقة : قُدُّوسٌ ! قُدُّوس ! وَالَّذي نَفْسُ وَرَقة بيَده لَئِنْ كُنْتِ صَدَقْتِني يا خديجة , لقد جاءهُ النَّامُوسُ (أي المَلَكُ) الأكبر الذي كان يَأتي مُوسى , وإنَّه لَنَبيُّ هذه الأُمَّة , فقُولي له فَلْيَثْبُتْ . فرجَعَتْ خديجةُ إلى رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم وأخْبَرَتْه بقَول وَرَقة .
فلمَّا قَضى رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم جوارَه وانصرفَ , بدأ بالكعبة فطافَ بها كما كان يَصنع . فلَقِيَه وَرقَة بن نَوْفَل وهو يَطُوف , فقال : يا ابنَ أخي , أخبِرْني بما رأيْتَ وسمِعْت . فأخبرَه رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , فقال وَرَقَة : والذي نَفْسي بِيَدِه إنَّكَ لَنَبيُّ هذه الأمَّة , ولقد جاءكَ النَّاموسُ الأكبرُ الذي جاء موسى , ولَتُكَذَّبَنَّه ولَتُؤذَيَنَّه ولَتُخرَجنَّه ولَتُقَاتَلَنَّه , ولَئِنْ أنا أدركتُ ذلكَ اليومَ لَأَنصُرَنَّ اللَّهَ نصرًا يَعْلَمُه .
ثمَّ أَدْنَى رأسَه منه , فقبَّلَ يافُوخَه (أي وسَط رأسِه) , وانصرفَ رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم إلى مَنزله .

هكذا إذًا بدأت نُبُوَّة محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , وهكذا صدَّقتْهُ زوجتُه خديجة وثَبَّتَتْه , رضي اللَّه عنها . ثمَّ صدَّقَه النّصراني وَرَقَة بن نَوفَل , لِمَا كان يجدُ من صِفاته وزمان بعثَته في التَّوراة والإنجيل . ولم يَلْبَث وَرَقة أن تُوفِّي بعد ذلك بقليل , رحمه اللَّه .
وقد روى الحافظ أبو يَعْلى عن جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنه , أنَّ رسولَ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم سُئِلَ عن وَرَقَة بن نَوفَل , فقال : أبصرْتُه في بُطْنان الجنَّة (أي داخِلَها) وعليه سُندس . (مسند أبي يعلى – الجزء 4 – ص 41 – رقم الحديث 2047) .

كلمة سواء 16.01.2011 14:39

هكذا كان محمَّد يدعو قومه إلى الإسلام



قال ابن إسحاق , نقلاً عن كتابه السِّيرة النَّبويَّة مع تصرّف بسيط في سَرْد القصَّة : كان عُتبة بن ربيعة سيِّدًا في قُريش , فقال يومًا وهو جالسٌ في إحدى نَواديهم , ورسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم في المسجد وَحْدَه : يا معشَر قُرَيش , ألا أقومُ إلى محمَّد فأُكلِّمه وأَعْرِض عليه أمورًا لعلَّه يقبلُ بعضَها فنُعطيه أيّها شاء ويَكُفّ عنَّا ؟
وكان ذلك حينَ أسلَم حمزة بن عبد المطَّلب , عمُّ النَّبيِّ وفارسُ قُريش الذي يَهابُه الكُلُّ , ورأتْ قُريش أنَّ أصحابَ رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم يَزيد عددهم كلَّ يوم .
فقالُوا : بَلَى يا أبا الوليد , قُمْ إليه فَكَلِّمْه .
فقامَ عُتْبة حتَّى جلسَ إلى رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , فقال : يا ابنَ أخي , إنَّك مِنَّا حيثُ قد علِمْتَ من السِّطَة في العشيرة (أي المنزلة الرَّفيعة) , والمكان في النَّسَب , وإنَّكَ قد أتَيْتَ قَومَك بأَمْرٍ عظيم فرَّقْتَ به جماعَتَهم وسَفَّهتَ به أحلامَهُم وعِبْتَ به آلِهَتَهم ودِينَهم وكَفَّرْتَ به مَن مَضَى من آبائهم , فاسْمَعْ منِّي أَعْرِضْ عليْكَ أُمورًا تَنْظُر فيها لعلَّك تقبَلُ منها بعضَها .
فقالَ رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم : قُلْ يا أبا الوليد , أَسْمَعْ .
قال : يا ابنَ أخي , إن كنتَ إنَّما تُريد بما جِئْتَ به من هذا الأمر مالاً , جَمَعْنا لكَ من أمْوالنا حتَّى تكونَ أَكْثَرنا مالاً . وإن كنتَ إنَّما تريدُ به شَرَفًا , سَوَّدْناكَ علينا (أي جعلْناكَ سيِّدًا علينا) حتَّى لا نَقْطع أمرًا دُونَك . وإن كنتَ تُريد به مُلْكًا , مَلَّكناكَ علينا . وإن كان هذا الذي يأتيكَ رَئِيًّا تراهُ لا تستطيعُ ردَّهُ عن نفْسك (وكانُوا يُسَمُّون التَّابع من الجِنِّ : رَئِيًّا) , طلَبْنا لك الطِّبَّ وبذَلْنا فيه أموَالَنا حتَّى نُبْرئكَ منه , فإنَّه ربَّما غَلَب التَّابعُ على الرَّجُل حتَّى يُداوَى منه .
فلمَّا فرَغَ عُتبة , ورسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم يَستمعُ منه , قالَ : أوَ قَدْ فَرغْتَ يا أبا الوَليد ؟ قالَ : نَعم , قالَ : فاسْتَمِعْ منِّي , قالَ : أَفْعَل , قال : { حم 1 تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 2 كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ 3 بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ 4 وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ 5 قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ 6 الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ 7 إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ 8 } (41- فصّلت 1-8) .
ومضى رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم يَقْرأ , وعُتبة مُنصِتٌ بانتباه , حتَّى إذا وصل إلى الآية التي فيها سَجْدة , سَجَد , ثمَّ قال : قدْ سمعتَ يا أبا الوَليد ما سمعتَ , فأنتَ وذاكَ .
فقام عُتبة إلى أصحابه , فقالَ بعضُهم لِبَعض : نحلِفُ باللَّه لقد جاءكُم أبو الوليد بغَيْر الوَجه الذي ذهبَ به . فلمَّا جلَسَ إليهم , قالُوا : ما وراءكَ يا أبا الوليد ؟ قالَ : وَرائي أنِّي سمعتُ قَوْلاً ما سمعتُ مثْلَه قَطّ , واللَّهِ ما هو بالشِّعْر ولا بالسِّحْر ولا بالكَهَانة . يا مَعْشَر قُرَيْش , أطيعُوني واجْعَلوها بي , وخَلُّوا بين هذا الرَّجُل وبين ما هو فيه فاعْتَزِلُوه , فَوَاللَّهِ لَيَكُونَنَّ لِقَوْلِه الذي سمعتُ منه نَبَأٌ عظيم , فإنْ تُصِبْهُ العرَبُ فقد كُفِيتُمُوه بغَيْركُم , وإن يَظْهَرْ عَلَيْهم فَمُلْكُه مُلْكُكُم وعِزُّه عِزُّكُم وكُنتم أَسْعدَ النَّاس به .
قالُوا : سحَرَك واللَّهِ يا أبا الوليد بلِسَانه ! قال : هذا رأيي فيه , فاصنعُوا ما بَدَا لكُم .

وفي حادثة أخرى , روى ابن إسحاق , نقلاً عن كتابه السِّيرة النَّبويَّة مع تصرّف بسيط في سَرْد القصَّة , أنَّ أشراف قُريش من كلِّ قَبيلة : عُتبة بن ربيعة , وشَيْبة بن ربيعة , وأبو سُفيان بن حَرب , والنَّضر بن الحارث , وأبو البَختريِّ بن هشام , والأسْوَد بن المطَّلب , وزمعة بن الأسْوَد , والوَليد بن المغيرة , وأبو جهْل بن هشام , وعبد اللَّه بن أبي أميَّة , والعاص بن وائل , ونبيه ومُنبِّه ابنَا الحجَّاج , وأُميَّة بن خَلَف , اجتمعُوا يومًا بعد غُروب الشَّمس عند ظَهْر الكعبة . فقالَ بعضُهم لِبَعض : ابعثُوا إلى محمَّد , فكَلِّمُوه وخاصِمُوه حتَّى تُعْذِرُوا فيه . فبَعَثُوا إليه أنَّ أشرافَ قَوْمك قد اجتَمعُوا إليك لِيُكلِّمُوك , فأْتِهم .
فجاءهُم رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم سريعًا , وهو يَظُنُّ أن قد بَدَا لهم فيما كلَّمهُم فيه بَدْء , وكان عليهم حريصًا , يُحبُّ رُشْدَهم ويَعِزُّ عليه عَنَتُهم , حتَّى جلس إليهم , فقالُوا له : يا محمَّد , إنَّا قد بعثْنا إليك لِنُكلِّمَك , وإنَّا واللَّهِ ما نعلَمُ رجلاً من العرب أَدخَلَ على قَومه مثلَ ما أدخلْتَ على قَومِك . لقد شتَمْتَ الآباء وعِبْتَ الآلهة وسَفَّهتَ الأحلامَ وفرَّقتَ الجماعة , فَمَا بَقيَ أمرٌ قبيح إلاَّ قد جِئْتَه فيما بيننا وبينك . فإن كنتَ إنَّما جئْتَ بهذا الحديث تطلُبُ به مالاً , جمعْنَا لكَ من أموالنا حتَّى تكون أكْثَرنا مالاً , وإن كنتَ إنَّما تطلُبُ به الشَّرفَ فينا سَوَّدْناك علينا , وإن كنتَ تريدُ به مُلْكًا مَلَّكْناك علينا , وإن كان هذا الذي يأتيكَ رَئِيًّا تَراه قد غَلَبَ عليك , بذَلْنا لك أموالَنا في طَلَب الطِّبِّ لك حتَّى نُبرئك منه أو نُعذِر فيك .
فقالَ رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم : ما بي ما تقولُون , ما جئتُ بما جئتكُم به أطلُبُ أموالَكُم ولا الشَّرفَ فيكم ولا الملْكَ عليكم , ولكنَّ اللَّهَ بَعَثني إليكم رسولاً , وأَنزلَ عَلَيَّ كتابًا , وأمَرني أن أكون لكم بشيرًا ونذيرًا , فبَلَّغتُكم رسالات ربِّي ونصحْتُ لكم , فإن تَقْبَلُوا منِّي ما جِئْتُكم به فهو حَظّكم في الدُّنيا والآخرة , وإن تَرُدُّوه عَلَيَّ أصْبِر لأمْر اللَّه حتَّى يحكُم اللَّه بيني وبينكم .
قالُوا : يا محمَّد , فإن كنتَ غير قابل منَّا شيئًا مِمَّا عَرَضناه عليك , فإنَّكَ قد علمْتَ أنَّه ليس من النَّاس أحدٌ أضْيَق بَلدًا ولا أقلّ ماءً ولا أشَدّ عيْشًا منَّا , فسَلْ لنا ربَّكَ الذي بعثَك بما بعثَك به فلْيُسَيِّرْ عنَّا هذه الجبالَ التي قد ضَيَّقتْ علينا , ولْيَبْسُط لنا بلادَنا , ولْيُفجِّر لنا فيها أنهارًا كأنهار الشَّام والعراق , ولْيَبعثْ لنا مَن مَضى من آبائنا , ولْيَكُن فيمَن يَبعثُ لنا منهم قُصَيّ بن كلاب فإنَّه كان شَيْخ صِدْق , فنَسْألهم عمَّا تقولُ أحَقٌّ هو أم باطِل , فإن صَدَّقوك وصنعتَ ما سألناك , صدَّقْناكَ وعرفْنا به مَنزلَتك من اللَّه وأنَّه بَعثَك رسولاً كما تقول .
فقال النَّبيُّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم : ما بهذا بُعِثْتُ إليكم , إنَّما جِئْتُكم من اللَّه بما بَعَثني به , وقد بلَّغْتُكم ما أُرسِلْتُ به إليكم , فإن تَقْبلُوه فهو حَظّكم في الدُّنيا والآخرة , وإن تَرُدُّوه عَلَيَّ أصْبِر لأمْر اللَّه حتَّى يحكُم اللَّه بيني وبينكم .
قالُوا : فإذا لم تَفعلْ هذا لنا , فخُذْ لِنَفْسِك . سَلْ ربَّكَ أن يَبعثَ معكَ ملَكًا يُصدِّقُك بما تقولُ ويُراجِعُنا عنْك , وسَلْهُ فلْيَجْعَلْ لكَ جِنانًا وقُصورًا وكُنوزًا من ذَهب وفِضَّة يُغْنيكَ بها عمَّا نراكَ تَبتَغي , فإنَّك تقومُ بالأسواق كما نَقُوم , وتلْتمسُ المعاشَ كما نَلْتمِسُه , حتَّى نعرف فضْلَك ومَنْزلَتك من ربِّك إن كنتَ رسولاً كما تزعم .
فقالَ النَّبيُّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم : ما أنا بِفَاعِل وما أنا بالذي يَسْألُ ربَّه هذا , وما بُعِثْتُ إليكم بهذا , ولكنَّ اللَّهَ بَعَثني بشيرًا ونذيرًا , فإن تَقْبَلُوا منِّي ما جِئْتُكم به فهو حَظّكم في الدُّنيا والآخرة , وإن تَرُدُّوه عَلَيَّ أصْبِر لأمْر اللَّه حتَّى يحكُم اللَّه بيني وبينكم .
قالُوا : فأَسْقِط السَّماءَ علينا كِسَفًا كما زعمْتَ أنَّ ربَّك لو شاء فَعل , فإنَّا لا نُؤمنُ لكَ إلاَّ أن تفعَل .
قالَ : ذلك إلى اللَّه , إن شاء أن يفعلهُ بكم , فَعَل .
قالُوا : يا محمَّد , أفَمَا علِمَ ربُّكَ أنَّا سنجلِسُ معك ونسألكَ عمَّا سألْناك عنه ونطلُب منك ما نَطلب , فيَتقدَّم إليك فيُعلِّمك ما تُراجعنا به ويُخبرك ما هو صانعٌ في ذلك بنا إذا لم نَقْبلْ منكَ ما جِئْتَنا به ؟! إنَّه قد بلَغَنا أنَّك إنَّما يُعلِّمُك هذا رجلٌ باليَمامة يُقالُ له الرَّحمن , وإنَّا واللَّه لا نؤمنُ بالرَّحمن أبدًا . فقد أعذَرْنا إليك يا محمَّد , وإنَّا واللَّهِ لا نَتْرُكك وما بلَغْتَ منَّا حتَّى نُهلِكك أو تُهلكنا .
فلمَّا قالُوا ذلك قام عنهم رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , وقام معه عبدُ اللَّه بن أبي أميَّة , وهو ابن عمَّته عاتكة بنت عبد المطَّلب , فقال : يا محمَّد , عرضَ عليك قومُك ما عرضُوا فلم تقْبَله منهم , ثمَّ سألُوك لأنفُسهم أمورًا لِيَعرفُوا بها منزلَتَك عند اللَّه كما تقُول ويُصدِّقوك ويَتَّبعوك فلم تَفعلْ , ثمَّ سَألوك أن تأخُذ لنَفسك ما يَعرفون به فَضْلك عليْهم ومَنزلَتك عند اللَّه فلم تَفعلْ , ثمَّ سألوك أن تُعجِّل لهم بعضَ ما تُخَوِّفُهم به من العذاب فلم تفْعل , فوَاللَّه لا أومنُ بكَ أبدًا حتَّى تتَّخِذَ إلى السَّماء سُلَّمًا ثمَّ تَرْقَى فيه وأنا أنظرُ إليك حتَّى تأتيها , ثمَّ تأتي معك بأربعة من الملائكة يشهدون لكَ أنَّك كما تقول , وأيْمُ اللَّه أن لو فعلْتَ ذلك ما ظننتُ أنِّي أصدِّقُك !
ثمَّ انصرف , فرجع رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم إلى أهله حزينًا , لِمَا كان يطمعُ من قومه حين دَعَوْه , ولِمَا رأى من مُباعدتهم إيَّاه .

هذا إذًا بعض ما كان يُلاقي محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم من قومه . وقد كان بإمكانه أن يَدعُو اللَّهَ أن يُنزلَ بهم عذابه , ولكنَّه لم يفعل . وقد روى الإمام أحمد في مُسنده عن ابن عبَّاس رضي اللَّه عنه , قال : قالتْ قريش للنَّبيِّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم : ادْعُ لنا ربَّك يَجْعَل لنا الصَّفَا ذهَبًا ونُؤمن بك . قال : وتَفعَلُون ؟ قالُوا : نعم .
فدَعَا , فأتاهُ جبريلُ فقال : إن ربَّكَ عَزَّ وجَلَّ يقرأ عليك (أو يُقْرئك) السَّلامَ ويقولُ (لك) : إن شئتَ أصبحَ الصَّفَا لهم ذهَبًا , فمَنْ كفرَ بعد ذلك منهم عذَّبْتُه عذابًا لا أعذِّبه أحدًا من العالَمين , وإن شئتَ فتحْتُ لهم بابَ التَّوبة والرَّحمة .
قال : بل باب التَّوبة والرَّحمة . (مسند الإمام أحمد بن حنبل – الجزء 1 – ص 242 – رقم الحديث 2166) .
نعم , اختار النَّبيُّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم لِقَومه الرَّحمة على العذاب . فهو نبيُّ الرَّحمة , كما يقول اللَّه تعالى فيه : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ 107 } (21- الأنبياء 107) .
وقد روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هُرَيْرة رضي اللَّه عنه , قال : قيلَ : يا رسولَ اللَّه , ادْعُ على المشركين . قال : إنِّي لَم أُبْعَثْ لَعَّانًا , وإنَّما بُعِثْتُ رَحْمَة . (صحيح مسلم – الجزء 4 – ص 2006 – رقم الحديث 2599) .
لكنَّ قومَه قابلُوا الإحسان بالإساءة , فسعَوْا في إيذائه , وعذَّبُوا أصحابه تعذيبًا شديدًا , ثمَّ أجبروه على الخروج من مكَّة بعد أن حاولُوا قتْلَه فلم يُفلِحوا في ذلك , ووقعتْ بينهم وبينه بعد ذلك حروبٌ عديدة . وبعد ثماني سنوات من خروجه من مكَّة , عاد إليها النَّبيُّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم فاتحًا مُنتصِرًا , ودخلَها في جيش كبير من أصحابه , وإنَّ لِحْيَتَه تكاد تَمَسّ وسط راحلَته من شدَّة تواضعه للَّه ! ثمَّ وقفَ على باب الكعبة , ووقف أمامه المشركون من قومه خائفين , فقال لهم : يا معشر قُريش , ما تَرَوْن أنِّي فاعلٌ فيكم ؟ قالُوا : خيرًا , أخٌ كريمٌ وابنُ أخ كريم , قال : اذْهبُوا , فأنتم الطُّلقاء !
نعم , لم يأخذ النَّبيُّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم بثأره ولا بثأر أصحابه , وعفا عن قومه وقد كان قادرًا على قتلهم جميعا , ولم يُجبرهم على الدُّخول في الإسلام . فلمَّا رأَوْا منه ذلك , أسلم منهم عدد كبير . ونزل قولُ اللَّه تعالى : { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ 1 وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا 2 فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا 3 } (110- النّصر 1-3) .

ولم يكن هذا الحِلْمُ من النَّبيِّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم حالة عارضَة , وإنَّما كان صِفَة ملازمة له . فقد روى ابنُ حِبَّان في صحيحه عن عمر بن الخطَّاب رضي اللَّه عنه , قال : لَمَّا تُوُفِّيَ عبدُ اللَّه بن أُبَيّ (وهو ابن سَلُول , وكان رأس المنافقين , يُظهر الإسلام ويُخفي الكُفر ويَكيد للمُسلمين) , أتَى ابنُه عبدُ اللَّه بن عبد اللَّه بن أُبَيّ بن سَلُول (وكان مُسْلِمًا) رسولَ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , فقال : يا رسولَ اللَّه , هذا عبدُ اللَّه بن أُبَيّ قد وضَعْناه , فَصَلِّ عليه .
(وفي رواية لِمُسلم عن ابن عُمَر , قال : فسألَ (أي عبدُ اللَّه , الابنُ) رسولَ اللَّه أن يُعطيه قميصَه يُكفِّن فيه أباه , فأعطاه , ثمَّ سألَه أن يُصَلِّي عليه ) .
قال عُمر : فقام رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , فلمَّا قام يُصلَّي عليه (أي صلاة الجنازة) , قمتُ في صدر رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , فقلتُ : يا نبيَّ اللَّه , أتُصَلِّي على عدُوِّ اللَّه القائل يوم كَذَا : كَذَا وكذَا , والقائل يوم كَذَا : كَذَا وكذَا , أُعَدِّدُ أيَّامَه الخبيثة ؟!
فتَبسَّم رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , وقال : عَنِّي (أي خَلِّ عَنِّي) يا عُمَر !
حتَّى إذا أكثرتُ , قال : عَنِّي يا عُمَر , فإنِّي قد خُيِّرتُ , فاختَرْتُ , إنَّ اللَّه يقولُ : { اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ 80 } (9- التّوبة 80) .
يقولُ النّبيُّ : ولو أعلم أنِّي إن زدتُ على السَّبعين , غُفِر له , لَزِدتُ !
قال عمر : فعَجبًا لِجُرأتي على رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , واللَّهُ ورسولُه أعلَم ! فلمَّا قالَ لي ذلكَ انصَرفتُ عنه . فصَلَّى عليه , ثمَّ مَشَى معه , فقام على حُفْرته حتَّى دُفِن , ثمَّ انصَرَف . فَوَاللَّهِ ما لَبِثَ إلاَّ يَسيرًا حتَّى أنزلَ اللَّهُ جلَّ وعَلاَ : { وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ 84 } (9- التّوبة 84) .
قال عمر : فَمَا صَلَّى رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم على مُنافِق بعد ذلك , ولا قامَ على قَبْره . (صحيح ابن حبّان – الجزء 7 – ص 449 – رقم الحديث 3176) .

كلمة سواء 16.01.2011 14:40

وهكذا كان محمَّدٌ أبًا وقائدًا وداعية



قد تعجبين يا ابنتي الكريمة لو قلتُ لكِ أنَّ زينب بنت النَّبيّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم كانت متزوِّجة من رجُل غير مُسلم !
نعم , إنَّه أبو العاص بن الرَّبيع , ابنُ أخت السَّيِّدة خديجة , زوجة النَّبيِّ . وقد كان تاجرًا معروفًا بأمانته , وكانت خديجة تَعُدُّه بمَنْزلة ولَدها , فسألَتْ محمَّدًا صلَّى اللَّه عليه وسلَّم أن يُزوِّجَه ابنتهما زينب , وذلك قبل أن يُبْعثَ نبيًّا , ففَعل . فلمَّا أكرم اللَّهُ محمَّدًا بالنُّبوَّة , أسلمَتْ خديجة وبناتها , وأصرَّ أبو العاص على البقاء على دين قَومه . ومع هذا , لم يُكْرهْهُ النَّبيُّ على اعتناق الإسلام , ولم يُجْبِر ابنتَه زينب على مفارقة زوجها .
قال ابن إسحاق , نقلاً عن كتابه السِّيرة النَّبويَّة مع تصرّف بسيط في سَرْد القصَّة وإضافة بعض التَّعاليق على الأحداث : وجاء كبارُ قُريش إلى أبي العاص , وقالُوا له : فارقْ زوجتَك , ونحنُ نُزوِّجك أيَّ امرأة من قريش شئْت . فقال : لا واللَّه , لا أفارقُ صاحبتي , وما أحبُّ أنَّ لي بها امرأةً من قُريش . وكان رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم يُثني عليه خيرًا .
ومَرَّت السَّنوات , وهاجر النَّبيُّ إلى المدينة , وبقيَتْ زينبُ مع زوجها بمكَّة . وهاجر المسلمون خُفْيَة بعد أن تركُوا أموالَهم وديارَهم , فاستوْلَى عليها المشركُون .
وفي السَّنة الثَّانية من الهجرة , جاءت الأخبار إلى سادات قُريش أنَّ قافلَتهم التِّجاريَّة المقبلة من الشَّام سيَتعرَّضُ لها المسلمون . فخرجُوا في ألْفٍ من رجالهم لإنقاذ تجارتهم , وخرج معهم أبو العاص بن الرَّبيع . وَوقعتْ بينهم وبين المسلمين معركة بمكان اسمُه بَدْر , فانتصر المسلمون , وقُتِلَ ساداتُ قُريش , وأُسِر منهم سَبعون , وكان من بين الأسرى أبو العاص . فبعَثتْ قُريش تَفْتَدِي رجالَها الذين أُسِرُوا , وكان هذا الأمرُ معمولاً به عند العرب . وبَعثتْ زينبُ بمالٍ لِفِداء زوجها , وبعثَتْ قلادةً لها كانت السَّيِّدة خديجة أدْخَلَتْها بها على أبي العاص حين تزوَّجها .
نعم , حتَّى زينب رضي اللَّه عنها , وهي بنتُ النَّبيّ , لَمْ تستغلَّ قَرابَتها هذه , بل بعثَتْ بالمال لِفِداء زوجها , تمامًا مثلَما فَعلَ بقيَّةُ النَّاس !
فلَمَّا رأى رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم القلادة , رقَّ لابنته رقَّةً شديدة , وقالَ لأصحابه : إن رأيتُم أن تُطلِقُوا لها أسيرها , وتَرُدُّوا عليها مالَها , فافعَلُوا . قالُوا : نعم يا رسولَ اللَّه . فأطْلَقُوه , ورَدُّوا عليها الذي لها .
وقد كان بإمكان النَّبيِّ أن يُصدر أوامره , بصِفَته قائد جيش المسلمين , بإطلاق سراح زوج ابنته . ولكنَّ عدْلَه لم يَسْمح له بذلك , فتقدَّم بالطَّلب مثل أيِّ إنسان عادي , وتركَ لِجُنُوده حرِّيَّة الرَّفض أو القَبُول !

وأُطلِقَ أبو العاص من الأسر , وأخذَ عليه النَّبيُّ العهدَ أن يُخلِّي سبيلَ ابنته , ففعلَ , وقَدمتْ زينبُ إلى المدينة .
وأقام أبو العاص بمكَّة , حتَّى إذا كان قُبَيْل فَتْحها , خرج إلى الشَّام يُتاجر بماله وبأموال رجالٍ من قُريش . فلمَّا فرغ من ذلك وقفلَ راجعًا , اعترَضَ بعضُ المسلمين طريقَه , فأخذُوا ما معه وهربَ هو . فلمَّا كان اللَّيلُ , ذهبَ إلى بيت زينب , فاسْتجار بها , فأَجارَتْه , وكان هذا العُرفُ معمولاً به أيضًا عند العرب .
فلمَّا خرج رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم إلى صلاة الفجر وكبَّر إلى الصَّلاة وكبَّر النَّاس , صرخَتْ زينبُ من صَفَّة النِّساء : أيُّها النَّاس , إنِّي قد أجَرْتُ أبا العاص بن الرَّبيع . فلمَّا سلَّم رسولُ اللَّه , أقبلَ على النَّاس وقال : أيُّها النَّاس , هل سمِعْتُم ما سمعْتُ ؟! قالُوا : نعم , قال : أمَا والذي نَفسُ محمَّد بيَده , ما علِمْتُ بشيء من ذلك حتَّى سمعْتُ ما سمعْتُم . إنَّه يُجيرُ على المسلمين أدْناهُم . ثمَّ انصرف , فدخلَ على ابنته وقالَ : أيْ بُنَيَّة , أَكْرِمي مَثْواه , ولا يَخلُصَنَّ إليْكِ فإنَّكِ لا تَحِلِّين له .
وكان اللَّه تعالى قد حرَّم , منذ صُلْح الحُدَيبِيَة سنة سِتٍّ للهجرة , أن يتزوَّج مسلمٌ من مُشركة , أو تتزوَّج مُسلِمةٌ من مُشرك . وأنزلَ تعالى في ذلك : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ 10 } (60- الممتحنة 10) .
لهذا , امتثلَ النَّبيُّ لِحُكْم اللَّه , وقال لابنَتِه أنَّها لم تَعُد تَحِلُّ لأبي العاص .
وبعثَ رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم إلى المسلمين الذين أخذُوا مالَ أبي العاص , فقالَ لهم : إنَّ هذا الرَّجلَ منَّا حيثُ قد علِمْتُم , وقد أصبْتُم له مالاً , فإن تُحسِنُوا وتَرُدُّوا عليه الذي له فإنَّا نُحبُّ ذلك , وإن أَبَيْتُم فهو فَيْءُ اللَّه الذي أَفاءَ عليكم , فأنتم أحَقّ به (وذلك لأنّ كفّار قريش كانُوا أخرجوهم كرهًا من مكّة , وأخذوا أموالَهم وديارَهم) . قالُوا : يا رسولَ اللَّه , بل نَرُدُّه عليه . فرَدُّوه عليه كلّه .
فاحْتَمَلَه أبو العاص إلى مكَّة , وأدَّى إلى كلِّ ذي مالٍ من قُريش مالَه , ثمَّ قال : يا معشر قُريش , هل بَقِيَ لِأحَدٍ منكُم عندي مالٌ لم يأخُذْه ؟ قالُوا : لا , فجزاكَ اللَّه خيرًا , فقد وَجدْناكَ وَفيًَّا كريمًا . قالَ : فأنا أشهدُ أن لا إله إلاَّ اللَّه وأنَّ محمَّدًا عبْدُه ورسولُه ! واللَّهِ ما منَعَني من الإسلام عِنْدَه إلاَّ مخَافَة أن تظُنُّوا أنِّي إنَّما أردتُ أن آخُذَ أموَالَكم , فلمَّا أدَّاها اللَّهُ إليكُم وفَرغْتُ منها , أسلمْتُ . ثمَّ عاد إلى رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , فرَدَّ إليه زينب .

وفي قصَّة أخرى , قالَ ابن إسحاق , نقلاً عن كتابه السِّيرة النَّبويَّة مع تصرّف بسيط في سَرْد القصَّة : جلسَ عُمَيْر بن وهب الجمَحي مع صفْوان بن أُميَّة يومًا في الحِجْر بعد معركة بدر , يَذكُران قَتْلاهم . وكان عُمَيْر شيطانًا من شياطين قُريش , وكان مِمَّنْ يُؤذي رسولَ اللَّه وأصحابَه عندما كانوا بمكَّة , وكان ابنُه وَهْب في أسارى بدر . فقالَ صفْوان : واللَّهِ ما في العيش بَعْدَهم من خير . قال عُمَيْر : صدقْت , أمَا واللَّهِ لوْلاَ دَيْنٌ عَلَيَّ لَيْس له عندي قَضاء , وعِيَالٌ أخْشَى عليهم الضَّيْعَة من بعدي , لَرَكِبْتُ إلى محمَّد حتَّى أقتُله , فإنَّ لي قِبَلَهم عِلَّة : ابني أسيرٌ في أيْديهم . فاغْتَنَمها صفْوان وقال : دَيْنُكَ عَلَيَّ , أنا أقْضِيه عنْك , وعِيَالُكَ مع عِيَالي أُوَاسِيهم ما بَقُوا , لا يَسَعُني شيءٌ ويَعْجز عنهم . قال : فاكْتُم عنِّي شأني وشأنك , قالَ : أفْعَل .
فأمَر عُمَيْر بسَيْفِه فشُحِذَ له وسُمَّ , ثم انطلَقَ حتَّى قدم المدينة . فبينما عُمر بن الخطَّاب رضي اللَّه عنه في نَفَرٍ من المسلمين يتحدَّثُون عن يوم بدر ويَذكُرون ما أكْرمهم اللَّهُ به , إذ رأى عُمَيْرًا حينَ أناخَ على باب المسجد مُتَوَشِّحًا سَيْفَه . فقالَ : هذا الكلْبُ عدوُّ اللَّه عُمَيْر بن وهْب , واللَّهِ ما جاء إلاَّ لِشَرّ ! ودخلَ على رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , فقال له : يا نبيَّ اللَّه , هذا عدُوُّ اللَّه عُمَيْر بن وهْب قد جاء مُتَوَشِّحًا سيْفَه , قالَ : فأدْخِلْه عَلَيَّ . فأقبَل به عُمر وقد أخذ بِحمالة سيْفه في عُنقه , وكان قال لرِجالٍ من مُسلِمي المدينة : ادخُلُوا على رسول اللَّه فاجْلِسُوا عنده , واحذَرُوا عليه من هذا الخبيث فإنَّه غير مأْمون .
فلمَّا رآه رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , قالَ : أرْسِلْهُ يا عُمر , ادْنُ يا عُمَيْر . فدَنَا وقال : أنْعِمُوا صباحًا , وكانت تحيَّة العرب بينهم . فقال النَّبيُّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم : قد أكْرَمَنا اللَّهُ بتَحيَّةٍ خيْر من تحِيَّتك يا عُمَيْر : بالسَّلام , تحيَّة أهل الجنَّة . قالَ : أمَا واللَّهِ يا محمَّد إنْ كنتُ بها لَحَديث عَهْد . قالَ : فمَا جاء بكَ يا عُمَيْر ؟ قال : جئْتُ لهذَا الأسير الذي في أيْديكُم , فأحْسِنُوا فيه . قال : فمَا بالُ السَّيف في عُنُقِك ؟ قال : قبَّحَها اللَّهُ من سُيُوف , وهل أغْنَتْ عنَّا شيئًا ؟ قال : اصْدُقْني , ما الذي جِئْت له ؟ قال : ما جئْتُ إلاَّ لذلك .
قال : بل قعدْتَ أنتَ وصفْوان بن أميَّة في الحِجْر , فذَكَرْتُما قَتْلى قُريش , ثمَّ قُلْتَ : لولاَ دَيْنٌ عَلَيَّ وعِيَالٌ عندي لَخَرجتُ حتَّى أقتُلَ محمَّدًا , فتَحمَّلَ صفْوان بن أميَّة بدَيْنك وعِيَالك على أن تقتُلَني له , واللَّهُ حائلٌ بيْنَكَ وبيْن ذلك !
فقالَ عُمَيْر : أشهدُ أنَّكَ رسولُ اللَّه ! قد كنَّا يا رسولَ اللَّه نُكذِّبُك بما كنتَ تأتينَا به من خَبَر السَّماء وما يَنزلُ عليكَ من الوَحْي , وهذا أمرٌ لم يَحْضُرْه إلاَّ أنا وصفْوان , فوَاللَّهِ إنِّي لأعلَمُ ما أتاكَ به إلاَّ اللَّه , فالحمْدُ للَّه الذي هداني للإسلام وساقَني هذا المسَاق . ثمَّ شهد شهادة الحقّ , فقال رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم : فَقِّهُوا أخاكُم في دِينه وأقْرئُوه القرآن وأطلِقُوا له أسيرَه , ففَعَلُوا .
فقالَ عُمَيْر : يا رسولَ اللَّه , إنِّي كنتُ جاهدًا على إطفاء نور اللَّه , شديد الأذَى لِمَنْ كان على دين اللَّه عزَّ وجلَّ , وأنا أحبُّ أن تأذن لي فأقْدم مكَّة فأدْعُوهم إلى اللَّه تعالى وإلى رسوله وإلى الإسلام , لعلَّ اللَّه يَهديهم , وإلاَّ آذَيْتُهم في دِينهم كما كنتُ أوذي أصحابَك في دِينهم , فأذنَ له .
وكان صفْوان بن أميَّة , حين خرج عُمَيْر , يقولُ لقُريش : أبْشِرُوا بوَاقعةٍ تأتيكُم الآن في أيَّامٍ تُنسيكُم وقْعة بدر . وكان يسألُ عنه الرُّكْبان , حتَّى قدم راكبٌ وأخبره بإسلامه , فحلَفَ أن لا يُكلِّمَه ولا يَنفعه بنَفْع أبدًا . وقدم عُمَيْر إلى مكَّة , فأقام بها يَدْعُو إلى الإسلام كما وعَد .

كلمة سواء 16.01.2011 14:41

وهكذا كان محمَّد مُربِّيًا



روى الإمام مُسلِم في صحيحه عن أنَس بن مالك رضي اللَّه عنه , قال : بينما نحن (جلوسٌ) في المسجد مع رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , إذ جاء (أي دخلَ) أعرابي , فقام يبول في المسجد (أي في ناحيةٍ منه) . فقال أصحابُ رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم : مه , مه ! فقالَ رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم : لا تزرمُوه (أي لا تقطعوه عن البول) , دَعُوه ! فتَركُوه حتَّى بالَ (أي أكمل بولَه) .
ثمَّ إنَّ رسولَ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم دَعَاه , فقال له : إنَّ هذه المساجد لا تصلُح لِشَيْءٍ من هذا البَوْل ولا القَذر (أي القاذورات) , إنَّما هي لذِكْر اللَّه عزَّ وجلَّ والصَّلاة وقراءة القرآن . ثمَّ أمر رجلاً من القَوم , فجاء بِدَلْو من ماء , فشَنَّه (أي صَبَّه) عليه . (صحيح مسلم – الجزء 1 – ص 236 – رقم الحديث 285) .
نعم , هذا هو محمَّد الدَّاعية والمربِّي : رأى أعرابيًَّا يبول في مسجده , فلم يغضب منه , بل وخاف عليه أن يُصاب بأذى إذا هو لم يُكمل بولَه , فأمر أصحابه أن يتركُوه . فلمَّا فرغَ , أجلسه بجانبه لِيُشعِره بالأمان , ثمَّ أخبره بكلِّ هدوء أنَّ هذا المكان لا يصلح لِلبول !

وفي قصَّة أخرى , روى الطَّبراني في مسند الشَّاميِّين عن أبي أمامة رضي اللَّه عنه , قال : أتَى رسولَ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم غلامٌ شابٌّ , فقال : يا رسولَ اللَّه , ائْذَنْ لي في الزِّنَا ! فصاح به النَّاس , وقالُوا : مه ! فقالَ النَّبيُّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم : ذَرُوه , ادْنُ . فدَنا (أي الغلام) حتَّى جلس بين يَدَيْ رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , فقال (له) : أتُحِبُّه لأمِّك ؟ قال : لا ! قال : فكذلكَ النَّاسُ لا يُحبُّونه لأمَّهاتهم , أتُحِبُّه لابنَتك ؟ قال : لا ! قال : وكذلكَ النَّاسُ لا يُحبُّونه لِبَناتهم , أتُحِبُّه لأُختك ؟ قال : لا ! قال : فكذلكَ النَّاسُ لا يُحبُّونه لِأخواتهم , أتُحِبُّه لِعَمَّتك ؟ قال : لا ! قال : فكذلكَ النَّاسُ لا يُحبُّونه لِعمَّاتهم , أتُحِبُّه لخالَتك ؟ قال : لا ! قال : وكذلكَ النَّاسُ لا يُحبُّونه لِخالاتهم , فاكْرَه لهم ما تكرهُ لنَفْسِك , وأحِبَّ لهم ما تُحبّ لنَفسِك . فقال : يا رسولَ اللَّه , ادعُ اللَّهَ أن يُطهِّر قَلْبي . فوَضعَ النَّبيُّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم يَده على صدْره , وقالَ : اللَّهمَّ اغْفِرْ ذَنْبَه , وطهِّرْ قلْبَه , وحصِّنْ فَرْجَه .
فلم يكُن (أي لم يعُد الغلامُ) بعد ذلك يلْتفتُ إلى شيء (من هذا الأمر) . (مسند الشّاميّين – الجزء 2 – ص 139 – رقم الحديث 1066) .

وفي قصَّة أخرى , روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هُرَيْرة رضي اللَّه عنه , أنَّ أعرابيًّا أتَى رسولَ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم فقال : يا رسولَ اللَّه , إنَّ امرأتي ولَدتْ غلامًا أسْوَدًا , وإنِّي أنكَرْتُه (لأنَّ الأب لم يَكُن أسْوَدًا , ولا الأمّ) . فقال له النَّبيُّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم : هلْ لَكَ مِن إبِل ؟ قال : نعم , قال : ما ألوانُها ؟ قال : حُمر (أي مائلة إلى الحُمرة) , قال : هل فيها من أَوْرق (أي رمادي) ؟ قال : نعم , قال : فأنَّى هو ( أي مِن أين أتاها هذا اللَّون المختلف عن الإبل الأخرى) ؟ قال : لعلَّه يا رسول اللَّه يكون نَزَعَهُ عِرْق له (أي لعلَّ في أصوله أو عائلته مَن كان بهذا اللَّون , فاجتذبه إليه فجاء على لونه) , فقال النَّبيُّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم : وهذا (أي الولد) , لعلَّه يكونُ نَزَعَهُ عِرْقٌ له (أي لعلَّ مِن أجداده أو عائلته مَن كان أسْوَد اللَّون , فجاء الولَد على لَونه) . (صحيح مسلم – الجزء 2 – ص 1137 – رقم الحديث 1500) .
هكذا إذًا حافَظ النَّبيُّ على أسرةٍ كانت على وشك التَّفكُّك بسبب شكُوك . وهذا الحديث يُعتَبر من معجزات النَّبيِّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , لأنَّ علْمَ الوراثة هو من العلوم التي اكتُشِفتْ حديثًا ولم تكُن معروفة من قبل .

وفي قصَّة أخرى , روى النّسائي في سُننه عن عبد اللَّه بن شداد عن أبيه رضي اللَّه عنهما , قال : خرج علينا رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم في إحدى صلاتي العشيّ (الظُّهر أو العصر) وهو حاملٌ الحسن أو الحسين (حفيداه , ابنا فاطمة) . فتقدَّم ووضعه (بجانبه) , ثمَّ كبَّر للصَّلاة , فصلَّى ثمَّ سجدَ بين ظَهْرانَيْ صلاته سجدةً أطالها .
قال أبي : فرفعتُ رأسي , وإذا الصَّبيُّ على ظَهْر رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , وهو (أي النَّبيُّ) ساجد ! فرجعتُ إلى سجودي . فلمَّا قضَى رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم الصَّلاة , قال (له) النَّاس : يا رسولَ اللَّه , إنَّك سجدتَ بين ظهرانَيْ صلاتكَ سجدةً أطَلْتَها حتَّى ظَنَنَّا أنَّه قد حدثَ أمْرٌ أو أنَّه يُوحَى إليك . قالَ : كلّ ذلك لَمْ يكُنْ , ولكنَّ ابْنِي ارتَحَلَني , فكرهْتُ أن أعْجله حتَّى يَقْضي حاجَتَه ! (المجتبى من السّنن – الجزء 2 – ص 229 – رقم الحديث 1141) .

هذا إذًا محمَّدٌ النَّبيُّ الأمِّيُّ الذي عاش في القرن السَّابع الميلادي , وهذه طريقته في الدَّعوة والتَّربية !

كلمة سواء 16.01.2011 14:41

هل كان محمَّد يبحث عن السُّلطة والمال ؟



إطلاقًا ! ولو قارَنَّا بين نَوْعيَّة الحياة التي كان محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم يحياها قبل النُّبوَّة وبعدها , لَمَا شكَكْنا لحظة واحدة أنَّه نبيٌّ .
فبالرَّغم من أنَّه عاش يَتيم الأبَوين , إلاَّ أنَّه قضَّى طفولَته وشبابَه في كفالة عمِّه أبي طالب , سيِّد قُريش آنذاك , الذي غَمَره بعطفه وعوَّضَه حنانَ الأب والأمّ . ولَمَّا بلَغ سِنَّ الخامسة والعشرين , تزوَّج من السَّيِّدة خديجة , أشْرف نساء مكَّة آنذاك وأكثرهنَّ مالاً , وذلك بعد أن رأتْ مِن أمانته وصِدْقه ما رَغَّبها في الزَّواج منه .
فكان النبَّيُّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم حتَّى سِنِّ الأربعين يعيشُ حياة هادئة , وكان يتعبَّدُ كما يشاء على شَرْع إبراهيم عليه السَّلام . وبالإضافة إلى ذلك , كان يتمتَّع بِحُبِّ وتقدير جميع قَوْمه , صغيرهم وكبيرهم , لِشَرف نَسَبه وحُسْن أخلاقه .
فلم يكُن هناك إذًا أيُّ سَبب منطقي يدفعُه بعد ذلك أن يدَّعي النُّبوَّة , لأنَّه لم يكن يفتقدُ لأيِّ شيء من هَناء العيش . ولَو فَرضْنا جدَلاً أنَّه كان يَبْتغي من وراء هذا الأمر السُّلطةَ والجاهَ والمالَ , لَكَانتْ هذه النَّوايَا برزَتْ في طِباعه وسُلُوكه منذ شبابه , ولَمَا خَفِيَ ذلك على قَوْمه . ثمَّ إنَّه كان يستطيعُ أن يحصُل على كلِّ ذلك دون الحاجة لادِّعاء النُّبوَّة , لأنَّه , كما ذكَرْنا سابقًا , كان من عائلةٍ ذات شَرف وسيادة , وكان محبوبًا في قَوْمه .
هذا ما يقوله العقلُ والمنطق . أمَّا واقعيًّا , فكُتُبُ التَّاريخ تشهدُ أنَّ النَّبيَّ محمَّدًا صلَّى اللَّه عليه وسلَّم كان أبعد ما يكُون عن التَّفكير في المال والجاه والسُّلطة . وقد كُنَّا ذكَرْنَا أنَّ سادات قُريش عرضُوا علَيْه في بداية نُبُوَّته أن يتَخَلَّى عن الدَّعوة إلى الإسلام مُقابل أن يجمعُوا له من المال ما يشاء ويجعلُوه ملكًا وسيِّدًا عليهم , فرفضَ هذه الاغراءات وأجابَهُم بأنَّه فعْلاً رسولٌ من عند اللَّه .
فعند ذلك عَادَوْه وآذَوْه وحاولُوا قتلَه , فهاجر إلى المدينة (وهي تبعد عن مكَّة 418 كلم إلى الشَّمال) وأصبح له أتباعٌ كثيرون , وكوَّنَ دولة إسلاميَّة . وعاد بعد ذلك منتصرًا إلى مكَّة , ودخل الآلافُ من العرب في الإسلام , وأصبح محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم حاكمًا على ما يُعرَف اليوم بالسّعوديَّة . وكان بإمكانه وَقْتَئذ , لو كانت له فعْلاً نَوايَا من وراء النُّبوَّة , أن يسكن القُصور وتَخدُمه الجواري والعبيد , كما كان سائدًا في ذلك العصر .
لكنَّه فَعلَ عكس ذلك تمامًا ! بل إنَّه , منذُ شرَّفَه اللَّهُ تعالى بالنُّبوَّة في سنِّ الأربعين وحتَّى وفاته في سنِّ الثَّالثة والسِّتِّين , كان أزهد النَّاس في الدُّنيا وأكثرهم طاعة للَّه .
فقد روى ابن ماجه في سُننه عن عمر بن الخطَّاب رضي اللَّه عنه , قال : دخلْتُ على رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم وهو على حصير . فجلَسْتُ , فإذا عليه إزارٌ وليسَ عليه غَيْرُه , وإذا الحصيرُ قد أثَّر في جَنْبه , وإذا أنا بقَبْضَة من شعير نحو الصَّاع وقرظ في ناحيَة في الغُرفة , وإذا إهابٌ مُعَلَّق . فابْتَدرتْ عَيْناي (أي دمعَتْ) , فقال : ما يُبْكِيكَ يا ابنَ الخطَّاب ؟ فقلتُ : يا نَبيَّ اللَّه , وما لي لا أبكي وهذا الحصيرُ قد أثَّر في جَنْبك , وهذه خزانتكَ لا أرى فيها إلاَّ ما أرى , وذلكَ كِسْرَى (ملك الفُرس) وقَيْصَر (ملك الرُّوم) في الثِّمار والأنهار , وأنتَ نبيُّ اللَّه وصَفْوَته وهذه خزانَتك ! فقال : يا ابنَ الخطَّاب , ألا ترضَى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدُّنيا ؟! قلتُ : بلى ! (سنن ابن ماجة – الجزء 2 – ص 1390 – رقم الحديث 4153) .

وروى التّرمذي في سُنَنه عن عبد اللَّه (بن مسعود) رضي اللَّه عنه , قال : نام رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم على حصير , فقام وقد أثَّر في جَنْبه . فقلْنا : يا رسولَ اللَّه , لَو اتَّخَذْنا لك وطاء ؟ فقال : مالي وما للدُّنيا , ما أنا في الدُّنيا إلاَّ كَراكِبٍ اسْتَظلَّ تحت شجرة ثمَّ راح وتَركَها . (الجامع الصّحيح سنن التّرمذي – الجزء 4 – ص 588 – رقم الحديث 2377) .

وروى الإمام البخاري في صحيحه عن عروة (بن الزُّبير) رضي اللَّه عنه , أنَّ عائشة (زوجة النَّبيّ) رضي اللَّه عنها قالتْ له : واللَّهِ يا ابنَ أختي إنْ كُنَّا لَنَنظرُ إلى الهلال ثمَّ الهلال , ثلاثة أهِلَّة في شَهْرَيْن , وما أُوقِدَتْ في أبْيات (أو بيوت) رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم نارٌ (أي للطَّبخ) . فقلتُ : يا خالَة , ما كان يعيشُكُم ؟! قالتْ : الأسْوَدان : التَّمر والماء , إلاَّ أنَّه قد كان لِرسُول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم جيرانٌ من الأنصار كانتْ لهم مَنائح , وكانُوا يَمنحُون رسولَ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم من ألبانها فيَسْقينَا . (الجامع الصّحيح المختصر – الجزء 2 – ص 907 – رقم الحديث 2428) .

وعن كثرة صلاته , روى الإمام مسلم في صحيحه عن عائشة رضي اللَّه عنها , قالتْ : كان رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم إذا صَلَّى (أي صلاة النَّافلة) قامَ حتَّى تفطر رجْلاه (أي تَنتفخ وتتوَرَّم) . فقلتُ له : أتَصْنَعُ هذا وقد غُفِر لَكَ ما تَقَدَّم مِنْ ذَنْبِكَ ومَا تَأخَّر ؟! فقال : يا عائشة , أفَلاَ أكونُ عَبْدًا شَكُورًا ؟! (صحيح مسلم – الجزء 4 – ص 2172 – رقم الحديث 2820) .

وعن بساطته في العيش , روى ابن حبَّان في صحيحه عن عائشة رضي اللَّه عنها , أنَّها سُئِلَتْ : ما كان النَّبيُّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم يَعْملُ في بَيْتِه ؟ فقالتْ : كان يَخيطُ ثَوبَه ويخصفُ نَعْلَه ويعملُ ما يعملُ الرِّجالُ في بُيُوتهم . (صحيح ابن حبّان – الجزء 12 – ص 490 – رقم الحديث 5677) .

وعن الأملاك التي تركَها بعد موته , وقد كان وَقْتَها يحكم ما يُعرَف اليوم بالسّعوديَّة كما ذكَرْنا , روى الإمام البخاري في صحيحه عن عمرو بن الحارث رضي اللَّه عنه , قال : ما تركَ رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم عندَ مَوْته دينارًا ولا درهمًا ولا عبدًا ولا أمَةً , إلاَّ بَغْلَتَه البَيْضاء التي كان يَرْكَبُها وسلاحَه , وأرضًا جعَلَها لابْن السَّبيل صَدَقة . (الجامع الصّحيح المختصر – الجزء 4 – ص 1619 – رقم الحديث 4192) .

وعن تواضُعه , روى أبو داود في سُننه عن أبي أمامة رضي اللَّه عنه , قال : خرجَ علينا رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم مُتوَكِّئًا على عَصا , فقُمْنَا إليه (أي وقَفْنَا له) , فقال : لا تقومُوا كما تقُوم الأعاجِم , يُعظِّمُ بعضُهم بعضًا . (سنن أبي دواد – الجزء 4 – ص 358 – رقم الحديث 5230) .
وروى أبو داود أيضًا في سُنَنه عن أبي مجلز رضي اللَّه عنه , قال : خرجَ معاوية علَى ابن الزُّبَيْر وابن عامر , فقام ابنُ عامر وجلسَ ابنُ الزُّبَيْر . فقال مُعاوية لابن عامر : اجْلِسْ , فإنِّي سمعتُ رسولَ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم يقول : مَنْ أحَبَّ أن يَمْثُلَ له الرِّجالُ قِيَامًا , فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَه من النَّار ! (سنن أبي داود – الجزء 4 – ص 358 – رقم الحديث 5229) .

قد تقول سيِّدي الكريم أنَّ كلَّ الدَّلائل التي ذكَرْتُها هنا يمكنُ أن تكون أكاذيب اختَلَقَها المسلمون لإعطاء صورة حسنة عن نبيِّهم !
أقول : واللَّهِ الذي لا إله غيرُه , ليس هناك على مدى التَّاريخ أُناسٌ اعتَنَوْا بكتابة سيرة نبيٍّ أو زعيم أو مُبدِع , مثلَما فعلَ المسلمون الأوائل مع محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم ! كلُّ التَّفاصيل تقريبًا عن حياته الخاصَّة والعامَّة , عن أقواله وأفعاله , مِنْ بعد نُبُوَّته وحتَّى وفاته , وقعَ تدوينُها بأمانةٍ مُدهشة , وحُفِظَتْ إلى يومنا هذا تحت اسم : أحاديث نبويَّة , في كُتُب تُسَمَّى بـ : صحيح البخاري , وصحيح مسلم , وسُنن التّرمذي , ومُسنَد الإمام أحمد , وغيرها .
ولو دقَّقْتَ سيِّدي في طريقة تدوين الأحاديث في هذه المراجع , لَاستغربتَ أشدَّ الاستغراب ! فكلُّها تبدأ بـ : حدَّثنا فُلان , عن فُلان , عن فُلان ... أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم قال كذا , أو فَعل كذا . فالإمام البخاري مثلاً لم يجمع في صحيحه الذي يحتوي على أكثر من سبعة آلاف حديث نبويّ , إلاَّ الأحاديث التي سمعها بنفسه من فلان , الذي سمعها بدوره من فلان ... حتَّى الوصول إلى النَّبيِّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم ! ولم يُدوِّنْها إلاَّ بعد أن تأكَّد مِن أنَّ كلَّ الرُّواة في السِّلسلة ثقاتٌ , وجَيِّدُو الحِفْظ , وأنَّ فُلانًا قد عاش فعلاً في زمن فُلان الذي سمع منه , إلخ .
فهل يمكنُ بعد هذا أن نُصدِّق أنَّ هذه الأحاديث مِن اختلاق الإمام البخاري أو الإمام مسلم أو غيرهما ؟!
أبدًا ! بل إنَّ هؤلاء الرُّواة كانُوا يَتحرَّوْن أشدَّ التَّحرِّي في درجة صحَّة الأحاديث التي يَرْوُونَها في كتُبهم , واضعينَ أمام أعْيُنهم الحديث الذي رواه الدَّارمي في سُنَنه عن أبي قتادة رضي اللَّه عنه , قال : سمعتُ رسولَ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم يقولُ على المنْبَر : يا أيُّها النَّاس , إيَّاكُم وكَثْرة الحديث عنِّي , فَمَنْ قالَ علَيَّ فلا يَقُلْ إلاَّ حَقًّا (أو إلاَّ صِدْقًا) , ومَنْ قالَ عَلَيَّ ما لَمْ أقُلْ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأ مَقْعَدَه من النَّار ! (سنن الدّارمي – الجزء 1 – ص 89 – رقم الحديث 237) .
وحتَّى إن وُجِدَ أحيانًا نفسُ الحديث مرويًّا بصِيَغ مختلفة عند البخاري ومسلم مثلا , فهذا طبيعي , لأنَّ النَّبيَّ محمَّدًا صلَّى اللَّه عليه وسلَّم لم يأمُرْ أصحابَه في حياته بكتابة ما يقُوله وما يَفعله , وإنَّما أَمَرهُم بحفظ وكتابة ما كان يَنزلُ عليه من آيات القرآن الكريم فقط . فقد روى الحاكم في مُستدركه عن أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه , أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم قال : لا تكتبُوا عنِّي شيئًا سوى القرآن . مَنْ كتبَ عنِّي شيئًا سوى القرآن , فلْيَمْحُه . (المستدرك على الصّحيحين – الجزء 1 – ص 216 – رقم الحديث 437) .
فلمَّا بدأ الإمام البخاري ثمَّ الإمام مسلم ثمَّ غيرهما في جمع الأحاديث بعد وفاة النَّبيِّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , كان من المنطقي أن يكون هناك اختلاف في بعض الألفاظ , لأنَّ الذين رَوَوْا هذه الأحاديث اعتمدُوا في الغالب على ذاكرتهم لاسترجاع أحاديثَ سمعُوها , ولَمْ يُؤمَروا عند سماعها بحفظِها حرفًا حرفًا مثل القرآن . ولو أنَّكَ مثلا سألتَ شخصَيْن فَوْر خروجهما من قاعةٍ للمحاضرات : ماذا قال المحاضر في النُّقطة الفُلانيَّة ؟ لَحصَلْتَ على قَوْلَيْن مُختَلِفَيْن قليلاً في اللَّفظ , قَريبَيْن في المعنى .
ثمَّ إنَّ اختلاف الرِّوايات يزيدُ الحديث توثيقًا , لأنَّه يدلُّ على أنَّ الكلام قِيلَ فعْلاً أو أنَّ الحادثة وقعتْ وليستْ مُختَلَقة .
بقيَ أن نلاحظ أنَّ المسلمين عندما يستشهدُون بحديث نبوي , فإنَّهم يذكُرون فقط الرَّاوي الأوَّل والرَّاوي الأخير في السِّلسلة , لكي لا يَملَّ السَّامع أو القارئ من طول سلسلة الرُّواة .

نختم هذا العنصر بالقول بأنَّه لو كان محمَّدٌ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم يَبْتغي الشُّهرة والسُّلطة من وراء النُّبوَّة , لَكان ادَّعى أنَّه ابنُ اللَّه أو شريكُه أو غير ذلك ! حاشَى له ولغيره من الأنبياء أن يدَّعُوا ذلك ! كلُّهم كانُوا يُنزِّهون اللَّهَ تعالى أن يكُون له ولدٌ أو زوجة أو شبيه , وكلُّهم كانُوا يعتزُّون أنَّهم عبادٌ للَّه , ويطلُبون من أتباعهم ألاَّ يَرفعوهم فوق هذه الدَّرجة .
فقد روى النّسائي في السُّنن الكبرى عن أنَس رضي اللَّه عنه , أنَّ ناسًا قالُوا لِرسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم : يا خيرنا وابن خيرنا ويا سيِّدنا وابن سيِّدنا . فقال رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم : يا أيُّها النَّاس , علَيْكُم بقَوْلِكُم ولا يَسْتَهْوِيَنَّكُم الشَّيْطان , إنِّي لا أريدُ أن ترفعُوني فوقَ مَنْزلَتي التي أنْزَلَنيها اللَّهُ تعالَى , أنا مُحَمَّد بن عبد اللَّه , عبدُهُ ورسُولُه . (السّنن الكبرى – الجزء 6 – ص 71 – رقم الحديث 10078) .

كلمة سواء 16.01.2011 14:42

معجزات النَّبيّ محمَّد



إلى جانب القرآن الكريم الذي يبقى معجزة كلِّ الأزمان , أيَّدَ اللَّهُ تعالى نبيَّه محمَّدًا صلَّى اللَّه عليه وسلَّم بمعجزات أخرى ملموسة شاهدها النَّاس .
من ذلك : مُعجزة نَبْع الماء من بين أصابعه في مُناسبات مختلفة . فقد روى الإمام البخاري في صحيحه عن سالم بن أبي الجعد عن جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنهما , قال : عطشَ النَّاسُ يوم الحدَيْبِيَة , والنَّبيُّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم بينَ يدَيْه ركْوَةٌ , فتَوَضَّأ , فجهشَ (أي أسرعَ) النَّاسُ نَحْوَه . فقال : ما لَكُم ؟ قالُوا : ليْسَ عندنا ماءٌ نَتَوَضَّأ ولا نَشْربُ , إلاَّ ما بَيْنَ يَدَيْك . فوَضَع يَدَهُ في الرَّكْوَة , فجَعَلَ الماءُ يَثُور بينَ أصابعه كأمثال العُيُون , فشَربْنا وتَوَضَّأنا .
قلتُ (أي قال سالم لِجابر) : كَمْ كُنْتُم ؟ قال : لو كُنَّا مائة ألْف لَكَفَانا , كُنَّا خَمْسَ عشْرة مائة . (الجامع الصّحيح المختصر – الجزء 3 – ص 1310 – رقم الحديث 3383) .
وفي حادثة أخرى : روى ابنُ خزيمة في صحيحه عن ثابت وقتادة عن أَنَس (بن مالك) رضي اللَّه عنه , قال : طلَبَ بعضُ أصحاب النَّبيِّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم وُضُوءًا , فلَمْ يَجِدُوا , فقالَ النَّبيُّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم : هَاهُنَا ماء . فرأيتُ النَّبيَّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم وضَعَ يَدهُ في الإناء الذي فيه الماء , ثمَّ قال : تَوَضَّأوا باسْم اللَّه , فرأيْتُ الماءَ يَفُور مِن بَيْن أصابعه والقَومُ يَتَوضَّأون , حتَّى تَوَضَّأوا عن آخِرهم !
قال ثابت : فقلتُ لأنَس : كَم تَراهُم كانُوا ؟ قال : نَحْوًا مِن سَبْعين . (صحيح ابن خزيمة – الجزء 1 – ص 74 – رقم الحديث 144) .

ومن معجزات النَّبيِّ أيضًا : تكثير الطَّعام وزيادة البركَة فيه , في مناسبات عديدة . فقد روى الإمام البخاري في صحيحه عن أبي هُرَيْرة رضي اللَّه عنه , قال : واللَّهِ الذي لا إلهَ إلاَّ هو , إنْ كنتُ لَأعتَمِدُ بكَبدي على الأرض من الجوع , وإنْ كنتُ لَأشُدُّ الحجَر على بَطْني من الجوع . ولقد قَعَدتُ يومًا على طَريقهم (أي طريق أصحاب النَّبيّ) الذي يَخرجُون منه , فمَرَّ بي أبو بكر , فسألْتُه عن آيةٍ من كتاب اللَّه , ما سألْتُه إلاَّ لِيُشْبِعَني *, فمَرَّ ولَم يَفْعَلْ . ثمَّ مَرَّ بي عُمر , فسألْتُه عن آيةٍ من كتاب اللَّه , ما سألْتُه إلاَّ لِيُشْبِعَني *, فمَرَّ ولَم يَفْعَلْ .
ثمَّ مَرَّ بي أبو القاسم (أي محمَّد) صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , فتَبَسَّم حينَ رآني وعرفَ ما في نَفْسي وما في وجْهي , ثمَّ قال : يا أبا هِرّ (للمُداعبة) , قلتُ : لَبَّيْكَ يا رسولَ اللَّه , قال : الْحَقْ .
ومَضَى , فتَبعْتُه , فدخَلَ (إلى بيته) , فاسْتَأذنَ فأُذِنَ لي , فدخلتُ . فوَجَد لَبَنًا في قَدح , فقال : مِنْ أيْنَ هذا اللَّبن ؟ قالُوا : أهْداهُ لكَ فُلان أو فُلانة , فقال : أبا هِرّ , قلتُ : لَبَّيكَ يا رسولَ اللَّه , قال : الْحَقْ إلى أهل الصُّفَّة , فادْعُهم لي .
قال أبو هُرَيْرة : وأهلُ الصُّفَّة (هم) أضْيافُ الإسلام , لا يَأوُونَ على أهْلٍ ولا مالٍ ولا على أحَد , إذا أتَتْهُ (أي النَّبيّ) صدَقَةٌ بَعَثَ بها إليهم ولَمْ يتناوَلْ منها شيْئًا , وإذا أتَتْهُ هديَّةٌ أرسلَ إليهم وأصابَ منها وأشرَكهُم فيها .
قال أبو هُرَيْرة : فسَاءَني ذلكَ , فقلتُ (أي في نَفْسي) : وما هذَا اللَّبَنُ في أهْل الصُّفَّة (أي هو قليلٌ جدًّا وهم كَثيرُو العدد) ؟! أنا كنتُ أحَقّ أن أصِيبَ من هذا اللَّبن شرْبَةً أتَقَوَّى بها ! فإذا جاءُوا , أمَرَني , فكنتُ أنا أُعطِيهم , وما عسَى أن يَبْلُغَني من هذا اللَّبن ؟!
ولَمْ يَكُن من طاعة اللَّه وطاعة رسوله بُدٌّ , فأتَيْتُهم فدَعَوْتُهم , فأقْبَلُوا واسْتَأذَنُوا , فأُذِنَ لهم وأخَذُوا مجالِسَهم من البَيْت . فقال : (أي النَّبيُّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم) : يا أبا هِرّ , قلْتُ : لَبَّيْكَ يا رسولَ اللَّه , قال : خُذْ فأعْطِهم . فأخذْتُ القَدَح , فجعلْتُ أُعْطيه الرَّجُلَ فيَشْربُ حتَّى يَرْوَى ثمَّ يَرُدُّ علَيَّ القَدَح , فأعْطيه الرَّجُلَ فيَشْربُ حتَّى يَرْوَى ثمَّ يَرُدُّ علَيَّ القَدَح , حتَّى انْتَهَيْتُ إلى النَّبيِّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم وقد رَوَى القومُ كلُّهم !
فأخذَ القَدَح فوَضَعهُ على يَده , ونظَرَ إليَّ فتبسَّم وقال : يا أبا هِرّ , قلتُ : لَبَّيْكَ يا رسولَ اللَّه , قال : بَقيتُ أنا وأنت , قلتُ : صدقْتَ يا رسولَ اللَّه , قال : اقْعُدْ فاشْرَبْ . فقعدتُ فشربْتُ , فقال : اشْرَبْ , فشربْتُ , فَمَا زالَ يقولُ : اشربْ , حتَّى قلْتُ : لا , والَّذي بعَثَكَ بالحَقِّ ما أجدُ له مَسْلَكًا ! قال : فأَرِنِي , فأعطَيْتُه القَدَح , فحمدَ اللَّهَ وسَمَّى وشربَ الفَضْلَة . (الجامع الصّحيح المختصر – الجزء 5 – ص 2370 – رقم الحديث 6087) .
وفي حادثة أخرى : روى الإمام البخاري أيضًا عن جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنه , قال : كُنَّا يومَ الخندق نَحفِر , فعرضَتْ كُدْيَةٌ شديدة (أي حجارةٌ صمَّاء) , فجاءوا النَّبيَّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم فقالُوا : هذه كُديةٌ عرضَتْ في الخَنْدق , فقال : أنا نازل . ثمَّ قام وبطْنُه مَعصوبٌ بحجَر (وذلك لِلتَّخْفِيف من آلام الجوع) , ولَبثْنَا (أي وقد كُنَّا لَبثْنَا) ثلاثة أيَّام لا نذوقُ ذواقًا (أي لم نَأكل شيئًا) . فأخذَ النَّبيُّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم المعْوَلَ , فضربَ في الكُدْيَة , فعاد كَثيبًا أهْيَل , أو أهْيَم , (أي تفتَّتَت الحجارة) .
فقلتُ : يا رسولَ اللَّه , ائذَنْ لي إلى البيْت . (فأذن لي ورجعتُ إلى بيتي) , فقلتُ لِامرَأتي : رأيتُ بالنَّبيِّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم شيئًا ما كان في ذلكَ صبرٌ , فعِنْدَكِ شيء ؟ قالتْ : عندي شعيرٌ وعناق (وهو صغيرُ المعْزَة) . فذبَحْتُ العناق وطحنتُ الشَّعير , حتَّى جعلْنَا اللَّحم في البُرمة (وهي قِدْر يُصنع من الحجارة) . ثمَّ جئتُ النَّبيَّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , والعجينُ قد انكسر , والبُرمةُ بين الأثافي (وهي الحجارة التي يُوضع عليها القِدْر) قد كادتْ تَنْضج , فقلْتُ : طُعَيِّمٌ لي , فقُم أنتَ يا رسولَ اللَّه ورجلٌ أو رجُلان . قال : كَمْ هو ؟ فذكَرْتُ له , فقال : كثيرٌ طَيِّب , قُلْ لها لا تَنْزِعُ البُرْمةَ ولا الخُبْزَ من التَّنُّور (وهو الكانون أو الفرن) حتَّى آتِي .
ثمَّ قال (أي لِأصحابه) : قُومُوا . فقامَ المهاجِرُون (وهم المسلمون الذين هاجرُوا من مكَّة إلى المدينة) والأنصار (وهم المسلمون من سكَّان المدينة) . فلمَّا دخلتُ على امرأتي , قلتُ : وَيْحَكِ , جاء النَّبيُّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم بالمهاجرينَ والأنصار ومَنْ معهُم ! قالتْ : هلْ سألَك ؟ قلتُ : نعم .
وقال (أي النَّبيُّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم لِأصحابه) : ادخُلُوا ولا تَضاغَطُوا (أي لا تَزاحَمُوا) . فجعلَ يَكْسِرُ الخُبْزَ ويجعلُ عليه اللَّحْمَ , ويُخَمِّرُ البُرمة والتَّنُّور (أي يُغطِّيهما بقُماش) إذا أخذَ منهما , ويُقرِّبُ إلى أصحابه , ثمَّ يَنْزِع (أي يُعيد نفس العمليَّة) . فلَمْ يَزَلْ يَكْسِرُ الخُبْزَ ويَغْرِفُ (أي يجعلُ عليه اللَّحم) , حتَّى شَبِعُوا . وبَقِيَ بقيَّةٌ , فقال : كُلِي هذا وأهْدِي , فإنَّ النَّاسَ أصابَتْهُم مَجَاعةٌ . (الجامع الصّحيح المختصر – الجزء 4 – ص 1505 – رقم الحديث 3875) .
وفي حادثة أخرى : روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هُرَيْرة أو عن أبي سعيد (الخدري) رضي اللَّه عنهما , قال : لَمَّا كان غَزْوَة تَبُوك , أصابَ النَّاسَ مَجاعَةٌ فقالُوا : يا رسولَ اللَّه , لَوْ أذنْتَ لَنَا فَنَحَرْنَا نَواضِحَنَا (أي جِمالَنا) فأكَلْنَا وادَّهنَّا . فقالَ رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم : افْعَلُوا . فجاءَ عُمَر فقال : يا رسولَ اللَّه , إن فعَلْتَ , قَلَّ الظَّهر , ولكن ادْعُهُم بفَضْلِ أزْوادِهم , ثمَّ ادْعُ اللَّهَ لهم عليْها بالبَرَكة , لَعَلَّ اللَّه أن يَجْعَلَ فيها ذلك . فقال رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم : نَعَم .
فَدَعَا بِنَطْعٍ فبَسَطَه , ثمَّ دَعَا بِفَضْلِ أزوادِهم , فجعلَ الرَّجُلُ يَجيءُ بِكَفِّ ذُرَة , ويَجيءُ الآخرُ بِكَفِّ تَمْر , ويَجيءُ الآخرُ بِكِسْرة , حتَّى اجتمعَ على النَّطْع من ذلك شيءٌ يَسير . فدَعَا رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم عليه بالبَركَة , ثمَّ قال : خُذُوا في أَوْعِيَتِكُم . فأخَذُوا في أَوْعِيَتِهم حتَّى ما تَركُوا في العَسْكَر وعاءً إلاَّ مَلَأوه ! فأكَلُوا حتَّى شَبِعُوا وفَضَلَتْ فَضْلَة . فقال رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم : أشهدُ أن لا إلَه إلاَّ اللَّه وأنِّي رسولُ اللَّه , لا يَلْقَى اللَّهَ بهما عَبْدٌ غير شاكٍّ فَيُحْجَب عن الجنَّة . (صحيح مسلم – الجزء 1 – ص 56 – رقم الحديث 27) .

ومن معجزات النَّبيِّ أيضًا : ما رواه الحاكم في مُستَدرَكه عن محمَّد بن عمر رضي اللَّه عنه , قال : شهدَ قَتادة بن النُّعمان العَقَبَة مع السَّبعين من الأنصار , وكان من الرُّماة المذْكورين من أصحاب رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , شَهِدَ بَدْرًا وأُحُدًا , ورُمِيَتْ عَيْنُه يَومَ أُحُد , فسالَتْ حَدقتُه على وَجْنَتِه , فأتَى رسولَ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم فقال : يا رسولَ اللَّه , إنَّ عِنْدي امرأةً أُحِبُّها , وإن هي رأتْ عَيْني خَشِيتُ تَقذُّرها . فرَدَّها رسولُ اللَّه بِيَده , فاسْتَوَتْ ورجعَتْ , وكانتْ أقْوى عَيْنَيْه وأصحَّهما بعد أن كَبُر ! (المستدرك على الصّحيحين – الجزء 3 – ص 334 – رقم الحديث 5281) .

هذه إذًا بعض المعجزات التي أجراها اللَّهُ تعالى على يَدَيْ نَبِّيِّه محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , وهناك الكثير من المعجزات الأخرى لَمْ نَذْكُرها هنا . وإذا كُنتِ سيِّدتي الفاضلة تجدين صعوبة في التَّصديق بأنَّها وقعتْ فعلاً , فتذكَّري أنَّكِ صدَّقتِ ما هو أغْرب من ذلك , وهو أنَّ الأرض التي تعيشين فوقها تدور بكِ الآن بسرعة 1600 كلم في السَّاعة , وأنتِ لا تشعرين بأيِّ شيء ! فلِمَ العجَبُ إذًا من معجزاتٍ تَتِمُّ كلُّها بأمر اللَّه الذي يقول للشَّيء كُنْ فَيَكُون ؟!
وإذا كان النَّصارى استغربُوا من شفاء المسيح عليه السَّلام للمَرضَى وإحيائه للمَوْتَى , فادَّعَوْا أنَّه ابنُ اللَّه , فإنَّ المسلِمين علِمُوا أنَّ معجزات نبيِّهم محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم ومعجزات موسى وعيسى عليهما السَّلام , لَمْ تَكُن مِن صُنْعهم هم وإنَّما تَمَّتْ بإذْن اللَّه , لأنَّه هو وحده الذي يَملِكُ القُدرة على خَرْق القوانين الكونيَّة مَتَى يشاء وكيف يشاء . لذلك , لَمْ يَرفع المسلمُون محمَّدًا ولا عيسى ولا غيرهما من الأنبياء عليهم السَّلام عن مُسْتَوى البَشَر .
______________
التالي بإذن الله تعالى: هل دعا محمَّدٌ اليهودَ والنَّصارى إلى الإسلام ؟

كلمة سواء 16.01.2011 14:43

هل دعا محمَّدٌ اليهودَ والنَّصارى إلى الإسلام ؟



طبعًا ! فهو رسولٌ إلى النَّاس كافَّة , وليس إلى قَوْمه فقط مثلما كان الأنبياء قبله . يقول اللَّه تعالى مخاطبًا محمَّدًا صلَّى اللَّه عليه وسلَّم : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ 158 } (7- الأعراف 158) .
لهذا , لم يقتصر النَّبيُّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم على دعوة قُريش فقط إلى الإسلام , بل دعا اليهُود أيضًا والنَّصارى , وأرسل رُسُلَه إلى ملُوك الفُرس والرُّوم وبقيَّة العَرب .
وكان اليهودُ يسكُنون المدينة التي هاجر إليها النَّبيُّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم مع أصحابه . وذلك أنَّ أجدادَهم من الأحبار كانُوا يقرءون في كُتُبهم عن قُرب ظُهور نبيٍّ , يُبعَثُ في المدينة . فجاء بعضُهم إليها واستقرُّوا بها ظانِّين أنَّ هذا النَّبيَّ سيكون واحدًا من بينهم , فيكونُون أوَّل مَنْ يَتَّبعُه . فلمَّا بُعِثَ محمَّدٌ نبيًّا عربيًّا من سُلالة إسماعيل بن إبراهيم , وليس يهوديًّا من سلالة إسحاق بن إبراهيم , عليهم السَّلام جميعًا , تَملَّكَتْهُم الغيرة والحسد , فكَفرُوا بمحمَّد وكادُوا له المكائد !
فقد روى ابن إسحاق في كتابه السِّيرة النَّبويَّة , قال : حدَّثَني عاصم بن عمر بن قتادة عن رجالٍ من قومه , قالُوا : إنَّ مِمَّا دعانَا إلى الإسلام , مع رحمة اللَّه تعالى وهُداه , ما كُنَّا نسمعُ من رجال يَهُود . كُنَّا أهل شرْكٍ , أصحاب أوْثان , وكانُوا أهل كِتاب , عنْدَهم عِلْمٌ ليْسَ لنا . وكانتْ لا تزالُ بيننا وبينهم شُرور , فإذَا نِلْنَا منهم بعضَ ما يَكْرهون قالُوا لنا : إنَّه تَقاربَ زمانُ نَبيٍّ يُبْعثُ الآن , نُقاتِلُكم معه قتْلَ عادٍ وإِرَم . فكُنَّا كثيرًا ما نسمعُ ذلكَ منهم .
فلمَّا بَعثَ اللَّهُ رسولَه محمَّدًا صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , أجَبْنَاه حينَ دَعانا إلى اللَّه تعالى , وعرَفْنا ما كانُوا يَتَوَعَّدونَنا به , فبَادَرْنَاهم إليه , فآمَنَّا به , وكفَرُوا ! ففِينَا وفيهم نزلتْ هذه الآية : { وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ 89 } (2- البقرة 89) .
وروى الحاكم في مُستدركه عن ابن عبَّاس رضي اللَّه عنه , قالَ : كانت يَهودُ خَيْبَر تُقاتِلُ غَطَفان , فكُلَّما الْتَقَوْا هُزِمَتْ يَهُود خَيْبَر . فعَاذت اليهودُ بهذا الدُّعاء : اللَّهُمَّ إنَّا نسْألُكَ بحَقِّ محمَّد النَّبيِّ الأُمِّي الذي وَعَدْتَنا أن تُخْرجَه لَنَا في آخِر الزَّمان , إلاَّ نَصَرْتَنَا عليهم .
فكانُوا إذا الْتَقَوْا دَعَوْا بهذا الدُّعاء , فهَزَمُوا غَطفان . فلمَّا بُعِثَ النَّبيُّ (محمَّدٌ) صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , كفَرُوا به , فأنزلَ اللَّهُ : وقد كانُوا يَستَفتِحون بك يا محمّد على الكافرين (انظر الآية 89 من سورة البقرة التي ذكَرْناها) . (المستدرك على الصّحيحين – الجزء 2 – ص 289 – رقم الحديث 3042) .

وكان أحبارُ اليهود يأتون إلى النَّبيِّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , لا لِيَسْألوه عن الإسلام , وإنَّما لِيُحاولُوا أن يَلْبِسُوا عليه الحقَّ بالباطل ! فكان القرآنُ يَنزلُ لِيَفضحهم .
قال ابنُ إسحاق في كتابه السِّيرة النَّبويَّة : مثال ذلك أنَّ كعْب بن أسد , وابن صلُوبا , وعبد اللَّه بن صُوري , وشاس بن قيس , اجْتمعُوا يومًا فقالُوا : لِنَذْهبْ إلى محمَّد لَعلَّنا نَفْتِنه عن دينه , فإنَّما هو بَشَر . فأتَوْه فقالُوا : يا محمَّد , إنَّك قد عرفْتَ أنَّنا أحبارُ يَهود وأشرافُهم وساداتُهم , وإنَّا إن اتَّبعْناكَ اتَّبَعتْكَ يَهود ولم يُخالِفُونا , وإنَّ بيْنَنا وبينَ بعض قَوْمنا خُصُومة , أفَنُحاكمُهم إليك فتَقْضي لنا عليهم , ونؤمنُ بك ونُصدِّقك ؟ فأبَى رسولُ اللَّه عليهم ذلك , وأنزلَ اللَّهُ تعالى فيهم : { وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ 49 أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ 50 } (5- المائدة 49-50) .

وفي حادثة أخرى : روى ابنُ إسحاق أيضًا في كتابه السِّيرة النَّبويَّة , قال : أتَى رافع بن حارثة , وسلاَّم بن مشْكَم , ومالك بن الصَّيف , ورافع بن حُرَيْملة , النَّبيَّ محمَّدًا صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , فقالُوا : يا محمَّد , ألسْتَ تزعُم أنَّكَ على مِلَّة إبراهيمَ ودِينه , وتُؤمنُ بما عندَنا من التَّوراة وتشْهَدُ أنَّها من اللَّه حقٌّ ؟
قال : بلَى , ولكنَّكُم أحْدَثْتُم وجحَدْتُم ما فيها مِمَّا أخذَ اللَّهُ عليكم من الميثاق , وكتَمْتُم منها ما أُمِرْتُم أن تُبَيِّنُوه للنَّاس , فبَرِئْتُ مِن إحْداثِكُم . قالُوا : فإنَّا نأخُذُ بِما في أيْدينا , فإنَّا على الهدى والحقّ , ولا نُؤمنُ بكَ ولا نتَّبعُك ! فأنزلَ اللَّه تعالى فيهم : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ 68 } (5- المائدة 68) .

وروى ابنُ إسحاق أيضًا في كتابه السِّيرة النَّبويَّة عن أبي هرَيْرة رضي اللَّه عنه , أنَّ أحبارَ يَهود اجْتَمعُوا في بيْت المِدْراس , حين قدم محمَّدٌ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم المدينة , وقد زنَى رجلٌ منهم بعد إحْصانه بامرأةٍ من يَهود قد أُحْصِنَت , فقالُوا : ابْعَثُوا بهذَا الرَّجُل وهذه المرأة إلى محمَّد , فسَلُوه كيفَ الحكْمُ فيهما , ووَلُّوه الحكْمَ عليهما , فإن عملَ فيهما بعَمَلِكم من التَّجْبِيَة (وهي أن يُجْلَدَا بحبْلٍ , ثمَّ تُسَوَّد وُجُوههما , ثمَّ يُحْمَلان على حمارَيْن , وتُجعَل وُجُوههما من قِبَل أدْبار الحمارَيْن) فاتَّبِعُوه , فإنَّما هو مَلِكٌ وصَدِّقُوه , وإن هو حكَم فيهما بالرَّجْم , فإنَّه نبيٌّ فاحذَروه على ما في أيْديكم أن يَسْلُبْكُموه !
فأتَوْه , فقالُوا : يا محمَّد , هذا رجلٌ قد زنَى بعد إحصانِه بامرأةٍ قد أُحْصِنتْ , فاحكُم فيهما فقد وَلَّيْناك الحكْمَ فيهما . فمشَى رسولُ اللَّه حتَّى أتى أحْبارَهم في بيْت المِدْراس , وقالَ : يا معْشر يَهود , أخْرِجُوا إليَّ عُلَماءكُم . فأخْرجُوا له عبْدَ اللَّه بن صوريا , وكان غلامًا شابًّا من أحْدَثِهم سِنًّا , وقالُوا : هذا أعْلَمُ مَنْ بَقِيَ بالتَّوراة .
فخَلاَ به رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم وألَحَّ عليه السُّؤال , يقول له : يا ابنَ صُوريا , أنْشدُكُم اللَّهَ وأُذَكِّرُكُم بأيَّامه عند بَني إسرائيل , هل تعلَمُ أنَّ اللَّهَ حكمَ في التَّوراة في مَنْ زنَى بعْد إحْصانه : بالرَّجْم ؟ قال : اللَّهمَّ نعَم , أمَا واللَّهِ يا أبا القاسِم إنَّهم لَيَعْرفُون أنَّكَ نَبيٌّ مُرْسَل , ولكنَّهم يَحْسُدُونك ! فخرج رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , وأمرَ بهما (أي بالرَّجل والمرأة) فرُجِمَا عند باب مسْجده في بَني غنم بن مالِك بن النَّجَّار . ثمَّ كَفَر ابنُ صُوريا بعد ذلكَ !
وروى ابنُ إسحاق أيضًا في كتابه السِّيرة النَّبويَّة عن صفيَّة بنْت حُيَيّ بن أخطَب , وكانت يهوديَّة ثمَّ أسلَمتْ وتزوَّجها النَّبيُّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , قالتْ : كنتُ أَحَبَّ وَلَد أبي إليه وإلى عمِّي أبي ياسر , لم ألْقَهُما قَطُّ مع وَلَدٍ لَهُما إلاَّ أخَذَاني دُونَه . فلمَّا قدم رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم المدينةَ ونزلَ بقُبَاء في بَني عَمْرو بن عَوْف , غَدَا عليه أبي حُيَيّ وعمِّي أبو ياسر , فلم يَرْجِعَا إلاَّ مع غروب الشَّمس . فأتَيَا يَمْشيَان الهُوَيْنَى , فهششْتُ إليهما كما كنتُ أصنع , فوَاللَّهِ ما التَفَتَ إليَّ واحدٌ منهما , لِمَا بهما من الغَمّ . وسمعتُ عمِّي أبا ياسر يقول لأبي : أَهُوَ هُوَ ؟ قال : نعَم واللَّه ! قال : أتَعْرِفُه وتُثْبِتُه ؟ قال : نعَم , قال : فمَا في نَفْسِكَ منه ؟ قال : عداوَته واللَّهِ ما بَقِيتُ !

هكذا إذًا كان حالُ النَّبيِّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم مع اليهود : هم كانُوا يعرفُون أنَّه نبيّ آخر الزَّمان الذي يجدون صفاته في التَّوراة , لكنَّهم حَسَدوه لأنَّه لم يأتِ منهم , وأصرُّوا على الكُفر به وعَداوته , وهو لم ينفكَّ يَدعوهم إلى الإسلام , لأنَّه كان يعلم أنَّهم إذا ماتُوا على غير ذلك فسوف يكون مصيرهم إلى جهنَّم خالدين فيها .
وقد روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هُرَيْرة رضي اللَّه عنه , أنَّ رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم قال : والذي نَفس محمَّد بيَدِه , لا يَسْمع بي أحدٌ من هذه الأمَّة , يهودي ولا نصراني , ثمَّ يموتُ ولم يُؤْمِنْ بالذي أُرْسِلْتُ به , إلاَّ كان من أصحاب النَّار . (صحيح مسلم – الجزء 1 – ص 134 – رقم الحديث 153) .

كلمة سواء 16.01.2011 14:44

وماذا عن دعوته النَّصارى إلى الإسلام ؟



قال ابنُ إسحاق , نقلاً عن كتابه السِّيرة النَّبويَّة مع تصرّف بسيط في سَرْد القصَّة : لَمَّا هاجر النَّبيُّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم إلى المدينة , قدم عليه وَفْدٌ من نصارى نجران , وهي مدينة على وادي نجران , على الحدود بين اليمن والسّعوديَّة . وكان الوَفْدُ يتكوَّنُ من ستِّين رجلاً , فيهم أربعة عشَر من أشرافهم , منهم ثلاثةٌ يعودُ أمْرُهُم إليهم , وهم :
- العاقِب : وهو أميرُ القوم وذُو رأْيهم وصاحبُ مَشُورتهم , والذي لا يَصْدرون إلاَّ عن رَأْيه .
- والسَّيِّد : وهو الذي يُشْرف على رحْلِهم وشؤونهم ويَقوم بأمورهم .
- وأبو حارثة بن علْقَمة : وهو أسْقُفُهم , وكان قد شرُفَ فيهم ودَرَسَ كُتُبَهم حتَّى حسُنَ عِلْمُه في دينهم , فشرَّفَتْه ملُوكُ الرُّوم من أهْل النّصْرانيَّة ومَوَّلُوه , وبَنَوْا له الكنائس لِمَا بَلَغَهم عنه من عِلْمه واجْتهاده في دينهم .
وكانَ هذا الوفدُ يشتملُ على ثلاث فِرَق النّصرانيَّة :
- فرقةٌ يقولُون بأنَّ المسيح هو اللَّه , ويحتجُّون على ذلك بأنَّه كانَ يُحْيِي الموتَى , ويُبرئُ المرضَى .
- وفرقةٌ يقولُون بأنَّ المسيح ابنُ اللَّه , ويحتجُّون على ذلك بأنَّه لم يكن له أب , وأنّه تكلَّم في المهْد .
- وفرقةٌ يقولُون بأنَّ المسيح ثالثُ ثلاثة , هو ومريم واللَّه , ويحتجُّون على ذلك بقول اللَّه : فَعلْنا , وأمَرْنا , وخلَقْنا , ولو كان اللَّهُ واحدًا لقال : فعلتُ , وقضيْتُ , وأمرْتُ ! تعالى اللَّهُ عن قولهم عُلُوًّا كبيرًا , وقد ردَّ القرآن الكريم على كلِّ ذلك .
فلَمَّا كان الوفْدُ في الطَّريق , عَثَرتْ بغْلَةُ أبي حارثة , وإلى جانبه أخٌ له اسمُه كُرز بن علْقَمة , فقال كُرْز : تَعِسَ الأبْعَد (يَقصد محمَّدًا صلَّى اللَّه عليه وسلَّم) , فقال أبو حارثة : بل أنتَ تَعِسْتَ ! قال : ولِمَ يا أخي ؟! قال : واللَّهِ إنَّه لَلنَّبيُّ الذي كُنَّا نَنتظِرْ ! قال : وما يَمنعُك من الإيمان به وأنت تعلَم هذا ؟! قال : ما يَمنعُني هو ما صنعَ بنا هؤلاء القوم (يقصدُ نصارى نجران ونصارى الرُّوم) , شَرَّفُونا ومَوَّلُونا وأكْرمُونا , وقد أبَوْا إلاَّ خلاف محمَّد , فلو آمنْتُ به , نَزعُوا منَّا كُلَّ ما ترى !
وقد كانت هذه الحادثة سببًا في إسلام كُرْز بن عَلْقَمة بعد ذلك , فكان يتحدَّثُ بها .
فلمَّا وصلَ وَفدُ نَجْران إلى المدينة , دخلُوا على النَّبيِّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم في مسجده حين صلَّى العصْر , وقد حانتْ صلاتُهم , فقامُوا يُصلُّون في المسجد , فقالَ النَّبيّ : دَعُوهم , فصلَّوْا إلى المشرق .
فلمَّا انْتَهَوْا , قال لهم النَّبيُّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم : أسْلِمُوا , قالُوا : قد أسلَمْنا , قال : إنَّكُم لم تُسلِمُوا , قالُوا : بلَى قدْ أسْلَمْنا قبْلَك , قال : كذبْتُم , يَمْنعُكُم من الإسلام ادّعاؤكُم أنَّ للَّه ولدًا , وعِبادتكم الصَّليب , وأكْلكُم الخِنْزير . قالُوا : فمَنْ أبُوه يا محمَّد (يقصدون مَنْ أبُ المسيح عليه السَّلام) ؟ فصمَتَ عنهم ولم يُجِبْهم .
وأنزلَ اللَّهُ تعالى جزءًا من سورة آل عمران للرَّدِّ على نصارى وفد نجران , وهو أيضًا ردٌّ على النَّصارى عُمومًا إلى آخر الزَّمان . يقول اللّه تعالى : { الم 1 اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ 2 نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ 3 مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ 4 إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ 5 هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ 6 } (3- آل عمران 1-6) . فإذا كان النَّصارى يَعترفُون بأنَّ المسيح عليه السَّلام صُوِّر في الرَّحِم , وتقلَّب فيه مثل كلِّ النَّاس , فكيفَ يتَّخِذونه إلهًا أو يدَّعون أنَّه ابنُ اللَّه ؟!
ثمَّ قال تعالى : { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ 18 إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ 19 فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ 20 } (3- آل عمران 18-20) . وهذا تأكيدٌ جديد على أنَّ اللَّهَ واحدٌ لا إله غيره , وأنَّ الدِّين واحدٌ وهو الإسلام , وأنَّ محمَّدًا صلَّى اللَّه عليه وسلَّم مبعُوثٌ إلى كلّ النَّاس , بما فيهم اليهود والنَّصارى , لذلك أمَرهُ اللَّه تعالى أن يَدْعوهم أيضًا إلى الإسلام .
ثمَّ قال تعالى : { إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ 45 وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ 46 قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ 47 وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ 48 وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ 49 وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ 50 إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ 51 فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ 52 رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ 53 وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ 54 إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ 55 فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ 56 وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ 57 ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ 58 إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ 59 الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ 60} (3- آل عمران 45-60) . هذه مرَّةً أخرى حقيقة النبَّيِّ عيسَى عليه السَّلام , كما فَصَّلَها اللَّهُ تعالى في هذا الموضع وفي مواضع أخرى من القرآن الكريم . فباللَّه عليكِ يا ابنتي الفاضلة , أليسَ هذا القول هو الأقرب إلى المنطِق ؟! أليسَ هو الأحقّ بالتَّصديق والاتِّباع ؟!

ثمَّ قال تعالى : { فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ 61 } (3- آل عمران 61) . وهذا أمرٌ من اللَّه تعالى إلى نبيِّه محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم أن يَدْعُو وَفْدَ نَصارى نجران إلى المُباهَلَة (أي المُلاعَنة , بالطَّريقة التي فصَّلَتْها الآية) , إذا هم لم يُسلِمُوا وأصرُّوا على عقيدتهم الخاطئة بخصوص المسيح عليه السَّلام , مِن بَعْد ما جاءهُم قَوْلُ اللَّه تعالى فيه .
فقَرَأ النَّبيُّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم على الوَفْد الآيات التي نزلَتْ عليه من سورة آل عمران , ودعاهُم إلى المُباهلَة . فقالُوا له : يا أبا القاسم , دَعْنَا نَنْظُر في أمْرِنَا ثمَّ نأْتيكَ بما نُريد أن نَفْعلَ فيما دَعَوْتَنا إليه . فانْصَرفُوا عنه , ثمَّ خَلَوْا بالعاقِب , وكان ذَا رأْيهِم , فقالُوا : يا عبْدَ المسيح , ماذا تَرَى ؟
قال : واللَّهِ يا معْشَر النَّصارى لقد عرفْتُم أنَّ محمَّدًا لَنَبيٌّ مُرْسَل , ولقد جاءكُم بالفَصْل من خَبَر صاحبكُم (أي جاءكُم بالقول الحقِّ بخصوص المسيح عليه السَّلام) , ولقدْ علِمْتُم ما لاَعَنَ قومٌ نبيًّا قَطُّ فبَقِيَ كبيرُهم ولا نَبتَ صغيرُهم , وإنَّه لَلاسْتِئْصَالُ لكُم إن فعَلْتُم . فإن كنتُم قد أبَيْتُم إلاَّ إِلْفَ دِينكُم والإقامَة على ما أنْتُم عليه من القَوْل في صاحِبكُم , فَوَادِعُوا الرَّجُلَ ثمَّ انْصَرِفُوا إلى بلادِكُم .
وقد روى الإمام أحمد حديثًا بخصوص المُباهلَة , يؤكِّد كلام العاقب . فعن ابن عبَّاس رضي اللَّه عنه , قال : قال أبو جهل (رأسُ المشركين في قريش) : لَئِنْ رأيتُ محمَّدًا يُصلِّي عند الكعبة , لآتِيَنَّه حتَّى أطَأَ على عُنُقه . فقالَ رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم : لو فعلَ , لَأخذَتْه الملائكةُ عِيَانًا , ولو أنَّ اليهودَ تَمَنَّوا الموتَ , لَماتُوا ولَرَأوْا مَقاعِدَهم في النَّار , ولو خرجَ الذينَ يُباهِلُون رسولَ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , لَرَجعُوا لا يجدُون مالاً ولا أهلاً ! (مسند الإمام أحمد بن حنبل – الجزء 1 – ص 248 – رقم الحديث 2225) .
فأخذ الوفدُ إذًا برأي العاقب , وأتَوْا رسولَ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , فقالُوا : يا أبا القاسم , قد رأيْنَا ألاَّ نُلاعِنَك , وأن نَترُكَك على دِينِكَ ونبقَى على دِيننا . ولكن ابْعَثْ معنا رجلاً من أصحابك ترضاهُ لنا , يَحكُم بيننا في أشياءَ اخْتَلَفْنا فيها من أموَالنا , فإنَّكُم عندنا رِضًى . فقال النَّبيّ : ائْتُوني العَشِيَّةَ , أبْعَثْ معكُم القَويَّ الأمين .
فكانَ عمر بن الخطَّاب يقول : ما أحببْتُ الإمارةَ قَطُّ حُبِّي إيَّاها يَوْمَئذ , رجاءَ أن أكون صاحِبَها . فرُحْتُ إلى صلاة الظُّهر مُبَكِّرًا , فلمَّا صلَّى بنا رسولُ اللَّه الظُّهرَ , سَلَّم , ثمَّ نَظَر عن يَمينه ويَساره , فجعَلْتُ أتَطاولُ له لِيَراني , فلَمْ يَزلْ يَلْتَمسُ ببَصَره حتَّى رأى أبا عُبَيْدة بن الجرَّاح , فدَعاه وقال : اخْرُجْ معهم , فاقْضِ بينهم بالحقِّ فيما اخْتَلَفُوا فيه .
قال عمر : فذهبَ بها أبو عُبَيْدة .

هذه إذًا قصَّة وَفْد نصارى نجران , وهي كافيةٌ لِلرَّدِّ على كلِّ النَّصارى إلى آخر الزَّمان .

كلمة سواء 16.01.2011 14:45

وهل أسلم أناسٌ من اليهود والنَّصارى ؟



نعم , وسنأخذ ثلاثة أمثلة :
المثال الأوَّل في إسلام عبد اللَّه بن سَلام , وكان حَبْرًا عالِمًا من أحْبار اليَهود : روى ابنُ حِبَّان في صحيحه عن عوف بن مالك الأشجعي رضي اللَّه عنه , قال : انطلقَ النَّبيُّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم وأنا معه حتَّى دخَلْنا كَنيسة اليَهود بالمدينة يومَ عيدهم , وكَرهُوا دخُولَنا عليهم . فقال لهم رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم : يا معشَر اليَهود , أرُوني اثْنَيْ عَشَر رجُلاً يَشْهدُ أن لا إلَه إلاَّ اللَّه وأنِّي رسولُ اللَّه , يَحُطُّ اللَّهُ عن كلِّ يهودي تحت أديم السَّماء الغضبَ الذي غضبَ عليه . فأَمْسكُوا , وما أجابهُ منهم أحَد . ثمَّ ردَّ عليهم فلَم يُجبْهُ أحَد , ثمَّ ثَلَّثَ فلَم يُجبْهُ أحَد . فقال : أبَيْتُم , فَوَاللَّهِ إنِّي لَأنا الحاشِر وأنا العاقِب وأنا النَّبيُّ المقفّى (وفي رواية للحاكم في مستدركه : وأنا النَّبيُّ المصطَفَى) , آمَنْتُم أو كذَّبتُم .
ثمَّ انصرفَ وأنا معه حتَّى دنَا أن يَخرج , فإذا رجلٌ من خَلْفِنا يقول : كما أنتَ يا محمَّد , ثمَّ قال : أيُّ رجُل تعلَمُوني فيكُم يا معْشَر اليَهُود ؟ قالُوا : ما نعلَمُ أنَّه كان فينَا رجلٌ أعْلَم بكتاب اللَّه ولا أفْقَه منكَ , ولا من أبيكَ من قَبْلِك , ولا من جدِّكَ قبل أبيك . قال : فإنِّي أشهدُ له باللَّه أنَّه نَبيُّ اللَّه الذي تَجِدُونه في التَّوراة . قالُوا : كذبْتَ , ثمَّ رَدُّوا عليه وقالُوا له شَرًّا ! فقال رسولُ اللَّه : كذبْتُم , لَن يقْبَل قَوْلكُم , أمَّا آنِفًا فتُثْنُون عليه من الخيْر ما أثْنَيْتُم , وأمَّا إذا آمنَ كذَّبْتُموه وقُلْتُم ما قُلْتُم؟! فلَن يقْبَل قَوْلكُم .
قال عوف : فخَرجْنَا ونحنُ ثلاثة : رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , وأنَا , وعبدُ اللَّه بن سَلام . فأنزلَ اللَّهُ فيه : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ 10 } (46- الأحقاف 10) . (صحيح ابن حبّان – الجزء 16 – ص 118 – رقم الحديث 7162) .
وقد روى الإمام البخاري في صحيحه عن سعد بن أبي وقَّاص رضي اللَّه عنه , قال : ما سَمِعْتُ النَّبيَّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم يقولُ لِأحَدٍ يَمْشِي على الأرض إنَّه من أهْل الجنَّة , إلاَّ لِعَبْد اللَّه بن سلام . (الجامع الصّحيح المختصر – الجزء 3 – ص 1387 – رقم الحديث 3601) .

المثال الثَّاني في إسلام يهودي آخر اسمُه زَيْد بن سعْنة : روى ابنُ حبّان في صحيحه عن زَيْد بن سعْنة رضي اللَّه عنه , قال : لَمْ يَبْقَ من علامَات النُّبوَّة شيءٌ إلاَّ وقد عرفْتُها في وَجْه محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم حينَ نظرتُ إليه , إلاَّ اثْنَتَيْن لم أخْبرهُما منه : يَسْبِقُ حِلْمُه جهْلَه (أي غَضَبَه) , ولا يزيدُه شدَّةُ الجهْل عليه إلاَّ حِلْمًا . فكنتُ أتَلَطَّفُ له لأن (أي لكي) أُخالِطَه فأعرف حِلْمَه وجهْلَه .
(فذكَر زيد قصَّة إقراضه للنَّبيِّ مالاً) , ثمّ قال : فلَمَّا كان قبلَ محَلِّ الأجلِ بيَومين أو ثلاثة , خرج رسولُ اللَّه صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم في جنازة رجُلٍ من الأنصار ومعه أبو بكر وعمر وعثمان ونَفَر من أصحابه . فلَمَّا صَلَّى على الجنازة , دَنَا مِن جِدارٍ فجلسَ إليه . فأخذتُ بِمَجامِع قَميصه , ونظرتُ إليه بوَجْهٍ غَلِيظ , ثمّ قلتُ : ألا تَقْضِني يا محمَّد حقِّي ؟! فوَاللَّهِ ما عَلِمْتُكُم بَني عبد المطَّلب بِمُطَل , ولقد كان لي بِمُخالَطتكُم عِلْم .
ونظرتُ إلى عُمر بن الخطَّاب وعَيْناه تَدُوران في وَجْهه كالفُلْك المستدير , ثمَّ رماني ببَصَره وقال : أي عدُوَّ اللَّه , أتقُولُ لرسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم ما أسمعُ , وتفعلُ به ما أرى ؟! فَوَالذي بَعثَه بالحقّ , لولا ما أحاذرُ فوته (أو لَوْمَه) , لَضَربْتُ بسَيْفِي هذا عُنقَك !
ورسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم يَنْظُر إلى عُمَر في سُكُونٍ وتُؤَدَة , ثمَّ قال : إنَّا كُنَّا أحْوَجَ إلى غيْر هذا منكَ يا عُمر : أن تأمُرَني بِحُسْن الأداء , وتأمُرَه بِحُسْن التّباعة (أو الطَّلَب) ! اذْهَبْ به يا عُمر , فاقْضِهِ حَقَّه وزِدْهُ عشْرين صاعًا من غَيْره مكانَ ما رُعْتَه !
قال زيد : فذهبَ بي عُمَر , فقضَاني حقِّي وزادَني عشرينَ صاعًا من تَمْر . فقلتُ : ما هذه الزِّيادة ؟ قال : أمَرني رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم أن أَزيدَكَ مكانَ ما رُعْتُك . فقلتُ : أَتَعْرِفُني يا عُمر ؟ قال : لا , فَمَنْ أنت ؟ قلتُ : أنا زيد بن سعنة , قال : الحَبْر ؟! قلتُ : نعم , الحَبْر , قالَ : فَمَا دعاكَ أن تقولَ لِرسُول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم ما قُلْت وتَفعلُ به ما فعَلْت ؟! فقلتُ : يا عُمر , كلُّ علامات النُّبُوَّة قد عرَفْتُها في وَجْه رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم حينَ نَظَرتُ إليه , إلاَّ اثْنَتَيْن لَم أخْتَبِرْهما منه : يَسْبِقُ حِلْمُهُ جَهْلَه , ولا يَزيدُه شِدَّةُ الجهل عليه إلاَّ حِلْمًا , فقد اخْتَبَرْتُهما , فأُشْهِدُكَ يا عُمر أنِّي قد رضيتُ باللَّه رَبًّا وبالإسلام دِينًا وبمحمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم نَبِيًّا , وأُشْهِدُكَ أنَّ شَطْرَ مالي , فإنِّي أكثرها مالاً , صدقةً على أُمَّة محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم . فقال عُمر : أو على بَعضِهم , فإنَّكَ لا تَسَعُهم كلُّهم , قلتُ : أو على بعضهم .
فرجعَ عُمر وزيد إلى رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , فقال زيد : أشهدُ أن لا إله إلاَّ اللَّه وأنَّ محمَّدًا عبده ورسوله صلَّى اللَّه عليه وسلَّم . (صحيح ابن حِبّان – الجزء 1 – ص 521 – رقم الحديث 288) .

المثال الثَّالث في إسلام نصراني اسمُه سَلْمان الفارسي : روى ابنُ إسحاق في كتابه السِّيرة النَّبويَّة عن سلْمان الفارسي رضي اللَّه عنه , قال : كنتُ رجلاً فارسيًّا من أهْل أصْبهان (وتُسمَّى اليوم أصْفهان , وهي مدينة في إيران) , من أهل قرْيَة يُقال لها جَيّ . وكان أبي دهقان قرْيَته (أي شَيْخَها) , وكنتُ أحَبَّ خَلْق اللَّه إليه , لم يَزَلْ به حُبُّه إيَّايَ حتَّى حَبَسَني في بيْته كما تُحْبَسُ الجارية . واجْتهَدْتُ في المجوسيَّة (والمجوس هم الذين يُقدِّسُون النَّار) حتَّى كنتُ قَطِنَ النَّار ( أي خادمَها ) الذي يُوقِدُها , لا يَتْركُها تَخْبُو ساعة (أي لا يتركُها تَنْطَفئُ أبدًا) .
وكانتْ لأبي ضَيْعَةٌ عظيمة , فشُغِلَ يوْمًا في بُنْيان له , فقالَ لي : يا بُنَيّ , إنِّي قد شُغِلْتُ في بُنْياني هذا اليوم عن ضَيْعتي , فاذْهَبْ إليْها فاطَّلعْها . وأمَرني فيها ببَعْض ما يُريد , ثمَّ قال لي : ولا تَحْتَبِسْ عنِّي , فإنَّكَ إن احْتَبَسْتَ عنِّي كُنْتَ أهَمّ إليَّ من ضَيْعَتي , وشَغَلْتَني عن كلِّ شيء من أمْري .
فخرجْتُ أريدُ ضَيْعَتَه التي بَعَثَني إليها , فمَررتُ بكَنيسة من كنائِس النَّصارى , وسَمعْتُ أصْواتَهم فيها وهم يُصلُّون , وكنتُ لا أدْري ما أمْرُ النَّاس , لِحَبْس أبي إيَّاي في بَيْته . فدَخلْتُ عليهم أنظُر ما يصْنَعون , فلمَّا رأيْتُهم أعجَبَتْني صلاتُهم ورَغِبْتُ في أمْرهم , وقلْتُ : هذا واللَّهِ خَيْرٌ من الدِّين الذي نحنُ عليه .
فوَاللَّهِ ما بَرحْتُهم حتَّى غَربَت الشَّمسُ , وتركْتُ ضَيْعةَ أبي فلمْ آتِها , ثمَّ قلتُ لهم : أينَ أصْلُ هذا الدِّين ؟ قالُوا : بالشَّام (أي سوريا) . فرجعْتُ إلى أبي , وقد بعثَ في طلَبي وشغَلْتُه عن عمَلِه كُلِّه . فلمَّا جِئْتُه قال : أيْ بُنَيَّ , أينَ كُنْتَ ؟ أوَلَمْ أكُنْ عهدْتُ إليكَ ما عهدْت ؟ قلْتُ : يا أبَتِ , مررتُ بأناس يُصلُّون في كَنيسة لهم , فأعْجبَني ما رأيْتُ من دِينهم , ووَاللَّه ما زلْتُ عندَهم حتَّى غربَت الشَّمس . قال : أيْ بُنَيَّ , ليْس في ذلك الدِّين خيْرٌ , دِينُكَ ودينُ آبائكَ خيرٌ منه , قلتُ : كلاَّ , واللَّهِ إنَّه لَخَيْرٌ من ديننَا . فخافَني , فجعلَ في رِجْلي قيْدًا , ثمَّ حبَسَني في بيْته .
وبعثْتُ إلى النَّصَارى , فقلْتُ لهم : إذا قدم عليْكُم ركْبٌ من الشَّام فأخْبِرُوني بهم . فقدم عليْهم ركْبٌ من الشَّام , تُجَّارٌ من النَّصارى , فأخْبَروني بهم . فقلتُ لهم : إذا قَضَوْا حوائجَهُم وأرادُوا الرّجْعة إلى بلادهم , فآذِنوني بهم . فلمَّا أرادُوا الرّجْعة إلى بلادهم , أخْبروني بهم , فألقَيْتُ الحديدَ من رِجْلي , ثمَّ خرجتُ معهم حتَّى قدمتُ الشَّام . فقلْتُ : مَنْ أفضَلُ أهْل هذا الدِّين عِلْمًا ؟ قالُوا : الأُسْقُف في الكَنيسة . فجِئْتُه وقلتُ له : إنِّي قد رغبْتُ في هذا الدِّين وأحْببتُ أن أكون معك , أخْدمُك في كَنيسَتك , وأتعلَّم منكَ وأصلِّي معك , قال : ادْخُل , فدخلْتُ معه . وكان رجُلَ سُوء : يأمُرُهم بالصَّدقة ويُرَغِّبهم فيها , فإذا جَمعُوا إليه شيْئًا منها اكْتنَزه ولم يُعطِه المساكينَ , حتَّى جَمع سَبْع قِلال من ذَهب وورق ! فأبْغَضْتُه بُغضًا شديدًا لِمَا رأيْتُه يَصنع .
ثمَّ مات , فاجْتمَعت إليه النَّصارى ليَدْفِنُوه , فقلْتُ لهم : إنَّ هذا كان رَجُل سُوء , يأمُركم بالصَّدقة ويُرغِّبُكم فيها , فإذا جئْتُموه بها اكْتَنزها لنَفْسه ولَمْ يُعط المساكينَ منها شيْئًا . قالُوا : وما عِلْمُكَ بذلك ؟ قلت : أنا أدلُّكم على كَنْزه , قالُوا : فدُلَّنا عليه . فأرَيْتُهم مَوْضِعَه , فاسْتخْرَجُوا سبْع قِلال مملوءة ذهبًا وورقًا . فلمَّا رأَوْها قالُوا : واللَّهِ لا نَدْفنه أبدًا . فصَلَبوه ورجَموه بالحجارة .
وجاءُوا برَجُل آخر فجعلُوه مكانَه , فما رأيْتُ رجلاً كان أفضَل منه ولا أزْهد في الدُّنيا ولا أرْغبَ في الآخرة ولا أدْأبَ ليلاً ولا نهارًا منه . فأحببْتُه حبًّا لم أحبَّه شيئًا قبْلَه , وأقمْتُ معه زمانًا . ثمَّ حضَرتْهُ الوفاةُ , فقلتُ له : يا فلان , إنِّي قد كنتُ معك وأحبَبْتُك حبًّا لم أحبَّه شيئًا قبْلَك , وقد حضَرك ما ترى من أمر اللَّه تعالى , فإلى مَنْ تُوصي بي ؟ وبِمَ تأمُرني ؟ قال : أيْ بُنيَّ , واللَّهِ ما أعلَمُ اليومَ أحدًا على ما كنتُ عليه , فقد هلكَ النَّاسُ وبدَّلُوا وتركُوا أكثَر ما كانُوا عليه , إلاَّ رجُلاً بالموْصِل , وهو فُلان , وهو على ما كنتُ عليه , فالْحَقْ به .
فلمَّا مات وغُيِّب (أي دُفِن) لحقْتُ بصاحب الموْصِل , فقلتُ له : يا فُلان , إنَّ فلانًا أوْصاني عند موْته أن ألحقَ بك وأخبَرَني أنَّك على أمْره , فقال لي : أقِمْ عندي . فأقَمْتُ عنده , فوجدْتُه خَيْر رجُل , على أمْر صاحبه . ثمَّ لَمْ يَلْبَث أن حضَرتْه الوفاةُ , فقلتُ له : يا فلان , إنَّ فلانًا أوْصى بي إليك وأمَرني باللُّحوق بك , وقد حضَرك مِن أمر اللَّه ما ترى , فإلى مَنْ تُوصي بي ؟ وبِمَ تأمُرني ؟ قال : يا بُنيَّ , واللَّهِ ما أعلَمُ رجُلاً على مثل ما كُنَّا عليه إلاَّ رجُلاً بنصيبين , وهو فُلان , فالْحَقْ به .
فلمَّا مات وغُيِّب لحقْتُ بصاحب نصيبين , فأخْبَرتُه خبَري وما أمَرني به صاحِباي , فقال : أقِمْ عندي . فأقَمْتُ عنده , فوجدْتُه على أمْر صاحبَيْه , وأقمْتُ مع خَيْر رجُل . فواللَّهِ ما لَبثَ أن حضرهُ الموتُ , فقلتُ له : يا فُلان , إنَّ فلانًا كان أوْصى بي إلى فُلان , ثمَّ أوْصى بي فُلان إليك , فإلى مَنْ تُوصي بي ؟ وبِمَ تأمُرني ؟ قال : يا بُنيَّ , واللَّهِ ما أعلمُه بقِيَ أحدٌ على أمْرنا آمُرك أن تأتيه , إلاَّ رجُلاً بعَمُّوريَّة من أرض الرُّوم , فإنَّه على مثْل ما نحنُ عليه , فإن أحْبَبْتَ فأْته , فإنَّه على أمْرنَا .
فلمَّا ماتَ وغُيِّبَ لحقْتُ بصاحب عمُّوريَّة , فأخْبَرتُه بخَبري , فقال : أقِمْ عندي . فأقمتُ عند خيْر رجُل على هَدْي أصحابه وأمْرهم , واكتسبْتُ حتَّى كانتْ لي بقراتٌ وغُنَيْمة , ثمَّ نزلَ به أمْرُ اللَّه . فلمَّا حُضِر قلتُ له : يا فُلان , إنِّي كنتُ مع فُلان فأوْصى بي إلى فُلان , ثمَّ أوْصى بي فُلان إلى فُلان , ثمَّ أوْصى بي فُلان إليك , فإلى مَنْ تُوصي بي ؟ وبِمَ تأمُرني ؟ قال : أي بُنيَّ , واللَّهِ ما أعْلَمُه أصْبح اليومَ أحدٌ على مثْل ما كُنَّا عليه من النَّاس آمُركَ به أن تأتيه , ولكنَّه قد أظَلَّ زمانُ نَبيٍّ , وهو مَبعوثٌ بدِين إبراهيم عليه السَّلام , يَخْرج بأرْض العَرب , مُهاجَرُه إلى أرْضٍ بين حرَّتَيْن بينهما نخْلٌ (هذه الأرضُ هي المدينة التي هاجر إليها محمَّدٌ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم) , به عَلاماتٌ لا تَخْفَى : يأكلُ الهديَّة , ولا يأكلُ الصَّدقة , وبين كَتِفَيْه خاتَمُ النُّبُوَّة , فإن استطعْتَ أن تلْحقَ بتلْكَ البلاد فافْعَلْ .
ثمَّ ماتَ وغُيِّب , ومكثْتُ بعمُّوريَّة ما شاء اللَّه أن أمكُث . ثمَّ مَرَّ بي تُجَّارٌ , فقلْتُ لهم : احْمِلُوني إلى أرْضِ العَرب وأعْطِيكُم بَقَراتي هذه وغُنَيْمتي , قالُوا : نَعَم . فأعْطَيْتُهُموها , وحمَلُوني معهُم , حتَّى إذا بَلَغُوا وادي القرى ظَلَمُوني , فبَاعُوني إلى رجُلٍ يَهودي عبدًا . فكنتُ عِنْدَه , ورأيْتُ النَّخْلَ , فرَجَوْتُ أن يكونَ هذا البلَدُ الذي وَصَفَ لي صاحبي , ولم يَحِقَّ في نَفْسي . فبيْنما أنا عِنْدَه إذ قَدم عليْه ابنُ عمٍّ له من بَني قُرَيْظة , فابْتاعَني منه واحْتملَني إلى المدينة , فوَاللَّهِ ما هو إلاَّ أن رأيْتُها فعَرَفْتُها بصِفَة صاحبي , فأقَمْتُ بها .
وبُعِثَ رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , فأقامَ بمكَّة ما أقام , لا أسْمعُ له بذِكْرٍ مع ما أنا فيه من شُغْل الرِّقِّ . ثمَّ هاجر إلى المدينة , فوَاللَّهِ إنِّي لَفِي رأْس نَخْلَةٍ لِسَيِّدي أعْملُ فيه بعضَ العَمَل وسيِّدي جالسٌ تحتها , إذ أقْبلَ ابنُ عمٍّ له حتَّى وقفَ عليه فقال : يا فُلان , قاتلَ اللَّه بَني قيلَة , واللَّهِ إنَّهم الآن لَمُجْتَمِعون بقُباء على رجُلٍ قدمَ عليْهم من مكَّة اليوم , يزْعُمون أنَّه نَبيّ . فلمَّا سمعْتُها , أخَذَتْني مثْل الرّعْدة من البرد حتَّى ظننتُ أنّي سأسْقُط على سيِّدي . فنزلْتُ عن النَّخْلة , وجعلْتُ أقول لابن عمِّه ذاك : ماذا تقول ؟! فغضب سيِّدي ولَكَمَني لكْمةً شديدة , ثمَّ قال : مالَكَ ولهذا ؟! أقْبِلْ على عمَلِك . قلتُ : لا شيء , إنَّما أردْتُ أن أسْتَثْبِتَه عمَّا قال .
وقد كان عندي شيءٌ قد جمعْتُه , فلمَّا أمْسيْتُ أخذْتُه ثمَّ ذهبْتُ به إلى رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم وهو بقُبَاء . فدخلْتُ عليه وقلْتُ له : إنَّه قد بلَغَني أنَّك رجلٌ صالح , ومعك أصحابٌ لك غُرباء ذَوُو حاجة , وهذا شيءٌ قد كان عندي للصَّدقة , فرأيْتُكم أحَقّ به من غيركم . فقرَّبتُ إليه , فقال لأصحابه : كُلُوا , وأمْسَكَ يَدَه فلمْ يأكُل . فقلتُ في نَفْسي : هذه واحدة , ثمَّ انصرفْتُ عنه .
وتحوَّلَ رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم إلى المدينة , فجمعْتُ شيْئًا ثمَّ جئْتُه به , فقلْتُ له : إنّي قد رأيتُكَ لا تأكلُ الصَّدقة , فهذه هديَّة أكرمْتُكَ بها . فأكلَ منها , وأمَر أصحابَه فأكلُوا معه , فقلتُ في نفْسي : هاتان اثْنَتان .
ثمَّ جئْتُ رسولَ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم وهو ببَقيع الغَرقَد قد تبعَ جنازة رجُلٍ من أصحابه , علَيَّ شَمْلَتان لي , وهو جالسٌ في أصحابه . فسلَّمتُ عليه , ثمَّ اسْتدرْتُ أنظُر إلى ظهره هل أرى الخاتَم الذي وصَفَ لي صاحبي . فلمَّا رآني رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم اسْتَدْبَرْتُه , عرفَ أنِّي أسْتَثْبِتُ من شيء وُصِفَ لي , فألْقى رداءَه عن ظهْره , ونظرتُ إلى الخاتَم (أي خاتَم النُّبوَّة) فعَرفْتُه . فأكْبَبْتُ عليه أُقَبِّلُه وأبكِي , فقال لي : تحوَّلْ , فتحوَّلتُ وجلسْتُ بينَ يديْه , وقصصتُ عليه حديثي , فأعجبَهُ أن يسمع أصحابُه ذلك .
وأسلَم سَلْمان رضي اللَّه عنه , ثمَّ عاد إلى سيِّده .
قال سلْمان : وبعد مُدَّة , قال لي رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم : كاتِبْ يا سلْمان (والمكاتبة هي أن يتَّفق مع سيِّده على مَبلغ من المال أو عملٍ يُؤدِّيه له لكي يُحرِّره من الرِّقّ) . فكاتبتُ سيِّدي على ثلاثُمائة نخْلَة أُحْييها له , وأربعين أوقية من ذهَب (والأوقية هي جزءٌ من الرَّطل) . فقالَ النَّبيُّ لأصحابه : أعِينُوا أخاكُم , فأعانُوني بالنَّخْل : الرَّجُلُ بثلاثين وَدِيَّة , والرَّجُلُ بعشرين , والرَّجُلُ بعشْر , يُعينُ الرَّجُلُ بقَدْر ما عنْده , حتَّى اجْتمعتْ لي ثلاثمائة وَديَّة (والوَديَّة هي الفَسِيلةُ الصَّغيرة من النَّخْل , تُغرَسُ لتُصبح نخلَة) . فقال لي رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم : اذْهبْ يا سلْمان , ففَقِّرْ لها (أي احفِرْ لها) , فإذا فرغْتَ فأْتني أكُنْ أنا أضعُها بيَدي . ففقَّرتُ وأعانَني أصحابي , حتَّى إذا فرغْتُ جئْتُه فأخْبرتُه , فخرجَ معي إليها , فجعلْنا نُقرّبُ إليه الوديَّ ويضعُه النَّبيُّ بيَدِه حتَّى فَرغْنا . فوَالذي نفسُ سلْمان بيَده ما ماتتْ منها ودِيَّةٌ واحدة !
فأدَّيتُ النَّخلَ وبقيَ علَيَّ المالُ , فأتَى رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم بمثْل بَيْضة الدَّجاجة من ذهَب , وقال لأصحابه : ما فعلَ الفارسيُّ المكاتب ؟ فدُعيتُ له , فقال : خُذْ هذه فأدِّها مِمَّا عليك يا سلْمان , قلتُ : وأين تقعُ هذه مِمَّا علَيَّ يا رسولَ اللَّه ؟! قال : خُذْها , فإنَّ اللَّهَ سيُؤَدِّي بها عنك . فأخذْتُها ووزنتُها لِسيِّدي , فوَالذي نفْسُ سلْمان بيَده : أرْبعين أوقية ! فأوْفَيْتُه حقَّه وأعتَقني , فشهدْتُ مع رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم معركة الخندق حُرًّا , ثمَّ لم يَفُتْني معه أيُّ مَشْهد .

هذه إذًا شهادات جديدة بأنَّ اليهود والنَّصارى كان لهم عِلْمٌ بأنَّهُ سَيُبعَثُ نَبيٌّ في جزيرة العرب (السّعوديَّة) , يكون نبيَّ آخر الزَّمان , وكانُوا يعرفُون صِفاتَه , وكانُوا أُمِرُوا باتِّبَاعه .

ربَّما تقول يا ابني الكريم : ولكن ليس هناك دليلٌ واحد على أنَّ هذه القصص وقعتْ فعلاً .
أقول : لكنَّ ما جاء فيها يتَّفقُ تَمامًا مع آيات القرآن التي عرضْنَاها سابقًا , والتي أعلَنتْ بوضُوح أنَّ محمَّدًا مذكورٌ في التَّوراة والإنجيل , وأنَّه خاتم الأنبياء . وإذا كنت ما زلت في شكٍّ من أنَّ القرآن كلام اللَّه , تعالَ معي نقوم بجولة جديدة مع بعض آياته المعجزة .
---------------------------
التالي بإذن الله تعالى: في الذُّباب آية !


كلمة سواء 16.01.2011 14:45

في الذُّباب آية !



يقول اللَّه تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ 73 } (22- الحجّ 73) .
أمَّا الإعجاز الأوَّل , فقد تحدَّى اللَّهُ النَّاسَ جميعًا , والآلهةَ التي يعبدونها من دونه , أن يخلقُوا ذبابة واحدة , حتَّى ولو وَحَّدُوا جهُودهم في سبيل هذا الأمر . فهل استطاعُوا ذلك ؟
أبدًا , بالرَّغم من وصولهم إلى القمر , ومازال التَّحدِّي قائمًا إلى قِيام السَّاعة .
وأمَّا الإعجاز الثَّاني , فقد أشارت الآية الكريمة إلى أنَّ الإنسان لا يستطيع أن يسترجع ما يأخذه منه الذُّباب . وقد أثبتَ العلماء فعلاً أنَّ الذُّباب , ما أن يلتقط شيئًا من الطَّعام لِيَأكُله , حتَّى يُفرز عليه كمِّيَّة كبيرة من الإنزيمات الهاضمة التي تُذيبُه وتُحَوِّلُه على الفَوْر إلى مادَّة أخرى . فيستحيلُ عندئذ على الإنسان , مهما استخدمَ من تقنيَّات دقيقة , أن يسترجع المادَّة الأصليَّة التي سلَبها منه هذا الذُّباب !

كلمة سواء 16.01.2011 14:46

وفي بيت العنكبوت آية !



يقول اللَّه تعالى : { مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ 41 } (29- العنكبوت 41) .
اكتشفَ علماء العصر الحديث حقائقَ غريبة جدًّا عن العنكبوت . مِن ذلك أنَّ الأنثى هي وحدها التي تبني بَيْتها , ولا يتدخَّلُ الذَّكَرُ في هذا الأمر من قريب ولا من بعيد ! فهل تُرى لهذا السَّبب قال تعالى : { كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا } , ولم يقل : اتَّخذ بيتًا ؟ أم أنَّ هذا التَّخصيص كان من قَبيل الصُّدفة ؟‍!
ومِن ذلك أيضًا أنَّ خُيوط بيت العنكبوت مَتِينةٌ , وليسَتْ واهيَة كما يظنُّ أغلبُ النَّاسُ اليوم ! نعم , ولو قارَنَّا هذه الخيُوط بمِثْلها من الحديد , في مثل طولها ودِقَّتها , لَوَجدْنَاها أمْتَن من خُيوط الحديد بأربعة أضعاف أو أكثر ! فهل تُرى لهذا السَّبب قال تعالى : { وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ } , ولم يقل : وإنَّ أوْهَنَ الخيُوط لَخَيْطُ بَيْت العَنْكَبُوت ؟ أم أنَّ هذا التَّحديد كان أيضًا من قَبيل الصُّدفة ؟!

أبدًا , لَم يكُن من قَبيل الصُّدفة , وإنَّ بُيُوتَ العَنْكَبُوت هي فعلاً أوْهَن البُيُوت , كما أشارت إليه الآية الكريمة . لِنَستَمِعْ لِما يقوله العلماء في هذا الشَّأن : تقوم أنْثَى العَنْكَبُوت ليلةَ زفافها باسْتِدْراج الذَّكَر حتَّى يُلَقِّحها . فلمَّا يَنْتَهي من ذلك , تنقضُّ عليه وتأكُله ! نعم , تأكلُ الأنثَى الذَّكَر , وتنتهي الحياةُ الزَّوجيَّة من أوَّل يوم ! والعلَّة في ذلك أنَّ لَحْم الذَّكَر ضروري للأنثَى , لِأنَّه يتحوَّل إلى موادَّ بروتينيَّة لازمة لِتَكْوين البَيْض في بَطْنها .
ثمَّ تبيضُ العنكبوت , ولكن ما أن يفقس بيضُها ويخرج صغارُها إلى الدُّنيا , حتَّى تُسارع بالْتِهَام ما تستطيع منهم ! وعندما تَرَى العناكبُ الصَّغيرة هذا المشهد , تبدأ بدَوْرها في أكْل بعْضِها البعض ! وفي النِّهاية , لا ينجُو من هذه المجزرة العائليَّة إلاَّ القليل !
فباللَّه عليك يا ابني الكريم , هل سمعتَ في حياتك بأُسْرةٍ أشدّ تفكُّكًا من هذه الأسْرَة أو بيْت أوْهَن من هذا البيْت ؟!
وإذا كانت هذه هي حالُ بيت العَنْكَبُوت , فإنَّ حال بُيوت الذين يعبُدون غيرَ اللَّه , أو يطلبُون العَوْن مِن سواه , شبيهةٌ جدًّا بها , ولكنَّ أكثر النَّاس عن الحقِّ غافلون !

كلمة سواء 16.01.2011 14:47

وفي عسل النَّحل آية !



يقول اللَّه تعالى : { وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ 68 ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ 69 } (16- النّحل 68-69) .
لا يَخفَى اليوم على أحد من النَّاس أنَّ العسل مفيدٌ جدًّا في علاج العديد من الأمراض , وأيضًا في الوقاية من الإصابة منها . ومازال العُلَماء إلى اليوم يبحثون ويدرُسون , ليتعرَّفُوا على المزيد من أسراره .
فمِنْ فوائد العسل أنَّه يحتوي على سُكَّر الفواكه بنسبة عالية , وهو بهذا يُغني عن تناول سُكَّر القصب والسَّكاكر الصِّناعيَّة الأخرى التي تُسبِّبُ نَخَر الأسنان وارتفاع نسبة السُّكَّر في الدَّم .
والعسلُ سهلُ الهضم , حُلْو الطَّعْم , ويمتاز على غيره من الأدوية بأنَّه يقتلُ الجراثيم في بضع ساعات , ويُسارع في الْتِئَام الجروح . وهو مفيد في علاج التَّقيُّحات , والقُصُور الكلوي , والسُّلّ , والسُّعال الدِّيكي , والأمراض العصبيَّة , وغيرها .
والعسلُ ذُو ألوان مختلفة , لأنَّ النَّحل الذي يُنتِجُه يمتصُّ رحيق زهور مُتَنوَّعة .

فإذا كان النَّبيُّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم قد أتى بالقرآن من عنده , فكيف عَلِمَ منذ حوالي 1400 سنة أنَّ صُنع العسل يَتمُّ في بطن النَّحلة , وأنَّه يخرجُ بألوان متعدِّدة , وأنَّ فيه شفاء للعديد من الأمراض ؟!
ثمَّ انظر مرَّةً أخرى إلى دقَّة التَّعبير الإلهي حين قال تعالى : { فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ } , ولم يقلْ : هو شفاءٌ للنَّاس . فقد بيَّن العلم الحديث فعلاً أنَّ العسل يشفي من العديد من الأمراض , ولكن ليس مِن كلِّها .

كلمة سواء 16.01.2011 14:47

وفي الرَّضاعة الطَّبيعيَّة آية !



يقول اللَّه تعالى : { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ 233 } (2- البقرة 233) .
يَحثُّ اللَّه تعالى الأمَّهات في هذه الآية أن يُرضِعْنَ أولادهنَّ رضاعة طبيعيَّة من صُدورهنَّ , ويُبيِّن لهنَّ أنَّ تمام الرَّضاعة سنتَان كاملتَان . فماذا يقول العلْمُ في هذا الأمر ؟
كلُّ الأطبَّاء , وحتَّى عامَّةُ النَّاس , مُجْمِعُون اليوم على أنَّ الرَّضاعة الطَّبيعيَّة من صدر الأمِّ ولِأَطْوَل مُدَّة , أفضل بكثير للرَّضيع وللأمِّ من الرَّضاعة الصِّناعيَّة . فحليبُ الأمِّ أكْمَل , وأسهل هضمًا , ومُعقَّم , ويحتوي على أجسام مُضادَّة لِتَقْويَة المناعة ضدَّ الأمراض لَدَى الرَّضيع , ودرجة حرارته مُناسبة للرَّضيع صيفًا وشتاء .
ثمَّ إنَّ الرَّضاعة من الصَّدر تُقوِّي رابطة الحنان بين الأمِّ وابنها , وتساعد على استقراره النَّفسي .
ألَيْس في هذا إذًا دليلٌ آخر على أنَّ القرآن وحيٌ من عند اللَّه ؟!

كلمة سواء 16.01.2011 14:48

وفي قصَّة يوسف آية !



يقول اللَّه تعالى : { وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيا تَعْبُرُونَ 43 قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعَالِمِينَ 44 وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ 45 يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ 46 قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ 47 ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ 48 ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ 49 } (12- يوسف 43-49) .
يقولُ المختصُّون في علوم الزِّراعة والنَّبات أنَّ القمح إذا تَمَّ تخزينُه لبضع سنوات على شكل حُبوب , يتعرَّضُ لِلتَّلَف بسَبَب الرُّطوبة والآفات . أمَّا إذا أُبقِيَ في سُنْبُلِه ثمَّ وقعَ تخزينُه على هذه الحالة , فإنَّه يبقَى سليمًا لِسَنوات عديدة .
وهذه بالضَّبط هي الطَّريقة التي ذكَرها القرآن على لسان النَّبيِّ يوسف عليه السَّلام في تخزين القمح : { فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ } .
أليس في هذا دليلٌ جديد على أنَّ القرآن كلام اللَّه ؟!

كلمة سواء 16.01.2011 14:48

وفي قصَّة أصحاب الكهف آية !



يقول اللَّه تعالى : { وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا 17 وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا 18 } (18- الكهف 17-18) .
تتحدَّث هاتان الآيتان عن أصحاب الكهف , وهم شبابٌ عاشُوا قبل مَبْعَث النَّبيِّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم بقُرون . وكانُوا يُؤمنون باللَّه وحده , لا يُشركون به شيئًا . وفي يومٍ , فَرُّوا من قَوْمهم الكفَّار , واخْتَبأوا في كهف . فألْقَى اللَّهُ تعالى عليهم النَّوم , فنامُوا حوالي 300 سنة , ثمَّ أيقظَهُم اللَّهُ من رُقادهم . يقول تعالى : { وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا 25 } (18- الكهف 25) . يقولُ المفسِّرون : أي نامُوا 300 سنة شمسيَّة , وهي تُعادل 309 سنة قمريَّة ! ولهذا قال تعالى : { وازدادُوا تِسْعًا } . فهل هذه الدِّقَّة في الحساب جاءت من قَبيل الإعجاز أم هي من قَبيل الصُّدفة ؟!
وخلال نَوْمهم الطَّويل هذا , كانت الشَّمسُ تدخلُ إلى كَهْفهم صباحًا ومساءً , وهذا الأمرُ ضَروري للقضاء على الرُّطوبة والجراثيم التي يمكنُ أن تُتْلِفَ أبدانهم .
وكانُوا يُقَلَّبون تارةً إلى اليمين وتارةً إلى الشِّمال , وهذا أيضًا ضَروري لأنَّ النَّوم لفترة طويلة في وضعيَّة واحدة يُسبِّبُ تَقَيُّحات في الموضع من الجسم الملاصِق للفراش أو للأرض . وكلُّنا يتقلَّبُ مرَّات عديدة عندما يكون نائمًا , دون أن يشعر بذلك . ثمَّ إنَّ التَّقليب إلى اليمين وإلى الشّمال يسمح للجسم أن يتنفَّس بسهولة , وهو ما لا يحصل إذا كان النَّوم على البطن أو على الظَّهر .
كلُّ هذا أثْبَته العلم الحديث . فمَن أخبر محمَّدًا صلَّى اللَّه عليه وسلَّم بكلِّ هذه الجزئيَّات العلميَّة الدَّقيقة منذ حوالي 1400 سنة , إن لم يكن اللَّه تعالى هو الذي أوحَى له بذلك ؟!
بقيَ أن نلاحظ أنَّ اللَّه سبحانه كان يستطيع , وهو القادر على كلِّ شيء , أن يجعلَ الفِتْيَة يَنامون لمدَّة 300 سنة في وضعيَّة واحدة ودون أن تزورهم الشَّمس , ويحفظ مع ذلك أبدانَهم من أيِّ تَلَف . ولكنَّه ربَّما أراد أن يُنبِّهنا إلى ضرورة الأخذ بالأسباب , بالإضافة إلى التَّوكُّل عليه , أو ربَّما أراد أن يَلْفِتَ أنظارنا إلى هذه الحقائق العلميَّة التي تؤكِّد أنَّ القرآن مُنزَّلٌ من عنده .
---------------------------------
التالي بإذن الله تعالى: وفي قصَّة ذي القرنين آية !

كلمة سواء 16.01.2011 14:48

وفي قصَّة ذي القرنين آية !



يقول اللَّه تعالى متحدِّثًا عن ذي القرنين : { حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً 93 قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا 94 قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا 95 آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا 96 فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا 97 قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا 98 } (18- الكهف 93-98) .
كان ذو القَرْنَين مَلِكًا صالحًا , يؤمن باللَّه وحده . وكان قد طاف جميع الأرض , مشرقها ومغربها . فمَرَّ في طوافه على قَوم , فطلبُوا منه أن يَبْني لهم سدًّا يمنع عنهم أذى يأجوج ومأجوج , وعَرضُوا عليه مالاً مقابل ذلك . فأجابهم بأنَّ ما أعطاهُ اللَّهُ من الملْكِ والتَّمكين في الأرض خيرٌ له من ذلك المال . ثمَّ طلب منهم أن يجمعوا له قِطَعًا من الحديد , فجمعوا له ما أراد . فبَنَى بها سدًّا عاليًا بين جَبَلَيْن , ساوَى فيه بين قِمَّتَيْهما . ثمَّ أمرهُم أن يُوقِدُوا عليه النَّار , فأَوقَدُوها حتَّى انصَهر الحديد , فصبَّ عليه النُّحاسَ المذاب , فأصبح سدًّا صلبًا منيعًا , لم يستطع يأجوج ومأجوج بعد ذلك ثَقْبَه .

والمعروفُ اليوم لَدى العلماء أنَّ النُّحاس المذاب إذا أُضيف إلى الحديد المذاب أَكْسَبه صلابة وقوَّة , ولم يأْكُلْه الصَّدَأ .
فمَن أخبر النَّبيَّ محمَّدًا صلَّى اللَّه عليه وسلَّم بهذه الحقيقة العلميَّة إذا كان قد جاء بالقرآن من عنده ؟!

كلمة سواء 16.01.2011 14:49

وفي حرب الرُّوم مع الفُرس آية !



يقول اللَّه تعالى : { الم 1 غُلِبَتِ الرُّومُ 2 فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ 3 فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ 4 بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ 5 وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ 6 } (30- الرّوم 1-6) .
كان الرُّوم في حَرْبٍ دائمة ضدَّ الفُرْس , وكان المسلمون الأوائل يُحبُّون أن ينتصر الرُّومُ لأنَّهم نصارى , أهل كتاب , بينما كان كفَّارُ قُريش يحبُّون أن يكون النَّصر للفُرس لأنَّهم كفَّارٌ مثلهم , يعبدون النَّار .
وقد نزلت هذه الآيات والنَّبيُّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم وأصحابُه في مكَّة . وتُشير في أوَّلها إلى هزيمة هِرَقْل مَلِك الرُّوم أمام سابُور مَلِك الفُرس , في معركةٍ دارتْ بين جَيْشَيْهما في منطقة البحر الميِّت .

فكانتْ هذه الآيات مُعجزة من وجهين :
أمَّا الوجه الأوَّل : فقد أشارت إلى أنَّ المكان الذي انهزم فيه الرُّومُ هو أدْنَى الأرض , أي أخْفَضها . وقد تأكَّد علماءُ الخرائط اليوم أنَّ البحر الميِّت الذي يقع بين فلسطين والأردن ينخفض عن سطح البحر 395 متر , وهو أقصى انخفاض في العالم . وبالتَّالي , فإنَّ المنطقة التي وقعتْ فيها المعركة هي فعلاً أدْنَى الأرض !
وأمَّا الوجه الثَّاني : فقد تنبَّأت الآيات بأنَّ الرُّوم سينتصرون على الفُرس بعد هذه الهزيمة ببضع سنين , والبضْع هو من ثلاث إلى تسع سنوات . فلمَّا سمع كُفَّار قُريش بهذا الأمر , تراهنُوا مع الصَّحابي الجليل أبي بكر الصِّدِّيق رضي اللَّه عنه , قبل أن يُحرَّم الرِّهان , على أنَّ الرُّوم سَيَنْهزمُون مرَّة أخرى . فكان أن انتصر الرُّومُ بعد تسع سنين , وأسلم عند ذلك أناسٌ كثيرون من قُريش عندما رأوا أنَّ وَعْد اللَّه قد تحقَّق !

فهل كان النَّبيُّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم لِيَضَع نفسَه في هذا المأزق لو كان قد أتى بالقرآن من عنده ؟!


كلمة سواء 16.01.2011 14:50

وفي إسلام هذا الشَّابِّ عبرة !



هذه قصَّة واقعيَّة في إسلام شابٍّ , اختار لِنفسه بعد إسلامه اسم سيف الإسلام التُّهامي , يقول : وُلدتُ في القاهرة بمصر في 30-7-1980 م , من أبٍ أرمَني كاثوليكي وأمٍّ إنجيليَّة . وكانت ابنةُ عمِّ أبي راهبةً في مدرسة راهبات الأرمن , وكان خالي قِسِّيسًا في إحدى الكنائس الإنجيليَّة , وكان لي أختان أكبر منِّي بأربع سنوات .
نشأتُ نشأةً نصرانيَّة بَحْتَة , فمنذُ نعومة أظافري وأنا أذهب إلى الكنيسة كلّ يوم أحد وفي الأعياد وفي كلّ وقت أشاء , حيثُ لَم يكُن علَيَّ رقيبٌ في ذلك . وكنتُ أُحبُّ الذَّهاب إلى الكنيسة والاستمتاع بكلِّ ما فيها من شعائر وصلوات , وأُحبُّ أيضًا الألعاب والمعسكرات والرَّحلات التي تُنظِّمها .
التحقتُ بمدرسة نوباريان الأرمنيَّة , وهي مدرسة لا تَقبلُ إلاَّ نصارى الأرمن . وكان أوَّل ما نفعلُه صباحًا في طابور المدرسة هو الصَّلاة ونحنُ واقفون في صَفِّنا . وكانت توجدُ كَنيسة بالمدرسة , وكان أكثر المدرِّسين نصارى . فلَم يكُن لي إذًا أيّ اختلاط بالمسلمين , إلاَّ بالقليل من أصدقائي في الحيّ . وكانت مُعظم أوقاتي أُقضِّيها في الكنيسة , حيثُ كنتُ أعملُ كشَمَّاس , أُساعدُ القِسَّ في مراسم القدَّاس (أي الصَّلاة Messe) .
واستمرَّ بي الحال على ذلك حتَّى وصلتُ إلى المرحلة الثَّانويَّة , وبدأتُ أرتبطُ بالكنيسة والقساوسة أكثر من ذي قبل . وكنتُ سعيدًا جدًّا بهذه العلاقة لأنَّني كنتُ من المقرَّبين لديهم . وأصبحتُ أقوم بِمُعظَم شعائر القدَّاس , من قراءة للإنجيل , ورَدٍّ على القسِّ عندما يتلُو أيَّ شيء منه , بالإضافة إلى تحضير القربان والخمر , أعاذكُم اللَّهُ منها .
وفي يوم , كنتُ جالسًا مع أحد أصدقائي المسلمين , فقال لي : ألنْ تُسلمْ ؟ قلتُ : ولِمَ أُسلِمْ ؟! ولِمَ لا تَتَنصَّرُ أنت ؟! قال : أنتم كلُّكم في النَّار ! فنزلَتْ علَيَّ هذه الجملة نزول الصَّاعقة ! النَّار ؟! لماذا النَّار ؟! أنا أعملُ كلّ عَمل صالح لأتقرَّبَ إلى ربِّي وأدخل الجنَّة , ثمَّ يقول لي أنَّني سوف أدخل النَّار ؟!
عندما هدأتُ , سألْتُه : لِمَاذَا أدخلُ أنا وجميع النَّصارى النَّار , وأنتم المسلمون تدخلون الجنَّة ؟! قال : لأنَّكم تقولون أنَّ اللَّه ثالثُ ثلاثة , وأنَّ المسيح ابنُ اللَّه , وغيرها من الافتراءات على المسيح ! قلتُ : وكيف عرفتَ كلَّ هذه الأشياء ؟! هل قرأتَ الإنجيل ؟! قال : لا , بل قرأتُها في القرآن . فاستغربتُ أيضًا من ذلك ! فكيف يعرفُ القرآنُ ما في ديننا ؟! وكيف يُقرِّر أنَّ هذه الأشياء التي نقولها عن المسيح كلُّها كُفرٌ وتؤدِّي إلى النَّار ؟!
بدأتُ أتفكَّر مَلِيًّا في هذا الأمر , ثمَّ , ولِأوَّل مرَّة بدأتُ أقرأ الإنجيل بتمعُّن , فقد كانت على قَلبي غشاوة . وبدأتُ أكتشفُ الاختلافات الشَّديدة في ذِكْر نَسَب المسيح , وادِّعاء ألُوهيَّته تارة ونُبُوَّته تارة ! وبدأتُ أتساءل : مَنْ هو المسيح إذًا ؟ أهُو نَبيٌّ , أم ابنُ اللَّه , أم هو اللَّه ؟!
فأعددتُ بعضَ الأسئلة , ثمَّ ذهبتُ بها إلى القسِّ لكي أحصل على الإجابات الشَّافية , ولكنَّني لَم أجدْ عنده ما يُثلجُ صدري . وأتذكَّر أنِّي سألتُه مرَّة : لِماذا يقول الإنجيلُ أنَّ المسيح جالسٌ على جبل الزَّيتون يَدعُو اللَّه ؟ فإن كان هو اللَّه حقًّا , فمَنْ يَدعُو ؟! ولِمَنْ يَسجُد ؟! فأجابني إجابات لَم أفهم منها شيئًا !
ثمَّ بدأتُ أتفكَّر فيما نفعلُه في الكنيسة , من اعترافٍ بالخطايا والذُّنوب للقسِّ , والمناوَلة , وهي عبارة عن جلاش طريّ يُوضَع في الخمر , فيقول القسُّ أنَّ هذين الشَّيئين صارَا دَم وجَسَد المسيح , ومَن يأخُذهُما يُغفَر له ويُطَهَّر من الدَّاخل !
وتساءلتُ : كيفَ يَغفرُ ذُنوبي بَشرٌ (أي القسّ) , مثله مثلي ؟! وهو (أي القسّ) , لِمَن يَعترفْ ؟! ومَن يغفرُ له ؟! وكيف يُحَلُّ دمُ وجسدُ المسيح في هذه الكأس ؟! وكيف يُطهِّر ما في داخلي ويَغفر ذنوبي ؟!
وبدأَت الأسئلةُ تتلاحق في ذهني , ولَم أجد لها إجابات . وبدأتُ أتَّخذُ قراراتٍ من نفسي , مثل عدم الاعتراف للقسِّ , لِأنَّه بشرٌ مثلي , وعدم أخذ المناوَلة , وآمنتُ أنَّ المسيح عليه السَّلام نبيٌّ لِأنَّه بَشر , وأنَّ اللَّهَ له صفات الكمال الخاصَّة به والتي تَتنافَى مع صفات البشر , وبدأتُ أقرأ الإنجيلَ دون أن أقول : " ربُّنا يَسوع المسيح " , بل أقول : " يسوع المسيح " فقط . ومع ذلك , لَم أشعُر أنَّ هذا هو الحلّ السَّليم .
وذات ليلة , كنتُ أُذاكرُ دروسي في غرفتي , في منزل والديَّ , وكان خلف منزلنا مسجد . وكنَّا في شهر رمضان , فكان المسلمون يُصلُّون صلاة التَّراويح , بعد صلاة العشاء , وكان صوتُ الإمام يَصلُ إلى غُرفتي عَبْر مُكبِّرات الصَّوت , وهو يقرأ القرآن بصَوت خافِت وجميل , فشعرتُ بِحَلاوةٍ تَمسُّ قلبي .
ثمَّ جاءت اللَّحظة التي شرح اللَّهُ فيها صدري للإسلام , وكان ذلك يوم الأحد داخل الكنيسة , عندما كنتُ أقرأ الإنجيل قَبْلَ القُدَّاس , استعدادًا لِقراءته على النَّاس خلال الصَّلاة . وأثناء استعدادي , سألتُ نفسي : هل سأقول : " ربُّنا يَسُوع المسيح " ؟ أم " يَسُوع المسيح " فقط , لِأنَّه نبيٌّ وليس إلها ؟ ولكن إذا قلتُ ذلك , فسوف يُلاحِظُ الحاضرون أنَّني تجاوزتُ كلمة " ربُّنا " , وإذا قُلتها فسوف أخالفُ ضميري .
وفي النِّهاية , قرَّرتُ أن أقرأ الإنجيل كما هو , دون تغيير , ما دمتُ أمام النَّاس , وأن أقرأه بدون كلمة " ربُّنا " عندما أكون بِمُفرَدي . وجاء موعد قراءتي للإنجيل خلال القُّدَّاس , فبدأتُ أقرأ بثَبات , تَمامًا كما هو مكتوبٌ , حتَّى وصلتُ إلى جملة : " ربُّنا يَسُوع المسيح " , فلَم أشعر بنَفسي إلاَّ وأنا أتجاوزُ كلمة " ربُّنا " , وأبَى لساني أن ينطقَ بها . فتعجَّب القِسُّ من فعْلي هذا , وأشار إليَّ بالجلوس . فتَوقَّفتُ عن القراءة وجلستُ , وأكملْنا الصَّلاة بشكل طبيعي .
فلمَّا انتهينا , توجَّهتُ إلى الغرفة الخاصَّة بنا , وهناك سألني القِسُّ : لِمَ فعلتَ ذلك ؟! لِمَ لَم تقرأ الإنجيلَ كما هو ؟! فلَم أُجبهُ , وقلتُ له : إنِّي أريدُ أن أذهبَ إلى بيتي لِأستريح . ثمَّ ذهبتُ إلى غرفتي وأنا في غاية الدَّهشة : لِماذا فعلتُ ذلك ؟! ماذا حدثَ لي ؟!
ومنذ ذلك اليوم , أصبحتُ أنام دون أن أتِمَّ ما كنتُ اعتدتُ قراءته يوميًّا من الإنجيل , وأصبحتُ لا أشعرُ بالرَّاحة , لا في الصَّلاة , ولا في القراءة , ولا حتَّى في الذَّهاب إلى الكنيسة . وظللتُ أَتفكَّر في حالي , وتخترقُ أُذُني تلكَ الكلمة القاسية التي قالَها لي صديقي المسلم : كلُّكم في النَّار !
ثمَّ أقبلتُ على القراءة الجادَّة في كتب المقارنات والكتب الإسلاميَّة , فعرفتُ أنَّ المسيح نبيٌّ , قال اللَّهُ له : كُنْ , فكان , واكتشفتُ أنَّ المسيح وأمَّه مريَم عليهما السَّلام مُكَرَّمان غاية التَّكريم في القرآن , وعلمتُ أيضًا أنَّ محمَّدًا صلَّى اللَّه عليه وسلَّم مذكورٌ في إنجيل العهدَين , القديم والجديد . فتأكَّدتُ حينئذ أنَّ الإنجيل الذي بين يَدَيَّ مُحَرَّف , واقتنعتُ أنَّ الإسلام هو الدِّينُ الحقُّ , وأنَّ اللَّهَ لا يرضَى غيره دينًا , وأنَّه هو الطَّريق إلى الجنَّة وإلى النَّجاة من النَّار .
ثمَّ ذهبتُ إلى إحدى المكتبات واشتريتُ مصحفًا للقرآن الكريم , وبدأتُ أقرأ فيه , فأحسستُ براحة غريبة في داخلي . وانشرح صدري للإسلام , فأخبرتُ أخواتي بذلك , فعجبتُ أنَّهنَّ قد سَبقْنَني إليه ! فنطقتُ عندئذ بالشَّهادتَيْن : أشهدُ أن لا إله إلاَّ اللَّه وأشهد أنَّ محمَّدًا رسول اللَّه .
لقد وُلدتُ من جديد , فَمَا أجملَهُ من دين , وما أعظمَهُ من إله واحد لَم يَلِدْ ولَم يُولَد ولَم يكُن له كُفُوًا أحَد . اللَّهمَّ فلَكَ الحمدُ على نعمة الإسلام وعلى نعمة الإيمان , اللَّهمَّ ثَبِّتْني على ما أنا عليه , واجعلْ آخرَ كلماتي في هذه الدُّنيا : لا إله إلاَّ اللَّه محمَّدٌ رسولُ اللَّه , مِن أجلها أحيا ومن أجلها أموت وبها ألقاك , وصلِّ اللَّهمَّ على سيِّدنا محمَّد وسلِّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدِّين .
(نقلاً , مع تصرّف بسيط في سرد القصَّة , عن موقع طريق الإسلام www.islamway.com) .


جميع الأوقات حسب التوقيت الدولي +2. الساعة الآن 18:36.

Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.