الاشبيلي
05.06.2010, 12:46
لماذا رفضت الماركسية ؟
لمصطفى محمود
الفصل الأول
حينما بدأت أكتب في الخمسينيات كانت الماركسية هي موضة الشباب الثائر في ذلك الوقت وكنا نقرا منشوراتها في نهم فتحرك مثالياتنا بما تعد به من فردوس أرضي وعدالة ورخاء وغذاء وكساء للعامل والفلاح ومحاربة للإقطاع والاستغلال وتحرير للجماهير الكادحة .
وكانت موسكو تبدو لنا في ذلك الحين الكعبة الأم لهذا الدين الجديد الذي يشع الخير والرفاهية لكل من يدور في فلكه .
وكانت أول صحوة لنا من ذلك الحلم حينما سافرنا إلى الخارج ورأينا الخراب والبؤس والوجوه الكئيبة المتجهمة في المجر ورومانيا وألمانيا وكافة البلاد الشرقية التي تجرى في هذا الفلك وبحثنا عن الرخاء والرفاهية والحرية والفردوس الارضى فلم نجد له أثرا .
وكانت الصدمة الثانية الأعظم حينما فتح خرشوف ملف ستالين وأعلن على رؤوس الإشهاد المظالم التي ارتكبها ستالين والملايين من العمال والفلاحين والمثقفين الذين قتلهم في السجون والمعتقلات وأعدمهم بالرشاشات وألقاهم للموت في جليد سيبيريا وأسلمهم لآلات التعذيب بين يدي الجلاد الرهيب بريا .
ويومها قالوا لنا انه التطبيق
الذنب في التطبيق السيئ ولكن النظرية بريئة مبراة من هذا كله .
واحتاج الأمر منى إلى سنوات من القراءة والدراسة والعكوف على المجلدات الأصلية للمذهب لكي اكتشف أن الفساد ليس في التطبيق ولكن الفساد في المذهب نفسه وان تلك الأفكار الثورية لم تكن أكثر من تحشيد وتحريض ودفع لكتل الجماهير نحو ثار تاريخي يخرج العالم من ظلم ليلقى به في ظلم أفدح واشمل واعم .
يقول ماركس بان التاريخ عبارة عن تنازع مصالح مادية ويرى أن التاريخ يتحرك الىالامام بدفع الصراع الطبقي بين السادة والعبيد وكلما تغيرت أساليب الإنتاج تغير معها شكل المجتمع وحضارته وفنونه .
جاء المجتمع الزراعي فجاء معه بفنونه وآدابه وتقاليده وأديانه وكانت وظيفة هذه الأديان هي الحفاظ على مصالح السادة والإقطاعيين . ثم جاء عصرا لصناعة والبخار فجاء معه بفنون وأفكار وأخلاقيات جديدة تحفظ للسادة امتيازاتهم . ثم تطور العلم وتطورت معه أساليب الإنتاج وجاء الأوان أخيرا ليقلب العمال نظام العالم ويأتون بأفكارهم وأخلاقياتهم ودينهم (الشيوعية) الذي يكتسحون به الأديان المتخلفة الموجودة ويقودون العالم إلى مجتمع لا طبقي يمتاز بالوفرة في كل شيء ويعمل فيه كل فرد على قدر طاقته ويأخذ على قدر حاجته بلا ظلم وبلا استغلال .
وكانت وسيلة ماركس إلى ذلك تأميم وسائل الإنتاج وانفراد طبقة العمال بالديكتاتورية والسلطة .
ولا يرى ماركس أثرا لأي عوامل أو قوى غيبيه أو إرادة إلهية وراء هذه العوامل المادية تؤثر في التاريخ . وما الله في نظر ماركس إلا الصنم الذي أقامته البرجوازية لتخدع به الطبقة العاملة وتشغلها بالسجود والركوع بين يديه انتظارا لفردوس وهمي بعد الموت لتخلو لهم الدنيا يستمتعون بثمراتها كما يشاءون دون خوف أن ينازعهم العمال امتيازاتهم . فما الدين في الحقيقة إلا مخدر الفقراء وأفيون الشعوب والحشيش الذي يغيبون به العقول كلما أوشكت أن تصحو تنفجر على ثورة .
ولهذا جعل ماركس القضاء على الأديان على رأس مخططه وبدأت الثورة البلشفية بهدم المساجد والكنائس وإحراق الأناجيل والمصاحف واعتقال رجال الدين وإلغاء التربية الدينية من المدارس وتدريس الإلحاد والماركسية كمادة إجبارية للأطفال والكبار .
وقد وقع ماركس في عدة أخطاء قاتلة كانت كفيلة في النهاية بالقضاء على نظريته .
أولا : اعتمد ماركس في استنباط نظريته عن التاريخ على بعض مراحل تاريخية دون الأخرى . فكان ينتقى من التاريخ ما يوافق هواه ويهمل ما يناقض فكره . ومن هنا لا يصح أن تكون للقوانين التي استخرجها صفة الإطلاق على التاريخ كله ولا تصدق عليها صفة القوانين وإنما هي في الحقيقة تلفيقات .
وأقوى البراهين على ذلك هي نشأة الإسلام فلم يكن الإسلام قط من إفراز النظام الطبقي في قريش . ولم يكن دينا رجعيا يحفظ للظالمين المستبدين أموالهم وامتيازاتهم . ولم يكن مخدرا للفقراء دافعا لهم على قبول فقرهم . فقد دعا الإسلام إلى التمتع بالحياة في اعتدال ودعا إلى قتال الظالمين المستغفلين .
ولم يأت الإسلام نتيجة انقلاب مناظر في نظام الإنتاج وعلاقات الإنتاج في قريش وإنما جاء كظاهرة فوقية مستقلة عن البيئة .
فقد جاء الإسلام من البداية مقررا المساواة في الفرص وضمان حق الكفاية للمواطن وتحقيق التوازن الاقتصادي بين الفرد والمجتمع وجاء بمبدأ الاقتصاد الحر الموجه .. وجاء بكل ذلك في الجزيرة العربية في وقت لم تكن ظروف الإنتاج وعلاقات الإنتاج تدعو إليه بحيث يمكن أن نقول إن ما حدث كان انبثاقا من واقع اقتصادي . وتحدى بذلك منطق الماركسية التاريخي وحساباتها المادية التي تحتم انبثاق كل انقلاب سياسي من انقلاب مناظر في الإنتاج وعلاقاته .
ثانيا : وقع الفكر الماركسي في تناقض اساسى بين كونه فكرا يدعو إلى التضحية والبذل من اجل الآخرين وبين كونه فكرا محروما من الحافز الديني والمبدأ الروحي . والدين كما هو معلوم يمد الإنسان بأعظم طاقة ليضحى ويبذل بلا حدود وعن طيب خاطر .
وهكذا أصبحت الماركسية تطالب بالنقاء الثوري والتضحية والولاء ثم تجعل هذه الأخلاقيات مستحيلة بالفكر والنظرية (بحكم مادية النظر إلى الأشياء)
وهكذا تصور الماركسيون الماديون أن ثلاث وجبات دسمة يمكن أن تكون عزاء كافيا لإنسان يعلم انه ولد ليموت .. إنسان كتب عليه أن يتألم وحده يشيخ وحده ويموت وحده وتصوروا أن الولاء يمكن أن يشترى بالمرتب والمكافأة إن لم يشتر بالخوف من قطع العيش وكان هذا وهما كبيرا .
وأنها كلمة قديمة جدا (انه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان ) وأننا اذ كنا نولد لنموت فان الدين الذي يقدم لنا حياة مطلقة وبعثا وخلودا هو أمر لا يمكن شطبه بجرة قلم ولا يمكن محاربته بخزعبلات نظرية
وقد وجد ستالين نفسه أمام هذا التناقض الذي لا حل له حينما هجم الجيش النازي على روسيا وبلغ أبواب ستالينجراد . فقد رأى الفلاح الروسي يقف متخاذلا لا يعرف لماذا يحارب ولماذا يموت ولا بعث بعد الموت ولا جنة ولا تكريم لشهيد .
لقد سلبت منه الشيوعية الجنة وسرقت منه الخلود فلم يعد يتحمس لشيء . ولم يجد ستالين بدا من ان يعود فيبنى الكنائس ويفتح المساجد ليحيى القلوب التي ماتت .
وتغيرت التعليمات لكل الخلايا الشيوعية وجاءت الأوامر الجديدة .
لا تذكروا الدين بسوء ولا تتعرضوا لله ولا تناقشوا في الغيبيات وإذا سئلتم فى ذلك فقولوا ( هي مسائل غير مطروحة وليس هذا أوانها) ولم تنفع هذه الإستراتيجية الجديدة فى علاج الشكوك التى تحركت فى الصدور
وعاد أنبياء الكرملين فاجتمعوا وانفضوا ثم عادوا فأصدروا تعليمات جديدة وسمعنا عن بعثات حج روسية تخرج من موسكو إلى مكة وسمعنا عن مفت اسلامى يفتى في روسيا البلشفية .
ولبس بعض الماركسيين طرحة إسلامية ولم ينفع هذا الصلح الانتهازي مع الدين ولكنه كشف للماركسيين أنفسهم عن ثغرة في نظريتهم لا حل لها .
ثالثا : ذلك العامل الاقتصادي الواحد الذي جعل منه ماركس الها تصدر عنه كل الأشياء وسببا وحيدا تتداعى من ورائه كل التغيرات التاريخية والحضارية فيما يسميه بالتفسير المادي للتاريخ .
هذه الفكرة سقطت علميا والرأي السائد الآن انه في ميدان الظواهر الاجتماعية لا يوجد سبب واحد مستقل منفصل وفاعل يولد النتائج والظواهر الثانوية ونما هناك عوامل متعددة تؤثر في بعضها تأثيرات متقابلة فالعامل الجوهري اليوم يمكن ان يصبح عاملا ثانويا فى الغد .
والعامل الاقتصادي بهذا لا يصلح أن يكون الها تصدر عنه الأشياء وإنما هناك العامل القومي والنفسي والعنصري والعقائدي يمكن أن تشكل التاريخ بأقوى مما يشكله العامل الاقتصادي .. وبين الصين وروسيا صراع سوف يشكل التاريخ ومع ذلك فهو ليس صراعا طبقيا ولا اقتصاديا فالدولتان كلتاهما شيوعية وبقيادة البروليتاريا .
رابعا : كانت دكتاتورية البروليتاريا انتقالا بالمجتمع من ظلم طبقي إلى ظلم طبقي آخر .. وكانت استبدالا للاستغلال الموجود باستغلال آخر اشمل واسوا واعم .. فقد جاء الحزب الحاكم الجديد وجاء معه بزبانية مراكز القوى ليسجنوا ويعتقلوا ويظلموا ويستبدوا للحفاظ على امتياز الذين تميزوا وسلطان الذين تسلطوا وهكذا نقلوا المجتمع من طغيان الى طغيان أفدح وأشاعوا مناخا من الرعب والصمت الرهيب والخرس الذى قطعت فيه الألسن وكسرت الأقلام وكممت الأفواه .. فالصحف جميعا ملك للسادة الجالسين فى مراكز القوى وسياط الرقابة مسلطة على الجميع وهذه أمور جربناها واحترقنا بنارها ونعرف تماما ماذا تعنى .
وكان ماركس مبالغا اشد المبالغة فى تلك الهالة الأسطورية التى اضفاها على البروليتاريا (طبقة العمال) فى كلامه عن نقاء البروليتاريا وطهارة البروليتاريا وكأنها شعب الله المختار او جنس اخر قادم من المريخ ونسى أن العامل والمثقف ومالك الأرض هم غالبا أفراد أسرة واحدة .
وقد أقام ماركس نظريته على ظروف القرن التاسع عشر الصناعية المتخلفة حيث العامل يدوى كادح مطحون مسحوق لا يكاد يجد لقمته .. ولم يتصور ما ستحدثه ثورة العلم والتكنولوجيا فى القرن العشرين حيث العامل رجل مرفه يجلس أمام أزرار وآلات الكترونية ومن ورائه نقابات عمالية وقوانين للتامين ضد العجز
انتهى
لمصطفى محمود
الفصل الأول
حينما بدأت أكتب في الخمسينيات كانت الماركسية هي موضة الشباب الثائر في ذلك الوقت وكنا نقرا منشوراتها في نهم فتحرك مثالياتنا بما تعد به من فردوس أرضي وعدالة ورخاء وغذاء وكساء للعامل والفلاح ومحاربة للإقطاع والاستغلال وتحرير للجماهير الكادحة .
وكانت موسكو تبدو لنا في ذلك الحين الكعبة الأم لهذا الدين الجديد الذي يشع الخير والرفاهية لكل من يدور في فلكه .
وكانت أول صحوة لنا من ذلك الحلم حينما سافرنا إلى الخارج ورأينا الخراب والبؤس والوجوه الكئيبة المتجهمة في المجر ورومانيا وألمانيا وكافة البلاد الشرقية التي تجرى في هذا الفلك وبحثنا عن الرخاء والرفاهية والحرية والفردوس الارضى فلم نجد له أثرا .
وكانت الصدمة الثانية الأعظم حينما فتح خرشوف ملف ستالين وأعلن على رؤوس الإشهاد المظالم التي ارتكبها ستالين والملايين من العمال والفلاحين والمثقفين الذين قتلهم في السجون والمعتقلات وأعدمهم بالرشاشات وألقاهم للموت في جليد سيبيريا وأسلمهم لآلات التعذيب بين يدي الجلاد الرهيب بريا .
ويومها قالوا لنا انه التطبيق
الذنب في التطبيق السيئ ولكن النظرية بريئة مبراة من هذا كله .
واحتاج الأمر منى إلى سنوات من القراءة والدراسة والعكوف على المجلدات الأصلية للمذهب لكي اكتشف أن الفساد ليس في التطبيق ولكن الفساد في المذهب نفسه وان تلك الأفكار الثورية لم تكن أكثر من تحشيد وتحريض ودفع لكتل الجماهير نحو ثار تاريخي يخرج العالم من ظلم ليلقى به في ظلم أفدح واشمل واعم .
يقول ماركس بان التاريخ عبارة عن تنازع مصالح مادية ويرى أن التاريخ يتحرك الىالامام بدفع الصراع الطبقي بين السادة والعبيد وكلما تغيرت أساليب الإنتاج تغير معها شكل المجتمع وحضارته وفنونه .
جاء المجتمع الزراعي فجاء معه بفنونه وآدابه وتقاليده وأديانه وكانت وظيفة هذه الأديان هي الحفاظ على مصالح السادة والإقطاعيين . ثم جاء عصرا لصناعة والبخار فجاء معه بفنون وأفكار وأخلاقيات جديدة تحفظ للسادة امتيازاتهم . ثم تطور العلم وتطورت معه أساليب الإنتاج وجاء الأوان أخيرا ليقلب العمال نظام العالم ويأتون بأفكارهم وأخلاقياتهم ودينهم (الشيوعية) الذي يكتسحون به الأديان المتخلفة الموجودة ويقودون العالم إلى مجتمع لا طبقي يمتاز بالوفرة في كل شيء ويعمل فيه كل فرد على قدر طاقته ويأخذ على قدر حاجته بلا ظلم وبلا استغلال .
وكانت وسيلة ماركس إلى ذلك تأميم وسائل الإنتاج وانفراد طبقة العمال بالديكتاتورية والسلطة .
ولا يرى ماركس أثرا لأي عوامل أو قوى غيبيه أو إرادة إلهية وراء هذه العوامل المادية تؤثر في التاريخ . وما الله في نظر ماركس إلا الصنم الذي أقامته البرجوازية لتخدع به الطبقة العاملة وتشغلها بالسجود والركوع بين يديه انتظارا لفردوس وهمي بعد الموت لتخلو لهم الدنيا يستمتعون بثمراتها كما يشاءون دون خوف أن ينازعهم العمال امتيازاتهم . فما الدين في الحقيقة إلا مخدر الفقراء وأفيون الشعوب والحشيش الذي يغيبون به العقول كلما أوشكت أن تصحو تنفجر على ثورة .
ولهذا جعل ماركس القضاء على الأديان على رأس مخططه وبدأت الثورة البلشفية بهدم المساجد والكنائس وإحراق الأناجيل والمصاحف واعتقال رجال الدين وإلغاء التربية الدينية من المدارس وتدريس الإلحاد والماركسية كمادة إجبارية للأطفال والكبار .
وقد وقع ماركس في عدة أخطاء قاتلة كانت كفيلة في النهاية بالقضاء على نظريته .
أولا : اعتمد ماركس في استنباط نظريته عن التاريخ على بعض مراحل تاريخية دون الأخرى . فكان ينتقى من التاريخ ما يوافق هواه ويهمل ما يناقض فكره . ومن هنا لا يصح أن تكون للقوانين التي استخرجها صفة الإطلاق على التاريخ كله ولا تصدق عليها صفة القوانين وإنما هي في الحقيقة تلفيقات .
وأقوى البراهين على ذلك هي نشأة الإسلام فلم يكن الإسلام قط من إفراز النظام الطبقي في قريش . ولم يكن دينا رجعيا يحفظ للظالمين المستبدين أموالهم وامتيازاتهم . ولم يكن مخدرا للفقراء دافعا لهم على قبول فقرهم . فقد دعا الإسلام إلى التمتع بالحياة في اعتدال ودعا إلى قتال الظالمين المستغفلين .
ولم يأت الإسلام نتيجة انقلاب مناظر في نظام الإنتاج وعلاقات الإنتاج في قريش وإنما جاء كظاهرة فوقية مستقلة عن البيئة .
فقد جاء الإسلام من البداية مقررا المساواة في الفرص وضمان حق الكفاية للمواطن وتحقيق التوازن الاقتصادي بين الفرد والمجتمع وجاء بمبدأ الاقتصاد الحر الموجه .. وجاء بكل ذلك في الجزيرة العربية في وقت لم تكن ظروف الإنتاج وعلاقات الإنتاج تدعو إليه بحيث يمكن أن نقول إن ما حدث كان انبثاقا من واقع اقتصادي . وتحدى بذلك منطق الماركسية التاريخي وحساباتها المادية التي تحتم انبثاق كل انقلاب سياسي من انقلاب مناظر في الإنتاج وعلاقاته .
ثانيا : وقع الفكر الماركسي في تناقض اساسى بين كونه فكرا يدعو إلى التضحية والبذل من اجل الآخرين وبين كونه فكرا محروما من الحافز الديني والمبدأ الروحي . والدين كما هو معلوم يمد الإنسان بأعظم طاقة ليضحى ويبذل بلا حدود وعن طيب خاطر .
وهكذا أصبحت الماركسية تطالب بالنقاء الثوري والتضحية والولاء ثم تجعل هذه الأخلاقيات مستحيلة بالفكر والنظرية (بحكم مادية النظر إلى الأشياء)
وهكذا تصور الماركسيون الماديون أن ثلاث وجبات دسمة يمكن أن تكون عزاء كافيا لإنسان يعلم انه ولد ليموت .. إنسان كتب عليه أن يتألم وحده يشيخ وحده ويموت وحده وتصوروا أن الولاء يمكن أن يشترى بالمرتب والمكافأة إن لم يشتر بالخوف من قطع العيش وكان هذا وهما كبيرا .
وأنها كلمة قديمة جدا (انه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان ) وأننا اذ كنا نولد لنموت فان الدين الذي يقدم لنا حياة مطلقة وبعثا وخلودا هو أمر لا يمكن شطبه بجرة قلم ولا يمكن محاربته بخزعبلات نظرية
وقد وجد ستالين نفسه أمام هذا التناقض الذي لا حل له حينما هجم الجيش النازي على روسيا وبلغ أبواب ستالينجراد . فقد رأى الفلاح الروسي يقف متخاذلا لا يعرف لماذا يحارب ولماذا يموت ولا بعث بعد الموت ولا جنة ولا تكريم لشهيد .
لقد سلبت منه الشيوعية الجنة وسرقت منه الخلود فلم يعد يتحمس لشيء . ولم يجد ستالين بدا من ان يعود فيبنى الكنائس ويفتح المساجد ليحيى القلوب التي ماتت .
وتغيرت التعليمات لكل الخلايا الشيوعية وجاءت الأوامر الجديدة .
لا تذكروا الدين بسوء ولا تتعرضوا لله ولا تناقشوا في الغيبيات وإذا سئلتم فى ذلك فقولوا ( هي مسائل غير مطروحة وليس هذا أوانها) ولم تنفع هذه الإستراتيجية الجديدة فى علاج الشكوك التى تحركت فى الصدور
وعاد أنبياء الكرملين فاجتمعوا وانفضوا ثم عادوا فأصدروا تعليمات جديدة وسمعنا عن بعثات حج روسية تخرج من موسكو إلى مكة وسمعنا عن مفت اسلامى يفتى في روسيا البلشفية .
ولبس بعض الماركسيين طرحة إسلامية ولم ينفع هذا الصلح الانتهازي مع الدين ولكنه كشف للماركسيين أنفسهم عن ثغرة في نظريتهم لا حل لها .
ثالثا : ذلك العامل الاقتصادي الواحد الذي جعل منه ماركس الها تصدر عنه كل الأشياء وسببا وحيدا تتداعى من ورائه كل التغيرات التاريخية والحضارية فيما يسميه بالتفسير المادي للتاريخ .
هذه الفكرة سقطت علميا والرأي السائد الآن انه في ميدان الظواهر الاجتماعية لا يوجد سبب واحد مستقل منفصل وفاعل يولد النتائج والظواهر الثانوية ونما هناك عوامل متعددة تؤثر في بعضها تأثيرات متقابلة فالعامل الجوهري اليوم يمكن ان يصبح عاملا ثانويا فى الغد .
والعامل الاقتصادي بهذا لا يصلح أن يكون الها تصدر عنه الأشياء وإنما هناك العامل القومي والنفسي والعنصري والعقائدي يمكن أن تشكل التاريخ بأقوى مما يشكله العامل الاقتصادي .. وبين الصين وروسيا صراع سوف يشكل التاريخ ومع ذلك فهو ليس صراعا طبقيا ولا اقتصاديا فالدولتان كلتاهما شيوعية وبقيادة البروليتاريا .
رابعا : كانت دكتاتورية البروليتاريا انتقالا بالمجتمع من ظلم طبقي إلى ظلم طبقي آخر .. وكانت استبدالا للاستغلال الموجود باستغلال آخر اشمل واسوا واعم .. فقد جاء الحزب الحاكم الجديد وجاء معه بزبانية مراكز القوى ليسجنوا ويعتقلوا ويظلموا ويستبدوا للحفاظ على امتياز الذين تميزوا وسلطان الذين تسلطوا وهكذا نقلوا المجتمع من طغيان الى طغيان أفدح وأشاعوا مناخا من الرعب والصمت الرهيب والخرس الذى قطعت فيه الألسن وكسرت الأقلام وكممت الأفواه .. فالصحف جميعا ملك للسادة الجالسين فى مراكز القوى وسياط الرقابة مسلطة على الجميع وهذه أمور جربناها واحترقنا بنارها ونعرف تماما ماذا تعنى .
وكان ماركس مبالغا اشد المبالغة فى تلك الهالة الأسطورية التى اضفاها على البروليتاريا (طبقة العمال) فى كلامه عن نقاء البروليتاريا وطهارة البروليتاريا وكأنها شعب الله المختار او جنس اخر قادم من المريخ ونسى أن العامل والمثقف ومالك الأرض هم غالبا أفراد أسرة واحدة .
وقد أقام ماركس نظريته على ظروف القرن التاسع عشر الصناعية المتخلفة حيث العامل يدوى كادح مطحون مسحوق لا يكاد يجد لقمته .. ولم يتصور ما ستحدثه ثورة العلم والتكنولوجيا فى القرن العشرين حيث العامل رجل مرفه يجلس أمام أزرار وآلات الكترونية ومن ورائه نقابات عمالية وقوانين للتامين ضد العجز
انتهى