المساعد الشخصي الرقمي

اعرض النسخة الكاملة : اعترافات تولستوي : رحلة البحث عن الله


الاشبيلي
08.08.2010, 10:42
اعترافات تولستوي : رحلة البحث عن الله



أتذكر جيداًَ ذلك الشعور الغريب الذي انتابني عند قراءة إحدى ملاحظات مكسيم غوركي عن تولستوي {1}. يقول غوركي : صعقني قول غريب في اليوميات التي أعطاني إياها تولستوي, تلك العبارة هي "الله هو أمنيتي". حينما استوضحته عن معنى هذه الأمنية قال : "فكرة غير مكتملة, لا بد أني قصدت إلى القول, الله هو أمنيتي كيما أدركه .. لا , ليس هذا .. ". كان تولستوي حسب تصور غوركي, ومن أحاديث جانبية بينهما, تشغله فكرة الله حتى تكدر صفاء ذهنه. يقول تولستوي في بعض أقواله المذكورة في ملاحظات غوركي: ماذا نقصد عندما نقول أننا نعرف؟ أعرف أنني تولستوي, ولي زوجة, وأولاد, وشائب الشعر, وقبيح الوجه, ولي لحية. وهذا كله مدون في جواز سفري. ولكنهم لا يدلفون إلى الروح في جوازات السفر! كل ما أعرفه عن روحي أنها تتوق إلى الاقتراب من الله. لكن ما هو الله ؟ هذا الذي روحي هي ذرة منه. هذا هو كل شيء!

هذا الملاحظات أصبحت صور تمر في ذهني كلما مر اسم تولستوي في أي قراءة. أتخيل وجه مكسيم وهو يسأل معلمه عن هذه الأمنية الحلم, فيرد وجه الشيخ الكثيف اللحية, المعتمر قبعة الفلاحين, بإبتسامة عريضة تنسي المحاور الآخر السؤال برمته, وما إن يلتفت إلى الخلف, تطفر منه دمعة كشخص ساذج, ويولي هارباً حتى تشتعل هذه الأمنية كبركان على وشك الإنفجار.

هذه الملاحظات لم أعرف ماذا تشكل على وجه الحقيقة في حياة تولستوي, المفكر والأديب المشهور. دستويفسكي في أغلب أعماله الكبيرة, وحتى في كتب البيوغرافيا, يعطي توضيح حاد لرحلته إلى الله والإيمان : "لقد وصلت إلى الله عبر طريق طويل وشائك من الإلحاد والشك الكبير". قرأت رائعة آنا كارينينا (http://www.alsakher.com/vb2/showthread.php?t=129916) قبل فترة, وكانت أول عمل كامل لتولستوي أتم قراءته بالكامل. كنت أتمنى أن أجد تفسير في الرواية لهذه الأمنية التي تراود تولستوي في دفاتر يومياته, ولكن لم أجد إلا حيرة مضاعفة بسبب شخصية قسطنطين ليفين, والذي عبر عن أكثر أراء تولستوي غموضاً. ليفين : تلك الشخصية التي لم تكن إلا تولستوي نفسها بكل تطرفها. كتب تولستوي عن نفسه في هذه الرواية وعبر عن أكثر أراءه بشكل حاد. من سيقرأ بعض ما كتب في يوميات تولستوي المنشورة في صور أدبية لمكسيم غوركي سيجد أغلب أفكاره مطروحة في شخصية ليفين. من أنا؟ وما هو هدف حياتي؟ والأهم : أين الله؟ من هو الله؟ وكيف أحيا بوجود الله؟ ماهو الوجود؟ ولماذا أنا موجود؟ هذه الأسئلة لإنسان مغرق في الشك - وملحد - كانت ذا تأثير عميق في الرواية, وتفنن تولستوي بتصويرها بأروع ما يكون التصوير الفني. ولكن, وهذا السؤال هو الأهم : من أين ظهرت هذه الأمنية؟ وما دلالتها في حياة تولستوي الأدبية والفكرية؟ وأخيراً : هل تحققت أمنيته؟ هل عرف الله كما تتمناها روحه؟

لمعرفة الجواب يستلزم أن تقرأ أكثر, أن تعرف سيرة حياته, وبشكل خاص مسيرة تولستوي الفكرية. كانت مهمة البحث عن أجوبه لهذه الأسئلة ليست بالسهلة على الإطلاق. كتب البيوغرافيا التي تحدثت عن تولستوي لم تستطع الإجابة عن هذه الأسئلة بالتفصيل. الناقد الروسي ك. لومونوف عبر كتابه صفحات مجهولة من حياة تولستوي يقدم سيرة أدبية رائعة ومشوقة لتولستوي. الجانب الأدبي طغى على الجانب الفكري مما سبب غموض أكثر بالنسبة لي. لومونوف يقدم لي تولستوي الأديب, صاحب الروائع الخالدة : "الحرب والسلم", "آنا كارينينا", "البعث", أنا لا أريد تولستوي هذا, أريد تولستوي صاحب الأمنية الكبيرة : الله هو أمنيتي.

دائماً ما أجد أقوال دستويفسكي عن تولستوي موفقة وتصف الحالة العامة لتولستوي على وجه الدقة, هو لا يتكلم كثيراً ولا يرفع منافسه لمستوى أكبر منه, رغم أنهما منافسين شرسيين. حينما يقول أن آنا كارينينا هي أعظم رواية روسية فهو صادق {2} . آنا كارينينا هي أقرب لمسمى الرواية أكثر من أي عمل روسي أخر. أما حينما يقول أن أمثال تولستوي هم معلموا المجتمع، معلمونا، ونحن مجرد تلاميذ لهم, فذلك يستلزم البحث لتعرف لماذا وصف دستويفسكي منافسه الشهير بوصف المعلم الكبير؟ وهل لهذا الوصف والتبجيل علاقة بأمنية تولستوي؟

لن يستطيع أحد أن يحلل ويفسر لي أمنية تولستوي أكثر من تولستوي نفسه, عبر كتابه الشهير اعترافات تولستوي "A Confession and Other Religious Writings" . ولكن المصيبة أن الكتاب غير متوفر في المكتبة العربية حسب علمي المتواضع. قررت شراء الكتاب في أقرب زيارة للخارج, وإلى أن يحين الوقت, حاولت قراءة كتاب سيروا في النور وثلاثة وعشرون حكاية "Walk in the Light & Twenty-Three Tales ". هذه المجموعة القصصيه تقدم لي أمنية تولستوي عبر الأدب على وجه التقريب . لم تستمر قراءتي للكتاب طويلاً. إذ وجدت الكتاب من مكتبة إنجليزية بطبعة فاخرة, وها هو كتاب الاعترافات بين يدي الآن, مع نهاية هذه السنة أجد هذا الكتاب أكثر الكتب تأثيراً عليّ حتى الآن!





اعترفات تولستوي .. صدر هذا الكتاب عام 1879م, أي بعد صدور آنا كارينينا بفترة ليست بالطويلة. إن كان تولستوي أراد أن يكون ليفين هي الشخصية التي تعبر عن أراءه الفكرية بشكل يحمل بعض الغموض, فإن كتاب الاعترافات أزال هذا الغموض بشكل كبير, وأعلن صاحبه أن هذه الشخصية هي جزء منه, جزء من قلبه الذي بحث عن الله والإيمان, ولا يعرف حتى الآن أي طريق سيسلك لتحقيق هذا الحلم.

أني أرثي بحق للمكتبة العربية التي لا تحتفل بمثل هذه الكتب المليئة بالروحانية والنور. كان تصوري أن الكتاب مملاً كعادة بعض المؤلفين حين يكشفون عن أنفسهم ويعرون أرواحهم أمام الملأ, مع تولستوي الأمر مختلف : سأكشف لك كل أسرار حياتي لكي تعلم, أن رحلتي للبحث عن الله الخالق ليست بالهينة. لقد حاول الكاتب في أعنف مراحل حياته الفكرية الإبتعاد عن أي شيء مادي قد يتسبب في موته, أنه يهرب من الحبال مخافة أن يشنق نفسه, وقاوم نفسه العاشقة للصيد, أن يمسك سلاحاً نارياً مخافة أن يطلق النار على نفسه, ويتخلص من هذا النار المحترقه في عقله, وقلبه!

تولستوي الشاب, في أولى مراحل حياته تحرر من كل ضروب العبادة والإيمان التي تعلمها من الصغر. الطبقة النبيلة التي ينتسب إليها كانت ذا تأثير عميق في تلك الفترة, يلخص تولستوي مركزهم بأن نور المعرفة والحياة قد أذاب قصور الإيمان المصنوعة من الشمع في أعماقهم, فأدرك فريق منهم حقيقة الأمر وتخلصوا من الإيمان, ولكن الفريق الآخر ظل متعامياً عن هذه الحقيقة فلم يشعر بها. بعد هذا التحليل لإيمان الطبقة النبيلة, يعترف تولستوي في بداية اعترافاته بأن الإيمان المغروس في أعماقه قد زال بشكل كليّ, ولم يكمل السادسة عشر حتى انقطع عن الصلاة. هذا التحول من الإيمان إلى الإلحاد تسبب بأزمة وحيدة هي الأزمة الروحية لكل حياة تولستوي: الله !

تولستوي لم ينكر وجود الله, ولكن لم يعرف من هو هذا الإله الذي لم ينكر وجوده. في عمر الخامسة عشر بالتحديد بدأ بقراءة كتب الفلاسفة . تحولت حياته بعد أن تخلص من كل ضروب الإيمان, إلى الحصول على أسمى مراتب الأخلاق الصالحة : الطموح, القوة, الحصول على الربح, الكبرياء, الغرور, الغضب والإنتقام. تلك كانت عقيدة هذا الشيخ الروسي العتيد. أصبح بإستسلامه لهذه الأهواء ممثلاً ومماثلاً لأبناء طبقته النبيله.

تولستوي يعري تلك الأيام السوداء من حياته :" قتلت الكثيرين في الحرب, بارزت الكثيرين لأفقدهم حياتهم, خسرت أموالاً كثيرة بالمقامرة, وأنفقت الأموال الكثيرة التي وصلت إليّ بأعراق الفلاحين, قاسياً عاتياً مع معاملة خدمي, لم أترك سبيلاً من سبل الفسق إلا وسلكته, الكذب, والسرقة, والزنا, والسكر, والتمرد, والقتل, كل هذا جزء من حياتي في تلك الأيام, فليس في قاموس الجرائم جريمة واحدة لم أرتكبها, ولكنني كنت مع كل ذلك مكرماً محترماً من أبناء عشيرتي".

هذه الاعترافات مخيفة, كيف برجل وصل إلى قمة مجده الأدبي أن يعلن بصراحة أن كل هذه السيئات قام بإرتكابها, هل هي تخاريف رجل كبير في السن, أم كشف معالم النفس أمام الجميع .. كل هذا لا يهم, المهم هو الطريقة التي يكشف فيها تولستوي سيرة حياته المظلمة. هو يسلك طرق الظلام ليصل إلى النهاية, إلى النور. هو لا يفصل سيرة حياته المظلمه كما فعل محمد شكري في الخبز الحافي, هي فترة وأنقضت, ولا سبيل لإعادة أحيائها من جديد. تمنيت لو أن محمد شكري سلك طريق تولستوي في كتابة السيرة الذاتيه, وقدم مختصر حياته المظلمة, ثم يرحل بعيداً إلى الطريق الذي أنار إليه معالم الحياة كما في الجزء الثاني من ثلاثيته " الشطار ".


تولستوي المفكر, والمقبل على الأدب والمجد يسلك في السادسة والعشرين منهج الأدب والشعر لكي يعوض فقدان الإيمان الذي تخلص منه. لقدر ارتحل إلى بطرسبروغ وانضم إلى جماعة الكتاب : تلك الجماعة التي تؤمن بأن واجبهم في الحياة كمفكرين فنانين وشعراء أن يعلموا الناس الطريق الصحيح, وتصبغ أفكارهم بصبغة أفكارهم. أني أستغرب كيف سقط تولستوي تحت فكر هذه الجماعة وهو الهارب من سلطة رجال الدين الأرثوذكس. السبب لن يكون إلا في الفكرة الشعرية الجذابه, والشعور بالفراغ الروحي. لو تخلص تولستوي من الشعور بالجاذبية تجاه هذه الجماعة, وفكر مثلما يفكر في السنة الثالثة لأعلن كفره بهذه الجماعه المتخاصمة, الماكره : "الأكثرية الساحقة منهم في مستوى أكثر انحطاطاً من المستوى الذي عاش فيه رفقائي في العسكرية, كنا نمثل رواية كامل أبطالها مجانين من الدرجة الأولى".

يطلق على هذه الفترة من حياة تولستوي الفكرية, مرحلة الفن والشعر. لم تستمر هذه المرحلة أكثر من ستة سنوات, لم يتقبل عقله فكرة تعليم وتثقيف الناس وهو لا يعرف حتى الآن ما هية الخير والشر, ومدى ارتباط الاخلاق بالخالق. المرحلة الثانية هي المرحلة التقدمية. تأثيرات هذه المرحلة بدأت بعد مغادرته إلى أوروبا للتعرف على عظماء مفكريها وعلمائها. من أبسط الأشياء تولد ردات الفعل العنيفة. فكرة العيش من أجل الناس والتقدم العام فكرة جذابه للجميع, لا يستطيع أحد أن يرفض فكرة التعليم والتثقيف من أجل الجميع, هدف العيش الآن أصبح من أجل التقدم العام. ولكن منظر الرؤوس الساقطة على الأرض بسبب آلة الإعدام ضرب هذه الفكرة في وقت حرج, ما من نظرية محددة ولا عقائد مقررة من بدء الخليقة إلى الآن تبرر قطع الرؤوس حسب تعبيره. ثم موت أخيه ديمتري المرير, الذي مات مريضاً وهو لا يعلم لماذا عاش في هذا العالم, جاهلاً الموت كل الجهل, رغم قلبه الرقيق, وهدوئه ورصانته.

التقدم يجب أن ترافقه الحرية والعقل, قد يكون هذا التبرير هو طمس لمعالم الرأس الذي سقط على الأرض, والنفس التي رحلت ولا تدري ماهو الموت على حقيقته. عاد تولستوي إلى روسيا بعد تحرير العبيد. أصبح قاضياً, وعمد إلى تعليم غير المتعلمين بواسطة المدارس والصحافة. مرت حادثة ساعدته على نسيان أمنيته مؤقتاً : زواجه من صوفيا آندريفنا. قادته السعادة التي وجدها في حياته الزوجيه إلى الهرب من السعي وراء إدراك معنى الحياة. على هذه الصورة عاش خمسة عشر سنة, ولم يعرف أن في نهاية هذه السنين ستعود هذه الأسئلة بشكل أكبر وأعنف : "لماذا تعيش؟ وماهي الغاية من حياتك؟". هذه الأسئلة القلقة كانت تمطر عليّ بكثرة عند قراءة آنا كارينينا عبر شخصية ليفين. :" حسن وجميل, لدي مساحة أرض كبيرة, وثلاثمائة حصان, و .. لكن مالفائدة من كل هذا؟ مالفائدة إذا صرت أشهر من فولتير وبوشكين وموليير وغوغول .. هذا جميل ولكن ماذا بعد؟". هذه الأسئلة كالشبح القاتم يردد بصوته الراعب, لماذا تعيش! هي ليست أسئلة صبيان بسيطة, بل هي الحقيقة الشاملة لأعمق أسرار الحياة البشرية, وهو عاجز أن يجيب على أي سؤال من هذه الأسئلة :
"لم يبقى لي عذر للحياة, يجب أن أموت!".

الموت : أحد الثيمات المفضلة في كتابات تولستوي الأدبية. هو يختلف عن غيره من أدباء العالم في تصوير الموت. فيكتور هيجو يبجل الموت عند موت أحد شخصياته, الموت هو طريق الحرية والكمال الأعظم, ولذلك يصوره بشكل هادئ وسلس. تولستوي عند تصويره للموت يستخدم كل أسلحته المرعبه لتصوير هذا الأسود القادم. أتذكر جيداً تلك الصفحات التي أفردها لموت نيقولاي في رائعة آنا كارينينا, كانت أكثر من ما يقارب ثلاثين صفحة كلها تعذيب وموت لهذا الرجل المريض بالسل, ولكن الأعنف .. الموت الحقيقي, من يريد أن يعرف الموت الحقيقي عند تولستوي عليه أن يقرأ تلك القطعة الخالدة من أدبه, عندما يصور آنا وهي تائهه, خارجة عن نطاق الوعي, تخرج من المنزل وهي تلعن عشيقها التي ضربت من أجله مجتمعها وعائلتها عرض الحائط, ثم تنظر إلى أحوال الناس في الطريق إلى محطة القطار, تضحك وتبكي على حالها, وفي الأخير, عند آخر ظهور لهذه الشخصية الجحيمية, لن تقول أكثر من : ياألله. بقدر قوة الألم في هذا التصوير: من أين لتولستوي هذه القدرة المرعبة على تصوير هذا الموت بهذا الشكل العنيف والدرامي؟

للإجابة على هذا السؤال يجب العودة لاعترافات تولستوي التي كشفت حقيقة الموت لديه. في فيلم "Anna Karenina - 1997" يقتبس المخرج حكاية من التراث الشرقي القديم كنقطة بداية لهذه الملحمة. يبدأ الفيلم بتصوير الموت بطريقة رمزية, كان ليفين يهرب في الريف, يحاول النجاة بنفسه من الذئاب التي تطارده, والتي هي بدورها الأسئلة المقلقة في الرواية والاعترافات, ثم يسقط في حفرة, ويتمسك بجذع شجرة قبل السقوط, ولو سقط, لوجد الموت الذي يفر منه, لأن أحد الحيوانات المفترسة اتخذ من الحفرة مصيدة للبشر. قبل هذا المشهد يبدأ السرد في الفيلم من ليفين, يقول بما معناه " دوماً في أحلامي أتعلق بفرع شجرة, وأدرك تماماً أن الموت حتما ينتظرني, الخوف من الموت بدون معرفة الحب, كان أقوى من الخوف من الموت نفسه. أعرف الآن أني لم أكن لوحدي في رعب هذا الظلام, وكان أيضاً خوف آنا كارينينا" . هذه الشجرة التي تعلق بها يوردها تولستوي في اعترافاته, فيما هو متمسك بجذع الشجرة يرى جرذين يقرضان الجذع بكل همة ونشاط, فكر هذا الرجل المتسك بجذع الشجرة بأنه ساقط لا محالة, ولكنه نظر في الوقت نفسه بضع نقاط من العسل على جذع الشجرة, فمد لسانه وشرع يلحسها متناسياً شقاءه كله !

" هكذا أنا أتعلق بغضن شجرة الحياة, عارفاً أن تنين الموت ينتظرني, وهو على استعداد ليمزقني ارباً ارباً. كانت فكرة الإنتحار تخطر لي في كل يوم وحين, إنني أكره الحياة ولا أريد أن أعيش! ولكن خوفي من الموت كان يضطرني إلى استنباط الحيلة ضد نفسي لكي لا أضع حداً لحياتي. كانت حياتي أضحوكة جنونية موجهة إلي من شخص لا أعرفه, ومع أنني لم أكن أعترف بوجود هذا الشخص الذي يقولون أنه خلقني, فإن النتيجة القائلة بأن هذا الشخص قد ضحك عليّ بجنون وسخرية عندما خلقني في هذا العالم كانت تظهر ليّ كأنها أصدق ما في الحياة من النائج الطبيعية".

- من أنا ؟ وما هو الوجود ؟
- كل شيء . ولا شيء !
- لماذا وجدت هنا؟
- لا أعرف !
- ما مصير حياتي ؟
- لا شيء !

إنه أشبه برجل ضائع في غابة, يقبل على سهل فسيح, فيتسلق شجرة وينظر من أعلاها سهولاً واسعة لا تقف العين على آخرها, ولا مأوى يلجأ إليه فيها, يرى كل هذا فيدرك أن ليس فيها أحد ينقذه, فيرجع إلى ظلمة الأسئلة. انتهت مرحلة الشعر والفن, ومرحلة التقدم, وبدأت مرحلة الفلسفة للإجابة عن هذه الأسئلة, فأي أجوبة تلك التي تقدر على نسف هذه الأسئلة وطمس معالمها من قلبه بشكل كامل. إن الفلسفة بكامل علومها لا تستطيع أن تقدم له أجوبه أكثر مما أجاب عليه. لو كان الأمر متعلق بأحد مسائل فروع المعرفة البشرية لوجد إجابة عن : التركيب الكيميائي للمواد, حركة الشمس, الذرات الصغيرة. ولكن الجواب عن تفسير معنى الحياة العام لم يكن إلا هروب من السؤال نفسه :" الوجود أبدي وخالد وغير مدرك, وحياة الإنسان جزء صغير غير مدرك من الوجود الكلي الغير مدرك". بأجوبتها الغارقة في التحليل الفلسفي تبرهن أن هذه العلوم لا تقدر أن تجاوب على هذا السؤال الكبير, بل تقضي على كل رجاء في القلب لمعنى يستحق أن يعيش من أجله الإنسان.

بعد أن فشل في كل المراحل: الفن والشعر, التيار التقدمي, الفلسفة, شرع ينشد الإجابة من نفس المكان, من الحياة نفسها! ولكن كيف بوجود أبناء هذه الطبقة النبيلة البعيدة كل البعد عن إثارة هذه الأسئلة فقط. إنهم يهربون منها بشعور أو بغير شعور عبر أربعة وسائل حسب تصنيف تولستوي: الوسيلة الأولى الجهل الذي يضرب أسس هذه الطبقة, هم لا يرون الوحش الذي ينتظرهم ليفترسهم. وسيلة الهرب الثانية هي التي يلجأ إليها الشهوانيون وعباد أهوائهم الجامحة, على هذه الصورة يقضي أبناء هذه الطبقة, توضح لهم الجميل وتحجب عن أعينهم القبيح. الوسيلة الثالثة هي القوة والعزم, عدم الوجود خير من الوجود, يجب وضع حد لهذه الحياة بالإنتحار:" حبل حول العنق أو ماء يغرقون فيه, أو قطار يقفون في طريقه فيذهب بهم ويريحهم من شقائهم, أن عدد الذين يقدمون على هذا العمل من أبناء هذه الطبقة يتزايد في كل يوم". والوسيلة الرابعة هي الضعف, الإستسلام لهذه الحياة رغم معرفتهم بأنها عقيمة لا جدوى منها. بمثل هذه الطرق ينقذ أبناء الطبقة الراقية ذواتهم من تناقض مزعج في الحياة.

ينقسم الكتاب في نهاية الفصل السابع إلى قسمين, القسم الأول مخصص للبحث عن إجابة لهذا السؤال؟ ما هي الحياة؟ ولماذا أنا موجود؟ . والجزء الثاني مخصص للأمنية الكبيرة: أين الله ؟

إن كان تولستوي بطبقته الراقية تعيش هذا الخواء الفكري, فما هو المعنى الذي أعطته الحياة للملايين من الناس, الذي عاشوا ويعيشون في هذا العالم؟ أستطيع أن أقول الآن أن شخصية ليفين كانت تعبر عن تولستوي بكل مهارة واتقان, وكما كتب هو عن نفسه في اعترافاته. الصراع النفسي والروحي يشتعل سريعاً ويثور في أوقات مفاجئة عند ليفين. من قرأ كلمات الفلاح البسيط في رواية آنا فسيعرف بدون أي قراءة لهذه الاعترافات كيف اهتدى تولستوي إلى معنى الحياة :" إنه يعيش من أجل روحه, ولا ينسى الله" .. بالمقارنة بين طبقة تولستوي وطبقة الفقراء والعمال, وجد هذا الرجل المتعطش لليقين شيئاً يختلف كل الإختلاف. حياة الفقراء والعمال مليئة بالتضحية والألم, الإنتحار معدوم فيما بينهم, عن طريق الألم يعرف تولستوي معنى الحياة. هذه المعرفة التي لا سلطان للعقل عليها هي الإيمان الذي لم يتقبله تولستوي. كان مشوشاً فيما مضى لأن المعرفة التي يقيمها العقل تنكر الحياة, والمعرفة التي تمنحها الحياة تنكر العقل, ولكن أكثرية أبناء الإنسان يتمسكون بمعرفة لا أثر للعقل فيها, وهذه المعرفة تثبت لهم أن للحياة معنى سامياً!

في جميع أبحاث تولستوي كان يقابل المحدد بالمحدود, وغير المحدود بغير المحدود, ولذلك كانت النتيجة التي لا بد منها كما يحدث في الرياضيات. يعلن تولستوي أن الأجوبة التي يقدمها الإيمان مهما خالفت أحكام العقل وتمردت على شرائعه فهي تمتاز بأنها تقدم لكل سؤال علاقة بين المحدود وغير المحدود, وبدون هذه العلاقة لا يمكن الحصول على جواب. أصبحت الأجوبة الآن سهلة المنال :

- كيف أعيش؟
- تحت شريعة الله
- هل بعد حياتي شيء حقيقي ثابت؟
- عذاب أو راحة أبدية
- هل في حياتي معنى لا يستطيع الموت أن يذهب به ؟
- نعم, وهو الوحدة مع إله غير محدود في الفردوس.

" مهما تعددت أنواع الأجوبة التي يقدمها الإيمان للإنسان, فإن كل واحد منها يجعل لحياة الإنسان المحدودة معنى غير محدود, معنى لا يزول ولا يفنى مهما اجتمعت لمحاربته جيوش الآلام والوحدة والموت. الإيمان الحقيقي الكامل هو معرفة معاني الحياة الإنسانية معرفة تحمل الإنسان على محبة الحياة والمحافظة عليها. الرجل الحي يؤمن بشيء, وبغير الإيمان لا يستطيع بشر أن يعيش في هذا العالم, لأن الذي لا يؤمن بأن في الوجود غاية يعيش لأجلها هو ميت بالحقيقة ".

- من أنا ؟
- جزء من غير المحدود

تلك هي القضية بأكملها, ولكن أي إيمان سيتخذه تولستوي لنفسه, إيمان رجال الدين الأرثوذكس؟ أم إيمان الفقراء الذي كان فعالاً في حيرته المجنونة؟ يقول تولستوي في أحد رسائله المنشورة:" بعد سنتين من هذه الحياة مع الشعب, حدث في تحول. إن حياة أمثالي من الأغنياء والمتعلمين لم تبعث في نفسي إلا الإشمئزاز, وبدت لي فارغة من المعنى. ظهرت لي جميع أفعالنا ومشاغلنا الفكرية وفنوننا وعلومنا بمظهر جديد. حينذاك استطعت أن أرى الأشياء جميعاً بوضوح".

سأفصل دخوله في حياة الفقراء والإيمان بهم لأنه جزء مهم في مسيرة تولستوي المعيشية والفكرية. تولستوي في كتابه حياة محمد وشيء عن الإسلام يورد بعض الاحاديث في البداية التي تدلل حب الأنبياء للطبقة الفقيرة, وأن أكثر الناس اتباعاً للأنبياء هم الفقراء, يقول النبي محمد عليه السلام : اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة {3}. وفي حديث أخر يقول لا تميتوا القلب بكثرة الطعام والشراب فإن القلب كالزرع يفسد إذا كثر عليه الماء, وفي حديث أخر : ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء. كان تولستوي معجباً بحكمة النبي محمد عليه السلام, ومن خلال نظامه المعيشي, ودراسة حياة الفقراء العامة وعقائدهم ترسخ في أعماق لبه بأن الإيمان الحقيقي كائن في قلوب هؤلاء الفقراء, وأنهم يعتقدون في أعماق نفوسهم أن هذا الإيمان جزء مكمل لحياتهم وبدونه لا يجدون من معنى لوجودهم على الأرض. إنهم يفرحون بالحياة, راضين بقسمتهم, ثائرين أمام أوجاعهم وأمراضهم, يعيشون ويمرضون ويموتون من غير أن تفارقهم الثقة بحكمة الحياة. لأجل كل هذا أحبهم تولستوي ودنا منهم, فأصبح يتعلم من حياة الفقراء, فآثر اقتفاء خطواتهم والتحلي بأخلاقهم.

" إنَّ أكثر الأشياء أهمية على هذه الأرض عند كانط هو النظام الأخلاقي الموجود بداخلنا، أو التلقائية الذاتية الأخلاقية the moral autonomy التي تميّز الإنسان و تعطيه قيمته الإنسانية. إنها التلقائية الذاتية التي تجعلُ الفرد يستشعر حريته الكاملة في اختياره الأخلاقي، و رغم ذلك يقوم بالإلتزام بنظامه الأخلاقي الذاتي. إنّ هذا النظام الأخلاقي الداخلي هو أهم شئ في الحياة، و بدونه لا يمكن أن تقوم حضارة أو أي شكل من أشكال التواصل الإنساني" {4} رأى تولستوي بوضوح - كما عبر كانط - أن على الراغب في إدارك معنى الحياة أن يعيش هو نفسه أولاً حياة بعيدة عن الشر ممتلئة بالمعاني الصالحة, وحينئذ تستنير بصيرته فيرى المعنى الحقيقي لحياته. يجب على الذي يتكلم عن الحياة أن ينظر إليها نظرة عامة, ولا يقصر نظره على حشرات دنيئة عليها. إن في الوجود إرادة كلية تدير كل ما فيه من الكائنات, وهذه الإرادة الكلية لا عمل لها سوى العناية بحياتنا وبالوجود الذي نعيش فيه. لكي نرجو إدراك غاية هذه الإرادة يجب قبل كل شيء أن نعمل الواجبات المفروضة علينا, إن لم أقم أنا بقسطي من الواجب في الوجود, فإنني لن أعرف شيئاً عن هذه الإرادة ولا عن الوجود الذي أنا جزء منه!

جميع هذه الاعترافات ورحلة البحث عن معنى الحياة والوجود لم تكن إلا بوابة العبور لتحقيق أمنية تولستوي الكبيرة: الله. ما يدفعه للبحث عن الله ناتج من شعور قلبي, عاطفة قلبية تدفعه للبحث عنه. إذا كنت أنا موجود فلا بد من علة لوجودي, ماهي هذه العلة أو القوة؟ وما هي العلاقة التي بيني وبين الله؟ لم يجد تولستوي رغم انضمامه للفقراء إلا الجواب البسيط :"هو الخالق بارئ كل الكائنات". عادت إليه الشكوك من الجديد, وشرع يصلي بحرارة للإله, بيد أن افراطه في الصلاة لم يزده إلا ثقة بأن صلواته لم يسمعها أحد, ولذلك صرخ من أعماق قلبه واليأس يغمره لعدم مقدرته على الإهتداء إلى الإله الذي يفتش عنه :

" يارب أرحمني وخلصني .. أيها الرب العظيم .. ياإلهي العزيز أنقذني " !

مثل هذه الصرخات الحية صورها تولستوي كذلك في رواية آنا, عندما يصرخ ليفين وهو يسمع عذابات زوجته عند الولادة, وهو الملحد الغارق في الشك حتى في وجود الله نفسه يصرخ من أعماق قلبه :

" يالله أرحمني ".

وهو الذي لم يرفع رأسه منذ سنوات, رفعها من أجل ظهور معجزة هذا الطفل الذي لم يكن قبل ساعة في هذا الوجود. كيف ظهر هذا الطفل إلى الوجود؟ معجزة؟ نمو طبيعي في جسم الإنسان؟ حين أقرأ ليفين وهو ينتظر زوجته التي تعاني آلام الولادة يظهر لي تولستوي الكهل الكبير وهو يتساءل هذه الأسئلة التي يعرف أجوبتها من الطفولة, حين كان يرضع من ثدي أمه :

" أليس هذا دليلاً على أن هناك أماً ولدتني؟ وأعتنت بتربيتي وأطعمتني؟ أين هي تلك الأم؟ أنني لا أستطيع أن أتعامي عن رؤية هذه الحقيقة, وهي أن كائناً أحبني وكان السبب في وجودي؟ هو - بلا شك - الله. هو موجود بالحقيقة وفي كل لحظة أعترف بوجوده, أشعر بأن حياتي قد تجددت, وإيماني بما في الوجود قد نهض من رمسه. إلا أنني لا أستطيع الإيمان بالإله المثلث الأقانيم, لقد ذاب كالجليد أمام عيني. ولكن من أين لي بالشعور الذي يعمل في قلبي ويحملني إلى البحث عن الله! هذا الشعور يختلج في أعماقي. أنني لم أعش في ما مضى من عمري إلا عندما كنت أؤمن بالله. كلما آمنت بالله أشعر بالحياة. كلما أعرضت عن هذا الإيمان أشعر بأنني ميت بالحقيقة. ما أنشده هو الكائن الذي لا تستقيم الحياة بدونه! الله هو الحياة. عش لتسعى إلى الله, لأن الحياة لا تكون بدون الله, بمثل هذا آمنت أخيراً من أعماق قلبي, فشعرت بقوة الحياة الحقيقية. ولم يفارقني هذا النور الذي أشرق على حياتي حتى اليوم! رجعت بالفكر إلى الماضي البعيد, إلى أيام شبابي, آمنت بأن واجب الحياة تقوم بسعي الإنسان ليصير أفضل مما هو عليه, ويعمل ما هو عدل في شريعة هذه الإرادة الكلية, هذه الإرادة التي لا تظهر إلا في الصلاح الذي أجمعت عليه الإنسانية. رجعت إلى الإيمان بالله, وبالكمال الأدبي, وبالتقليد الذي يمنح الحياة معناها الحقيقي".

اعترافات تولستوي, وتحقيق الأمنية لا تنتهي عند هذا الحد. كان هنالك شيء وحيد حول هذه الاعترافات أكسبها شهرة عالمية لم يصل إليها أي كاتب في زمانه. ألا وهي علاقة المؤمنين بالكنيسة ورجال الدين. عندما عاد إليه الإيمان من جديد شارك تولستوي البسطاء في صلواتهم, ومناولة الأسرار المقدسة, والصيام. لم يخلب عقله في القداس الديني سوى هذه الجملة " لنحب بعضنا بعضاً بعزم واحد" وكل شيء, بما فيها الاعتراف بالأب والإبن والروح القدس فأعرض عنها لأنها غير طبيعية. كان الإيمان في بدايته في حياة تولستوي, مما أجبره على مسايرة الكنيسة وعدم الاعتراض على أي شيء قد يعيد إليه أيام الشك الرهيب.

بعد أن عكف على تعلم العبرية واليونانية، ليتّسق له أن يطلع على المنبع الذي صدرت عنه مختلف ترجمات العهد القديم والعهد الجديد. قارن بعضها ببعض وأشار إلى الغموض الذي يحيط ببعض النصوص الدينية وما نتج عن ذلك من تفسيرات متناقضة وانتهى إلى القول أن المسيح نفسه، ليس بإله، ولا يمكن أن يكون سوى إنسان بريء من السمة الإلهية التي يقرن إليها. وهاجم الطقوس الدينية، واتهمها بأنها موضوعة مزيفة، ونظر إلى الكنيسة نظرة تحدٍ ومناجزة، فقد رأى كيف تغلّف القشور الكاذبة فكرة الإيمان، وشرع يفوّق سهامه اللاذعة إلى الكنيسة داعياً إلى دين منزه عن التمويه والتضليل.

نتج عن هذه الأراء الحادة التي كانت تؤذي رجال الكنيسة، قرار اللعن والطرد من الكنيسة الصادر من المجمع الكنسي الأرثوذكسي بحق تولستوي. أولى القضايا التي أوجبت انفصاله عن الكنيسة الأرثوذكسية هي علاقة الكنيسة الأرثوذكسية مع بقية الكنائس المسيحية, كالكاثوليكية والبروتستانت. شغف تولستوي العظيم بالإيمان قاده إلى التعرف بأساتذة كثيرين من طوائف متعددة. أراد أن يكون أخاً لهؤلاء الرجال المؤمنين المخلصين في إيمانهم, لكن النتيجة .. النتيجة أتت مخالفة على عكس ما توقع؟

العقائد التي يخيل أنها تعد بوحدة جميع الناس, بإيمان واحد, ومحبة واحدة, بشخوص أفضل وأعظم ممثليها من رجال الدين يعيشون في الكذب والضلال, مقدرتهم على الحياة حسب تصور تولستوي مستمدة من الشيطان وليس من الله. الإهانة الصادرة من رجل من طائفة " أ " ضد رجل من طائفة " ب " يتهمه فيها بأنه يعيش على الكذب هي أعظم إهانة يستطيع الإنسان أن يوجهها إلى أخيه الإنسان. ممثلي الطوائف هؤلاء يفتشون عن خير الوسائل التي تمكنهم من القيام بواجبات بشرية يبيضون فيها وجوههم أمام الناس, ويحفظون سلطانهم من الإندثار.

النقطة الثانية التي أوجبت تولستوي انفصاله عن الكنيسة الأرثوذكسية, هي العلاقة بين الكنيسة والحرب. كان قتل المسيحي للمسيحي باسم المسيحية هي الجريمة بعينها ويجب أن تدان :" زعماء الكنيسة كانوا يقبلون كل جرائم القتل هذه كأنها نتائج لا بد منها للمحافظة على الإيمان. نظرت إلى كل ما يجري حوالي من الحوادث الفظيعة التي كان يقوم بها رجال يدعون المسحية فارتعدت من أعماق قلبي".


من أهم ما يقدمه تولستوي في اعترافاته بأن:‏
الحياة الروحية تُعاش لا تلقن.‏
وكسب الحياة يكون بخدمة الناس لا باعتزالهم.‏
وفهم الكتاب المقدس هو بحرية العقل ونقاء القلب لا بالترديد.

أقرب وصف فني درامي لهذه الاعترافات هي اللحظات الأخيرة من حياة تولستوي.

" اطلبوا إلى تولستوي أن يتوب عن أخطائه..تب إلى خالقك يا تولستوي.. قبل أن تمثل أمام المحكمة الربانية." تلك الرسائل والبرقيات لم تظهر إلا في اللحظات الأخيرة من حياة تولستوي, في سكة القطار! قبيل وفاته بدقائق قدم رئيس القساوسة، ومعه تكليف من القيصر بالدخول إلى الكونت تولستوي ليتلقى اعترافاته في ساعاته الأخيرة. ما إن سمعت صوفيا زوجة تولستوي بذلك حتى تركت مقصورتها متجهةً نحو مكتب ناظر المحطة :"لن أسمح لأحد أن يدخل على زوجي ليزوّر عليه فيما بعد ما لم يقُل.. اطردوا هذا القسيس من استابوفو".

طلب القس الدخول في غرفة تولستوي لتلقي اعترافاته قبل موته، لكن ساشا, ابنة تولستوي, خرجت بكراسة أبيها وهي تصيح في وجه الجميع: " اللعنة على من يريد أن يرغم أبي على ما لا يريد. إليك أيها المحافظ ما كتب أبي عن ذلك حين اشتد به المرض, واسمع أنت أيها القس المأجور, اسمعوا ماذا كتب أبي لتريحوا أنفسكم من تلقي اعترافاته, ثم أخذت تقرأ أمام الحشود التي صمتت احتراماً لكلمات الكاتب الكبير :



" حين يحوم الموت حول رأسي فلا أريد أن يقتحم لقائي مع ربي أحدٌ من رجال الدين, أريد أن أقترب من خالقي في فيضٍ من نور المحبة, وليس مع ثرثرة كهنوتية."

بعد كل هذا النور والتجلي الكبير من تولستوي, هل وصف دستويفسكي لتولستوي " بالمعلم الكبير " يحمل كل الحقيقة والصدق؟
هو معلم كبير بلا شك!





بعد ظهور الاعترافات أعلن ممثلو نقد علم الجمال, الذين باركوا العبقرية الفنية لكاتب "الحرب والسلم" و "آنا كارينينا" أن تولستوي الأخلاقي قد قتل تولستوي الفنان! وممثلوا الحركة الإجتماعية تحدثوا كذلك عن وجود إزدواجية بين تولستوي المفكر, وتولستوي الفنان! فأي حقيقة تلك التي أوجبت على ممثلي علم نقد الجمال والحركة الإجتماعية أن ينتقدوا تولستوي المفكر وداعية السلام, ويرثون تولستوي الفنان الذي قتل بعد الاعترافات حسب تعبيرهم؟ وما علاقة كل هذا بالفن والجمال؟

على أرض الواقع تولستوي قبل الاعترافات مختلف كل الإختلاف عن تولستوي بعد الاعترافات - في إطار الأدب بالتحديد-. إذا كان التغيير قد طال الفكر ونظام الحياة بشكل كامل, فما يضر الأدب لو تغير معه كذلك وأصبح مرآة لحياة هذا الروسي الكبير. الفن الذي أعلن ممثلوه أن تولستوي قتله يرى بعد الاعترافات أن الفن مبني على أن الإنسان الذي يتلقى بوساطة السمع أو البصر أحاسيس إنسان آخر، بوسعه أن يعاني من تلك الأحاسيس نفسها التي عاناها الإنسان الذي عبر عنها. إنه يعلن أن الفن اتجه للواقع وتخلى عن النظرة الرومانسية, وأصبح الفن يقوم بدور التوصيل والنقل والتعبير، والفن هو نشاط إنساني يكمن في أن يقوم إنسان ما بوعي وبوساطة إشارات خارجية معروفة، بنقل الأحاسيس التي يعاني منها، إلى الآخرين.

يرى تولستوي في كتابه "ماهو الفن" أن وظيفة الفن تتلخص في أن يبعث في المتلقي شعوراً يشبه الشعور الذي أحس به المبدع نفسه، ويرى أنّ انتشار العمل الأدبي هو مقياس لأصالته وجودته، أما اقتصار الفن على طبقة الأغنياء فدليل على زيفه وعدم أصالته، فالعمل الأدبي الغير المفهوم يشبه الطعام الشهي الذي لا يتقبله معظم الناس. العمل الأدبي الجيد هو العمل المفهوم من قبل الفلاح البسيط. ولذلك فهو يستبعد الأعمال الأدبية التي تسد فراغ الطبقات المترفة، والتي لا تخدم الفلاحين. ولا يكتفي تولستوي بذلك، إلى درجة أنه استبعد إحدى روائعه مثل آنا كارينينا لأن الفلاح لا يستطيع قراءة رواية تقع في ثلاثة مجلدات. فلجأ تولستوي إلى كتابة الحكايات الشعبية القصيرة المفهومة من قبل الفلاحين، فهو لا يطلب من الفلاح البسيط الارتقاء إلى مستوى الأدب الرفيع، بل يطلب من الأديب أن يكتب أعمالاً مفهومة من قبل الفلاحين. وبالتالي, فبرأيه أن الحكايات الشعبية البسيطة، وأغاني الفلاحين، هي أهم من روائع الأعمال الأدبية.‏

بعد قراءة اعترافات تولستوي بدأت بقراءة هذه المجموعة القصصية لتولستوي, سيروا في النور وثلاثة وعشرون حكاية " Walk in the Light & Twenty-Three Tales ". ينقسم الكتاب بين قصص قصيرة, وقصص طويلة, وحكايات للأطفال, وقصص من التراث الشعبي, ومن حكايات الجآن, وحكايات للسينما, وحكايتين مقتبسة من كتاب فرنسيين.

لا يوجد أجمل بعد أن تكتشف تولستوي المفكر بعد الاعترافات أن تتعرف على تولستوي الأديب عبر هذه المجموعة المذهلة. تولستوي ينزل من الأعلى, من الطبقة الراقية في أعماله الضخمة إلى الفلاحين والفقراء. إذا كانت الاعترافات هي الخط الفكري لتولستوي, فإن هذا الكتاب هو الخط الأدبي لهذه الاعترافات. جميع تساؤلات وحيرة تولستوي المطروحة في الاعترافات هي نفسها الموجودة في هذه القصص القصيرة المميزة. تولستوي موجود في بعض شخصيات هذه القصص, قصة "اصطياد الدب " ليست إلا مغامرة تعرض لها تولستوي نفسه عام 1858م, ثم بعد أكثر من عشرين سنة أقلع عن الصيد لأسباب إنسانية.

بشكل عام : لن أقول بأن القصص قد راقت لي, أو لم تعجبني بعضها, بل سأقول وأنا على يقين بأن هذه المجموعة القصصية هي أجمل ما قرأت في فن القصة القصيرة على الإطلاق. الأفكار العامة في هذه القصص محصوره في الجوانب الأخلاقية والإجتماعية, السعادة العائلية والزوجية, الإيمان بالله, والبحث عن الله, والتحلي بأخلاق المسيح والسير على طريقه. أعتقد بأن بعض القراء سوف يرفض أو يتحفظ على قراءة قصص مليئة بالوعظ الديني لديانة أخرى. أنا لم أجد ما هو مختلف في الوعظ القصصي لتولستوي بين الروح الدينية الإسلامية أو المسيحية. عناوين القصص بسيطة وتعطي تأويل محصور بالفكر الوعظي في قصص تولستوي مثل : سيروا في النور مادام لكم النور, الله يرى الحقيقة ولكن يتأنى, بم يحيا الإنسان, حيث تكن المحبة يكن الله, الشر يغري لكن الخير أبقى .. الخ. وفي مقدمات هذه القصص يقتبس تولستوي بعض الآيات من الإنجيل للتدليل على قضيته, وغالباً ما تكون هذه الآيات تدعو للخير والمحبة . قصة بما يحيا الإنسان مثلاً بدأت بست آيات من الإنجيل :" وأما من كان له معيشة العالم, ونظر أخاه محتاجاً, وأغلق أحشاءه عنه, فكيف تثبت محبة الله فيه؟ لا نحب بالكلام ولا باللسان, بل بالعمل والحق .. الله محبة, ومن يثبت في المحبة يثبت في المحبة والله فيه .. إن قال أحد إني أحب الله, وأبغض أخاه, فهو كذاب, لأن من لا يحب أخاه الذي أبصره, كيف يقدر أن يحب الله الذي لا يبصره؟ .. الخ

في قصة طريق النور يستخدم تولستوي أسلوب التوازي لإبداء التناقضات، سعادة بمفيليوس, وتعاسة يوليوس. في زمن أحد أباطرة روما الخمسة "تراجان" تجري حكاية هذه القصة في بداية صعود الديانة المسيحية. يوليوس في بداية القصة يطرح تساؤلات تولستوي في كتاب الاعترافات : من أنا ؟ إنسان يبحث عن السعادة ولم يجدها. يعتزم يوليوس الذهاب إلى مكان مخصص للمسيحيين حيث يقيم فيه صديقه العزيز بمفيليوس للبحث عن أسباب السعادة, وفي كل مرة يريد الذهاب إليه يصطدم بأحد المثقفين الرومان, الذي يصده عن طريقه ويرده إلى الفكر الروماني والحضارة الرومانية بفنونها وعلومها. السعادة موجودة في هذه الحضارة وليس في مكان أغلب سكانه ينكرون الذات حسب تصور هذا المثقف! القصة تحمل فكر فني وفلسفي رفيع, من يقرأ أعمال تولستوي الكبيرة السابقة سيجد روح تولستوي الروائية بكثرة, خاصة بالحوارات الفكرية المميزة التي يتميز بها هذا الروسي.

قصة أخرى من القصص الشعبية أثارت إعجابي, وهي قصة بم يحيا الإنسان؟ هذه القصة عميقة جداً. أسلوب طرح القصة - وهذا هو الشيء المثير - بسيط جداً وواضح. القضية في الحكاية رائعة جداً. القصة تدور في منزل سيمون الإسكافي, في طريق عودته يجد إنسان غريب جداً سيمائيته غريبه. يذهب هذا الغريب إلى منزل سيمون وتدور أحداث هذه القصة في منزل سيمون لست سنوات. هذا الرجل في الأخير لم يكن إلا ملاك عصى الله. كانت معصية هذا الملاك أن الله أرسله ليقبض روح أمراة مريضة, بعدما وضعت قبل ساعتين بنتين تؤامين. لم يطع الملاك إرادة الله, فعاد إلى السماء وقد أثاره منظر الأم وهي تجذب أطفاله إليها. حينها يؤمر هذا الملاك بالعودة للأرض لقبض روح هذه المرأة, ولكي يتعلم ثلاثة حقائق عميقة: ماذا يسكن داخل الإنسان؟ وما لم يعطه الإنسان ؟ وبما يحيا الإنسان ؟

قصة أخرى مثيرة بفكرتها وبنيتها القصصية, وهي قصة إيفان المغفل. إيفان رجل مغفل بكل ما تحمله الكلمة من معنى, طريق سعادته ونور حياته هي الفلاحة وعدم رد أي محتاج, أي محتاج أياً كان! يستطيع بفترة وجيزة أن يحكم مملكة كبيرة تضم أناس من أفكاره وشخصيته. إنه مثال للمسيح الروسي, يسير على خطى المسيح : باركوا لاعنيكم, صلوا لأجل اعدائكم ولأجل مضطهديكم, أحبوا من يبغضونكم, إذا لطمك أحد على خدك الأيمن, فحول له الخد الآخر, فتكون كاملاً, وإذا أجبرك أحد على السير معه ميلاً واحداً فسر معه ميلين. هل يستطيع إيفان أن يتأقلم مع عالم فيه من الشر الكثير؟ هذا ما ستجيب عنه القصة المليئة بالإثارة والسخرية, حين يغزو أحد الملوك أرض إيفان, ينتصر إيفان رغم أنه لم يملك أي قطعة سلاح, يعلن عليه الشيطان الحرب وينتصر مرة أخرى بجنود لا يحملون أي قطعة سلاح, في مواجهة الحروب تجد هؤلاء المغفلين ينشدون الأناشيد الشعبية. القصة فيها سخرية حادة وذكية, من قرأ رواية الأبلة لدستويفسكي سيجد شخصية إيفان المغفل مشابهه جداً لشخصية الأمير ميتشكن, الرجل الطيب, المسيح الروسي حسب تصور دستويفسكي.

{1} مكسيم غوركي - الأعمال الكاملة / دار رادوغا/ المجلد الرابع
{2} ذكرت هذه الإشادة في مقالة لدستويفسكي بعنوان "آنا كارينينا حقيقة ذات أهمية خاصة", في كتاب عودة الإنسان لدستويفسكي/ إصدار دار علاء الدين.
{3} يورد تولستوي في مقدمة كتابه حياة محمد وشيء عن الإسلام بعض الأحاديث عن النبي, مترجمة للروسية. بعض هذه الأحاديث غريبة وموضوعه, وبعضها صحيحة. الحديث الأول غريب ولم أجد له تصحيح.
{4} من مقالة للزميل علي بعنوان الجمال و الأخلاق عند كانط .

نسخة عربية غير كاملة لكتاب الاعترافات. (http://www.4shared.com/file/65205716/4a8c779d/_-_.html?dirPwdVerified=38806c21&signout=1)
كتاب سيروا في النور وثلاثة وعشرون حكاية (http://www.4shared.com/file/63409416/b795a05b/_-____.html?dirPwdVerified=38806c21&signout=1)
حكم النبى محمد , و شيئ عن الإسلام (http://www.4shared.com/file/63005984/51c614c3/_-________.html?dirPwdVerified=38806c21&signout=1)