تسجيل الدخول

اعرض النسخة الكاملة : فوائد غض البصر


عادل القيضي
01.04.2015, 22:27
سوف نقف على كلامٍ متين وتحريرٍ عظيم للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى ؛ فلنتأمل عباد الله في كلامه بتمعُّن وتفهُّم فإنه عظيم الفائدة ونفوسنا تمس حاجتها إلى الوقوف عليه .
فمن فوائد غض البصر فيما ذكره رحمه الله

قال : أحدها : أنه امتثال لأمر الله الذي هو غاية سعادة العبد في معاشه ومعاده .

الثانية – من فوائده - : أنه يمنع من وصول أثر السهم المسموم - الذي لعلَّ فيه هلاكَه - إلى قلبه.
الثالثة : أنه يورث القلب أنْساً بالله وجمعِيَّةً عليه ؛ فإنَّ إطلاق البصر يفرِّق القلب ويشتته ويُبعده من الله ، وليس على القلب شيء أضرّ من إطلاق البصر فإنه يوقع الوحشة بين العبد وبين ربه.
الرابعة : أنه يقوِّي القلب ويفرِّحه ، كما أنَّ إطلاق البصر يُضعِفه ويُحزِنه.

الخامسة : أنه يُكسب القلب نورا ، كما أنَّ إطلاقه يلبسه ظلمة ، ولهذا ذكر سبحانه آية النور عقيب الأمر بغضِّ البصر ، قال: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ}[النور:30] ، ثم قال إثر ذلك : {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} [النور:35] ؛ أي مثل نوره في قلب عبده المؤمن الذي امتثل أوامره واجتنب نواهيه، وإذا استنار القلب أقبلت وفود الخيرات إليه من كل ناحية ، كما أنه إذا أظلم أقبلت سحائب البلاء والشر عليه من كل مكان .
السادسة : أنَّه يورث فِراسة صادقة يميِّز بها بين الحق والباطل والصادق والكاذب ، وكان شجاع الكرماني يقول: "من عمَّر ظاهره باتباع السنة وباطنه بدوام المراقبة وغضَّ بصره عن المحارم وكفَّ نفسه عن الشبهات واغتذى بالحلال لم تخطئ له فراسة "
وكان شجاع هذا لا تخطئ له فراسة ، والله سبحانه يجزي العبد على عمله بما هو من جنس عمله ، ومن ترك شيئاً لله عوَّضه الله خيراً منه ، فإذا غضَّ بصره عن محارم الله عوَّضه الله بأن يطلق نور بصيرته عِوضاً عن حبس بصره لله ، ويفتح عليه باب العلم والإيمان والمعرفة والفراسة الصادقة المصيبة التي إنما تُنال ببصيرة القلب وضد هذا ما وصف الله به اللُّوطيين من العَمَه الذي هو ضد البصيرة فقال تعالى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر:72] ، فوصفهم بالسكرة التي هي فساد العقل ، والعمه الذي هو فساد البصيرة ، فالتعلُّق بالصور يوجب فساد العقل وعمه البصيرة وسُكْر القلب .







السابعة : إنه يورث القلب ثباتاً وشجاعةً وقوة ، فجمَع الله له بين سلطان النصرة والحجة وسلطان القدرة والقوة كما في الأثر "الذي يخالف هواه يَفْرَق الشيطان من ظلِّه " ، وضدُّ هذا تجد في المتبع لهواه من ذُلِّ النفس ووضاعتها ومهانتها وخستها وحقارتها ما جعله الله سبحانه فيمن عصاه .

الثامنة : أنَّه يسدُّ على الشيطان مدخله من القلب ؛ فإنه يدخل مع النظرة وينفذ معها إلى القلب أسرع من نفوذ الهواء في المكان الخالي ، فيمثِّل له صورة المنظور إليه ويزينها ويجعلها صنماً يعكف عليه القلب ثم يعِدُه ويمنِّيه ، ويوقِد على القلب نار الشهوة ،


ويلقي عليه حطب المعاصي التي لم يكن يُتوصل إليها بدون تلك الصورة فيصير القلب في اللهب ، فإنَّ القلب قد أحاطت به النيران من كل جانب ، فهو في وسطها كالشاة في وسط التنور ، ولهذا كانت عقوبة أصحاب الشهوات للصور المحرمة : أن جُعِل لهم في البرزخ تنور من نار وأودعت أرواحهم فيه إلى يوم حشر أجسادهم ، كما أراه الله لنبيه صلى الله عليه وسلم في المنام في الحديث المتفق على صحته

التاسعة : أنه يُفرغ القلب للفكرة في مصالحه والاشتغال بها ، وإطلاق البصر يُنسِيه ذلك ويحُول بينه وبينه ؛ فينفرط عليه أمره ويقع في اتباع هواه وفي الغفلة عن ذكر ربه ، قال تعالى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف:28] .





العاشرة : أن بين العين والقلب منفذاً وطريقا يوجب انتقال أحدهما إلى الآخر وأن يصلح بصلاحه ويفسد بفساده، فإذا فسد القلب فسد النظر ، وإذا فسد النظر فسد القلب ، وكذلك في جانب الصلاح ، فإذا خربت العين وفسدت خرب القلب وفسد وصار كالمزبلة التي هي محل النجاسات والقاذورات والأوساخ فلا يصلح لسكنى معرفة الله ومحبته والإنابة إليه والأنس به والسرور بقربه فيه ، وإنما يسكن فيه أضداد ذلك )) .
ولله در القائل :
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها ... فتك السهام بلا قوس ولاوتر
كل الحوادث مبداها من النظر ... ومعظم النار من مستصغر الشرر


فهذه إشارة إلى بعض فوائد غض البصر ، وجدير بكل مؤمن ومؤمنة أن يتأمل في هذه الفوائد العظام وأن يحرص على صيانة بصره وحفظ عينه ليسْلَم له قلبه ، وليسلَم له دينه وليسلَم من غوائل إطلاق البصر وهي كثيرة تجرُّ على العبد مصائب وويلات لا حدَّ لها ولا عدّ