تسجيل الدخول

اعرض النسخة الكاملة : مسألة مقامات – فهمي هويدي


queshta
07.08.2010, 13:02
صحيفة الشروق الجديد المصريه الاثنين 21 شعبان 1431 – 2 أغسطس 2010



مسألة مقامات – فهمي هويدي


(http://fahmyhoweidy.blogspot.com/2010/08/blog-post_02.html)



إذا استحق الشاب المسئول عن غرف مركب المعادى والمتسبب فى قتل 9 فتيات السجن عشر سنوات مع الشغل، فكم يا ترى يستحق صاحب عبّارة «السلام» التى قتل فيها أكثر من ألف شخص؟ كان ذلك أحد الأسئلة التى خطرت لى حين طالعت فى الصحف المصرية الصادرة أمس الحكم المتقدم الذى أصدرته محكمة جنح المعادى بحق الشاب على عويس الذى قاد المركب المنكوب. ذلك أننى حين وقعت الواقعة تذكرت على الفور قصة عبّارة السلام، وحرصت على أن أتابع بدقة تفاصيل القضية، خصوصا أن المتهم فى قضية مركب المعادى شاب ضعيف لا حول له ولا قوة، فى حين أن صاحب العبّارة رجل من علية القوم له نفوذه، فضلا عن أنه من رجال الحزب الوطنى الواصلين.

أعترف أن الذى دفعنى إلى تلك المقابلة أننى شاهدت يوم 27/7 صورة صادمة منشورة للشاب على عويس حين تم اقتياده لحضور الجلسة الأولى لنظر القضية. ذلك أن صاحبنا هذا الذى يبلغ من العمر 18 عاما ظهر محنى الظهر ومكبلا بأسورة حديدية، وقد انحشر بين اثنين من رجال الأمن مفتولى العضلات، كل واحد منهما تأبطه من جانب، بحيث لم يظهر منه غير وجه مذعور وذائغ العينين. بدا الشاب كما لو كان ذبيحة تساق إلى مسلخ، وليس مواطنا ماثلا بين يدى محكمة لتنزل عليه حكمها العادل.

ولم أفهم لماذا تهدر كرامته قبل أن يدخل إلى المحكمة، ولماذا لا يعامل كآدمى، حتى لو قررت المحكمة شنقه بعد ذلك. وقد تضاعف شعورى بالمرارة حين تذكرت كيف أن صاحب عبّارة السلام ظل مطلق السراح طوال أكثر من 40 يوما بعد وقوع الكارثة، ثم بعد أن دبر أموره ورتب أحواله سافر بعد ذلك إلى باريس معززا مكرما، وتأجل صدور قرار وضعه على قوائم الممنوعين وتوجيه الاتهام إليه مدة 24 ساعة، حتى ترك باريس وذهب إلى لندن محتميا بقوانينها التى لا تسمح بتسليم المجرمين، فى حين أن ثمة اتفاقية بهذا الخصوص مع فرنسا التى كان عليها أن تسلمه إلى مصر لو أنه وجه إليه الاتهام وهو على أراضيها.

أغرتنى المفارقة بأن أقارن بين الحالتين، إذ وجدت أن عبّارة السلام كانت متهالكة ولا تتوفر لها معدات السلامة وحملت بأكثر من طاقتها، وهى ذات الثغرات التى وجدتها المحكمة فى قارب المعادى. كما لاحظت أنه تم القبض على الجانى بسرعة فى حالة المركب، الأمر الذى قطع الطريق على محاولة إخفاء الأدلة أو التأثير على الشهود.

أما فى حالة عبّارة السلام فقد أشرت توا إلى أن صاحبها ترك مطلق السراح طوال أكثر من أربعين يوما، قبل أن يهرب إلى الخارج. ثم إن محاكمة الشاب على عويس تمت فى حضوره ولم تستغرق أكثر من جلستين. أما قضية العبّارة فقد كانت المحاكمة فيها غيابية، واستمرت 4 سنوات، ولذلك فإن حكم الأول كان واجب النفاذ، فى حين أن الحكم الغيابى، الذى يعد إجراء تأديبيا يسقط بالتقادم بعد ثلاث سنوات، والقريبون من قضية العبّارة يعرفون جيدا أن طول مدة المحاكمة وفر فرصة مواتية للتلاعب بالشهود وتغيير أقوالهم، فى حين أن شيئا من ذلك لم يحدث فى حالة مركب المعادى.

أرجو ألا أفهم خطأ. فليس عندى أى تبرير أو دفاع عن الجريمة التى وقعت فى النيل عند المعادى.
لكن ما همنى أمران، أولهما احترام كرامة الإنسان حتى وإن كان متهما، وثانيهما ذلك التفاوت فى معاملة المتهمين، الذى يؤدى إلى سحق الضعيف وتدليل الأكابر من أهل الجاه والسلطان. وكانت النتيجة أن المحكمة أصدرت حكما رادعا على الأول جراء استهانته بأرواح البشر ــ كما ذكر منطوق الحكم ــ فى حين أن ذلك لم يحدث فى حالة استهانة صاحب العبّارة بأرواح أكثر من ألف من البشر. فعوقب الأول المتسبب فى قتل الفتيات التسع بالسجن عشر سنوات حضوريا، وعوقب من تسبب فى قتل ألف بسبع سنوات غيابيا.

فى تفسير المفارقة استبعدت احتمالا خطر لى من وحى الأجواء الراهنة التى أصبح فيها صوت الكنيسة عنصرا ضاغطا على السلطة، خلاصته أن المحكمة استخدمت أقصى العقوبة بحق قائد مركب المعادى، لأن الغرقى كن فتيات قبطيات فى رحلة نظمتها لهن كنيسة مار مينا، وقد خشيت الحكومة أن يتظاهر الأقباط إذا جاء الحكم دون الحد الأقصى. أما فى حالة ضحايا عبّارة السلام، فأغلبهم من المسلمين العائدين من العمرة والعاملين بالسعودية. ولذلك كان أمرهم مقدورا عليه.

وجدت ذلك الاحتمال مبالغا فيه. ورجحت أنها فى النهاية مسألة «مقامات»، ينطبق عليها منطوق الحديث النبوى الذى يقول: إنما أهلك الذين كانوا من قبلكم أنهم إذا سرق فيهم الشريف تركوه. وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد. وهو تفسير أصابنى بالذعر، لأننى ما إن وقعت عليه حتى قلت: أيمكن أن يحل بنا بسبب من ذلك هلاك أشد وطأة مما نحن فيه؟!