تسجيل الدخول

اعرض النسخة الكاملة : تبسيط كتاب "التحريف الأرثوذكسي للكتب المقدسة" - النظرة التقليدية للأرثوذكسية والهرطقة


Farouq Ezzedin
13.10.2013, 11:33
الفصل الأول: نص الكتب المقدسة في عصر المعارضة: النضال المسيحي المبكر من أجل العقيدة

عرفت المسيحية في القرنين الثاني والثالث زخماً فكرياً وعقدياً خلق نوعاً من الضبابية في تحديد مفهوم ثابت للمسيحية، فكان من الصعب قَولَبَة هذه الأخيرة في قالب واضح المعالم يَفصِل لنا بين العقيدة المسيحية الصحيحة وبين غيرها من العقائد الضالة.

هذا الزخم -كما قلنا- كان فكرياً وعقدياً بالدرجة الأولى، يتضح بجلاء في القضايا اللاهوتية، خاصة المتعلق منها بالمسيح {عليه الصلاة والسلام}، فتجد ممن ينتسبون للمسيحية، يقولون بوجود بإله واحد فقط، وآخرون توسعوا قليلاً فقالوا بوجود إلهين، وهناك من كانوا أكثر كرماً من الآخرين فقالوا بوجود 365 إله !.
ممن ينتسبون أيضاً للمسيحية، أقوام قالوا أن الكتب العبرية -العهد القديم- هي كتب موحى بها من الله، وذهب آخرون لخلاف ذلك فقالوا هي من وحي الشيطان !.
أصحاب اليمين يقولون بأن الله خلق العالم وأنه فدى هذا العالم، بينما يرفع أصحاب الشمال أصواتهم بالقول أن الله لم يخلق العالم ولا علاقة له به أساساً وكلهم ممن ينتسبون للمسيحية !.
ممن ينتسبون للمسيحية، أقوام كانوا يرون في المسيح إلهاً وإنساناً، وآخرون إله فقط، وآخرون إنسان فقط، وآخرون إنسان سكنه الإله لمدة معينة .. إلخ، أقوام قالوا أن المسيح مات لخلاص البشرية، وآخرون عارضوا هذا القول وقالوا أن موت المسيح لم يأثر على خلاص البشرية، بينما أخرج أقوام آخرون ألسنتهم لكلا الخصمين وقالوا أن المسيح لم يمت أساساً !. ولاحظ أنهم جميعاً ينتسبون للمسيحية.
هذا الخليط الغير متجانس كان سبباً في نشوب صراعات عقدية طاحنة بين هذه الطوائف، وظهر أثرُ هذه الصراعات في عدة جوانب أهمها في نص العهد الجديد، عندما نقول إن نص العهد الجديد قد تعرض للتشويه لأكثر من مرة خلال عملية نسخه بطريقة غير مقصودة بسبب ظروف النسخ في ذلك الوقت، فهذا أمر قد نغض الطرف عنه، ولكن عندما نقول أن النص تعرض للتحريف بشكل مباشر ومقصود ومن أكثر من طرف، وأن الذي يسمون اليوم بالمسيحيين قام أسلافهم ممن يدينون بنفس عقيدتهم بتحريف نصوص العهد الجديد لتدعيم فكرهم اللاهوتي رغبتاً منهم في تقوية عقيدتهم وتضعيف عقيدة الفرق الأخرى المنتسبة للمسيحية، فإنه ليس بمقدورنا السكوت على مثل هذه المهزلة.




المبحث الأول: النظرة التقليدية للأرثدوكسية والهرطقة

كما سبق وقلنا، فإن المسيحية في بداياتها عاشت حالة من الاختلاف، انقلب إلى صراع بين جماعات تتبنى معتقدات مختلفة ونظريات لاهوتية متباينة، ولم يكن هناك شكل محدد للعقيدة المسيحية، فكانت هناك كنائس مختلفة تتبنى كل واحدة منها فكر مخالفاً للكنائس الأخرى، بل وحتى داخل كل كنيسة كنت تجد أصوات معارضة لفكر الكنيسة واختلافات بين أرباب وممثلي هذه الكنائس.
هذه هي النظرة التي ينظر بها الدارسون لحال الكنيسة في بداياتها في الآونة الأخيرة، لكن، في الماضي، كانت هناك نظرة أخرى لطبيعة العلاقة بين الفرق المسيحية المبكرة، اعتمد العلماء في القرون الماضية كثيراً على ما دونه المؤرخون المسيحيون في دراستهم للأحداث في بدايات المسيحية، خاصة تاريخ يوسابيوس القيصري (القرن الرابع الميلادي) الملقب بـ: "أب التاريخ الكنسي" والذي كان له أثر كبير في خلق صورة غير صحيحة لطبيعة العلاقة بين الجماعات المسيحية.
إذا طالعت كتابات يوسابيوس القيصري، فإنك ستجده يرسم لك صورة روحانية للمسيحية تتسم بالمثالية، يدعم فيها فكراً مسيحياً معيناً (الذي هو الفكر الحالي للكنائس المسيحية) على أنه هو الصحيح والباقي خطأ، أو بمصطلح آخر "هرطقات"، يوسابيوس القيصري يصور لك تلك الكنيسة المسيحية التي استطاعت أن تقف صامدة على الحق رغم الاضطهاد التي عانت منه، وكيف أن الكنيسة ظلت متمسكة بالعقيدة الرسولية التي نقلها الآباء عن رسل المسيح وكيف حاربت تلك الهرطقات والبدع المستحدثة بسلطان التعليم الرسولي، وكيف أنها هي الوحيدة التي تمثل العقيدة السليمة المستقيمة، بمصطلح آخر، أنها تمثل العقيدة الأرثوذكسية.
صوَّر "أب التاريخ الكنسي" العقيدة الأرثوذكسية المستقيمة على أنها هي تلك العقيدة المنقولة عن الرسل، والتي يؤمن بها غالبية المؤمنين، وأن ما دونها ما هي إلاَّ بدع وهرطقات وثنية شيطانية ضالة مضلة حاول أصحابها أن يضلوا الناس عن التعليم المستقيم الذي تركه رسل المسيح.
أنظر لـ: يوسابيوس القيصري كيف يشيطن سيمون الساحر فيقول عنه: [إذ ذاع الآن الإيمان بمخلصنا وربنا يسوع المسيح بين كل البشر دبر عدو خلاص الإنسان (أي الشيطان) خطة للاستيلاء على المدينة الامبراطورية، لذلك دفع سيمون السابق ذكره وساعده في فنونه المضلة، وضلل الكثيرين من سكان روما، وهكذا جعلهم في سلطانه.][[1]]
يصور يوسابيوس حالة سيمون الساحر على أنه أول المبتدعين والمهرطقين الذي جاء بعد أن تلاعب به الشيطان لكي يفسد العقيدة الصحيحة السليمة للمسيحية، ويخرج الناس عن الحق ويظلهم، وكيف أنه كان له علاقة مع أحد المومسات وكيف أنه كان يقوم بطقوس سرية غريبة وعلاقات جنسية فاضحة واصفاً ذلك بالسفالة !! (أنظر: الكتاب 2، الفصل 13، مقطع 6-8).
ثم يأتي النور السماوي (المتمثل في بطرس) الذي يقضي على ظلمة الهرطقة السيمونية في يهوذا وبعدها في روما، يقول يوسابيوس: [أما تلك النعمة السماوية الإلهية، التي نتعاون مع خدامها، فسرعان ما أطفأت لهب الشرير المشتعلة وبواسطتهم أذلت وهدمت كل علو ضد معرفة الله. لذلك لم تفلح مؤامرات سيمون أو غيره ممن قاموا في ذلك الوقت بأن تعمل شيئاً في العصر الرسولي، لأن كل شيء قد قهر واخضع أمام جلال الحق، وأمام الكلمة الإلهية نفسها، التي بدأت مؤخراً تشرق من السماء على البشر، والتي كانت وقتئذ مزدهرة على الأرض، وحالة في أنفسهم.][[2]]
بسبب هذه الطريقة التي يتناول بها يوسابيوس القيصري العلاقة بين الأرثوذكسية (ونقصد بها الطائفة المسيحية –الكنيسة الأرثوذكسية والكنيسة الكاثوليكية بعد الانشقاق- التي تفوقت على باقي الطوائف ونشرت معتقدها على أنه هو العقيدة الصحيحة وأن غيرها ليسوا مسيحيين بل مهرطقين ) وبين الهرطقة (ونقصد بها الطوائف المنتسبة للمسيحية والتي لم تستطع أن تنشر معتقدها وانقرضت شيئاً فشيئاً وأطلق عليها هذا الاسم من طرف الفرقة الغالبة) ظهرت الفكرة التقليدية الخاطئة عند العلماء في أنه ليس هناك إلاَّ مسيحية واحدة منذ عصر التلاميذ وإلى ما بعد مجمع نيقية، والتي كان يعتنقها أغلبية المؤمنين، تفرعت عنها عقائد هرطوقية خالفت الإيمان الصحيح السليم، اعتنقها شرذمة قليلون.
بالنسبة ليوسابيوس القيصري ومن كان على معتقداته، فإن الهراطقة هم أولئك القلة الذين تأثروا بعوامل خارجية وثنية أو يهودية انحرفوا بها عن الإيمان الصحيح، خالفوا بها جماعة المؤمنين والكنيسة، وإن كان الفضل يعود ليوسابيوس في نشر هذا الفكر، إلاَّ أنه لم يأتي به من عندياته، إنما هو موروث عن رجال الكنيسة مثل أوريجانوس وهيبوليتوس وترتليان وإيريناوس ويوستينوس وغيرهم، فنجد أوريجانوس يقول: [كل الهراطقة ما هم إلا مؤمنون، انحرفوا عن قواعد الإيمان][[3]] ونجد ترتليان يقول: [هل كان هناك هرطقات قبل كون العقيدة الصحيحة ؟. لا، لأن في جميع الحالات الحقيقة تسبق نسختها (المزورة)، الشبه يلي الحقيقة ... ولأن العقيدة (الصحيحة) قد أخبرتنا أنه سيكون هناك هرطقات ينبغي على الناس الوقوف ضدها والحذر منها][[4]]
في سفر أعمال الرسل الذي يعد أقدم سجل يحكي قصص تلاميذ المسيح، لا نجد فيه أرثوذكسية وهرطقة بقدر ما نجد فكرة المذهب والشيعة والفرقة {عَالِمِينَ بِي مِنَ الأَوَّلِ، إِنْ أَرَادُوا أَنْ يَشْهَدُوا، أَنِّي حَسَبَ مَذْهَبِ عِبَادَتِنَا الأَضْيَقِ عِشْتُ فَرِّيسِيًّا}{أع 26: 5}، {وَلكِنْ قَامَ أُنَاسٌ مِنَ الَّذِينَ كَانُوا قَدْ آمَنُوا مِنْ مَذْهَبِ الْفَرِّيسِيِّينَ، وَقَالُوا: «إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَنُوا، وَيُوصَوْا بِأَنْ يَحْفَظُوا نَامُوسَ مُوسَى»}{أع 15: 5}، {فَإِنَّنَا إِذْ وَجَدْنَا هذَا الرَّجُلَ مُفْسِدًا وَمُهَيِّجَ فِتْنَةٍ بَيْنَ جَمِيعِ الْيَهُودِ الَّذِينَ فِي الْمَسْكُونَةِ، وَمِقْدَامَ شِيعَةِ النَّاصِرِيِّينَ،}{أع 24: 5}، {أنظر: أع 24: 14}. سفر الأعمال يصور لنا أنه لم يكن هناك خلاف كبير، وإن كان هناك بعض من خرج عن تعاليم الكنيسة فهذا كان بشكل فردي، وكان هناك قبول للمسيحيين لبعضهم البعض، كقبول التلاميذ لبولس مع وجود خلاف بينهم، كذلك كان هناك سلطة رسولية يُرجع إليها في حال الخلاف تُمثل صمام الأمان، وأن أي خروج عن التعليم المستقيم إنما كان عملاً فردياً من ذئابٍ متربصة بقطيع الخرفان، أرادوا تحريف التعليم الصحيح، لكن رغم محاولاتهم لم يستطيعوا العلو على سلطان الكنيسة.
هذه هي المسيحية الرسولية التي كان بمقدور المسيحيين الأوائل الرجوع إليها، وهي التي تفسر وجهة نظر يوسابيوس القيصري وغيره حول العلاقة بين الأرثوذكسية والهرطقة، التي ظلت سائدة حتى زمن قريب، وواضح أن يوسابيوس ومن على شاكلته يتمسحون بهذه المسيحية الرسولية وينسبون نفسهم إليها، ويخرجون غيرهم منها.


[[1]] يوسابيوس القيصري، تاريخ الكنيسة، ترجمة: القمص مرقس داود، مكتبة المحبة، صـ: 68. (الكتاب 2، الفصل 13، مقطع 1).
[[2]] المصدر السابق، صـ 70. (الكتاب 2، الفصل 14، مقطع 2-3).
[[3]] Origen, Commentary on the Song of Songs, 3.
[[4]] Tertullian, Prescription against Heretics, Chapter 29.
http://www.newadvent.org/fathers/0311.htm