قدوتي الصالحآت
01.11.2012, 09:52
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد وعلى اله وصحبه ومن اتبع هداه
أما بعد ,
يهدف هذا الموضوع إلى تسليط الضوء حول مفهوم الغزو الثقافي وخصائصه وأهدافه وآثاره على المجتمع ، وكيفية مواجهته ، بالإضافة إلى المفاهيم المتصلة به عضويا كالعولمة والتغريب . كما يهدف أيضا إلى عرض نظرية صراع الحضارات ، وعملية حوار الحضارات ، بالإضافة إلى دواعي ومبررات ومرتكزات الحوار مع الغرب وحضارته . هذا بالإضافة إلى تناول كيفية مواجهة الغزو الثقافي ونظرية صدام الحضارات .
وبما أن الموضوع يبدو عليه الاتساع بحيث تصعب الإحاطة بكل جوانبه دفعة واحدة ، فإنه سيكتفي بإيراد الخطوط العريضة له من منظور وصفي أكثر منه تحليلي.
الغزو الثقافي :
مصطلح الغزو الثقافي أحد المصطلحات التي تتردد كثيرا في حياتنا الثقافية ، وبخاصة على امتداد العقود الماضية التي بدأت تشهد انحسار الغزو بمعناه التقليدي المباشر ، الذي عرف تاريخيا باسم الغزو العسكري أو الاحتلال العسكري المباشر ، الذي تعرضت له أكثر أرجاء العالم الاقل اقتصاديا ( الدول الفقيرة ) .
يتركب مصطلح الغزو الثقافي – كما هو واضح – من كلمتين هما : غزو ، وهي ( لغة) مصدر غزا ، وتعني : الدخول إلى مجال غريب أو مجال جديد ، وعادة ما ترتبط هذه الكلمة بمعنى القوة وإحداث التغيير ، سواء كان ذلك إلى الأفضل كقولنا : الوطن العربي يغزو الفضاء .. ، أو كان ذلك على الأسوأ كما نقول : أسراب الجراد تغزو الشمال الإفريقي ، وهذا المعنى التغييري الذي تحتويه كلمة غزو جعلها تكتسب مرونة تمكنها من أن تؤدي معاني كثيرة أيديولوجية أو علمية أو اقتصادية أو غيرها . هذا ، وقد تعني كلمة غزو أيضا ، في اللغة العربية معنى القصد ، والطلب والسير إلى الأعداء في ديارهم وانتهابهم وقهرهم والتغلب عليهم . ويلاحظ أن كلمة الغزو يشيع – الآن – استعمالها أكثر في المعنى الأخير.
أما ثقافي ، فمنسوبة إلى ثقافة ، والثقافة تتعدد تعريفاتها ، وتتنوع تفسيراتها ، وتتباين عناصرها ، إذ يعد هذا المصطلح جديدا في الفكر العربي والإسلامي ، وفي الوقت نفسه فإن الباحثين يجمعون على عدم إمكانية وضع تعريف جامع مانع للثقافة ومفهومها الشمولي، حتى أن الموسوعات الأجنبية والعربية الحديثة لم تتفق على تعريف واحد، ولم تجتمع علي مفهوم محدد ، فتعددت التعريفات لماهية الثقافة ، تبعا لتعدد نظرة المختص في العلم المعين .
إجرائيا ، فإن مفهوم الثقافة الذي يتبناه هذا الموضوع هو أنها أساليب الحياة الشائعة لدى جماعة أو مجتمع معين ، والتي تظهر في أقوال الناس وتصرفاتهم أو عاداتهم خلال حياتهم الجمعية.
أما الغزو الثقافي – اصطلاحا – فيعني العمل الهادف إلى اختراق ثقافة أمة ( من الأمم) وزعزتها لتذويب هويتها وطمسها وسلبها مكوناتها .. وبهذا المعنى فإن الغزو الثقافي عمل مقصود ومخطط له ، فهو بذلك يرمي إلى غزو الإنسان في عقيدته ، وفي لغته ، وفي سلوكه وأخلاقياته ، وفي نمط معيشته ، من خلال إحلال نماذج معينة من التفكير والنظر إلى الحياة والسلوك ، محل النمط السائد النابع من روح الشعب المستهدف ، من قيمة وعاداته وأخلاقه .
ويتضح من هذا التعريف الاصطلاحي للغزو الثقافي: أن هذا الغزو يشمل جميع ما يرتبط بالإنسان ، فلا يدع له شيئا إلا أبدله بشيء آخر لم يألفه .
إن الغزو الثقافي بصورته التي ذكرناها ، لا يقتصر فقط على الأمة الإسلامية فقد ثار جدل صاخب في فرنسا حول الغزو الثقافي الأمريكي للمجتمع الفرنسي ، وقد قاد حملة مناهضة الغزو الأمريكي قادة فرنسا بمن فيهم رئيس الجمهورية ميتران ، الذي رفض قبل مدة دعوة إدارة " يوروديزني " – وهي مدينة الألعاب الأمريكية في باريس – لزيارة المدينة ، وتناول الشاي مع ميكي ماوس – أحد أبرز الرموز الأمريكية في مدينة الألعاب – بمناسبة افتتاح المدينة . وأعلن ميتران في جامعة "غدانسك" في بولندا قائلا " إنها هوية أممنا ، وهو حق كل شعب في ثقافته وفي حرية الإبتكار واختيار الصور " . وأضاف :" إن أمة تتخلى عن وسائل التعبير عـن نفسها تصبح أمة مستعبَدة " .
وحتى ندرك أهمية المقاومة الفرنسية والأروبية بعامة للغزو ( الثقافي ) الأمريكي ، نذكر أن الأفلام الأمريكية السينمائية – مثلا – تسيطر على 90% من أذواق المتفرجين في ألمانيا ، وعلى 87% في بلجيكا ، وعلى 82% في إيطاليا ، كما أن ثلثي البرامج في التلفزيونات الأوربية هي برامج أمريكية.فإذا كانت فرنسا بسطوتها الفكرية ونفوذها السياسي والاقتصادي – تشكو من الغزو الثقافي ، فما بالنا بالأمم والشعوب الأخرى المستضعفة فكريا ، والفاقدة للنفوذ السياسي والاقتصادي .
وإذا انتقلنا إلى الأمة الإسلامية بكافة أقطارها وبلدانها فسنجد أنها واقعة تحت التأثير المباشر للغزو الثقافي والغزو الفكري ، مما أهلها لواقع متراجع لا تحسد عليه ، فعلى كل الأصعدة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والعسكرية ، يشهد المرء مزيدا من التردي في الأوضاع ، حيث بات التساؤل ملحا في معرفة أسباب هذا الواقع المؤلم والوضع غير المقبول ، فهل يا ترى يعود هذا الضعف إلى خلل أساسي في أساس الأمة ومكوناتها ، أم أنه عرض سيزول مع الوقت بزوال الأسباب؟ .
وهنا تجدر الاشاره الى تحذير النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال : { لتتبعن سنن من كان قبلكم ، شبرا بشبر وذراعا بذراع ، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم ) . قلنا : يا رسول الله ، اليهود والنصارى ؟ قال : فمن } رواه البخاري
ومع استحضار عملية الغزو الثقافي في أذهاننا ، دعونا نلقي نظرة سريعة على واقع المشهد الثقافي كما تعكسه وسائل الإعلام العربية على وجه الإجمال لا التفضيل .. إذ يمكننا أن نشخص هذا الأمر في عدد من الملاحظات الرئيسة ، لعل أهمها : غلبة التغريب في نسبة عالية من البرامج والمواد الثقافية والترفيهية التي تقدمها وسائل الإعلام العربية ، سواء في التوجهات الفكرية التي تنطلق منها ، أو في مضمونها ، أو في أساليب عرضها . ولعل أبرز الشواهد في هذا الميدان ما يقدمه الإعلام العربي ( والمسلم ) للأطفال والناشئة من برامج ومسلسلات وأفلام وإعلانات ، إذ تمتليء هذه المواد بمشاهد العنف والجريمة والسلوكيات المنحرفة والإيحاءات الجنسية ، فضلا عما تنقله لجمهورها من أوضاع وظروف غريبة عن مجتمعاتهم ، وبعضها غارق في الخيالات ولا صلة له بالواقع .
كما أن كثيرا مما يقدمه الإعلام العربي للمرأة من برامج ومواد صحفية وتلفزيونية لا يعكس قيم المجتمع العربي المسلم ، بل يروج – على نحو أو آخر – لأسلوب الحياة الغربية ، يصور المرأة – في الغالب – بوصفها سلعة للمتاجرة ، أو مجرد أداة للجنس والإغراء الرخيص . ودونك الفضائيات التي تتناسل عبر الأيام والشهور وما تحمله من برامج غارقة في الدعوة للفجور والانحلال والسفور.
والشيء بالشيء يذكر ، فإن المتامل في المحتوى الثقافي الذي تقدمه وسائل الإعلام المعاصرة لا يخطيء ملاحظة الميل القوي – في الغالبية الساحقة من ذلك المحتوى – إلى تذويب الهويات الحضارية للأمم والشعوب التي لا تنتمي إلى الحضارة الغربية، والتهوين من شأن ثقافاتها الذاتية بشتى الطرق والأساليب ( بما في ذلك الأمة الإسلامية طبعا ) . وبالمقابل يركز المحتوى الإعلامي المعاصر على تقديم الثقافة الغربية بوصفها الثقافة " الإنسانية" التي لا بد أن تهيمن وتسود.
وهذا الاختراق ( الغزو ) الثقافي الغربي للمجتمعات غير الغربية عبر وسائل الإعلام (وغيرها) ليس أمرا جديدا ، بل هو قديم ، وقد بدأ مع استيراد هذه المجتمعات النظم الغربية في الاتصال والبرامج والمواد الإعلامية ، وتقليدها للمدارس الغربية في تأهيل أعلامييها ، واعتمادها على نتائج البحوث والدراسات التي أجريت في الغرب، والنظريات التي عكست طبيعة البيئة الغربية وتطورها عبر العصور .
لقد برز الإعلام في السنوات القليلة الماضية قوة مؤثرة لا يمكن الاستهانة بها ، واليوم لا يقل خطر القوة الإعلامية ، وتأثيرها عن القوى التقليدية التي عرفتها المجتمعات الإنسانية ، مثل القوى السياسية والقوى العسكرية والقوى الإقتصادية إن لم تتفوق عليها ، بل يمكن القول دون مبالغة ، إن القوى التقليدية الأخرى لا يكتمل تأثيرها ، ولا يتحقق كثير من أهدافها إلا إذا اقترنت بالقوة الإعلامية . وهنا مكمن الخطورة ، إذ إن الإعلام يخاطب أكبر قاعدة جماهيرية فى المجتمعات عامة .
لا غرو إذن ، أن يتم تركيز القسم الأكبر من الغزو الثقافي في وسائل الإعلام بأنواعها المختلفة ، وهي وسائل لا شك لها القدرة الكبيرة في إبهار جماهيرها ، مما يساعد فى تنفيذ مناشط وبرامج الغزو الثقافي وخططه على الأمة الإسلامية ، على اعتبار أنها ذات اتصال مباشر ومكثف ويومى بالشعوب الإسلامية ، اتصال تسيطر عليه عوامل التشويق والإثارة والحمل على المتابعة .
ومن هنا نخلص إلى أن الأمة الإسلامية ، مثلها مثل الأمم غير الغربية ، تقع تحت تأثير الغزو الثقافي المباشر ، وإن كان التركيز الأكبر يقع عليها ، لخصوصية الدين الذي تعتنقه ، ولخصوصية الثقافة والحضارة اللتين تنهلان من هذا الدين .
وإذا كان الغزو الثقافي بهذه الخطورة فما هي خصائصه وأهدافه ؟
يشترك الغزو الثقافي مع الغزو الفكري في معظم الخصائص ، بل قد يتطابقان في هذا المجال، إذ عندما نذكر خصائص واحد منهما فإننا نذكر – في أغلب الأحيان – خصائص الآخر .
إن أهم خصائص الغزو الثقافي ( والفكري ) كما يذكر محمد فتح الله الزيادي ما يلي :
أولا : الخفاء ، فهو غزو يمر في صمت ودون ضجيج ، وربما لا يشعر به المغزو ، لأنه يمرر في أساليب لا تثير انتباها إلا بعد أن يستفحل داؤها.
ثانيا : الصبر وطول الوقت ، فالغزو الثقافي لا يعتمد على غارات سريعة تؤتي ثمارها آنيا ، ولكن يستمر لسنوات طويلة ، قد تكون قرونا ، فهو يتعامل مع أجيال ، ولذلك فإن آثاره تكون متأخرة وتأخذ وقتا طويلا لإزالتها ، يتوازى مع الزمن الطويل الذي انتشرت به .
ثالثا : تنوع الوسائل ، فهو يستخدم كل الأساليب والوسائل المتاحة المباشرة وغير المباشرة ، ولذلك فإنه يصعب التنبه إليه في بداياته ، لأنه قد يأتي حتى مع أدوات ضرورية لا يمكن التفريط فيها .
رابعا : الشمول ، فهو يطال جميع أوجه الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والدينية (والثقافية ) وغيرها . ويتعامل مع جميع الأفراد صغارا وكبارا ، نساء ورجالا ، مثقفين وجهلة .
خامسا : القوة ، أي أن الغزو الثقافي لا بد أن يرتكز على قوة مادية تدعمه سواء كانت هذه القوة متمثلة في قوة الفكرة ذاتها أو تمثل في قوة الداعين لها ، العسكرية أو السياسية أو الاقتصادية أو العلمية . ومنطق الغالب والمغلوب هو الذي يسير في معظم الأحوال موازين الغزو الثقافي .
ويستنتج من هذا أن الغزو الثقافي خصائص يرتكز عليها في استشرائه بين الأمم ، وهي خصائص دقيقة تجعله قادرا على التمكن من عقول وقلوب المغزوين .
أما بالنسبة لأهداف الغزو الثقافي ، فإنها هي نفسها أهداف الغزو الفكري ، وإذا خصصنا القول في أهداف الغزو الثقافي على الأمة الإسلامية فيمكن ذكر الأهداف التالية على سبيل المثال لا الحصر ، وهي :
1- أن تظل الشعوب الإسلامية خاضعة لنفوذ القوى المعادية لها .. تلك القوى التي تتمثل في عدد محدود من الدول الكبيرة التي تحمي بعضها ، ويتبادل ساستها الدفاع عن المصالح ، التي تهم أي طرف من أطرافها.
2- أن تظل بلدان العالم الإسلامي خصوصا ، والعالم النامي عموما تابعة لتلك الدول الكبيرة المتقدمة ، تبعية غير منظورة ، وفي هذه التبعية يكمن دهاء تلك الدول المتبوعة وذكاؤها، فليس أقتل للشعوب من أن تحس بالحرية ، بينما هي ترسف في قيود الذل والتبعية.
3- أن تتبنى الأمة الإسلامية أفكار أمة أخرى من الأمم الكبيرة دون نظر فاحص ، وتأمل دقيق ، مما يؤدي إلى ضياع حاضر الأمة الإسلامية .. وتبديد مستقبلها ، فضلا عما في ذلك من صرف عن منهجها وكتابها وسنة نبيها .
4- أن تتخذ الأمة الإسلامية مناهج التربية والتعليم لدولة من هذه الدول الكبيرة فتطبقها على أبنائها وأجيالها ، فتشوه بذلك فكرهم ، وتمسخ عقولهم ، وتخرج بهم إلى الحياة وقد أجادوا تطبيق تلك المناهج عليهم شيئا فشيئا ، فيعيشون في الحياة وليس لهم منها إلا حظ الأتباع والأذناب .
5- أن يحول العدو بين الأمة الإسلامية وبين تاريخها وماضيها وسير الصالحين من أسلافها، ليجعل محل ذلك تاريخ الدول الكبيرة الغازية وسير أعلامها وقادتها .
6- أن تزاحم لغة الغالب المغلوب ، فضلا عن أن تحل محلها أو تحاربها بإحياء اللهجات العامية والإقليمية ، وما دام الإنسان لا يفكر إلا باللغة ، فإن إضعاف لغة أمة هو إضعاف لفكرها.
7- أن تسود في الأمة المغزوة أخلاق الأمة الغازية وعاداتها وتقاليدها.
8- تصوير تراث الأمة الإسلامية بصورة التخلف وعدم القدرة على إمداد الحضارة بشيء مفيد ، وإنه لم يكن له فضل على الحضارات التي جاءت بعده .
9- إحياء الجوانب الضعيفة في التراث الإسلامي ، خاصة فيما يتعلق بالخلافات السياسية التي قعت بين المسلمين ، والتركيز على دعوات الحركات الباطنية وإخراجها بصورة جميلة مضيئة ، ووصف هذه الدعوات بأنها كانت تحمل فكرا عاليا وفلسفة عميقة .
10- إضعاف مثل الإسلام وقيمه العليا من جانب ، وإثبات تفوق المثل الغربية وعظمتها من جانب آخر ، وإظهار أي دعوة للتمسك بالإسلام بمظهر الرجعية والتأخر.
11- تشكيك المسلمين بقيمة تراثهم الحضاري بدعوى أن الحضارة الإسلامية منقولة عن حضارة الرومان ، ولم يكن للعرب والمسلمين إلا نقلة لفلسفة تلك الحضارة وآثارها.
12- إضعاف روح الإخاء الإسلامي بين المسلمين في مختلف أقطارهم عن طريق إحياء القوميات التي كانت قبل الإسلام، وإثارة الخلافات والنعرات بين شعوبهم.
13- اقتلاع العقيدة الإسلامية من قلوب المسلمين وصرفهم عن التمسك بالإسلام نظاما وسلوكا.
14- تفريغ العقل والقلب من القيم الأساسية المستمدة من الإيمان بالله ،ودفع هذه القلوب عارية أمام عاصفة هوجاء تحمل معها السموم عن طريق الصحافة والمسرح والفيلم والأزياء والملابس .
إن هذا النص المقتبس الطويل الذي يعكس لنا أهداف الغزو الثقافي ، ليوضح بجلاء أن الغرض الأساسي من هذا الغزو هو تجريد الأمة الإسلامية من أرصدتها تماما ، تجريدها من رصيدها الديني ، وتجريدها من رصيدها الثقافي ، وتجريدها من رصيدها الحضاري ، وتجريدها من رصيدها السياسي .. إلخ ، لتصبح أمة تؤمن بالثقافة الغربية قلبا وقالبا.
والحق أنه من الخطأ أن يعتقد البعض بأن النموذج الغربي يصلح لمجتمعنا العربي الإسلامي ، حتى وإن كان الغرب أكثر تقدما وتطورا علميا ، فاستيراد الأنماط الجاهزة لا ينتج عنه سوى التبعية التي يريدها الغرب، وينبذها كل إنسان مخلص لهذا المجتمع ويريد أن يراه متماسكا وقويا دائما .
إن تحقيق أهداف الغزو الثقافي على الأمة الإسلامية لا يتم إلا عبر حملات متصلة عبر الأيام، مستصحبة في ذلك خصائص الغزو الثقافي – التي مرّ ذكرها - ، ولعل أهم حملات الغزو الثقافي التي اخترقت جسد الأمة الإسلامية كما يرى نزار نجار يمكن تناولها في الآتي :
أولا: الطفل ، إن رسوم الأطفال المتحركة المقدمة لأطفالنا تقودنا إلى اكتشاف التقصير البالغ في استخدام هذا الفن الخطير ، فمعظم أفلام الكرتون والصور المتحركة المقدمة لأطفالنا أمريكية أو غربية الصنع والهوية ، وقد صممت لأطفال غير أطفالنا ، وبعقلية غير عقليتنا ، وتشجع عادات وأخلاقا لا نقر أكثرها ، وتمرر ثقافات لا نرضاها.
ثانيا : الترجمة والنقل عن اللغات الأخرى ، هذه الترجمات التجارية لا تشرف الأدب العربي الحديث في شيء ، والجيل السابق يتذكر جيدا كيف أغرقت أسواق الكتب في دمشق وبيروت والقاهرة والعواصم العربية بروايات الجيب ، فأصبح النشء العربي أعرف بأعمال ( أرسين لوبين ) أكثر من أي بطل عربي ، وقل مثل ذلك في روايات عبير ( التي غزت الأسواق حاليا ).
ثالثا : اللغة العربية وعلوم العصر ، لغتنا الغربية استوعبت بحيويتها ألوان الثقافات وتمثلتها بقدرة هائلة .. ونلاحظ أن هذه اللغة ما زالت ، برغم مرور القرون ، مفعمة بالحيوية والكفاءة ....، العربية – اليوم – أداة شائقة في التعبير عن الحداثة شعرا ونثرا ، يخبرك المغرضون والضالون أنها قد لا تصلح لتأدية العلوم العصرية ، والواقع أنه لولا اللغة العربية التي بقيت صامدة أمام الهجمات الثقافية والانتماءات الغربية لما بقي للثقافة العربية (والإسلامية ) وجود في الحاضر .
رابعا : الإنسان المعاصر معرض لضغوط هائلة على وقته ، هناك عشرات القنوات التلفزيونية ( الفضائية وغير الفضائية ) ، وهناك مئات المحطات الإذاعية ، وهناك عشرات الصحف والمجلات والدوريات التى تحاصره .
خامسا : هناك من يجد فقرا في الإبداع ، فيندفع إلى التنكر للثقافة الوطنية والقومية ، وينبذها جملة وتفصيلا ، غير متشبت بالجوانب المستنيرة في تراثها .. ويرتمون في أحضان الثقافات الغازية التي يجدون فيها ضالتهم .. ويكثر التعويل على الآخرين ، فتتحول الأمة إلى مستهلك سلبي .
سادسا : محاولات شتى لطمس الهوية ، وتضييع انتمائها وأصولها ، ومحاولات شتى تبذل لاغتراب الجماهير ذاتها وتقوقعها في أطر محلية ضيقة ، فأحداث العالم العربي وأحداث العالم الإسلامي لم يعد لها صدى بين الجماهير .
كما هو واضح فإن حملات الغزو الثقافي تستهدف مجالات حساسة في حياة الأمة الإسلامية ، بغيرها لا تكون لها خصوصية ، ولا تقوم لها قائمة ، فماذا تبقى لها إذا أفلح الغزو الثقافي في تحقيق أهداف حملاته التي تستهدف من الأمة الإسلامية أطفالها وناشئتها ولغتها وإبداعها وهويتها وانتماءها .. إلخ ؟
الواقع ، إنه قد ترتب على حملات الغزو الثقافي
كما يذهب عمر الحامدي اختراق داخل الوطن العربي ومحاولات مسخ الشخصية الحضارية العربية الإسلامية وتوظيف ظروف التخلف والتجزئة في ضرب البنية الحضارية العربية. إن الكثير من المؤشرات داخل الوطن العربي تعطينا الدليل على أساس أن الهجوم الغربي العنيف له جوانب متعددة ، ولكنها جميعا تخدم البعد الحضاري . إن حروب القبائل والطوائف في الوطن العربي والعالم الإسلامي هي تمزيق للنسيج الثقافي ، والقاعدة الثقافية للشخصية العربية الإسلامية ، وما تواجه به اللغة العربية والثقافة العربية في أكثر من بلد عربي وإسلامي لدليل على ذلك.
والحق ، إن الغزو الثقافي والفكري الذي تتعرض له المنطقة العربية من الخارج يجيء ليكمل هذه السلسلة ويزرع الشقاق والخلاف بين الدول العربية والاسلاميه ، ومساندة الأقليات في داخل بعض الدول العربية والاسلاميه بقصد خلق التفرقة والتشتت القومي في الداخل).. كل هذا يتم تحت ستار المدنية والحضارة . وأصبح الغزو الثقافيّ يتخذ المرتكزات التالية :
1- تفتيت الوطن العربي ( والإسلامي ) وإضعافه .
2- إجهاض كل أشكال التضامن العربي ( والإسلامي).
3- إذكاء الخلافات العربية – العربية والعربية – الإسلامية .
4- القضاء على التماسك الأخلاقي والاجتماعي ( وسط الأمة الإسلامية ).
5- إحكام الحصار على العرب ( والمسلمين ) حتى لا يمتلك أي منهم قوة عصرية علمية أو تقنية أو عسكرية أو اقتصادية .
6- التصفية البطيئة لحضورهم الحيوي والثقافي والعقدي .
إن واقع الأمة الإسلامية الحالي ليعكس أن الغزو الثقافي قد تمكن من تحقيق جملة من المرتكزات التي استند عليها في حملاته على الأمة الإسلامية. وتظل آثاره التي نذكرها بعيد قليل شاهدا قوة وتمكن هذا الغزو .
يتبع ..
أما بعد ,
يهدف هذا الموضوع إلى تسليط الضوء حول مفهوم الغزو الثقافي وخصائصه وأهدافه وآثاره على المجتمع ، وكيفية مواجهته ، بالإضافة إلى المفاهيم المتصلة به عضويا كالعولمة والتغريب . كما يهدف أيضا إلى عرض نظرية صراع الحضارات ، وعملية حوار الحضارات ، بالإضافة إلى دواعي ومبررات ومرتكزات الحوار مع الغرب وحضارته . هذا بالإضافة إلى تناول كيفية مواجهة الغزو الثقافي ونظرية صدام الحضارات .
وبما أن الموضوع يبدو عليه الاتساع بحيث تصعب الإحاطة بكل جوانبه دفعة واحدة ، فإنه سيكتفي بإيراد الخطوط العريضة له من منظور وصفي أكثر منه تحليلي.
الغزو الثقافي :
مصطلح الغزو الثقافي أحد المصطلحات التي تتردد كثيرا في حياتنا الثقافية ، وبخاصة على امتداد العقود الماضية التي بدأت تشهد انحسار الغزو بمعناه التقليدي المباشر ، الذي عرف تاريخيا باسم الغزو العسكري أو الاحتلال العسكري المباشر ، الذي تعرضت له أكثر أرجاء العالم الاقل اقتصاديا ( الدول الفقيرة ) .
يتركب مصطلح الغزو الثقافي – كما هو واضح – من كلمتين هما : غزو ، وهي ( لغة) مصدر غزا ، وتعني : الدخول إلى مجال غريب أو مجال جديد ، وعادة ما ترتبط هذه الكلمة بمعنى القوة وإحداث التغيير ، سواء كان ذلك إلى الأفضل كقولنا : الوطن العربي يغزو الفضاء .. ، أو كان ذلك على الأسوأ كما نقول : أسراب الجراد تغزو الشمال الإفريقي ، وهذا المعنى التغييري الذي تحتويه كلمة غزو جعلها تكتسب مرونة تمكنها من أن تؤدي معاني كثيرة أيديولوجية أو علمية أو اقتصادية أو غيرها . هذا ، وقد تعني كلمة غزو أيضا ، في اللغة العربية معنى القصد ، والطلب والسير إلى الأعداء في ديارهم وانتهابهم وقهرهم والتغلب عليهم . ويلاحظ أن كلمة الغزو يشيع – الآن – استعمالها أكثر في المعنى الأخير.
أما ثقافي ، فمنسوبة إلى ثقافة ، والثقافة تتعدد تعريفاتها ، وتتنوع تفسيراتها ، وتتباين عناصرها ، إذ يعد هذا المصطلح جديدا في الفكر العربي والإسلامي ، وفي الوقت نفسه فإن الباحثين يجمعون على عدم إمكانية وضع تعريف جامع مانع للثقافة ومفهومها الشمولي، حتى أن الموسوعات الأجنبية والعربية الحديثة لم تتفق على تعريف واحد، ولم تجتمع علي مفهوم محدد ، فتعددت التعريفات لماهية الثقافة ، تبعا لتعدد نظرة المختص في العلم المعين .
إجرائيا ، فإن مفهوم الثقافة الذي يتبناه هذا الموضوع هو أنها أساليب الحياة الشائعة لدى جماعة أو مجتمع معين ، والتي تظهر في أقوال الناس وتصرفاتهم أو عاداتهم خلال حياتهم الجمعية.
أما الغزو الثقافي – اصطلاحا – فيعني العمل الهادف إلى اختراق ثقافة أمة ( من الأمم) وزعزتها لتذويب هويتها وطمسها وسلبها مكوناتها .. وبهذا المعنى فإن الغزو الثقافي عمل مقصود ومخطط له ، فهو بذلك يرمي إلى غزو الإنسان في عقيدته ، وفي لغته ، وفي سلوكه وأخلاقياته ، وفي نمط معيشته ، من خلال إحلال نماذج معينة من التفكير والنظر إلى الحياة والسلوك ، محل النمط السائد النابع من روح الشعب المستهدف ، من قيمة وعاداته وأخلاقه .
ويتضح من هذا التعريف الاصطلاحي للغزو الثقافي: أن هذا الغزو يشمل جميع ما يرتبط بالإنسان ، فلا يدع له شيئا إلا أبدله بشيء آخر لم يألفه .
إن الغزو الثقافي بصورته التي ذكرناها ، لا يقتصر فقط على الأمة الإسلامية فقد ثار جدل صاخب في فرنسا حول الغزو الثقافي الأمريكي للمجتمع الفرنسي ، وقد قاد حملة مناهضة الغزو الأمريكي قادة فرنسا بمن فيهم رئيس الجمهورية ميتران ، الذي رفض قبل مدة دعوة إدارة " يوروديزني " – وهي مدينة الألعاب الأمريكية في باريس – لزيارة المدينة ، وتناول الشاي مع ميكي ماوس – أحد أبرز الرموز الأمريكية في مدينة الألعاب – بمناسبة افتتاح المدينة . وأعلن ميتران في جامعة "غدانسك" في بولندا قائلا " إنها هوية أممنا ، وهو حق كل شعب في ثقافته وفي حرية الإبتكار واختيار الصور " . وأضاف :" إن أمة تتخلى عن وسائل التعبير عـن نفسها تصبح أمة مستعبَدة " .
وحتى ندرك أهمية المقاومة الفرنسية والأروبية بعامة للغزو ( الثقافي ) الأمريكي ، نذكر أن الأفلام الأمريكية السينمائية – مثلا – تسيطر على 90% من أذواق المتفرجين في ألمانيا ، وعلى 87% في بلجيكا ، وعلى 82% في إيطاليا ، كما أن ثلثي البرامج في التلفزيونات الأوربية هي برامج أمريكية.فإذا كانت فرنسا بسطوتها الفكرية ونفوذها السياسي والاقتصادي – تشكو من الغزو الثقافي ، فما بالنا بالأمم والشعوب الأخرى المستضعفة فكريا ، والفاقدة للنفوذ السياسي والاقتصادي .
وإذا انتقلنا إلى الأمة الإسلامية بكافة أقطارها وبلدانها فسنجد أنها واقعة تحت التأثير المباشر للغزو الثقافي والغزو الفكري ، مما أهلها لواقع متراجع لا تحسد عليه ، فعلى كل الأصعدة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والعسكرية ، يشهد المرء مزيدا من التردي في الأوضاع ، حيث بات التساؤل ملحا في معرفة أسباب هذا الواقع المؤلم والوضع غير المقبول ، فهل يا ترى يعود هذا الضعف إلى خلل أساسي في أساس الأمة ومكوناتها ، أم أنه عرض سيزول مع الوقت بزوال الأسباب؟ .
وهنا تجدر الاشاره الى تحذير النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال : { لتتبعن سنن من كان قبلكم ، شبرا بشبر وذراعا بذراع ، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم ) . قلنا : يا رسول الله ، اليهود والنصارى ؟ قال : فمن } رواه البخاري
ومع استحضار عملية الغزو الثقافي في أذهاننا ، دعونا نلقي نظرة سريعة على واقع المشهد الثقافي كما تعكسه وسائل الإعلام العربية على وجه الإجمال لا التفضيل .. إذ يمكننا أن نشخص هذا الأمر في عدد من الملاحظات الرئيسة ، لعل أهمها : غلبة التغريب في نسبة عالية من البرامج والمواد الثقافية والترفيهية التي تقدمها وسائل الإعلام العربية ، سواء في التوجهات الفكرية التي تنطلق منها ، أو في مضمونها ، أو في أساليب عرضها . ولعل أبرز الشواهد في هذا الميدان ما يقدمه الإعلام العربي ( والمسلم ) للأطفال والناشئة من برامج ومسلسلات وأفلام وإعلانات ، إذ تمتليء هذه المواد بمشاهد العنف والجريمة والسلوكيات المنحرفة والإيحاءات الجنسية ، فضلا عما تنقله لجمهورها من أوضاع وظروف غريبة عن مجتمعاتهم ، وبعضها غارق في الخيالات ولا صلة له بالواقع .
كما أن كثيرا مما يقدمه الإعلام العربي للمرأة من برامج ومواد صحفية وتلفزيونية لا يعكس قيم المجتمع العربي المسلم ، بل يروج – على نحو أو آخر – لأسلوب الحياة الغربية ، يصور المرأة – في الغالب – بوصفها سلعة للمتاجرة ، أو مجرد أداة للجنس والإغراء الرخيص . ودونك الفضائيات التي تتناسل عبر الأيام والشهور وما تحمله من برامج غارقة في الدعوة للفجور والانحلال والسفور.
والشيء بالشيء يذكر ، فإن المتامل في المحتوى الثقافي الذي تقدمه وسائل الإعلام المعاصرة لا يخطيء ملاحظة الميل القوي – في الغالبية الساحقة من ذلك المحتوى – إلى تذويب الهويات الحضارية للأمم والشعوب التي لا تنتمي إلى الحضارة الغربية، والتهوين من شأن ثقافاتها الذاتية بشتى الطرق والأساليب ( بما في ذلك الأمة الإسلامية طبعا ) . وبالمقابل يركز المحتوى الإعلامي المعاصر على تقديم الثقافة الغربية بوصفها الثقافة " الإنسانية" التي لا بد أن تهيمن وتسود.
وهذا الاختراق ( الغزو ) الثقافي الغربي للمجتمعات غير الغربية عبر وسائل الإعلام (وغيرها) ليس أمرا جديدا ، بل هو قديم ، وقد بدأ مع استيراد هذه المجتمعات النظم الغربية في الاتصال والبرامج والمواد الإعلامية ، وتقليدها للمدارس الغربية في تأهيل أعلامييها ، واعتمادها على نتائج البحوث والدراسات التي أجريت في الغرب، والنظريات التي عكست طبيعة البيئة الغربية وتطورها عبر العصور .
لقد برز الإعلام في السنوات القليلة الماضية قوة مؤثرة لا يمكن الاستهانة بها ، واليوم لا يقل خطر القوة الإعلامية ، وتأثيرها عن القوى التقليدية التي عرفتها المجتمعات الإنسانية ، مثل القوى السياسية والقوى العسكرية والقوى الإقتصادية إن لم تتفوق عليها ، بل يمكن القول دون مبالغة ، إن القوى التقليدية الأخرى لا يكتمل تأثيرها ، ولا يتحقق كثير من أهدافها إلا إذا اقترنت بالقوة الإعلامية . وهنا مكمن الخطورة ، إذ إن الإعلام يخاطب أكبر قاعدة جماهيرية فى المجتمعات عامة .
لا غرو إذن ، أن يتم تركيز القسم الأكبر من الغزو الثقافي في وسائل الإعلام بأنواعها المختلفة ، وهي وسائل لا شك لها القدرة الكبيرة في إبهار جماهيرها ، مما يساعد فى تنفيذ مناشط وبرامج الغزو الثقافي وخططه على الأمة الإسلامية ، على اعتبار أنها ذات اتصال مباشر ومكثف ويومى بالشعوب الإسلامية ، اتصال تسيطر عليه عوامل التشويق والإثارة والحمل على المتابعة .
ومن هنا نخلص إلى أن الأمة الإسلامية ، مثلها مثل الأمم غير الغربية ، تقع تحت تأثير الغزو الثقافي المباشر ، وإن كان التركيز الأكبر يقع عليها ، لخصوصية الدين الذي تعتنقه ، ولخصوصية الثقافة والحضارة اللتين تنهلان من هذا الدين .
وإذا كان الغزو الثقافي بهذه الخطورة فما هي خصائصه وأهدافه ؟
يشترك الغزو الثقافي مع الغزو الفكري في معظم الخصائص ، بل قد يتطابقان في هذا المجال، إذ عندما نذكر خصائص واحد منهما فإننا نذكر – في أغلب الأحيان – خصائص الآخر .
إن أهم خصائص الغزو الثقافي ( والفكري ) كما يذكر محمد فتح الله الزيادي ما يلي :
أولا : الخفاء ، فهو غزو يمر في صمت ودون ضجيج ، وربما لا يشعر به المغزو ، لأنه يمرر في أساليب لا تثير انتباها إلا بعد أن يستفحل داؤها.
ثانيا : الصبر وطول الوقت ، فالغزو الثقافي لا يعتمد على غارات سريعة تؤتي ثمارها آنيا ، ولكن يستمر لسنوات طويلة ، قد تكون قرونا ، فهو يتعامل مع أجيال ، ولذلك فإن آثاره تكون متأخرة وتأخذ وقتا طويلا لإزالتها ، يتوازى مع الزمن الطويل الذي انتشرت به .
ثالثا : تنوع الوسائل ، فهو يستخدم كل الأساليب والوسائل المتاحة المباشرة وغير المباشرة ، ولذلك فإنه يصعب التنبه إليه في بداياته ، لأنه قد يأتي حتى مع أدوات ضرورية لا يمكن التفريط فيها .
رابعا : الشمول ، فهو يطال جميع أوجه الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والدينية (والثقافية ) وغيرها . ويتعامل مع جميع الأفراد صغارا وكبارا ، نساء ورجالا ، مثقفين وجهلة .
خامسا : القوة ، أي أن الغزو الثقافي لا بد أن يرتكز على قوة مادية تدعمه سواء كانت هذه القوة متمثلة في قوة الفكرة ذاتها أو تمثل في قوة الداعين لها ، العسكرية أو السياسية أو الاقتصادية أو العلمية . ومنطق الغالب والمغلوب هو الذي يسير في معظم الأحوال موازين الغزو الثقافي .
ويستنتج من هذا أن الغزو الثقافي خصائص يرتكز عليها في استشرائه بين الأمم ، وهي خصائص دقيقة تجعله قادرا على التمكن من عقول وقلوب المغزوين .
أما بالنسبة لأهداف الغزو الثقافي ، فإنها هي نفسها أهداف الغزو الفكري ، وإذا خصصنا القول في أهداف الغزو الثقافي على الأمة الإسلامية فيمكن ذكر الأهداف التالية على سبيل المثال لا الحصر ، وهي :
1- أن تظل الشعوب الإسلامية خاضعة لنفوذ القوى المعادية لها .. تلك القوى التي تتمثل في عدد محدود من الدول الكبيرة التي تحمي بعضها ، ويتبادل ساستها الدفاع عن المصالح ، التي تهم أي طرف من أطرافها.
2- أن تظل بلدان العالم الإسلامي خصوصا ، والعالم النامي عموما تابعة لتلك الدول الكبيرة المتقدمة ، تبعية غير منظورة ، وفي هذه التبعية يكمن دهاء تلك الدول المتبوعة وذكاؤها، فليس أقتل للشعوب من أن تحس بالحرية ، بينما هي ترسف في قيود الذل والتبعية.
3- أن تتبنى الأمة الإسلامية أفكار أمة أخرى من الأمم الكبيرة دون نظر فاحص ، وتأمل دقيق ، مما يؤدي إلى ضياع حاضر الأمة الإسلامية .. وتبديد مستقبلها ، فضلا عما في ذلك من صرف عن منهجها وكتابها وسنة نبيها .
4- أن تتخذ الأمة الإسلامية مناهج التربية والتعليم لدولة من هذه الدول الكبيرة فتطبقها على أبنائها وأجيالها ، فتشوه بذلك فكرهم ، وتمسخ عقولهم ، وتخرج بهم إلى الحياة وقد أجادوا تطبيق تلك المناهج عليهم شيئا فشيئا ، فيعيشون في الحياة وليس لهم منها إلا حظ الأتباع والأذناب .
5- أن يحول العدو بين الأمة الإسلامية وبين تاريخها وماضيها وسير الصالحين من أسلافها، ليجعل محل ذلك تاريخ الدول الكبيرة الغازية وسير أعلامها وقادتها .
6- أن تزاحم لغة الغالب المغلوب ، فضلا عن أن تحل محلها أو تحاربها بإحياء اللهجات العامية والإقليمية ، وما دام الإنسان لا يفكر إلا باللغة ، فإن إضعاف لغة أمة هو إضعاف لفكرها.
7- أن تسود في الأمة المغزوة أخلاق الأمة الغازية وعاداتها وتقاليدها.
8- تصوير تراث الأمة الإسلامية بصورة التخلف وعدم القدرة على إمداد الحضارة بشيء مفيد ، وإنه لم يكن له فضل على الحضارات التي جاءت بعده .
9- إحياء الجوانب الضعيفة في التراث الإسلامي ، خاصة فيما يتعلق بالخلافات السياسية التي قعت بين المسلمين ، والتركيز على دعوات الحركات الباطنية وإخراجها بصورة جميلة مضيئة ، ووصف هذه الدعوات بأنها كانت تحمل فكرا عاليا وفلسفة عميقة .
10- إضعاف مثل الإسلام وقيمه العليا من جانب ، وإثبات تفوق المثل الغربية وعظمتها من جانب آخر ، وإظهار أي دعوة للتمسك بالإسلام بمظهر الرجعية والتأخر.
11- تشكيك المسلمين بقيمة تراثهم الحضاري بدعوى أن الحضارة الإسلامية منقولة عن حضارة الرومان ، ولم يكن للعرب والمسلمين إلا نقلة لفلسفة تلك الحضارة وآثارها.
12- إضعاف روح الإخاء الإسلامي بين المسلمين في مختلف أقطارهم عن طريق إحياء القوميات التي كانت قبل الإسلام، وإثارة الخلافات والنعرات بين شعوبهم.
13- اقتلاع العقيدة الإسلامية من قلوب المسلمين وصرفهم عن التمسك بالإسلام نظاما وسلوكا.
14- تفريغ العقل والقلب من القيم الأساسية المستمدة من الإيمان بالله ،ودفع هذه القلوب عارية أمام عاصفة هوجاء تحمل معها السموم عن طريق الصحافة والمسرح والفيلم والأزياء والملابس .
إن هذا النص المقتبس الطويل الذي يعكس لنا أهداف الغزو الثقافي ، ليوضح بجلاء أن الغرض الأساسي من هذا الغزو هو تجريد الأمة الإسلامية من أرصدتها تماما ، تجريدها من رصيدها الديني ، وتجريدها من رصيدها الثقافي ، وتجريدها من رصيدها الحضاري ، وتجريدها من رصيدها السياسي .. إلخ ، لتصبح أمة تؤمن بالثقافة الغربية قلبا وقالبا.
والحق أنه من الخطأ أن يعتقد البعض بأن النموذج الغربي يصلح لمجتمعنا العربي الإسلامي ، حتى وإن كان الغرب أكثر تقدما وتطورا علميا ، فاستيراد الأنماط الجاهزة لا ينتج عنه سوى التبعية التي يريدها الغرب، وينبذها كل إنسان مخلص لهذا المجتمع ويريد أن يراه متماسكا وقويا دائما .
إن تحقيق أهداف الغزو الثقافي على الأمة الإسلامية لا يتم إلا عبر حملات متصلة عبر الأيام، مستصحبة في ذلك خصائص الغزو الثقافي – التي مرّ ذكرها - ، ولعل أهم حملات الغزو الثقافي التي اخترقت جسد الأمة الإسلامية كما يرى نزار نجار يمكن تناولها في الآتي :
أولا: الطفل ، إن رسوم الأطفال المتحركة المقدمة لأطفالنا تقودنا إلى اكتشاف التقصير البالغ في استخدام هذا الفن الخطير ، فمعظم أفلام الكرتون والصور المتحركة المقدمة لأطفالنا أمريكية أو غربية الصنع والهوية ، وقد صممت لأطفال غير أطفالنا ، وبعقلية غير عقليتنا ، وتشجع عادات وأخلاقا لا نقر أكثرها ، وتمرر ثقافات لا نرضاها.
ثانيا : الترجمة والنقل عن اللغات الأخرى ، هذه الترجمات التجارية لا تشرف الأدب العربي الحديث في شيء ، والجيل السابق يتذكر جيدا كيف أغرقت أسواق الكتب في دمشق وبيروت والقاهرة والعواصم العربية بروايات الجيب ، فأصبح النشء العربي أعرف بأعمال ( أرسين لوبين ) أكثر من أي بطل عربي ، وقل مثل ذلك في روايات عبير ( التي غزت الأسواق حاليا ).
ثالثا : اللغة العربية وعلوم العصر ، لغتنا الغربية استوعبت بحيويتها ألوان الثقافات وتمثلتها بقدرة هائلة .. ونلاحظ أن هذه اللغة ما زالت ، برغم مرور القرون ، مفعمة بالحيوية والكفاءة ....، العربية – اليوم – أداة شائقة في التعبير عن الحداثة شعرا ونثرا ، يخبرك المغرضون والضالون أنها قد لا تصلح لتأدية العلوم العصرية ، والواقع أنه لولا اللغة العربية التي بقيت صامدة أمام الهجمات الثقافية والانتماءات الغربية لما بقي للثقافة العربية (والإسلامية ) وجود في الحاضر .
رابعا : الإنسان المعاصر معرض لضغوط هائلة على وقته ، هناك عشرات القنوات التلفزيونية ( الفضائية وغير الفضائية ) ، وهناك مئات المحطات الإذاعية ، وهناك عشرات الصحف والمجلات والدوريات التى تحاصره .
خامسا : هناك من يجد فقرا في الإبداع ، فيندفع إلى التنكر للثقافة الوطنية والقومية ، وينبذها جملة وتفصيلا ، غير متشبت بالجوانب المستنيرة في تراثها .. ويرتمون في أحضان الثقافات الغازية التي يجدون فيها ضالتهم .. ويكثر التعويل على الآخرين ، فتتحول الأمة إلى مستهلك سلبي .
سادسا : محاولات شتى لطمس الهوية ، وتضييع انتمائها وأصولها ، ومحاولات شتى تبذل لاغتراب الجماهير ذاتها وتقوقعها في أطر محلية ضيقة ، فأحداث العالم العربي وأحداث العالم الإسلامي لم يعد لها صدى بين الجماهير .
كما هو واضح فإن حملات الغزو الثقافي تستهدف مجالات حساسة في حياة الأمة الإسلامية ، بغيرها لا تكون لها خصوصية ، ولا تقوم لها قائمة ، فماذا تبقى لها إذا أفلح الغزو الثقافي في تحقيق أهداف حملاته التي تستهدف من الأمة الإسلامية أطفالها وناشئتها ولغتها وإبداعها وهويتها وانتماءها .. إلخ ؟
الواقع ، إنه قد ترتب على حملات الغزو الثقافي
كما يذهب عمر الحامدي اختراق داخل الوطن العربي ومحاولات مسخ الشخصية الحضارية العربية الإسلامية وتوظيف ظروف التخلف والتجزئة في ضرب البنية الحضارية العربية. إن الكثير من المؤشرات داخل الوطن العربي تعطينا الدليل على أساس أن الهجوم الغربي العنيف له جوانب متعددة ، ولكنها جميعا تخدم البعد الحضاري . إن حروب القبائل والطوائف في الوطن العربي والعالم الإسلامي هي تمزيق للنسيج الثقافي ، والقاعدة الثقافية للشخصية العربية الإسلامية ، وما تواجه به اللغة العربية والثقافة العربية في أكثر من بلد عربي وإسلامي لدليل على ذلك.
والحق ، إن الغزو الثقافي والفكري الذي تتعرض له المنطقة العربية من الخارج يجيء ليكمل هذه السلسلة ويزرع الشقاق والخلاف بين الدول العربية والاسلاميه ، ومساندة الأقليات في داخل بعض الدول العربية والاسلاميه بقصد خلق التفرقة والتشتت القومي في الداخل).. كل هذا يتم تحت ستار المدنية والحضارة . وأصبح الغزو الثقافيّ يتخذ المرتكزات التالية :
1- تفتيت الوطن العربي ( والإسلامي ) وإضعافه .
2- إجهاض كل أشكال التضامن العربي ( والإسلامي).
3- إذكاء الخلافات العربية – العربية والعربية – الإسلامية .
4- القضاء على التماسك الأخلاقي والاجتماعي ( وسط الأمة الإسلامية ).
5- إحكام الحصار على العرب ( والمسلمين ) حتى لا يمتلك أي منهم قوة عصرية علمية أو تقنية أو عسكرية أو اقتصادية .
6- التصفية البطيئة لحضورهم الحيوي والثقافي والعقدي .
إن واقع الأمة الإسلامية الحالي ليعكس أن الغزو الثقافي قد تمكن من تحقيق جملة من المرتكزات التي استند عليها في حملاته على الأمة الإسلامية. وتظل آثاره التي نذكرها بعيد قليل شاهدا قوة وتمكن هذا الغزو .
يتبع ..